كتاب التنزلات الموصلية .الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي
الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قال الشيخ الإمام العلامة القطب محيي الدين محمد بن العربي الطائي الحاتمي قدس الله روحه ونور ضريحه.
الحمد لله الذي وصف الإنسان بما وصف به نفسه ، ومنعت الحقيقة الكيفية ، وفطره على الصورتين اللفظية والمضافة المعنوية ، ثم سماها بما سمي به ذاته .
وقال بنفي المثلية ، فمحا عين ما أثبته فتحيزه بين الأدلة العقلية والبراهين الوضعية ، ثم صلى عليه قبل صلاته ، ولا قبلية .
وجعل صلاة الكرم بعد صلاة الجود بين صلاته وسؤاله في صلاته ، ولا بينية .
وقيد له مناجاته بالأوقات .
وناجاه في مقام آخر من غير ميقات ، ليجمع له بين رسله ، ويسلك به على جميع سبله ، فكشف له عن المقام المحمدي في حضرة ذاته .
فرآه وأشهده حقيقة المقام الموسوي في حضرة صفاته ، فوعا ما به ناجاة ، فلما تقدمت صلاته وجب أن يبدأ بحمده قبل عبده لنفسه ولعبده .
وأن يفي بوعده لخلقه قبل وفائهم له بعهده ، لقدسه في صدق وعده ، فأشهده سبحانه وتعالى ربوبيته قبل تكليفه إياه ، وقال : "ألست بربکم قالوا بلى" 172 سورة الأعراف.
ثم لما أراد جل ثناؤه تمحيصهم وابتلائهم : سجنهم في محل مصيره إلى الخراب والبلى ، فأفاض من وجوده الأزلي بجوده الأقدسي ، على وجوده الأبدي فيضة أظهر عن ذلك الفيض الأنزه ، على هذا الوجود الأنوه إبراما ونقصا ، ورتقا وفتقا ، ورزقا وخلقا ، و بسطا وقبضا .
وكل قسم من هذين القسمين وجود محقق عن فيض جود مطلق ، فليس إلأ الإيجاد الغض ، مع الأنفاس و الإرفاد المحض ، إلى جميع الأجناس ، ولا سبيل إلى وصف المقام الأقدس بالمنع .
فإنه عدم ، وتسود شبهاته براهين القدم ، فأودع الأسرار الأول المالكة مفاتيح الأزل. الأرواح الأمناء ، وأنزلهم بها باسم الفتاح ، في أرض الأشباح خلفاء .
ولذلك قال : "كانتا رتقا ففتقناهما" 30 سورة الأنبياء.
يعني الأرض والسماء ، لما أشهدهم حقائق المسميات ، فعلمهم الأسماء حين عميت عنها الأرواح الملكية ، التي لم تتخذه الأجسام خلقا ، ثم انقلبوا إليه سبحانه ، بعد طول الصحبة لهذا الهيكل عنصر الظلمة بما اكتسبوه فيه علماء فبقيت بعدهم هذه النشأة الترابية أرضا موحشة بيداء ، لا ظل فيها ولا نفس ولا ماء ، فغيبت عن البصر في الحفر ، لوجد الضرر في البشر،حكمة إلهية علوية غراء.
ليردهم إليها على صفتين :
صفة واضحة بيضاء ، وصفة كالحة سوداء .
لما جعل في حبسها الأول مناقب المعارف، والحكم موقوفة على ارتفاع الهمم ، وجعل مثالب الجهالات والظلم في محال الشكوك والتهم .
فتركها لحما على وضم ، وذلك لتصح اليدان بالبعد والقرب ، وتثبت القدمان بالتواضع والعجب ، وتحقق القبضتان بالكشوفات والحجب.
ويعلم شرف الإنسان بتحميله أسرار الشرق والغرب ، على سائر الأكوان من العالم الملكي والفلكي والطبيعي ، الجامع للحار والبارد ، واليابس والرطب .
أحمده سبحانه حمد من قهره العز ، فرد حمده إليه .
وأشكره شكر من قام به العجز ، فأعاد شکر، عليه ، فتسامى على كل حمد وشكر.
أحمده وأشكره ، وتعالى على كل عرفان ونکر .
عرفانه ونكره ، لما أن رأى أن رقيقه القديم أولى بالتقديم في ذلك ، فكان بهذا القدر عند أهل القدر ، السيد المالك .
والصلاة على من فرضت عليه الصلاة فبقيت الباب المحققين حائرة فيما وهبه واهب العقل ، حين نظرته بأعين بصائرها فيه وباعين أبصاره إليه، فصلت عليه في حال الغنى ليتولى تلك الصلاة مفرضها مانح السنا والسناء صلى الله عليه وعلى آله ما دام تعطش هذه الأرض لما أودع الله من غذائها في هذه الجرباء. "الجرباء : السماء التى تدور فيها الشمس والأفلاك".
الحمد أقل ما افتتحت به الكلام …… الله موجد کون ذاتي في التمام
ثم استمر الجود منه بحضرتي ……. بسدي فيظهر ما أريد على الدوام
ثم الصلاة على الرسول وآله …… أهل المقامات المعظمة الجسام
ما دامت الأفلاك تسري والورى …….. متكون عن سيرها، ثم السلام
أما بعد:
فاني ذاكر في هذا الكتاب ما أشرت إليه في تراجم هذه الأبواب ، بجميع ما فيها على تواليها
الباب الأول في ذكر اسم هذا الكتاب وشرحه مجملا
هذا كتاب تنزل الأملاك من ……. عالم الأرواح في الأفلاك
عن أمر وصف العالم الآتي الذي ……. قهر الورى بحسامه البتاك
با مالکا فتح الخزائن جوده …… لإقامة الأعراس والأملاك
بین العقول وبين حضرة ذاته ….. العاملات السادة النساك
صفت لدى باب الندی أقدامها ….. لسائر الأضواء والأملاك
وعلوم أيام الوجود وليله ……. عند المناجاة بالاشراق
هذا كتاب أودعت فيه لطائف الأسرار ، وأضواء علوم الأنوار ، فهو مبني على اللغز والرمز، ليتحقق المدعى في مناجاة ربه عند وقوفه على هذه النتائج بالحصر والعجز .
وإنما قصدت أيضا ستر هذه المعاني الإلهية في هذه الألغاز الخطابية ، غيرة من علماء الرسوم ، وعقوبة لهم ، من أجل إنكارهم ، كما ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل غشاوة على أبصارهم ، فلم يدركوا من روائح الحقائق شمة ولم يميزوا في قلوبهم بين اللمة واللمة .
تأسيا بمن أخذ مثل هذا العلم من النبي المعصوم ، قال "لو بثته قطع مني هذا البلعوم " ، وكما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه حين عدم النقلة : "أن ههنا وضرب بيده إلى صدره لعلوما جمة لو وجدت لها حملة" .
وكما قال ابنه الذكي الحبر الكبير السني "على زين العابدين رضي الله عنه" :
یا رب جوهر علم لو أبوح به ……. لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنا
و لإستحل رجال مسلمون دمي …… يرون أقبح ما يأتونه حسنا
فبهؤلاء السادة في سترهم لهذه العلوم تأسیت ، وبهم فيها أقتديت ، وسميت هذا الكتاب : "تنزل الأملاك في حركات الأفلاك" عن أوامر صفات العلام الإلي المالك ، والقهار الفاتح على الباب أرباب الصفات عند الباب بسرائر صلوات أيام الليل الحالك والنهار الواضح .
وفيما يقول بعض من لا معرفة له بطريق الحقائق التي هي نتيجة التصرف ، ولا علم له بصورة التجارب فيها , ولا التصرف في إطالة اسم هذا الكتاب ، وأنه قشر على غير لباب ، وترجمة تروق بلا معنى ، واسم يهول بلا جسم .
فاعلم وفقك الله - أن غرضي البيان الشافي في كل ما أضيفه ، والقول الكافي في كل ما أؤلفه ، فما جعلت في هذا الكتاب لفظة إلا لمعنى فيه نودعه ،وسر لديه نستودعه.
فقولي "تنزل الأملاك" لأنها الأمرة عن الله ، قلوبنا بضروب الطاعات .
وقولي "الأملاك" لالتحام النشأتين ، وانتظام الصورتين بفنون الاستمتاعات .
وقولي «في حركات الأفلاك» لارتباط الصلوات والتنزلات بالساعات .
وقولي "عن أوامر" لتعداد التنزلات .
وقولي "صفات" لبيان حقيقة الذات ، ولم أقل "صفة" لأنها عن العلم والقول والإرادة المتوجهة مع القدرة على إيجاد الكائنات .
وقولي "العلام"، لكونه من الأسماء الإحاطيات،
وقولي "الألي" لكون الأرواح الإنسانية من الملكوتيات ، لأن دلالة الألي ملكية. ودلالة "الله " بشرية ، هكذا صرفته الكلمات ، فعبد الله ، وعبيد الله ، في الأرض نظير ميكائيل في السموات ، وجبرائيل في سدرة الانتهاءات .
وقولي "المالك" حذرا من دعوى العبد في الملك لما تحصل له في السعادات.
وقولي : "القهار" لاخراج الإرسال بالقهر عما وجب لها من المقامات .
وقولي : "الفاتح"، لنزولهم على شرف الأفلاك المستديرات .
وقولي : "على "الباب" ، لكون هذا التنزل من العقول المفارقات .
وقولي : "الأرباب" لأنه لا يتفطن لتنزلهم على القلوب سوى السادات . وقولي : الصفات، لكونها طالبة للمشاهدات .
وقولي : "عند الباب" ، لكون حجاب العزة لا يرتفع عن حقائق الإلهيات .
وقولي : "بسرائر" لإرادتي السريرة الموجودة بين الله تعالی وبين العبد في الصلوات .
وقولي : "صلوات" لأن لكل صلاة ضربا من المناجاة ، وصنفا من الكرامات .
وقولي : « أيام » إشارة للفرق بين هذه الأيام المعهودات والأيام المقدرات .
وقولي : "بالليل الحالك والنهار الواضح"، لأن الليل والنهار للمحسوسات
المستترات والظاهرات المرئيات .
"والحالك" و "الواضح" للإشارات المغيبات ، والعبارات المستنيرات .
وهذا كله في كتابي أذكره و أبينه وأسطره ، وعلى ترتيب هذه الكلمات اتكلم رغبة في المثوبات ، ورفع الدرجات ، وحط الخطيئات .
فهذا التنزل بحمد الله تنزل قدسي يقبله عقل ندسي بسره سندسي يتعشق به خاطر نفسي، يظهره قلب حسي." ندسي : فطن ذكي"
"الحسي : الفراسة أو الظن - المعرفة الحاصلة فى الذهن دفعة واحدة من غير نظر أو استدلال عقلي "
ثم يرجع عوده على بدئه لقيام شيء آخر مثل نشئه "كما بدأكم تعودون" 29 الأعراف. "ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون" 62 الواقعة .
فليس لعلم اللبيب سوی ترکیب ، وتحليل التركيب .
الباب الثاني في بيان تنزل الأملاك على قلوب الأولياء
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا نزل الروح الأمين على قلبي ...... تضعضع ترکيبي، وحن إلى الغيب،
فأودعني منه علوم تقدست ....... عن الحدس والتخمين، والظن والريب
وفصلت الإنسان نوعين، إذ رأت ...... يقوم به الصفو النزيه مع الشوب
فنوع يرى الأرزاق من صاحب الغيب ..... ونوع يرى الأرزاق من صاحب الجيب.
فيعبد هذا النوع أسباب ربه ...... ويعبد هذا خالق المنع والسبب
فهذا مع العقل المقدس وصفه ....... وهذا مع النفس الخسيسة بالعيب.
لعلك يا وليي إذا سمعتني أقول: تنزل الروح الأمين على القلب، تنكر وتقول: أوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟
لا تقل أعاذنا الله وإياك من وحي كل شيطان غوي، إنما هو عبارة في العامة عن اللمة الملكية وفي الخاصة هو بالحديث كما ورد في صحيح الحديث.
في القديم وفي الحديث، قال خير البشر: (إن في أمتي محدثين وإن منهم عمر)
وقال أيضا عليه أفضل الصلاة والسلام: في قلب العبد إنه (يتصرف بين لمة الملك وبين لمة الشيطان).
ثم کنی أيضا عن هذا التصرف، والتقليب بالإصبعين ، و أضافها إلى الرحمن.
فما زالت الملائكة تتعاهد القلوب بأسرار الغيوب، وهي التي تأمرك بالطاعة، والتزام السنة والجماعة، حين تأمرك الشياطين بلمتها في ذلك الأمر بالمخالفة، فإن تسمح لها أمرتك بالتسويف أو الموافقة.
وتتنوع تنزلات الغيوب بتنوع استعداد القلوب.
ولا تظن أيها الخليل أني أعني بالروح الأمين (جبریل)، فإن الملائكة كلهم أرواح أمناء على ما أودعها الله سبحانه من أصناف العلوم الموقوفة على التوصيل، تارة بالإجماع، وتارة بالتفصيل.
ولا بد أن يكون صاحب التنزلات الغيبية عارفا بالخواطر وأجناسها، وعالما بالروائح وأنفاسها، فلا يتصور إنكار في ما ذكره بعد ما قررناه من اللمة والحديث إلا من معاند خبيث.
متعنا الله وإياكم بنتائج الأذكار، وعصمنا وإياكم من أغاليط الأفكار، وقدس قلوبنا من دنس التعصب والإنكار، على ما ظهر من المتقين والأبرار، من غوامض العلوم والأسرار.
