قوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين" لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين؛ ولهذا قلنا: من حلف ألا يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" [الإنسان: 1] قيل في "التفسير": أربعون عاما. وحكى عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأل، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينا لا يدرك، قوله: "وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" [الأنبياء: 111] فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في "البقرة" مستوفى والحمد لله. "ويضرب الله الأمثال" أي الأشباه "للناس لعلهم يتذكرون" ويعتبرون؛ وقد تقدم.
الآية: 26 {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}
الكلمة الخبيثة كلمة الكفر. وقيل: الكافر نفسه. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا: أنها شجرة لم تخلق على الأرض. وقيل: هي شجرة الثوم؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: الكمأة أو الطحلبة. وقيل: الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض؛ قال الشاعر:
وهم كشوث فلا أصل ولا ورق
"اجتثت من فوق الأرض" اقتلعت من أصلها؛ قال ابن عباس؛ ومنه قول لقيط:
والجلاء الذي تجتث أصلكم فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا
وقال المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما. وجثه قلعه، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض. "ما لها من قرار" أي من أصل في الأرض. وقيل: من ثبات؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قول طيب ولا عمل صالح. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: "ضرب الله مثلا كلمة طيبة" قال: لا إله إلا الله "كشجرة طيبة" قال: المؤمن، "أصلها ثابت" لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن؛ "ومثل كلمة خبيثة" قال: الشرك، "شجرة خبيثة" قال: المشرك؛ "اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار" أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه. وقيل: يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى الشرك؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء.
الآية: 27 {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}
قوله تعالى: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت" قال ابن عباس: هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء قال قال: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" نزلت في عذاب القبر؛ يقال: من ربك؟ فيقول: ربي الله وديني دين محمد، فذلك قوله: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة".
قلت: وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قول، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذكر البخاري؛ حدثنا جعفر بن عمر، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة". وقد بينا هذا الباب في كتاب (التذكرة) وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك. وقال سهل بن عمار: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أتاني في قبري ملكان فظان غليظان، فقالا: ما دينك ومن ربك ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت: ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة؟! فذهبا وقالا: أكتبت عن حريز بن عثمان؟ قلت نعم! فقالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله. وقيل: معنى، "يثبت الله" يديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبدالله بن رواحة:
يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا
وقيل: يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت. وقال القفال وجماعة: "في الحياة الدنيا" أي في القبر؛ لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، "وفي الآخرة" أي عند الحساب؛ وحكاه الماوردي عن البراء قال: المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر، وبالآخرة المساءلة في القيامة: "ويضل الله الظالمين" أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري؛ فيقول: لا دريت ولا تليت؛ وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب {التذكرة}. وقيل: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا. "ويفعل الله ما يشاء" من عذاب قوم وإضلال قوم. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله معي عقلي؟ قال: (نعم) قال: كفيت إذا؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
الآية: 28 {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا" أي جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم؛ عن ابن عباس وعلي وغيرهما. وقيل: نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر. قال أبو الطفيل: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هم قريش الذين نحروا يوم بدر. وقيل: نزلت في الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين؛ وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقول رابع: أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص بمثلها، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه؛ عن ابن عباس وقتادة. ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال:
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليتني أرعى المخاض ببلدة ولم أنكر القول الذي قاله عمر
وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين. "وأحلوا قومهم" أي أنزلوهم. قال ابن عباس: هم قادة المشركين يوم بدر. "وأحلوا قومهم" أي الذين اتبعوهم. "دار البوار" قيل: جهنم؛ قال ابن زيد. وقيل: يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب ومجاهد. والبوار الهلاك؛ ومنه قول الشاعر:
فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار
الآية: 29 {جهنم يصلونها وبئس القرار}
قوله تعالى: "جهنم يصلونها" بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد، وعلى هذا لا يجوز الوقف على "دار البوار" لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن "دار البوار" فلو رفعها رافع بإضمار، على معنى: هي جهنم، أو بما عاد من الضمير في "يصلونها" لحسن الوقف على "دار البوار". "وبئس القرار" أي المستقر.
الآية: 30 {وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار}
قوله تعالى: "وجعلوا لله أندادا" أي أصناما عبدوها؛ وقد تقدم في "البقرة". "ليضلوا عن سبيله" أي عن دينه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج "ليضل عن سبيل الله" [الحج: 9] ومثله في "لقمان" و"الزمر" وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم، أي عاقبتم إلى الإضلال والضلال؛ فهذه لام العاقبة. "قل تمتعوا" وعيد لهم، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع. "فإن مصيركم إلى النار" أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم.