الباب الثالث في معرفة المكلف سبحانه وتعالى والمكلف
تحقق إذا ما قلت اني مهيمن ……. بأنك عبده والإله إله
وإن كنت مخلوقة على الصورة التي ……. تقابله حقا، فلست تراه
فإنك لا غير ، ولا أنت عينه ……. لأن سجدت لله منك جباه
وإن قلت بالمعنى اتحدنا فإنه ……. يقوم دليل الافتقار حذاه
فلا أنت من أكني ، ولا أنت غيره ……. نقد حرت فيه ، إذ شهدت سواه
لئن قلت : أني أصل ظلمة ذاته ……. فقد قلت وقتا : في سناي سناه
فقد حار في مثلي ، وقد حرت مثله ……. وقد حارت الحيرات حین محاه
وأصدق ما تعطيه ذاتي وذاته ……. على حيرات فيه لسبق عماه
بأني وإياه عزیز، وضده ……. فليس يبين الليل غير ضحاه
تعجبت من تکلیف ماهو خالق ……. له ، وأنا: لا تحل لي فاراه
فياليت شعري من يكون مكلفا ……. وما ثم إلا الله : ليس سواه
رمزت المعاني في قريضي فموهت ……. أغاليط لفظي ، فأحتمي بحماه
صعد الكلام الطيب على براق العمل الصالح , بالعقل الصحيح الراجح ، المعرفة المكلف والمكلف , بطريق الكشف الصريح الواضح.
باستعمال موعظة الفصيح الناصح ، فبين الروح الأمين عن الأمر على القلب ليكشف له عن سر ما طلبه في عالم التمثل والغيب ، وبارتفاع الحجب واعدام ظلم الريب .
وقال : لتعلم أيها القلب الكريم أن الحقيقة الإلهية تعطي أمرين ، ولهذا صحت الصورة للإنسان وحده من دون غيره ، فأوجد نشأتين باليدين ، وأباح له نجدين . وأنزل عليه تكليفين حين قسم العالم قسمين في القبضتين فأخفاهما في الدنيا عن التمييز بالإضافة إلى شخص ما في العين .
وابرازهما في الآخرة لذي عينين ، لما كانت الأخرة ذات دارین.
ولما كان الوجود على هذا الحال لذلك تعالى عند العلماء بالله الزوج على الفرد.
كما تعالی عند العارفين بالرب الوتر على الشفع ، لأنهم أهل الجمع .
ولظهوره الصورة المثلية مع الحقيقة الإلهية ، كانت مراتب الوجود أربعة فصار التربيع أصل هذه الأشكال المحكمة المرصعة .
وبهذه الصورة صحت الخلافة بالتقديم ، وبسببها أمتدت إلى المحدث بالإيجاد والتكليف رقائق القديم وإن كان هذا موضع حيرة ، فقد نيطت به الغيرة :
الرب حق، والعبد حق …… يا ليت شعري : من المكلف ؟
إن قلت عبد: فذاك ميت …… أو قلت رب : أني يكلف ؟
وكل ما ثبت في النظر الفكري من البسائط ، فهو عند العلماء بالله - بالكشف والمشاهدة - : من الأغاليط ، فالوتر معقول غير موجود ، والشفع موجود لكنه محدود ، وغير محدود .
فالوتر مع الشفع کالهيولي مع الصورة ، ولا توجد إلا بوجودها ، كما لا تعرف الصورة إلا بحدودها .
ولا أقول بشفعية الذات ، وإنما أقول بإستحالة تعريها عن الصفات ، فإن العدد في الأحد، ولا يذهب بحقيقته ، ولا يخل بطريقته .
فنفي الشفع واجب من أجل الشرك ، والحد لازم لأهل الإفك .
ولهذه الحقيقة شرعت الصلاة كلها شفعا ، ليس فيها وتر ، وإن الليل يشفع صلاة المغرب.
فانظر يلح لك السر ، فلو لم يشرع الوتر الليلي لبطل بالمغرب هذا الوجود الإلهي ومحال أن يبطل الوجود الإلهي ، فلا بد أن يشرع الوتر الليلي ، فلا يصح الوتر في شيء أصلا ، قطعة وفص .
والفائدة المطلوبة في العقل والسمع ، إنما هي في الشفع .
ولذا لا ترى في الوجود أبدا إلا صفة وموصوفة ، ولا سبيل في الإيمان بهذا ، إلأ الوقوف .
فهكذا ينبغي أن تعرف المربوب والرب ، فدع ما سودت به الكتب فيتحقق هذا الكشف ، فإنه لباب العلم الصرف .
الباب الرابع في معرفة التكليف
أصل التكليف مشتق من الكلف …… وهي المشتقات فانظر فيه واعترف
بأن ربك يعطي فعله أبدأ …….. لكل خلق ، وذا من أعظم الكلف
کالأمر إن خالفت منه إرادته ……. معناه صيرت المأمور في التلف
والناس في غفلة عما يراد بهم …… في كونهم ، وهي لم تنهض ولم تقف
تقسمت العوالم، فتقسمت التكاليف ، وطمست المعالم ، فجهلت التصاريف .
فعالم كلفتهم العبادة ، وعالم كلفتهم في مواقع الأمر : الإرادة ، وعالم كلفتهم في توجيه الخطاب الإلهي على هذا العالم الكياني مع رد الأفعال إليه .
و استحالة التكليف عليه ، فتاهت الألباب في هذا الباب ، واستوى البصير فيه والأعمى ، وزادهم حيرة في ذلك وعمي قوله تعالى : "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" 17 الأنفال .
لكن ثم رقيقة , وهي لعمر التصوف رفيقة , أنه ما وجد شيء إلا وفيه منه حقيقة .
أسمع يا مربوب رب القدم : امتنع المحدث أن تقوم به حقائق القدم ، وامتنع القديم أن يقوم به حقائق الحدوث ، لئلا يتقدم على وجوده العدم.
لكن تبلى جميع الصفات ، وإلا فمن أين ظهرت المتضادات ، والمتماثلات ، والمختلفات ، وليس القدم بصفة إثبات عين ولا حدوث يوصف إثبات لكون .
لكن لما تعددت الأسباب في الوجودين ، ولم يمكن للمعلوم الواحد تحصيل المعرفتین ، وأراد تمام الوجود ليعلم من الطريقين ، فظهر به في الإيجاد - التكليف في مشهد التخيير والتوقيف، ولهذا جاء الخبر بالصماء ما فوقه هواء وما تحته هواء .
فقال : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» قال ابن عباس : معناه ليعرفون.
فلو عرف نفسه بمعرفتهم دونهم : ما أوجد عيونهم ، فصح التكليف في القدم والخلق في حال العدم.
ومن هذه الحقيقة ظهر تكليف العباد ، وإن لم يكن لهم مدخل في الإيجاد .
عصمنا الله وإياكم من العناد ، وأمتنا وإياكم من الفزع يوم التناد .
الباب الخامس في معرفة سر وضع الشريعة في العالم
ومعنى قوله تعالى : "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا" .
وقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" .
ولما أراد الله إصلاح خلقه ……. وكان بهم داء الطمأنينة أصفى
إمام کریمأ منهم متطلعا …….. لأسرار أرواح العلا متشوقا
فأرسله فيهم طبيبا محكما …… أمين عليما بالسقام وبالشفا
وجاء بآيات تؤيد صدقه …… تراها برأي العين إن كنت منصفا
فأنقذنا من لفح نار تسعرت ……. وكنا لعمر الله منها على شفا
وأظهر أسرار وأبدى سبيلها …… لتحصيلها من بعد ما كان قد عفا
سبب وضع الشريعة في العالم أمران فيهما سران :
الأمر الواحد: صلاح العالم، وهو منهج الأنبياء، ويؤيده قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة"، وسره أن نصر المؤمنين حق عليه.
والأمر الآخر: إثبات ذلة العبودية، وظهور عزة الربوبية، وسره حکم سلطان اسمه.
فتنبه لما رمزناه، وفك المعنى الذي لغزناه،
الطمأنينة بما لا حقيقة له : توجب التكليف ، وما ثم شيء إلا وله حقيقة ، فقد لزمك الوقوف ، ما من أمة إلا قد أطمأنت ، فلما جائتها الرسالة أنت لعبتها ثم حنت ، ولولا الوعيد والوعد ما سعى في الوفاء بالعهد، ودع ما قالت العدوية فإنها ذات حال في العبودية .
ضربها ركن الجدار فأدماها ولم تحسن به.
وقالت: "شغلي بموافقة مراده فيما جری شغلني عن الإحساس - ترون من شاهد الحال" .
فقد أقرت بشغلها وأعربت بشاهد حالها . فانتبه .
ومحمد (عليه الصلاة والسلام) يقلقه الوجع ويمسح بالماء ، على وجهه ويقول: «إن للموت سكراته وفاطمة على رأسه ، تسكب لفراقه العبرات - وتقول : يا كرباه .
فيرفع إليها طرفه ويقول : "لا کرب على أبيك بعد اليوم" فأثبت أنه في كربات ، فقد بان أن الحقائق لها رقائق ، غاب عنها أهل العلائق والعوائق .
والحال : علاقة المريد، وحب الكشف نهاية من لم يذق لذة المزيد ، فكل من شاهد امرأ ليس ذلك المشهود عليه ، فذلك الأمر فيه ، وراجع إليه .
فليحذر أن يقول : أنه في الكون الخارج لا محالة ، فيثبت عند المحققين محاله .
ومن لم يفرق بين نفسه وغيره ، فلا تمييز عنده بین شره وخيره .
فهذا سبب وضع الشرع الموافق للعقل والطبع.
جعلنا الله وإياكم من العلماء العاملين، وحال بيننا وبين القوم الفاسقين.
الباب السادس في معرفة كون الرسول من جنس المرسل إليه
لقوله تعالى : "ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا"
وقوله : "لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا" ولم يقل رجلا ، لأن المرسل إليهم ملائكة.
وقوله : "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" .
خليفة القوم من أبناء جنسهم …… لأن ذلك أنكی في نفوسهم
لو لم يكن منهم لصدقوه ، ولم ……. يقم بهم حسد لغير جنسهم
یا حزن قوم عموا عن شر خالقهم ….. یا شر ماعاينوه طول حبسهم
يقلبون على نوعين في سقر …… في برد بردهم ، وحر شمسهم
أن يستغيثوا يغاثوا بالحميم ……. فما يعذب القوم شيء غير لبسهم
كما الذي آمنوا بالشرع واعتصموا ……. به تضمهم جنات قدسهم
ينغمون على نوعين قد عصما ……. في علم عقلهم أو کشف حسهم
فهؤلائك في تأبيد سعدهم ……. كما أولئك في تأبيد نحسهم
نزل الروح الأمين على قلب مکین ، وقال : إنما جعل الرسول من الجنس لاستخراج عيب النفس ، و أنزل بلسانهم لارتفاع اللبس ، فإن دعا أمر أن يكون من غير الجنس في الحقيقة ، فلا بد وأن يظهر بصورة الجنس في عالم تمثيل الرقيقة .
أنظر أيها القلب في إيجاد المسيح ، لم يصح حتى تمثل في عالم البشرية الروح ، فوقع النفخ وأعقبه السلخ وقد رمينا بك على الطريق ، فادرج عليه إلى عالم التحقيق وسيقوم معك رسول الخيال إلى المتخيلات ، فخذ منه ما أعطاك ، وإياك والالتفات ، وانهض على طريقتك ، المثلى .
وقل : الرفيق الأعلى ، فسيقوم معك رسول العقول ، فخذ منه ما يقول : و اركض برجلك حيث براق عملك إلى نيل أملك .
فيقوم معك رسول الاسماء عند خروجك من كرة الفلك المحيط بكل سماء ، ويقول لك يا يوم الأثنين إلى أين ؟
فقل له انعكست الحقائق ، وظهر علينا عالم المخارق ، لم لم تنزل قبل أن أصعد ؟ ولم تقصد بحقيقتك قبل أن أقصد؟
فإنك الملقي وأنا المهيأ وأنت المنبي وأنا المنبأ.
فسيقول لك : الحرف خدعة والستر أولى من السمعة ، وقد مضى زمن النبوة
المشهورة ، وأنت في زمن النبوة المستورة ، فلو نزلت عليك في عالم الكون والفساد لكفرك أهل النظر في الاعتقاد . فإن بغلبة الحال يقول "قلت وقال" .
وهنا قد ارتفع الإنكار، وزال الأضطرار ، فلهذا تركتك تقطع الأكوار والأدوار ، ثم أسمع لولا رسول الاشتياق ، الذي هو نتيجة هذه المشاهد على اتساق ، ما عاملت الأهل بالفراق ، فقد نزلت إليكم ، لم تشعر وها أنا قد ذكرتك ، فهل تذكر ؟
فسل من الجوائز ما أشتهيت ، وحصل منها ما تمنيت ، فاملا عند ذلك عينيك . فأرجع وأنت تحمد غيبتك .
زکی الله أعمالنا ، وبلغنا وإياكم آمالنا .
الباب السابع في بيان مقام الرسالة ومقام الرسول من حيث هو رسول من أين نودي؟
وأين مقامه والفرق بين الخلافة والرسالة ، ومعرفة النبوة والولاية ، والإيمان ، والإسلام والعالم ، والجاهل ، والظان ، والشاك ، والناظر والمقلدين لهم .
أنا ترجمان إله السماء …. وذلك إن قال لي ما أقول
مقام الرسالة عند الثرى ….. ويظهر ذلك عند الرسول
ينادي بها من مقاماته …… الإلهية الواضحة الفصول
لتمش بها لعباد طغوا ….. وحادوا بنا عن سواء السبيل
وبلغ إليهم رسالاتنا ….. فأنت الرؤوف بهم والدليل
فإن هم عصوك فقاتلهم ….. فإن الخليفة شهم قتول
سماء الولاية علوية ….. تحيط بكل مقام جلیل
يناديه فيها على عزة ….. إذ كان في أوجها جبرئیل
يقول : أنا فيك ذو عزة …. وفي عز مولاي : عبد ذليل
سماء النبوة في برزخ ….. دوین الولي وفرق الرسول
فيا مؤمنا إن تك عالما ….. تنعمت في علم قال وقبل
وبالضد إن كنت في ضده …. ولو کنه، في خفض عیش ظلیل
فقرب من الشاه فرزانه …. وأيده من الخيل أو بند فيل
نزل الروح على القلب. وقال: الرسالة عرش الرب، وسماء المربوب، ومقام الرسول بينهما؛ لأنه طالب مطلوب، فلو لم يناد الرسول في مقامه الإلهي لما أجاب، ولو سقى من غير مشربه ما طاب.
فإن قيل له في ذلك الخطاب: "بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، فذلك الرسول وإن زيد عليه، وقاتلهم إن أبوا القبول، فذلك الخليفة الرسول، فله أن يصول. .
واعلم أن :
فلك الولاية هو الفلك المحيط الأعم الأتم الأكمل العقلي.
وفلك النبوة هو الفلك الأتم النفسي.
وفلك الرسالة هو الفلك القريب المثلث الهيولي.
وفلك الجهل هو الفلك الزحلي.
وفلك العلم هو الفلك المشتري.
وفلك الشك هو الفلك المريخي.
وفلك النظر هو الفلك الشمسي.
وفلك الظن هو الفلك الزهري.
وفلك التقلب هو الفلك العطاردي.
وفلك الإيمان هو الفلك القمري.
الرسول وجه على قومه.
والنبي تعبد في نفسه إلى يومه.
والولي أيقظه الرسول من نومه.
فالرسول هو الإمام. والولي هو المأموم محفوظ غیر معصوم.
فالرسول من هذا النمط هو المطلوب. ومنه وإليه يكون الهرب المرغوب. فالمؤمن به صدقه وانصرف والعالم أقام له البرهان. فأقر بصدقه واعترف.والجاهل نظر فيه .والخرف والشاك تحير فيه وتوقف. والظان تخيل وما عرف، والناظر تطلع وتشوف، والمقلد مع كل صنف تصرف، إن مشی متبوعه مشي، وإن وقف وقف؛ حيث ما كان، إما في النجاة وإما في التلف،
"كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ".
فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فأسكنه تقليده دار البوار .
جعلنا الله وإياكم ممن نظر واستبصر، وعلم فلم يجهل، ولم يتحیر آمین.
الباب الثامن في تلقي الرسالة وشروطها وأحكامها
تلقي فؤاد بالصفاء رسالة ….. من المشهد الأعلى إلى المشهد الأدنى
و كان تلقيها بمد رقيقة ….. إلى سره باسم من أسمائه الحسنى
فلاح له نور الرسالة طالعا …. على قلبه فإزدان موقفه الأسنی
وقال له في ذلك النور ربه …. احباي إن غابوا فما برحو منا
فازعجه نحو المهيمن شوقه ….. وحن إلى الاسرا ليلتذ بالمعنى
فأسري به إذ أزعجته مقالة …… لأسري بمحبوبي إلي إذ حن
نزل الروح الأمين على القلب وقال: یا طالب الرسالة أقصر فإنها موهوبة غير محسوبة، وطالبة غير مطلوبة، لا تنال بالسعايات، وليس لها بدايات فتوجد عند الغايات، وإن كان من شرطها أن تكون نية صاحبها قريبة من الاعتدال.
و لطيفته متوسطة بين الجلال والجمال، وأحكامها ألا يسكن في النور ولا في الظلمة، ولينحر مواضع الضياء والظلال، وليكن فرشه الرمال.
ووقته الرقيقة التي قبل الزوال، وأن تكون مرآته صافية.
ويواجه بها حضرة البلاء والعافية ومن أحكامها الثبوت عند التلقي.
وعدم الالتفات عند الترقي، وأما تلقيها فرقيقة ربانية تمد إلى لطيفة روحانية بكلمة غيبية.
مدرجة في قوة قلبية تجري في أنبوب تلك الرقيقة، فتستقر في النقطة الدقيقة، فيبثها الرسول في عالم المجاز والحقيقة، على حسب ما تعطيه الطريقة.
فالتدلي انبعاثها الرباني، والتلقي اتصالها الروحاني به، علمنا الله وإياكم من لدنه علما، وآتانا رحمة من عنده ومغفرة و عزم آمین.
الباب التاسع في معرفة تلقي الرسالة الثانية المورثة من النبوة
ومعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام : "العلماء ورثة الأنبياء"رواه أبو داود ، والترمذي وابن ماجة ، وابن حبان .
وقوله تعالى : "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا" . سورة فاطر الآية : 32 .
وقوله عليه الصلاة والسلام: علماء هذه الأمة أنبياء سائر الأمم».
وكان معاذ وغيره رسول رسول الله إلى من أرسل إليهم .
ولما نزل ذكر الواسطة وقيل رسول الله ، وكان يأخذ عن جبرائيل ، ولم يقل في معاذ وغيره رسول الله ، وقيل فيه رسول رسول الله :
تلقى فؤادي بالصفاء رسالتي …… وكان تلقيها بمد رفیقتي
إلى نور ربي بانعکاس شعاعه ….. بمرآة من أبدى لعيني دقيقتي
فصح نصيبي من وراثة سيد …… رسول أتاني واضعا لطريقتي
فقمت عليم بالأمور ومرسلا ……. إلى عالم أخفيته عن حقيقتي
فكان صديقي مرسلي ، ورسالتي …… على الكشف والتحقيق أيضا صديقتي
نزل الروح الأمين على القلب وقال : لتعم أن الرسالة الثانية موهوبة ومکسوبة ، طالبة ومطلوبة ، وموروثة غير منفوثة .
وباعثة ومبعوثة ، وصورة تلقيها حقيقة ربانية تمتد في رقيقة ربانية إلى لطيفة روحانية .
فاللطيفة الروحانية رائية ، والحقيقة الربانية مرئية بواسطة مرآة نبوية ، فينعكس شعاعها على قلب الولي ، فلهذا يخرج بصورة النبي : لا ينسخ شريعة ، ولا يثبت أخرى ، ولا يسأل على تعليمه أجرأ ، وإنما صح لنا ورث الكتاب ، لكون إعطائه إيانا من غير إكتساب ، وكل وارث مصطفى ، ومن سواه فهو على شفا ، وإنما لحق الوارث منا بالنبي السالف ، لأنه للإلقاء النبوي ذائق ، و لمقامه العلي كاشف ، وهو في قلبه على شريعة من ربه ، وإنما نسب رسول الرسول إليه لمشاركتهما في التكليف الذي أنزل عليه.
ولم ينسب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى جبرائیل ، لأنه ليس له من رسالته غير التعريف الذي أودع الرحمن لديه ، فنسب الرسول إلى الله بغير واسطة ، لقدم هذه الرابطة .
فإن كنت من أهل هذه الإشارات ، فقد منحتك العلم النافع في إيجاز هذه العبارات .
جعلنا الله وإياكم ممن ورث فبعث ، ودعا فانبعث ، وإن ترك لم يكترث آمین بمنه ويمنه .
الباب العاشر في بيان السبب الذي دعاني أن أختص في هذا الكتاب
من العبادات الصلوات الخمس دون غيرها
فرض الصلاة على العقول الناسي ….. خمسة فصارت في الوجود لباسي
لما علمت بنشأتی رأینها ……. تسري مع الأرواح والأنفاس
فتركت ظاهرها على ترتيبه ……. يجري على أحكامها بالناس
وتركت باطنها على سلطانه …… يغزو فيهلك عالم الوسواس
ورحلت عنها رحلة ميمونة …… فوجدت جل الخير في الإفلاس
نزل الروح الأمين على القلب، وقال : تعلم أن الصلاة أنبعثت من الحضرة الصمدانية المقدسة ، فاغتنمها فهي كالخطرة المختلسة ، نظرت إليها الحضرة النورية ، فوهبتها أسرارها ، وأفاضت عليها الحضرة القيومية أنوارها .
ولما كانت هذه الصلوات تختص بالمناجاة الربانية ويرد عليها إذا خاطبت بالمناجاة الإلهية.
ونعم جميع المقامات المخصوصة بروحانیات أهل السماوات، وخبيت بجميع الحركات المستقيمة في الإنسانيات ، عند القراءات .
والأفقية في الحيوانات عند الركوع للأذكار المعظمات والمنكوسة في النباتات عند السجود ، لابتغاء القربات .
فلهذا واشباهه اختصصناها بالإنزال عليك في هذا الكتاب من بين سائر العبادات ، و إختصصت منها الصلوات الخمس لمطابقتها أصول تركيب الأنس ، ولأن الخمسة وحدها (من دون) سائر الأعداد تحفظ نفسها وغيرها ، فاعرف قدرها واشكر خيرها . .
فصلاة الظهر نورية .
وصلاة العصر نارية.
وصلاة المغرب مائية.
وصلاة العشاء ترابية .
وصلاة الصبح هوائية .
"الليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس " "إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون" "أفلا تبصرون".
عجبا: ألا ترى أن كل عبادة لا تمنع من قامت به التصرف في بعض أسبابه ، إلا الصلاة فإنها تغلق على من قامت به جميع أبوابه .
فمقامها الغيرة ، ومشهدها الحيرة ، أنية المحتد والمولد والمشهد .
وهي أسنى تکلیف و مقصد .
ولما كانت محل إدراك المعاني طولب المكلف فيها بالفنا .
جعلنا الله وإياكم ممن تطهر وصلي ، وسبق وما صلی إنه ولي کریم.
"فالشيخ رضي الله عنه يطلب أن يكون سابقا لا مسبوقا ، لأن الفرس المصلي يكون رأسه عند صلا الفرس السابق بکسر صاد "صلا" والله تعالى أعلم"
" وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" .
الباب الحادي عشر في معرفة علة أسماء الصلوات الخمس وتنبيهات على كيفياتها من الحكم والأسرار على طريق الإجمال إن شاء الله تعالى
ولما بدت للسر حكمة ربه …… فرضنا صلاة الظهر في عالم الكون
ولما تدانى الوصل بيني وبينها ….. فرضنا صلاة العصر صدقا بلامین
ولما اتصلنا واستمر عناقنا …… أتي المغرب المستور في بردة الصون
ولما أضطجعنا واستمر نکاحنا …… أتانا عشاء الحفظ خوفا من العين
ولما انتبهنا والشموس طوالع ……. أقمنا صلاة الصبح شكرا على البين
نزل الروح (الأمين) على القلب وقال :
لتعلم أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لما كتب الصلاة لميقاتها جعل أسماءها بأوقاتها ، إلا الجمعة فإنها سميت بانتظام الشمل وإتصال الحبل .
وهي من فروع الصلاة لا من أصولها ، لأنها مقرونة بشرط ، فأشبهت صلاة الكسوف والاستسقاء وغيرهما في فصولها .
فلما لم تقم في أصل الوضع مقام الفرض ، لذلك لم أجعل لها عينا في هذا العرض.
وإن نابت مناب الظهر ، فذلك لسر آخر من عالم الأمر ، ليس هذا موضعه ، ولا هنا مشرعه .
وجعلها خمسة في التكليف ، لأن الإنسان على خمسة في أصل التأليف. "الجمع والالتئام"
واعلم أنه تعالى قسم هذه الصلوات قسمين ، وجعل لها حكمين لتحصيل علمين في عالمين راجعين إلى حكمين .
فقسم واحد خصه بالعقل ، وهو الحضور والتدبر لما يتلوه بعد عقد النية .
وقسم آخر خصه بالحس ، وهو التلاوة .
وجميع حركات الصلاة ، لما كانت لا توجد إلا في هذه البنية . "أى الفطرة"
وأما الحكمان:
فحكم العقل : التوجه إلى القربة. "الإتجاه للقبلة"
وحكم الحس : التوجه إلى الكعبة . "الإرتباط بالكعبة"
وإنما قيد بجهة واحدة عن الجهات، لإزالة الحيرة والالتفات، وإشارة إلى فضل الجمع على الشتات .
وأما العلمان :
فالعلم الواحد يختص بالعقل ، وهو علم التنزلات.
والعلم الأخر يختص بالحس ، وهو علم التجليات .
وأما العالمان:
فالعالم الواحد : عالم الغيب .
والعالم الأخر : عالم الشهادة المقدس عن الريب .
وأما الحاكمان :
فالحاكم الواحد : الاسم الظاهر.
والحاكم الأخر : الاسم الباطن بلا مؤازر.
ولما اشتق الله تعاني لهذه الصلوات اسماء من أوقاتها لا من ساعتها علمنا أن ذلك لسر ابداه ، وخير إلينا أسداه :
فصلاة الظهر في العقل : لظهوره بالعلم.
وفي الحس : لظهوره بالفعل ، في خلق الظهيرة والحكم .
وصلاة العصر في العقل : لضمه اياه في عقد معرفته عن النقل .
وفي الحس : لضمه إياه في فروع الأحكام إلى النقل عن العقل ، بضم الشمس إلى الغيب ، لوجود الفصل ، والفضل .
وصلاة المغرب في العقل : لاستتاره بالأدلة الفكرية .
وفي الحس : لاستتاره عن الكيفية .
وصلاة العشاء في العقل : لاستتاره إلى سلطان السمع ، فلاحت له بارقة من بوارق الجمع ، فغشيت عين بصيرته لشدة ظلام الطبع .
وفي الحس : لاستتار المبصرات بجلابيب الظلمات ، فكان العين غشيت عن إدراكها في أصل الوضع .
وصلاة الفجر في العقل : لانفجار بحار الأسرار .
وفي الحس : لانفجار بحار الأبصار .
واعلم أن الصلوات المفروضة كلها نهارية ، إما بالشمس أو بآثارها ، إلا العشاء الآخرة ، فإنها مشتركة بين الليل وبين (النهار) أنوارها ، وذلك لسر غريب ، ومعنى عجيب .
وهو : أن الصلاة تكليف ، ففيها مشقة وتعنيف ، هما صفتان للنهار دون الليل، عقلا وإحساسا ، فجعل النهار معاش (وجعل النوم سباتا . حين ) جعل الليل لباسا .
فانظر ما أوزن هذا التعريف بحكمة التكليف .
ثم اعلم الصلاة البرزخية - وهي المغرب فرضها سبحانه بین جهر وسر ، وشفع ووتر ، وذلك في العقل.
لأن البرزخ في الصلاة أمر معقول بين عبد و رب (على قدر) .