الآية: 31 {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال}
قوله تعالى: "قل لعبادي الذين آمنوا" أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن "يقيموا الصلاة" يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم أقيموا، والأمر معه شرط مقدر، تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن أطعته يدخلك الجنة؛ هذا قول الفراء. وقال الزجاج: "يقيموا" مجزوم بمعنى اللام، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب بـ "قل". قال: ويحتمل أن يقال: "يقيموا" جواب أمر محذوف؛ أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. "وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية" يعني الزكاة؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الجمهور: السر ما خفي والعلانية ما ظهر. وقال القاسم بن يحيى: إن السر التطوع والعلانية الفرض، وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مجودا عند قوله: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" [البقرة: 271]. "من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال" وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: "فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق" [المنافقون: 0 1]. والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين جمع خلة كقلة وقلال. قال:
فلست بمقلي الخلال ولا قالي
الآيتان: 32 - 33 {الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار}
قوله تعالى: "الله الذي خلق السماوات والأرض" أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق. "وأنزل من السماء" أي من السحاب. "ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم" أي من الشجر ثمرات "رزقا لكم". "وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره" تقدم معناه في "البقرة". "وسخر لكم الأنهار" يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات. "وسخر لكم الشمس والقمر دائبين" أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية. وقيل: دائبين في السير امتثالا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران؛ روي معناه عن ابن عباس. "وسخر لكم الليل والنهار" أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال: "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" [القصص: 73].

الآية: 27 {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة}» ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير, وفي يده عود ينكت به الأرض, فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثاً, ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ: فتخرج تسيل, كما تسيل القطرة من في السقاء, فيأخذها, فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها, يعني على ملأ من الملائكة, إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له, فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها, حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة, فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض, فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى قال: فتعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان له: ما هذا الرجل الذين بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله, فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت, فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة ـ قال ـ: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه, حسن الثياب, طيب الريح, فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ؟ فيقول: أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة, حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال ـ: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح, فجلسوا منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الخبيثة, اخرجي إلى سخط من الله وغضب ـ قال ـ: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول, فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح, فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا, فيستفتح له فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً ـ ثم قرأ {ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار, فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه, ويأتيه رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب, منتن الريح, فيقول: أبشر بالذي يسوؤك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: ومن أنت, فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث, فيقول: رب لا تقم الساعة» ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو به.)وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة, فذكر نحوه, وفيه «فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء, وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم», وفي آخره «ثم يقيض له أعمى أصم أبكم, وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان تراباً, فيضربه ضربة فيصير تراباً, ثم يعيده الله عز وجل كما كان, فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين» قال البراء: ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار, وقال سفيان الثوري عن أبيه, عن خيثمة عن البراء في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} قال عذاب القبر.

وقال المسعودي عن عبد الله بن مخارق عن أبيه عن عبد الله قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له: ما ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ فيثبته الله فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, وقرأ عبد الله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} وقال الإمام عبد بن حميد رحمه الله في مسنده حدثنا يونس بن محمد, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة, حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره, وتولى عنه أصحابه, وإنه ليسمع قرع نعالهم, فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله, قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة», قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيراهما جميعاً», قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً, ويملأ عليه خضراً إلى يوم القيامة, رواه مسلم عن عبد بن حميد, وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه, جاءه ملك شديد الانتهار, فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده, فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة, فيراهما كليهما, فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي فيقال له: اسكن, وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: لا أدري, أقول كما يقول الناس, فيقال له: لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار» قال جابر: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يبعث كل عبد في القبر على ما مات, المؤمن على إيمانه, والمنافق على نفاقه» إسناده صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري, قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه, جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده, فقال: ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, فيقول له: صدقت ثم يفتح له باباً إلى النار, فيقول: كان هذا منزلك لو كفرت بربك, فأما إذ آمنت فهذا منزلك, فيفتح له باباً إلى الجنة, فيريد أن ينهض إليه فيقول له: اسكن ويفسح له في قبره, وإن كان كافراً أو منافقاً فيقول له: ما تقول في هذا الرجل ؟ فيول: لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً, فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت, ثم يفتح له باباً إلى الجنة, فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك, فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا, فيفتح له باباً إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق, فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين, فقال بعض القوم: يا رسول الله, ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} وهذا أيضاً إسناد لا بأس به, فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقروناً, ولكن ضعفه بعضهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة, فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال فلا يزال يقال لها ذلك, حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان, فيقولون: مرحباً بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب, ادخلي حميدة, وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق, وآخر من شكله أزواج, فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج, ثم يعرج بها إلى السماء, فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان, فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء, فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر, فيجلس الرجل الصالح, فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول, ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول. ورواه النسائي وابن ماجه من طريق ابن أبي ذئب بنحوه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك ـ قال ـ: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه, فينطلق به إلى ربه عز وجل, فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن الكافر إذا خرجت روحه ـ قال حماد ـ وذكر من نتنها, وذكر مقتاً, ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض, فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل ـ قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.
وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا عمر بن محمد الهمداني, حدثنا زيد بن أخرم, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة, عن قسام بن زهير, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن المؤمن إذا قبض, أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء, فيقولون: اخرجي إلى روح الله, فتخرج كأطيب ريح مسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً يشمونه حتى يأتوا به باب السماء, فيقولون: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض, ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين, فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم, فيقولون: ما فعل فلان ؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم, فيقول: قد مات أما أتاكم ؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية, وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله, فتخرج كأنتن ريح جيفة, فيذهب به إلى باب الأرض».