لأن العبد بالليل منوط ، والرب بضوء شمس الله مربوط .
" الرُب بضم الراء وهى البقية والسلافة الباقية لان الوقت مختلطا فيه بقية من النهار"
وفي الحس بین کشف وستر لملح أجاج نزر، و عذب فرات غمر ، لأن فلك الزمهرير" يقصد فلك القمر" أكبر من فلك البحر المستدير.
وإن الصلاة النهارية مفروضة بين شفع وسر ، فالشفع للخلق ، والسر للوتر .
فإن الخلق إذا ظهر احتجب الحق واستتر.
فلهذا شفع الظهر والعصر ، و بالقراءة أسر .
وجهر في كل صلاة الفجر ، لقرب طلوع الشمس ، فهو قوي الظهر .
ولم يتحد الفجر بالفاتحة حين أنبری ، لأن عند الصباح يحمد القوم السرى .
"السری = السیر عامة الليل"
واتحد بها المغرب لفناء صفات المشاهد بطلوع الشاهد عند المشاهدة.
"الشاهد = النجم يظهر عند الصباح"
ولا تنفرد الفاتحة في صلاة أبدأ إلا (إذا) أخفيت .
لأن الأحدية على هذا بنيت.
فالفجر للمجسمة .
والظهر والعصر للحلولية.
والمغرب والعشاء ، للفرقة الناجية السنية .
فإن قيل لك في تكرار الصلوات : هل تكرر المشاهد (ات) ؟
فقال : إن الله تعالى ما تجلی قط في صورة واحدة مرتين.
(ولا في صورة واحدة ) لشخصين .
وهذا هو التوسع الإلهي الذي لا ينحصر ولا يدخل تحت الحد فيضبطه الفكر .
فهذا قد أبنت عن الأمهات المطلوبة في أحكام الصلوات في هذه العبارات ، بطريق الإشارات ، على حكم التنزلات.
الباب الثاني عشر في معرفة شروط الإمام للصلاة
يا إماما بمثله ليس يرجو ….. فضل أجر ، ولا يؤم احتسابا
لا أرى منه وهو في العلم ….. معصوم عن الفسق واخنا اجتنابا
وأناديه من وراء حجاب …… يا إمامي : لقد تركت الصوابا
لم خلفتني وصرت أمامي …… وأنا أنت : أن عرفت الكتابا
يا جهولا بذاته وبذاتي ……. وظلوما لنفسه ، ما أنابا
سوف تلقي تأخرا واغترابا …… حين لقي تقدما وافترابا
أنت والله أعلم الخلق بالله …… وقولي "وأنت" تأب المتابا
كيف تشكو لهيب نار اشتياق …… لفراقي ، وحرقة وانتحابا
کیف تشكو لهيب نار اشتياق …… تتعامى بالله أم تتغالی
وأنا حاضر ، ولست تراني ….. تنعامی ، بالله قل أم تتغابی؟
لو رأيت الذي رآه فؤادي ……. في صفا الوداد : زدت التهابا
وتركت الصفات : حالا وقولا ……. وتركت العذاب ثم الثوابا
يا إمامي لقد رمزت أمورا ……. أن تدبرتها أمنت الحجابا
لما طلب الرئاسة عقلي على العقول والتقديم ، قرع بهمته باب التقديم .
فنزل إليه الروح ملتفا في بردة يوح.
وقال : لا تصح في عقل امامة إلا إذا كان غیر علامة ، ولم يجعل إمامه ، ولا تدبر في الصلاة كلامه.
وألقى على فمه عند التلاوة قدامة ، وأسدل بينه وبين الله قرامه ،ولم يأخذ من السحاب إلا مهامه.
"قرامه = الستر الرقيق ، مهامه = السحاب الذي لا ماء فيه"
ومن النور إلا كمامه ، ولا من المختوم إلا ختامه .
وأتى إلى ربه في ظله و غمامه ، وأرخى الأزار و أشال العمامة .
وجاز على ما أوصى به النبي (عليه الصلاة والسلام) في حديث سعيد بن زيد بن أسامة. وسكن نجدا ورحل عن تهامة .
وسفه في الاشارات الإلهية أحلامه ، وملك أضغاث أحلامه ، ورفع بين الجنة والنار اعلامه .
وزلت به عن الصراط اقدامه ، وجل عند المشاهدة نظامه.
وفقدت منه عند الموت الحماسة والشهامة ، وطرأ عليه حال مزعج بمشاهدة القيامة ، فعمر بسيره لقلقه ، فيعان ذلك الموطن وأكامه . "اللقلق = اللسان"
فإذا ظهرت على عقل هذه الدلالات وزاد اعلامه وهي أن يجهل هو في محرابه أقامه .
حينئذ يصح لهذا العقل على العقول الإمامة .
وهذه العلامة في إمامة الحس بالعكس ، فإنه من عالم النكس ، لنزوله من حضرة القدس .
جعلنا الله واياكم ممن أم وعم ، وصح له المقام الأكمل الأتم ، آمین
الباب الثالث عشر في معرفة شروط المأموم في الصلاة
كل إمام صحت إمامته …… وكان من قبل ذاك مأموما
فحكمك المشي خلقه أبدا ….. وحكمه : أن يكون معصوما
فإن بدا حكمه بآية …… سلم إليه الأمور تسليما
من ينبع من تقوم زلته …… به يكن في الأنام محروما
نزل الروح على القلب ، وقال له لتعلم أن المأموم على قدر مقام إمامه في جميع أحكامه ، بأي اسم كان إمامه لزمه أحكامه ، فيتبعه حيث سلك ، ويخلف وراءه جميع ما ملك .
ألا ترى تبعية ظلال الأشخاص لها :
ما أحسنها وما أكملها، ولقد أخبر سبحانه عن الظلال أنها تسجد بالغدو والآصال.
فمن أولى بهذه الصفات في علمك ؟
أنت أم الظلال التي هي جماد في زعمك ؟ ، هيهات لشغلك بالترهات .
أيها المأموم :
إذا كبر الإمام خالقه على قدر علمه ، فكبر ذاتك . "أي شرفها بالدخول في الصلاة لأصل وسر ابداع ظهورك الحق القديم الأزلي "
وإذا قال ولا الضالين، فقل آمين.
فإن وافقت الملائكة في ذلك قدست صفاتك .
وإذا ركع فإركع لهمتك .
وإذا قال : سمع الله لمن حمده .
فقل : ربنا ولك الحمد ، على ردك إلى انسانيتك .
وإذا سجد فاسجد لبدايتك .
فإن فهمت هذه الفصول ، وحققت هذه الأصول ، فأنت المأموم المطلوب ، والمعشوق المحبوب .
بك يظهر ملك الملك ، وعليك ينزل الملك ، وبنفسك يدور الفلك .
جعلنا الله وإياكم ممن اتبع إمامه ، ورفع في ذروة التوحيد أعلامه .
الباب الرابع عشر في معرفة سبب فرض الطهارة وصفة الماء الذي يتطهر به
خلق الله نشاني جميعا …… بيديه فكنت في خير صوره
فطر الله صورتي عليه …… فلهذا أكون في كل صوره
أودع الله في أمريه حتى …… صرت ما بين وصف أصلية سوره
ظاهري فيه شقوة وعذاب …… باطني فيه رحمة مستوره
أنا أحوي تورانه والأناجيل …… و قرآنه و ثم زبوره
أنا أحوي أيامه وشهوره …… أنا أحوي أعوامه ودهوره
أنا كل به ، ولست أبالي …… من كلامي ، فإن في ظهوره
ولذا كانت الخلافة فينا …… نصها في كتابه مسطوره
فإذا ما أدعيت أني رب …… أسدل الله دون وجهي ستوره
وأتي شرعه يخاطب ذاتی …… یا غفولا : لقد جهلت أموره
فرض الله نعمة وعذابا …… للدعاوي على الأنام ظهوره
قم مظهرا بالعلم عقلك حتى …… يظهر الله ذاته للبصيرة
فترى ذاته وتبصر ما …… قد غاب عنها إذا أطلع الله نوره
ثم طهر بالماء جسمك كيما …… تنعم العين إذ تشاهد حوره
عجبا في نجاستي بحبيبي …… أودع الله لي علوما كثيره
وطهري مني ولست أسمى …… من أنا، وهي إن نظرت شعيره
أن مثلي يقول (أني رب) ….. يا خليلي : هل أتی بكبيره ؟
لا وحتى ومن أنا و(هو) شيء ….. واحد، ما أتيت قط صغيره
کف آتي صغيرة أو كبيرة ……. وأنا القدس ذو العلا والسريره
بك يا نشأتي إلهك أبدا ……. فيك عينا نعیمه وقصوره
حين أبدي في مثل ذاتك أيضا ……. من كفور : عذابه وسعيره
قد لغزنا حقائقا وأمورا ……. من يكنها يظهر بأحسن سپره
نزل الروح (الأمين) على القلب وقال :
أيها المحل النزيه المكبر "المكين" أحرم خلفي بصلاة الظهر ولا تكبر ، فإنك مع المعروف .
وقال للحس : أرفع يديك وكبر فإنك مع الحروف ، وأنا الإمام وأنت المأموم ، وإن كان لك الأمام.
فقال القلب للملك : لو تقدمت العبارة عن الطهارة ، لكان أنتم في الإشارة .
فقال الرسول : لا يتطهر من الحدث إلا الحدث ، ولا من الجنابة إلا من هو عن الحضرة الإلهية في جنابه .
فقال القلب : إن العقل إذا نظر في كونه فهو في جنابة عن عينه ، فجنابته جنابته وإذا نظر إلى نفسه فهو في الحدث الأصغر ، الذي في عكسه ، فحدثه حدثه فلا بد من الكشف والظهور لأسرار الطهارة والماء الطهور .
فقال الملك : أنا الأمين الحفيظ ، فلا أزيد على رسالتي ، ولا اتعدى ما رسم لي في مسطور وكالتي ، ولكن أثبت حتى أرجع إليك وأنزل بما سألته عليك ..
فرجع الروح إلى معلمه على سلمه ، فذكر له ما كان ، ولم يكن به جھولا ، فأمره بتعليمه ، ولم يكن عنه غفوة .
فنزل إليه في حينه ، وخاطبه في قلبه من جهة يمينه ، وقال :
أيها القلب ، سلام عليك ، وأسمع ما أنزلني به سيدي ومولاي ، ومرسلي إليك :
الماء الطهور ماءان ، لأن المتطهر به عالمان :
ماء سمائي ، وهو خلاصة الماء الأرضي فطرة أنبيق الزمهریر .
فذلك الماء النمير ، وقد كان روحا هوائيا بين الكرتين (لاستحالة العين إلى عين ، هي آخر في عالم الفساد) والكون ، فتطهر بهذا الماء أيها العقل الأقدس .
والماء الآخر : ماء أرضي ، من عالم الأمشاج ، فمنه عذب فرات ، ومنه ملح أجاج ، فتطهر بهذا الماء أيها (الجسد الأنفس) .
جعلنا الله ممن تطهر وتقدس ولم يتدنس .
الباب الخامس عشر في معرفة سبب التعميم في طهر الجنابة وتخصيص بعض الأعضاء في طهر الحدث الأصغر والتيمم
ان الفنا يؤدي إلى عميم الطهارة …. فافهم فديتك ما قد ضمنت هذي العبارة
ولا تزد ، فاللبيب من أعلمته الإشارة …. فإن غفلت فخصص ، وما عليك خسارة
وإن عدمت فیمم ترابا رأيت غباره ….. لا بد للكبت مهما أعجلتها من نشارة
قال العقل بين لنا أيها الروح الكريم؟ …. ولا يكن ذاك إلا إذا قصدت الزيارة
فقال الروح : إن كنت ذا جنابة أو (متعمدا) فيها فعم الطهر بذلك المنصوصة ، وإن كنت ذا حدث فاغسل الأعضاء المخصوصة ، فسر التعميم في طهر الجنابتين ، لغيبتك بالكلية في علم نکاح الصورتين :
الصورة المثلية العقلية .
والصورة المثلية الشرعية .
وسر الطهر المخصص لبعض الأعضاء :
للغفلات ، التي تتخللك في حضورك عند الإنضاء "التعب بالهزال أو الضعف"، وإن عدمت الماءين فاعمد إلى ما خلقت منه "التراب"، ولا تعدل عنه ، فإنك تبيح العبادة ، ولا ترفع الحدث ، لما قام بك من الخبث .
جعلنا الله وإياكم من أهل الحضور مع الله في عموم الحالات، ومن المشاهدين له في كل مقام ، مع مر الأنفاس والاستحالات.
الباب السادس عشر في معرفة النية والفرق بينها وبين الإرادة والقصد والهمة والعزم والهاجس
أساس وجود الفعل في القلب خمسة ….. فأولها عند المحقق هاجس
ومن بعده عن الإرادة قائم ……. وهم ، وعزم ، صادفته الأبالس
ومن بعد هذا نية مستقيمة ….. تباشر فعل الشخص والقلب سبائس
وقد قيل أيضا ثم قصد محقق ….. فإن صح هذا القول فالقصد مارس
ومن قال : إن القصد معناه نية …… فحسب فإن القصد للقوم خامس
نزل الروح على القلب وقال :
أيها العقل الأقدس : إعلم أن الله تعالی إذا أراد إيجاد فعل ما بمقارنة حركة شخص ما ، بعث إليه رسوله المعصوم ، وهو الخاطر الإلهي المعلوم .
ولقربه من حضرة الاصطفاء هو في غاية الخفاء ، فلا يشعر بنزوله في القلب إلا أهل الحضور والمراقبة ، في مرآة الصدق والصفاء .
(فيقر في القلب نقرة خفية) ينبهه لنزول نكتة غيبية ، فمن حكم به فقد أصاب في كل ما يفعله ، ونجح في كل ما يعمله.
وذلك هو السبب الأول عند الشخص الذي عليه يعول ، وهو نقر الخاطر عند أرباب الخواطر ، وهو الهاجس عند من هو للقلب سائس .
فإن رجع عليه مرة اخرى ، فهو الإرادة ، وقد قامت بصاحبة السعادة .
فإن عاد ثالثة فهو الهم، ولا يعود إلا لأمر مهم.
فإن عاد رابعة فهو العزم، ولا يعود إلأ لنفوذ الأمر الجزم .
فإن عاد خامسة فهر النية ، وهو الذي يباشر الفعل الموجود عن هذه النية ، وبين التوجه إلى الفعل وبين الفعل يظهر القصد.
وهو "القصد" : صفة مقدسة يتصف بها العبد والرب .
ثم إعلم أيها العقل أن النية إذا كانت معناها القصد. (في إقامة أصل كل نية) .
وليس للحي في النية مدخل، لأنها من وصف العقل المنتحل .
فإن العقول الإنسانية منتحلة من العقول الروحانية ، ولهذا ينفذ لقوة إدراكها صدف الأجسام ، حتى يشاهد العلام.
إذا قصرت عن إدراك مثل هذا النمط من العلم الوسط العقول الروحانية المفارقة الكرام .
وأنت أيها الحس الأنفس : نتحرك للشروع في العمل الموضوع ، فإن هذه الحركة المخصوصة : لما ورد في النقل نظير للنية المختصة بالعقل .
وهذه النية والحركة في هذا الظهور ، لتصح الصلاة في عالم الظهور و عمار البيت المعمور ، وإنما هما لظهور عين الذات على عالم الكلمات ، المتزه عن اللذات ، فهذا حظ النية ، ولظهور عين الصفات على عالم الشتات لاتصافهم بالالتفات .
وهذا حظ علم الحركة ، ولكن في الظهر كما هم أيضا لضم الهمة عند خروجها عن (نصف كور عمه الوجود) من غير طريقة اللمة إلى ما تضاهيه في الصورة والسيرة ، فهذا حظ علم النية .
ولضم كف الجوارح عن الأثام والمحارم ، إلى ما تعانيه من سائر الأحكام في المعالم، بمشاهدة ضم العالم إلى العالم ، فهذا حظ علم الحركة .
ولكن في العصر كما هما أيضا لمغيب العين في مشاهدة العين ، بزوال الريب والمين ، فهذا حظ علم النية .
و لمغيب العين في ظلمة العين ، فهذا حظ علم الحركة .
ولكن في المغرب كما هما أيضا لمشاهدة البرازخ بين السفل الجسماني ، والعلم الروحاني ، لعشا بطرا في عين المبصر ، لا لعلة تكون في المبصر.
فهذا حظ علم الحركة .
ولمشاهدة الحد بين الرب والعبد : من عشي يقوم بعين البصيرة الأجل الوعد ، فهذا حظ علم النية .
ولكن في العتمة كما هما أيضا لطلوع فجر معرفة العلم بالله ، بمطالع العقول والافواه ، وهو حظ علم النية ، ولطلوع فجر معرفة الرب بنفي الأجناس بمطالع النفوس والأنفاس ، فهذا علم الحركة .
ولكن في الصبح ، فقد صحت الرتبة العلية في النية لأداء العبادات للعقل الأقدس ، كما صحت منزلة البركة في الحركة للحس الأنفس ، فثبتت الحركة للظهور کثبوت النية في الظهور ، وكأن نورة على نور .
زکی الله أعمالنا وأعمالكم بالإخلاص ، ورزقنا وإياكم الفوز والخلاص .
الباب السابع عشر في معرفة أسرار غسل اليدين ثلاثة ووصف المياه والأواني في كل صلاة إن شاء الله تعالی
عجبت من غسل كفي ، وهي طاهرة ….. من ما غسلت وهذا الطهر موجود؟
فقال قلبي : هو الشرع الذي ظهرت ….. آياته ، فهو عند العقل مقصود
وقال عقلی : هو السمع الذي اتضحت ….. أعلامه ، فهو عندي اليوم معبود
وثم قال لقلبي : لم تغالطني ؟ …… فقال قلبي لعقلي : أنت مشهود ؟
فقد غلطت ، ولكن عندكم سندي ….. فإنني من نبات الأرض معدود
وأنت من عالم الأمر الذي سجدت ….. له الجباه ، ولكن : أنت محدود !
سجودها لمكان فام من حجر …… فيه الوجود ، ولكن فيه تبديد
فقال عقلي لقلبي قد صدقت وقد …… عرفتني : منك لا مني وذا الجود
وكيف تعرفي يا قلب من جهتي ….. وباب کوئي عن عينيك مسدود ؟
نزل الروح على القلب ، فقال : أيها العقل ، خذ ماء السماء في وعاء الإنشاء ، وصبه على يمين القبضة البيضاء ، ليظهر لك ما استتر عنك من المعارف في هذه الصعدة السمراء .
ويا أيها الحس : خذ ماء الامتزاج في وعاء ما تيسر لك من المعادن ، سواء كان من العذب الفرات أو الملح الأجاج .
وصبه على اليمين المخلوقة من الأمشاج ، لظهور الصفاء المفرق بين الأجسام الكدرة ، كالجندل والحديد، وبين الأجسام الأرضية الشفافة ، كالبلور والزجاج ، إن أردتما صلاة الظهر .
ثم قال : أيها العقل ، خذ ماء العلو في وعاء الدنو ، وصبه على يمين الاستواء السعادي لتحصيل علم الضم الكامن بين المحبين إذا إلتقيا بالعين .
على الاختصاص الإرادي ويا أيها الحس خذ ماء السفلي في وعاء الثفل ، وصبه على يمين الإنشاء لتحصیل علم الضم بينك وبين الحوراء ، في الجنة الدهماء إن اردتما صلاة العصر. "الأدهم : الأحمر شديد الحمرة"
ثم قال : أيها العقل ، خذ ماء الاعتلاء ، في وعاء الإبتلاء، وصبه على يمين القوة والعون ، لتحصیل علم مغيب عن عين البصيرة ، عند مشاهدة العين .
ويا أيها الحس خذ ماء الغدران"الأنهار" في وعاء القيعان "المستوي من الأرض" وصبه على يمين الابتناء لتحصیل علم مغيب العين في الأكوان إن أردتما صلاة المغرب .
ثم قال : أيها العقل خذ المياه المقطرات في وعاء الحاملات ، وصبه على يمين الملقيات : لتحصیل علم ذات الذوات .
ويا أيها الحس خذ ماء الزاخرات ، في وعاء السبحات ، وصبه على يمين المركبات : لتحصيل علم الكائنات الموجودة عن الصفات ، إن أردتما صلاة العشاء .
ثم قال : أيها العقل ، خذ ماء الرقيع "السماء" ، في وعاء الترقيع ، وصبه على يمين السميع : لتحصیل علم مقام الرفيع ، من انفجار البحر المنيع .
ويا أيها الحس خذ ماء الأنهار ، في وعاء النهار، وصبه على يمين
الفخار لتحصیل علم تسبيح خرير المياه في الأسحاره بانفجار الجداول الصغار ، من الأنهار الكبار ، إن أردتما صلاة الصبح .
فلما فرغ الروح من هذا الإلقاء ، أراد الرجوع إلى مشهد اللقاء ، فسلم وانصرف
ثم عاد عجلا فعرف .
وقال : أيها المخاطب بالتكليف :
ثلاثة أولى من واحدة عند أهل التعريف فاغسل أيها العقل يديك ثلاثة :
الواحدة لعلمك بربك في صلاة الظهر ، ولعلمه بك في صلاة العصر ، ولولهك فيه في طهر المغرب ، ولحيرتك فيه في طهر العشاء ، ولجمعك به في طهر الصبح .
والثانية لعلمك به وبنفسك في طهر الظهر ، ولحضوره معك في طهر العصر ، ولا فرادك به في طهر المغرب ، ولمسامرتك معه في طهر العشاء ، ولانفصالك عنه في طهر الصبح.
والثالثة لظهوره و ظهورك ، وظهور العالم في محل واحد، غير متحد في طهر الظهر ، و لاجتماعهم في طهر العصر ، و لتجاوبهم في طهر المغرب ، ولاتحادهم في طهر العشاء ، ولتمييزهم في طهر الفجر .
وأنت أيها الحس : أغسل يديك ثلاثة :
الواحدة لظهور السبب العقلي ، في طهر الظهر ، وانتظامه بالنفس في طهر العصر ، و لغيبته عن ممده في طهر المغرب ، و لطلب الرجوع إليه في طهر العشاء ، و لوجوده إياه في طهر الصبح .
والثانية لظهور السبب النفسي في طهر الظهر ، و لتعلقه بالحس في صلاة العصر ، و لحجابه عن العقل في صلاة المغرب ، و لبحثه عنه في صلاة العشاء ، و لشهوده إياه في صلاة الفجر .
والثالثة لظهور السبب الحسي في طهر الظهر ، ولمباشرته الكون في طهر العصر ، و لمحوه عن النفس في طهر المغرب ، و لابتغائه إياها في طهر العشاء ، و لوصوله إليها في طهر الصبح .
جعلنا الله وإياكم ممن أيد بالقوة ، ومكن في سر نتائج القوة "الفتوة"
الباب الثامن عشر في معرفة أسرار صب الماء في غسل اليدين
بالشمال على اليمين
إن الشمائل إن نظرت نجودها ….. عند الشهود : خوادم الإيمان
شبه الضلالة في الشمائل تعتلي ….. ومع اليمين : نتائج البرهان
إن الشمال في الشمائل سادة ….. بوجودها يثني على الإنسان
إن الشمال واليمين عوالم ….. تبدو بسر النظم والإتقان
فانظر إلى اليسرى وسر سكونها ….. فيها استواء العرش الرحمن
وانظر إلى اليمنى وسرعة دورها ….. بسوابغ الأنعام والإحسان
هذي مع الأرواح نسري ثم ذي ….. تسري مع الأنفاس في الأكوان
لما أرادت اليمين أن يكون لها الصب ، زجرها القلب.
وقال : إن الروح الأمين أمر العقل "القلب" أن يصب باليد الغريبة "القريبة" على يد الطور الأيمن ، لتجلي علم التنزل الإنبائی ، من مقام الكشف الرباني .
وأمر الحس أن يصب بالشمال على اليمين :
لكشف تعطيل الأسباب ، لما لم تثق باليمن فتحقق أنه لا يمين إن
أراد صلاة الظهر ، وللصوفيه بسره وإلتحامه بعالم أمره في ظهر العصر .
ولفنائه عن بصيرة عقله ، وغيبته عن شكله في طهر المغرب .
ولا تستره في السبحة المضلة ، والتحافه في بردة الوصلة في طهر العشاء ، ولطلوعه عينا آخر بتقطيره ، ولسيلانه بعد إن كان جامدا بتفجيره في طهر الصبح .
جعلنا الله وإياكم ممن " ألقي عليه شرف اليدين ، وأبين له سر اتحاد النجدين " ، أمين بعزته.
الباب التاسع عشر في معرفة أسرار الاستنجاء إن شاء الله تعالی
سرائر إيجاد العوالم في القرب ….. وفي الرحم المختار من عالم الترب
إذا اجتمعا بالنسك في فرش عرشه …… وجادا على كوني بحظ من الشرب
فطهرهما بالحفظ والصون والتقى ….. وبالعصمة الغراء والسدل للحجب
فتبدي لهذا الطهر أعلام سره ….. لايجاد الأشياء من حضرة القرب
لتصدق في خلقي الصورة التي ….. تعالى بها في حضرة الله والرب
نزل الروح الأمين على القلب ، وقال : أيها العقل استنجاؤك ظهور سر قدمك في طهر الظهر ، وانتظام قد قدمك بقدمه في طهر العصر ، ولفناء قدمك المذهب في طهر المغرب ، ولصحة حدوثك بالإبتلاء في طهر العشاء ، ولتجلي قدم صدقك - وهو أول بأب الفتح - في طهر الصبح .
أيها الحس : استنجاؤك ظهور حدثك عن امتزاج اركانك في طهر الظهر ومعرفة كيفية امتزاجها في طهر العصر ، ومغيبها بإيجادك عن تدبير أفلاكها إياها لابراز سر معجب في طهر المغرب ، ولحوق أفلاكها بالهيولي الموجودة فيها بالقوة
قبل الإنشاء في طهر العشاء، وانبعاثها عن النفس الكلية بالقدح في طهر الصبح .
جعلنا الله وإياكم ممن أميط عنه الأذى ، ولم يقل إذا فزع عن قلبه : ماذا ؟ بمنه ويمنه .
الباب الموفي عشرين في معرفة أسرار الاستجمار
إذا استجمرت أوتر ياغلام …… فهذا حظ ذاتك و السلام
وجنب مثل ما استجمرت منه …. وما ينمو، وكان له اضطرام
فما يجزيك في التطهير إلا …. إذا تحققت : ماء أو سلام
فإن الماء الطفه ضياء …… وإن الصخر اکتفه ظلام
وبالطرفين صح حدوث کوني ….. ولله التقدم و الدوام
نزل الروح على القلب ، وقال : نزل الإستجمار في الشرع من حضرة الجمع ، وهو مفطور على : الزوج والفرد ، والقصع والسرد ، فمن استجمر فقد ميز بين الحدوث والقدم ، وفصل بين القدم والقدم .
ولا يشترط في وجوده عدم الماء كالتيمم ، فإن سر هذا أقوى في التحكم ، وفي الاستجمار ، يلوح لصاحبه سر رمي الجامر .
فمن أوتر في استجماره ، فقد أبرأ، ومن شفع فقد أخطأ .
فلا ينام السعيد إلا على وتره ، مخافة أن يكون نومه على حشره .
ولو اعتبر فيه الإنقاء فقط لما صح الوتر أن يشترط ، وليس الإلقاء مما يثبت اللقاء ) بل اللقاء
على الحقيقة بترك الانقاء ، وفائدة الانقاء بمجرد الإلقاء ، وفي البحر الذي كون بين اللقاء والإلقاء يهلك الغرقاء .
وهم المنكرون على العالمين بالله أسرار ما يهبهم الله من لدنه ، فهم العلماء السوء ، التالفون الحمقى .
والبقاء لازم لترك الإنقاء فيه يصح الوجود ، ويشرق الموجود ، ويثبت العابد والمعبود ، ولا تلتفت لمن يرى الوتر في الاستجمار بالأحجار المتفرقة ، فقد يكون في الحجر الواحد الثلاث متفقة .
جعلنا الله وإياكم ممن جمع بین عقله وشرعه، ووقف على حقيقة فرقه وجمعه ، آمين ، بعزته .
الباب الحادي والثاني والعشرون في معرفة أسرار المضمضة
مضمض لسر المناجاة التي بهرت ….. آیاتها، لا لذكر الله بالسير
وإن تشأ فلتمضمض بالتلاوة أو ….. بالذكر في عالم الأرواح والصور
تفز بسر العبادات التي سرت ….. عین الحقائق عن جن وعن بشر
فإن في الفلك الكرسي صورتها ….. في عالم الحفظ ، لا في عالم الغير
نزل الروح على القلب ، وقال : أيها العقل الأكمل ، تئليب المضمضة لك أجمل ، مضمض بالغرفة الواحدة في طهر الظهر :
لظهور ذوقك ، وفي طهر العصر لتعلق ذوقك بمذوقك ، وفي طهر المغرب لدهشك عند وجود اللذة في ذلك الوقت ، وفي طهر العشاء لتحصيل الكثير منه العب. "عبه : رد عليه الكلام مرة بعد مرة"
وفي طهر الصبح لنيل المطلوب والاجتماع مع المحبوب .
ويا أيها الحس مضمض بالغرفة الواحدة في ظهر الظهر لظهور سر الذكر بالمسطور .
وفي طهر العصر : لاستناد الذكر بالهوية إلى المذكور .
وفي طهر المغرب لشرف الذكر ، بالهوية (على المذكور من) مقام الغيرة.
""أشارت الى السماء لأنها خرساء . الحديث :أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله، إن علي عتق رقبة مؤمنة.
فقال لها رسول الله: «أين الله؟» فأشارت إلى السماء بإصبعها السبابة، فقال لها: «من أنا؟» فأشارت بإصبعها إلى رسول الله وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: «أعتقها». رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم ""
وفي طهر العشاء لجذب المذكور الهوية إلى مقام الحيرة.
وفي طهر الصبح لتسريحها من ذلك الجذب الذي صح لها في طهر العشاء إلى الاتساع والشرح .
والثانية يا عقل : مضمض بالغرفة الثانية في طهر الظهر لظهور شربك
وفي طهر العصر الاتصال الشارب منك بمشروبه (عندك) .
وفي طهر المغرب لانتقال المشروب إلى كونك.
وفي طهر العشاء لسريانه في مجاري فكرك ، التقديس عينك .
وفي طهر الصبح لانتظام شملك به في رداء صونك .
ويا حس مضمض بالغرفة الثانية في طهر الظهر لظهور سر ذكرك بالآنية ، وفي طهر العصر لاتحادها بالمذكور في الأينية .
قيل للسوداء الخرساء : أين الله فأشارت بالظرفية .
وفي طهر المغرب لدفنها بضريح الذاكر.
وفي طهر العشاء لانطباق محل الذاکر عليها الساتر .
وفي طهر الصبح لحشرها من ذلك القبر تصديقا لذلك الحاشر .
والثالثة يا عقل مضمض بالغرفة الثالثة في طهر الظهر لظهور ريك .
وفي طهر العصر لانتشاره في محال عطشك بعشقك.
وفي طهر المغرب لقلب عينه في صورة ذاتك .
وفي طهر العشاء لحيرة فضلته في زوايا ذاتك .
وفي طهر الصبح لبروزها عن قوة صفاتك .
ويا حس مضمض بالغرفة الثالثة في طهر الظهر لظهور سر ذكرك بالخطاب في المرتبة الفصلية.
وفي ظهر العصر الجمع بين الهوية والإنية والابنية ، وفي
طهر المغرب لصمت الناطق وكلام الحق الصادق المستور .
وفي طهر العشاء المحق الذكر عن الذاكر بالمذكور وللمذكور .
وفي طهر الفجر لايجاد علم خطابه لك : أنت أنت وأنا أنا وأنا أنت ، ولست أنا ولست أنت ، فلا أنا إلا بك ، ولا أنت إلأ بي صورة كمال الوجود في طلب الأجرة .
استنشق لظهور علم السرية بين الروائح المتضادة في وقت دون وقت.
في طهر الظهر، ثم استنثر تترك ما حصل لك إلى عالم العوائد للعطاء : للغمر.
وفي طهر العصر لمعرفة : هل ذلك عن تعشق الإدراك بها على الظاهر والباطن.
وفي طهر المغرب لدرج بعضها في بعض من أفقين عند الراحل والقاطن .
وفي طهر العشاء لفنائهما معا في ظله بظهور سلطان أحدهما وعزله .
وفي طهر الصبح لإيجاد الشم وذهاب المشمومات .
جعلنا الله وإياكم من أهل الروائح والأنفاس .
وعصمنا وإياكم من ملابس الوسواس
الباب الثالث والعشرون في معرفة أسرار غسل الوجه
إن الحياء لباب الله فتاح …… ووجه خلفي ذاك الباب وضاح
وغسل الوجه بالشرع الذي شرعته ….. رسل الحبيب لذاك الباب مفتاح
فاقدح زناد وجود الكشف تحظ به ….. إن اللبيب لزند الكشف قداح
نزل الروح الأمين بغسل الوجه على القلب ، وقال :
أيها العقل : اغسل وجهك بالغرفة الواحدة في طهر الظهر ، لظهور سر المراقبة ، وفي العصر لاتصافك به ، وفي المغرب لتعلقه بالمراقب ، وفي العشاء لتلفك فيه ، وفي الصبح لشهود المراقب .
ويا حس : أغسل وجهك في الظهر لظهور سر الإقناع عند مشاهدة الجلال ، وفي العصر لتوقفه عليه ، وفي المغرب لوجوده قلبه ، وفي العشاء لبحثه عنه ،وفي الصبح لظفره به في هذا القالب.
الغرفة الثانية :
يا عقل : أغسل وجهك بالغرفة الثانية في الظهر لظهور سر الحياء ، وفي العصر لارتباطه بالإيمان ، وفي المغرب لانفصاله عنه ، وفي العشاء لاشتماله على الخير بكله ، وفي الصبح لما ينفعل عنه .
یا حس : اغسل وجهك في الظهر لظهور سر السرور عند مشاهدة الجمال ، وفي العصر لارتباطه به ، وفي المغرب لوجوده قبله ، وفي العشاء لبحثه عنه ، وفي الصبح لظفره به منه .
الغرفة الثالثة :
يا عقل : اغسل وجهك بالغرفة الثالثة وفي الظهر لظهور سر المكافحة ، وفي العصر لخفائه بظهورك ، وفي المغرب لظهوره لخفائك ، وفي العشاء للالتفات ، وفي الصبح لما يظهر عنه من الاختلاف .
ويا حس : اغسل وجهك بالغرفة الثالثة في الظهر ، لظهور سر الاعتدال عند مشاهدة الكمال ، وفي العصر السر الكمال في الاعتدال ، وفي المغرب للكمال المخلوق ، وفي في العشاء للكمال الخالق ، وفي الصبح لمقابلة الكمالين بضرب من الإئتلاف .
جعلنا الله وإياكم ممن رزق سر الحياء ، فاستحيت منه ملائكة السماء . امین ، بعزته.
الباب الرابع والعشرون في معرفة أسرار غسل اليدين إلى المرفقين
غسل اليدين مشروع، وغايته ….. إلى المرافق فأشرع فيه وانتظر
مواهب الحق فيه أنه علم …… على سائر عين النفع والضرر
القائمين على كونين قد مزجت ….. ذاتهما ، تحت قهر الشمس والقمر
لا تخدعنك دار لا بقاء لها …… بالله يا صاح : كن منها على حذر
إن زلزلت راح ذاك المرج وانفصلت ….. هذة إلى الخلد ، والأخرى إلى سقر
فلا يغرنك شيء أنت تاركة …… فإنما الناس في الدنيا على سفر
نزل الروح على القلب وقال:
أيها العقل :
اغسل يدك اليمني في الظهر لظهور أسرار إيجاد المشرق ، ويدك اليسرى لظهور أسرار إيجاد المغرب ، وفي العصر لاضافة الربوبية إليهما في قوله رب المشرق.
وفي المغرب لمشاهدة العين الحمئة في المغرب ، وفي العشاء لتبع الشفقين الشمس ، وفي الصبح المعرفة كرة الأرض بالفعل والحس .
ويا حس :
أغسل اليمني بالغرفة الأولى إلى المرفق في الظهر ، لظهور سر المرفق ، واليسرى لظهور سر الوجود ، عند فقد العيش
المقلق ، وفي العصر للسكون ، وفي المغرب لفقد الفلق بالتعيين ، وفي صلاة العشاء لإرتباط الارتفاق بالحركة ، وفي الصبح لعدم تأثير السبب في المسبب ، ووجود البركة .
الغرفة الثانية :
يا عقل : اغسل اليمني بالغرفة الثانية في الظهر ، لظهور سر خلق العالم ، واليسرى لسر وأحسن تقويمه وفي العصر لنعشق الإنسان بالعالم ، لكونه على صورة التقديم ، وفي المغرب لمغيب العالم في الإنسان ، لأنه على شكله ، وفي العشاء لتلف الإنسان في العالم عن مثله ، وفي الصبح الظهور الإنسان بالعالم والعالم بالإنسان ، وإن ذلك من مادة الاحسان .
ويا حس : أغسل اليمني بالغرفة الثانية في الظهر لظهور سر البطش واليسرى لصنع العيش ، وفي العصر لوجود الصنعة ، وفي المغرب لقيام الصفة في القوة وفي العشاء لظهور الصفة بالفعل من غير العالم ، وفي الصبح التحصيل العلم الصفة .
الغرفة الثالثة :
يا حس : أغسل اليمنى واليسرى بالغرفة الثالثة ، في طهر الظهر لظهور سر التوكل ، وفي عدم التأمل ، وفي العصر لجعل التوكل سببا من الأسباب ، وفي المغرب لعدم التوكل على الوهاب ، وفي العشاء لسر الجوع المراد ، وفي الصبح لشؤم الشبع المعتاد .
ويا عقل : اغسل اليمني بالغرفة الثالثة في الظهر ، لظهور سر التقديم لها في الظهور ، وفي اليسرى لبروز سر "كلتا يديه يمين" ، في الظهور ، وفي العصر لاستوائهما الأسنى ، وفي المغرب لنيابة اليسرى عن اليمنى ، وفي العشاء لتعطيل اليسرى أو اليمنى ، وفي الصبح لوجود اليمن في اليمنى ، واليسر والعسر في اليسرى .
جعلنا الله وإياكم من المقربين ، وضرب لنا بسهم في أصحاب اليمين .
الباب الخامس والعشرون في معرفة أسرار مسح الرأس
مسحت رأسي للظل الذي نيط ….. بالعرش الذي هو بالأنوار محفوف
فأعجب لظل من الأنوار منبعث …. فيه الدلالة : أن الظل موقوف
على نتيجته، لا عين صورته ….. على استقامته : ما فيه تحريف
العرش سقف لجنات الخلود ، فدار ….. الخلد دائرة فيها التصاريف
كالعرش إن نظرت عيناك صورته …. من کل ناحية : ما فيه تجويف
يا ليت شعري ، والنار التي خلقت ….. بالسفل، هل سقفها بالضد موصوف
فالنار دائرة في جوف جنتكم ؟ …… فبيتها بجنان الخلد مسقوف ؟
لولا الدخان الذي فيها لأدركها ….. نور الجنان ، ولكن فيه تطفيف
نزل الروح على القلب قال :
أمسح برأسك يا عقل في الظهر لظهور سر الظل ، وفي العصر لوجود الظل في النور ، وفي المغرب لحجاب النور والظل ، وفي العشاء لاستواء الظل والنور في الحجاب ، وفي الصبح لتسمية الله بالنور دون ضده .
ويا حس :
امسح برأسك في الظهر لسر الإقناع ، وفي العصر للعتق وفي المغرب للذل ، وفي العشاء لفقد الحواس في النوم ، وفي الصبح لرجوعها ، والأخبار بما رأيته في النوم للقوم .
جعلنا الله وإياكم من أهل الظل الأول الذي عليه عند المحققين المعول ، أمين بعزته لا رب غيره.
الباب السادس والعشرون في معرفة أسرار مسح الأذنين
طهر صماخيك إن السمع يدرك ما * في ذلك الطهر من تعريف مبدعة
إذا يخاطبك الرحمن من كثب * فإنه سامع من غير موضعه
في نفسه درك ما في النفس من خبر * وفي اللسان ، فهذا حد مهيعه
إذا يكلمني ربي أقول له * يا رب سمعي محصور فمن يعه
"" فمه يعه : يعني ، فصبرا حتى أعي ، واللّه أعلم""
ودركه لكلام اللّه صح له * على الحقيقة ، لكن من مشرعه ،
صلّى الإله على موسى فإن له * أصل السماع اعتناء من مسمعه
نزل الروح ( على القلب )
وقال : يا عقل : أمسح أذنيك لاستماع التنزلات في الظهر وبماذا قبلتها في العصر ، وما حصل لك منها في المغرب ونظرك فيها ووقوفك على الأسرار له المودعة فيها في الصبح .
ويا حس امسح أذنيك لاستماع القول في الظهر ، ولارتباط السمع للخطاب في العصر ، وفي المغرب لسجن السمع في الأذن ، هل هو من الحقائق أو من العادات ، وفي العشاء لدرك أصوات في المنام ، وليست بأصوات ، وفي الصبح لدرك هذه الأصوات النومية في اليقظة بمشاهدة الحفظة .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، فيشهد له الوهاب بقوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ .
الباب السابع والعشرون في معرفة أسرار غسل القدمين
طهر لشرعك أقداما سعيت بها * تقربا بأسرار رب ثم جبار
فالرب للقدم العلياء ينظره * جبار : ذي القدم الموضوع في النار
واعلم بأن لك الكرسي ، ثم لك ال * كونين ، فاشكر لوهاب وغفار
علم السوابق موقوف عليك له * والجاريات بأكوار وأدوار
وقد أحطت بأجناس العلوم فقم * فأنت صاحب أنوار وأسرار
فقمت من عنده أبغيه فالتفتوا * قولي ، فإن به تدرون مقداري
نزل الروح على القلب ،
وقال : يا عقل : اغسل قدمك اليمنى في الظهر ، لظهور سر مغالطتك في قدمك ، واليسرى لظهور سر عدمك ، وفي العصر للجمع بين القدم والحدوث ،
وفي المغرب لمغيب قدمك في قدمه عند السير الحثيث ، وفي العشاء لوجودك معه في هيولي المحققين ، وفي الصبح لمطالعة عينك فيها على التعيين .
ويا حس : اغسل « قدميك » قدمك اليمنى « في الظهر » لمطالع قدم الرب ، واليسرى لمطالع قدم الجبار
وفي العصر لاجتماع المطالع في سماء الأنوار ، وفي المغرب لمغيب قدم الجبار في قدم الرب « و » في العشاء لمغيب قدم الرب في قدم الجبار ، في ظلام الحجب ، وفي الصبح لتمييزهما الأبدي على الحكم الأزلي .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن ثبتت قدمه في المعالم ، ولم يحجب بما كشف من العوالم .
الباب الثامن والعشرون في معرفة أسرار التشهد بعد الفراغ من الوضوء
تشهد لإثبات الإله ونفيه * فإنك مطلوب بإثبات عينه
وأفصل إذا قامت شواهد وصفه * عليك ولا تلحقه : عينا بكونه
وأبرزه في الكون الغريب بشرطه * بأن يك محفوظا بأثواب صونه
نزل الروح على القلب ، وقال : يا عقل تشهد إذا فرغت من وضوئك لصلاة الظهر ، لظهور سر العدد في الأحد ، وفي العصر للألف المعطوفة المألوفة ،
وفي ( المغرب ): الشاهد لمغيب الأحد في الواحد ، وفي العشاء للاحدية والأبدية ، وفي الصبح لثبوتك لديها عند قدومك عليها .
ويا حس : تشهد إذا فرغت من وضوئك لصلاة الظهر ، لظهور سر التوحيد ، وللعصر لفناء التفريد ، وللمغرب لوقوع التحميد وللعشاء لحصول التوحيد في التجريد ،
وللصبح ( لمشاهدة ) التوحيد في التبديد .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن وحد فتوحد ، وأشهد فتشهد ( آمين ، بعزته لا ربّ غيره )
الباب التاسع والعشرون في معرفة أسرار الانصراف من الوضوء إلى الصلاة
ولما أتينا بالطهارة كلها * على وفق شرع اللّه في الحد والعقل
أتيت أناجيه بقدس كلامه * علي يحو ما قد صح عندي من العقل
فلم يستطع أحداث لفظي لكونه * قديما ، فناجيت المهيمن بالفعل
ولم يستطيع معناي أيضا كلامه * فقد صح عندي أني لست بالمثل
فرد على اللّه من عرش ذاته * بما طابق اللفظ الذي جاء من ظل
على نحو ما أتلوه في النور والهدى * بإيجاد وصف العدل منه أو الفضل
وما سمع الرحمن غير كلامه * على مقولي في الفرض كنت أو النفل
فصح له التعبير عنه ، فإنه * تعالى عن الأصوات والحرف والشكل
فإن قلت أني قد تلوت كلامه * فقد قلت أني ما تلوت سوى مثل
فإن تك خالفت الذي قد نصصته * فقد غصت يا مسكين في أبحر الجهل
نزل الروح ( الأمين )
وقال يا عقل انصرف إلى مصلاك ليتلو سبحانه كلامه عليك ، فاسمع وأنصت وتحقق ذلك المقام ، وأثبت ، فإنه مقام الدهش والطيش ، ومحل الحياة والعيش ، فاشحذ فؤادك ، وأترك اعتقادك ولا تدبر في حين الخطاب ،
ولا تفكر فيما ترد عليه تعالى من الجواب ، فإنه مقام التأييد والقوة ، ومشرب الرسالة والنبوة ، فإن إجابة الحق تعالى إذا خاطب عبده منه :
لاينتجها فكر ، ولا يقوم لها ذكر ، حسب العقل قبول الخطاب ، وقبلو ما يخلق فيه من الجواب ، من غير تقدم قصد ولا نية ، ولا فكرة ولا روية .
ويا حس : أتل على ربك كلامه ولا تلتفت ، وحقق معنى ما يناجيه به ، وأثبت وشمر أذيالك واجعل خلفك أعمالك وآمالك ، وضع اليدين مكتوفين فوق السرة ، وتحت الصدر ، واطلب منه في ذلك المقام فضل ليلة القدر ، في كونها خير من ألف شهر ، واجعل كل صلاة تدخل فيها آخر صلاتك ، وذلك النفس منتهى حياتك ،
فلا تزال مقنعا ولربك مسمعا متوشحا بالحياء ، غير ملتفت إلى السماء ، طرفك حيث سجودك ، وقلبك حيث معبودك ، وخشية تخشع الجوارح ، وهيبة تقصف الجوانح ، وعبرة تسفح ، وزفرة تلفح ، وأنين وزمزمة وحنين وهمهمة وتلاطف في تعاطف ، وتوسل في ترسل ،
ومشاهدة في مجاهدة ، وتغير في تحير ، واختلاف صفات ، وتنوع حالات ، وآداب وسكينة ، واعتدال وطمأنينة ، إلى أن تفرغ من صلاتك ، فتنظر عند ذلك ما زكى من صفاتك ، وما تقدس من ذاتك ، وعند ذلك تكون المصلى السابق ، وغيرك المصلى اللاحق .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن حضر في صلاته ، فأجزل له في صلاته فكان جزاءه النور ودار السرور .
الباب الموفي ثلاثين في معرفة أسرار طهارة الثوب والبقعة ، للصلاة فيهما إن شاء اللّه
ليس له بقعة سوى أرض قلبي * وثياب تزينني ، غير علمي
حدثي صح في ظهور حدوثي * وظهوري منه بغيبة رسمي
أنا ثوب على الحبيب ، وثوبي * هو حبي ، فحكمه عين حكمي
أي طهر في بقعة القلب لما * وسع اللّه ، فانجلى ليل همي
حق : لولا وجود ربي بقلبي * كان يبدو علي للجبان حلمي
وانتقامي من آخر ، فكمالي * في وجود السرور مني وغمي
هذه حكمة ، وهذا حكيم * ظهرت منه بين عدلي وظلمي
إن كمي هو الحجاب ، وكيفي عن * حبيبي ، فاذهب بكيفي وكمي
يا حبيبي ، وأنني لعديم * وغناك الذي أرجّي لعدمي
شطحات تبدو علي لكوني * صورة فيك ، عند نثري ونظمي
( بك علقت ) يا أبي يا حبيبي * أنت أرضعتني ، فجودك أمي
ولهذا : إليك أرفع كفي * في أموري ، فأنت ركني وأمي
ليس لي والد أراه سواكم * ما عسى يغن عني والد جسمي ؟
هو مثلي : فقير وضعيف * وهمه حاكم عليه كوهمي
مذ تجليت يا حبيبي لقلبي * لم أزل عارفا بقدري وباسمي
ثم أني عبد ، وأنت إله * وقوي إذ بدا وهن عظمي
يا حبيبي : لقد رمزت أمورا * في قريضي : هذا على حكم زعمي
نزل الروح على القلب ، وقال : أيها العقل : طهر ثوب سرك ، وبقعة قلبك لتجلي ربك ، فإن سر الطهارة معقول ، كما أن فعلها منقول .
ويا أيها الحس : طهر ثوبك بالتقصير ، فإن الفائزين أهل التشمير ، وطهر بقعتك "النفسية " من « عالم » التخليط ، فإنك من عالم التخطيط ، عسى يفيض عليك شيء من العالم البسيط ، فإن فاض عليك منه شيء فهو نور أنت فيؤه ، وعود أنت بدؤه ،
وظهور أنت خبؤه ، فلولا ظهورك ما سري إليك نوره فيك ، وبفيضه عليك ، وحاجتك إليه تعزز ، فاعرف قدرك وقدره ، وحقق شمسه وبدره وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وذلك النور طهر تربها ، « فبقعة الأرض » الفلك ، وثويه النور المشترك ،
فإن تدنس في كمال ظهوره بظل الأرض ، فظهوره بالسمو عن عالم الخفض ، كما أن طهارة بقعته بروز نصف دائرتها للعين ، وعدم طهارتها « هو » مغيبها تحت هذا الكون ، فنظر الإنسان إليها هو إذا : مظهرها ، وعدم نظره إليها هو مقدرها ،
وبقعة اشمس فلكها ، وثوبها نورها الذي أخذته من ملكها ، وهو النفس الكلية المنفعلة ، فهي بهذه المنزلة ، ودنسها بالحجاب الهلالي المحاقي ،
وطهارتها : خروجها عن موزانته في العالم العلوي ، فيظهر ذلك في العالم السفلي ، وطهارة بقعتها كطهارة بقعة البدر « الأكبر »: لا أكثر فلا تتحير .
جعلنا اللّه وإياكم ممن طهر ثوبه وقلبه ، وشاهد في كل حالة من الأحوال ربه . آمين ، بعزته .
الباب الحادي والثلاثون في معرفة أسرار إقامة الصلاة
يا مقيم الصلاة : مالك تدعو * للمناجاة من حماه العيان
هي الأراحة لحجاب قدرته * عند الحكيم الكيان
ودليلي : من قال قم يا بلال * فأرحنا بها ، فسر الزمان
فأقام الصلاة فارتاح قلب * جاءه الخوف : تارة والأمان
قل لمن يقرأ القرآن تبحر * في علوم شتى حواها القرآن
خلف ستر أدق من وهم سر * شاهد اللّه : إذ أتته الحسان
هو وهم ، وليس علما ، ولكن * فيه سر لربنا وامتنان
فإذا ما قرأت قرآن ربي * أظهر القول ما حواه الجنان
للفؤاد الكلام من غير حرف * يا ولي ، وللحروف اللسان
نزل الروح على القلب ،
وقال : أيها العقل أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً .
يا عقل : ربك قد دعاك للدخول عليه ، والوقوف بين يديه ، فتسوك بعود أراك تفاؤلا ، فإن الفال مشروع ، فهو « خير من سبعين صلاة ، وقد جاءت رواية من أربعمائة » كما جاء في الموضوع ، فالزم الأدب ، واحضر ( مع ) النسب فإن علم النسب يوجب أدبك ، ويبهج مذهبك .
( و ) هذا أنت خلف الباب ، تريد رفع الحجاب ،
فقل :
اللّه أكبر ، اللّه أكبر : إثباتا لمن تكبر عليه ، إعظاما ونزولا عليه ، وإلماما ، وقهرا له ، وإرغاما ورحمة به وإكراما .
أشهد أن لا إله إلّا اللّه : إثباتا لمن أدعى الألوهية في نفسه ، حين أوجدها له في يومه دون أمسه ، فينعم بها في حسه ، وظهر بها عند أبناء جنسه ، فحالت بينه وبين دوام أنسه :
أشهد أن محمدا رسول اللّه : تحقيقا ، إن الرسالة في الثرى وإن « كل الصيد في جوف الفرى » فسرت سريان النفس في الورى ، فمنهم من تقدم ومنهم من طلب الورى وعند الصباح يحمد القوم السرى .
حي على الصلاة : إثباتا للغفلات وتعشق الغافلين بالكائنات ، فاتحدوا بها في عالم الكائنات وانفصلوا عنها في عالم السماوات : انفصال الروحانيات الملكوتيات .
حي على الفلاح : تعيينا على البقاء ، ونجاة السعداء ، وعدمها من الأشقياء ، والفصل بين الأرض والسماء يوم الفصل والقضاء .
قد قامت الصلاة : ( فقد ) قاموا أجلالا لقيامها ، وبادروا إليها تعظيما لإمامها فوهبتهم الأسرار القدسية بين افتتاحها بتكبيرها ، وتمامها بسلامها ، فمن فارح بقدومها جزع من أقدامها ، ومن فارح بانقضائها إذا كان على تمامها ، ومن محب في دوامها لتلذذه بكلامها .
اللّه أكبر اللّه أكبر : تكبيرا من غير مفاضلة ، وقربا من غير مواصلة ، وأنباء من غير مراسلة ، وإنعاما بمعاملة وغير معاملة ، ورؤية من غير مقابلة ، لا إله إلّا اللّه إثباتا للشرك والتوحيد في عالم الجمع والوجد ، في عالم الفرق والفقد ، بسر التعطيل والوجود ، والتشبيه والتمجيد ، لانفاذ الوعد والوعيد ، من القريب البعيد ، بمحل التنظيم والتبديد .
وأنت يا حس : فقل اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، تيفي تكبر المتكبرين من طريق دعوى المدعين ، وإرغاما لأنوف الحاسدين ، ودحضا لحجة المبطلين ، وإقامة لبرهان المؤمنين .
أشهد أن لا إله إلّا اللّه : ردا على من قال : أنه اللّه فإن الحيلم الأواه :
من قال بنفي الأشباه ، وساوى في الذكر بين القلوب والأفواه وفي السجود بين الأقدام والجباه .
أشهد أن محمدا رسول اللّه : إثباتا لقربه من ربه بعالم تربه ، ومن حبه بعالم قلبه بصحة حبه ، فاتخذ حبيبا وخليلا ، وعبدا ورسولا ، فصحت له السيادة على صحبه .
حي على الصلاة : إثباتا للإيمان ، وتعشقا في العيان بالبصر والجنان في الإساءة والإحسان ، والجحيم والجنان ، فليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران .
حي على الفلاح : إقبالا على الإحسان بالأمان ، فإن البقاء بقاءان ، والنجاة نجاتان ، وكل ذلك ظهر في الإنسان .
قد قامت الصلاة : من قعدتها ، وانحلت لام الفها من عتدتها ، فصارت سلطانة بوحدتها ، وظهرت في المؤمنين بقوتها ونجدتها ، وفي العارفين بترك عددها وعدتهاوَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ.
اللّه أكبر اللّه أكبر : مفاضلة روحانية ، ومرتبة ربانية ، ومعادلة رحمانية ، وتكملة إنسانية ، ونكتة رهبانية .
لا إله إلّا اللّه : شرك مقبول في توحيد معلول ، صاحبها مقيد مغلول ، وتاركها في روض مطلول لا ملول ولا مملول .
جعلنا للّه وايّاكم ممّن أقامها دائما ، وكان بأسرارها عالما ، آمين .
الباب الثاني والثلاثون في معرفة أسرار تكبيرات الصلاة إن شاء اللّه تعالى
أكبره في كل فعل على الذي * تجلى من الأسماء فيه لناظري
فإن الذي يبدو إلي هو الذي * أراه بذلك الفعل : ربي وآمري
قال الروح في تنزله : اعلم أن للجمع حضرتين ، كما بينا من قبل : أن الوجود كله مبني على اثنين في « اللّه » واعني به الاسم : حضرة جامعة لجميع الأسماء الحسنى ، والذات التي لها الألوهية حضرة جامعة لجميع الصفات القدسية الذاتية ، والصفات الفاعلة في العالم الأبعد والأدنى ، والأرفع والأدنى .
فإذا كنت في حالة من الأحوال . ( من أحوال الأرض أو من أحوال السماء )
فلا شك أنك تحت قهر اسم من الأسماء ، سواء عرفت ذلك أو لم تعرف ، أو وقفت في مشاهدته أو لم تقف ، فإن ذلك الاسم الذي يحركك أو يسكنك ، أو يكونك أو يمكنك ، يقول لك : أنا إلهك ، ويصدق في قوله .
فيجب عليك أن تقول : اللّه أكبر ، وأنت يا اسم سبب فعله فلك الرفعة السببية ، وللّه الرفعة الإلهية ويصح فعل ( هذا ) على طريق المفاضلة ، لأنها من حضرة المماثة ، قال اللّه تعالى :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
كذلك له الصفات العلى ، فإن اللّه هو - الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الشاكر ،
العليم ، القادر ، الرؤوف ، الرحيم ، الرزاق - إلى ما يعلم منها وما لا يعلم ، وما يفهم من صفاته وما لا يفهم .
وعلى هذا يصح : اللّه أكبر ، وبه تثبت المعارف الإلهية ، وتتقرر ، وهذا أمر مجمل : تفصله أعمالك ، وسر مبهم توضحه أحوالك .
واعلم ( قطعا ) أن الذات لا تتجلى عليك ( أبدا ) من حيث هي ،
وإنما تتجلى إليك من حيث صفة ما معتلية ، وكذلك اسمه « اللّه » لا تعرف أبدا معناه ، ولا تسكن وقتا ما في مغناه ، ولهذا السر تميز الإله من المألوه ، والرب من المربوب ، ولو لم يكن ذلك كذلك ، لا لتحق المهلك بالهالك ، فقد بانت الرتب ، وعرفت النسب ، ( وتبينت حقيقة السبب ) .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممن شاهد محركه ، فكبر فتجلى له ما هو أكبر ، بمنه وكرمه لا رب غيره ، آمين .
الباب الثالث والثلاثون في معرفة أسرار رفع اليدين في الصلاة
رفعنا يدينا في الصلاة لعلمنا * بأنا نناجيه : نشير إلى الفقر
وأنا تركنا ملكنا من ورائنا * وجئناك : نبغي صورة النفع والضر
وإن كان ذاك الفعل مما قد أفدتنا * مع الوقت ، فالإنسان من طبعه يجري
وصورتنا في ذلك الفعل كالذي * يكون بها في موقف الحشر والنشر
نزل الروح الأمين على القلب السليم ،
وقال : دعاك الرفيع إلى مناجاته ، والغني إلى قبض هباته ، فتذلل وافتقر ، وأرفع يديك في كل خفض ورفع عندما تكبز ، وأترك ما تحصل لك في كل تجل وراء ظهرك ، وقل ها أنا واقف صفر اليدين بين يديك عن أمرك ، ابتغي منحة علوية أو لمحة كلية ، فإذا جاءتك المنحة ، وتجلت لعينيك اللمحة ، فارفع منحتك في كيسك ،
ولمحتك في تأسيسك وأطلب لمحة أخرى ومنحة كبرى ، فإنها لا تزال تترى - فإن الفيض الإلهي مستمر دائم من تتر جوده ،
فقابله بالفقر الكياني : الذي هو مستقر في عين شهوده ، فلا يزال يهب وأنت تجمع ، ويعلو وأنت تخضع ، وينزل وأنت ترفع ، فإذا حصلت هذه المنحة ، وعقلت هذه اللمحة ، وقفت على أسرار
رفع يديك في صلاتك ، ورأيت من دونك راغبا في بركاتك وجزيل صلاتك ، فهب كما وهبت ، فإنك تعبد كما عبدت .
رفع اللّه هممنا إليه ، وأنزلها المنزل المبارك لديه ، ( آمين بعزته )
الباب الرابع والثلاثون في معرفة أسرار التوجه في الصلاة
توجهنا ، وليس لنا وجوه * وأنطقنا ، وليس لنا لسان
وحكمنا على صور المعاني * فكان لنا البلاغة والبيان
فقلنا بانفطار الأرض فينا * من الأشواق : إن هجر العنان
كما أنفجر العنان إذا تعالى * وأمطرنا وما قبل المكان
فهذي حكمة من سار فيها * رأى أمرا يضيق به الجنان
نزل الروح ، وقال أيها الحباب المتقاطر ، والسحاب الماطر ، هذا قد تجلى لكليتك الإله الفاطر ، فقل لسمائك : لا تحجب بلطافتها ، ولأرضك لا تحجب بكثافتها ، لا بد عند تجليه لسمائك من تخلخلها ، ولأرضك من تزلزلها ،
فإيّاك أن تقع في أشراك الأشراك لعظيم آفات الاشتراك ، وألزم الوحدة ، فبها تحصل رفده ومجده ، وكن وجها مستديرا ، ولا تجعله عبوسا قمطريرا ، ولا تحجب بالجهة الكعبية عن الجهة الإلهية القلبية ، والحق الحياة بقدمها والموت بعدمه في قدمها ، والصلاة بحضرة ربك .
اجعل النسك قربان قربك ، وأقر بالأمر للامز ، واعتزف بالإسلام حذرا من الحسام الباتر ، وأزغب في الانصراف إلى الفضائل عن الرذائل ، وأرسل الأمور إليه ، فإن مفاتيحها في يديه ، واستسلم للحكم تكن من أهل العلم ، وتدرع بثوب الاستغفار ، فإنّه يحول بينك وبين النار .
جعلنا اللّه وإيّاكم من أهل التوجيه ، وممن يدعي هناك بالمقرب الوجيه ( آمين بعزته )
والمعنى : أن تتجه بوجهك إلى الكعبة ، ولا تعتقد أنها جهة للّه تعالى اللّه عن الجهة ، وإنما تتوجه بقلبك إلى اللّه تعالى .
الباب الخامس والثلاثون في معرفة أسرار الوقوف ، والقراءة في الصلاة
وقفت أناجيه بمعنى كلامه * مع الكون وقتا ، ثم وقتا مع القدم
لأنك في وقت بوصفيه ناطق * وفي آخر في عالم النور والظلم
إذا قلت قال اللّه : أعني كلامه * وإن قال ربي : قال موسى رأيت ثم
تأمل علوما قد أشرت ببعضها * إليك فحقق ما ذكرناه والتزم
نزل الروح ، وقال : الجامع قد تجلى والمناجا قد تدلى .
وأنت أيها المناجي الأسنى ، بقاب قوسين أو أدنى ،
فقل : يسمع قولك وتجاب ، ولكن ميز الخطاب ، وفرق بين قرآنك وفرقانك ، وبيّن توراتك ونورك ، وكتابك وزبورك ، فإن المناجاة تختلف باختلاف المقامات ، وتتباين الحالات ، وتتعدد بتعدد الأشخاص ،
وهي لا تقبل الزائد فتتصف بالانتقاص ، فتنادي في وجودك - ولات حين مناص - فإنك في حضرة الجمع واقف ، ولسيدها الجامع ملاطف ، فإذا منحك من لطائفه ، ووهبك من عوارفه ، فحصل ولا تفصل ، فإن ذلك مقام التحصيل لا التفصيل .
فاعلم أن الزبور نظير الفرقان ، ولهما سران ، والقرآن مختص بالمحمدي
والفرقان له بالاشتراك الموسوي ، فسر القراءة في جمع الذاتين ، واتحاد الصفتين .
جمع اللّه على ذاتي ، وقدس - باطلاعي على صفاتي - ، ( آمين بعزته ) .
الباب السادس والثلاثون في معرفة أسرار الفرق بين الفاتحة والسورة
نور الكواكب موقوف على السور * سورة الحمد : نور الشمس والقمر
فانظر إلى فلك إن دار في فلك * أعطاك علما بمعنى الروح والصور
فسورة الحمد فرقان تبين على * عليّ أطرافها بانفصال الحق م البشر
كما تبيّن : إذا حققت صورتها * إليك قرآنها في برزخ السور
فانظر إلى سور تأتي على صور * بصورة النفع : أحيانا ، وبالضرر
نزل الروح الأمين على القلب ، وقال : أعلم أن الفاتحة لها طرفان وواسطة ، ومقدمتان ورابطة ، فهي الفاتحة للتجليات الواضحة ، وهي المثاني لما في الربوبية والعبودية من المعاني ، وهي الكافية لتضمها البلاء والعافية ، وهي السبع المثاني ، ( لا ) لاختصاصها بصفات المعاني ، وهي القرآن العظيم :
لأنها تحتوي على سر المحدّث والقديم ، وهي أم الكتاب ، لأنها جامعة للنعيم والعذاب .
فالطرف الواحد بالحقائق الإلهية منوط ، والطرف الآخر بالحقائق الإنسانية
مربوط والواسطة تأخذ منهما على قدر ما تخبر به عنهما .
والمقدمة الواحدة سماوية ، والمقدمة الأخرى أرضية ، والرابطة لهما هوائية .
فيقول الأول : « الحمد للمعين ، فيصلح عالم الكون بالهين واللين » ،
فيقول الآخر حمدني الأول في أبدي ، لما علم أنه لا ينقضي أمدي .
ثم يقول الآخر : الحمد للّه رب العالمين ، على الحكاية المعقولة .
وما ثبت له في الرواية المنقولة .
فيقول الأول : أثبتني الآخر وملكني ، وعليه وعلى غيره سودني ، وجعلني مرتبا أينه ، ومصلحا عينه .
ثم يقول الأول بسطت رحمانيتك على عامتك ، ورحيميتك على خاصتك ، فكنت بهذا الفصل : إبراهيمي الأصل .
فيقول الآخر : لقد اثنى على الأول بما جعل عندي من فيضه ، وأقامني به بين بسطه وقبضه ، وجعلنا حاكما في سماء اللّه وأرضه .
ثم يقول الآخر : الرحمن الرحيم ، فيقول الأول أثنى الآخر على حين أسند المحامد إلى ، فله عندي ما خبأته وراء حدي ، ثم يقول الأول : يا آخر قمت في ملكك
وأحطت عينا بما حصل في ملكك ونهيت وأمرت ، وشكرت وكفرت
، ثم أقر لك بالملك ، وسلم لك باب الملك ، وناداك الملك بالملك ، حين خرجت عن حكم دورة الفلك ، واتخذك ربك وكيلا ، وما وجدت
إلى الانفصال سبيلا ، فجاز قومك بأعمالهم ، وأوقفهم على أعمالهم .
فيقول الآخر : أن الأول قد أثبت لي الشرف والمجد ، ومنحني الرتبة العلية حين ساعدني الجد ، فنعم الجد ، وفوض إلي تدبير كونه بمغيب عينه .
ثم يقول الآخرمالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
فيقول الأول : رد الآخر على وكالتي ، وصرف إلي عمالتي ، وقال : شهودي إِيَّاكَ يمنعني من التصرف ، ونظري إيّاك يحول بيني وبين التعرف ، فأنت العلي الماجد ، والرب الواحد .
وانتهى الطرف الواحد والمقدمة ، وبانت المراتب المسومة .
ثم يقول الأول : يا آخر ، إليك أويت بالنزول الذاتي ، وبالتنزيل الصفاتي ، في ديجور الليل المظلم ، لايضاح السر المبهم ، ثم أويت إليك لأظهار الصنائع العملية ، واستخراج المنافع المعدنية ، فأنت ربها وإمامها ، وعرافها وعلامها ، وبك ثبوتها وقوامها .
فيقول الآخر : الأمر بيننا مشترك ، فمن يضمن الدرك ، وأنا قد أقمت سؤالك ، وقمت أريك أعمالك .
ثم يقول الآخر :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
فيقول الأول : إن الآخر قد قام لي في ذلة العبودية ، ليثبت عز الربوبية ، وقد سأل العون في تدبير الكون ، فلي منها شرب وله شرب ، ولي السقاية وله الشرب ، فله ما سأل ، فقل له ينفصل .
فهذا سر الواسطة قد أعلن ، ومعنى الرابطة قد بيّن .
ثم يقول الأول للآخر : ابن لي عن طريق العقائد والأعمال ، ومراتب الولياء والأبدال ، والخلفاء والإرسال ، المبسوط إليهم نعم العارف ، والمهدي إليهم حكم اللطائف ، وأوضح لي طريق الأشقياء والضلال ، ومراتب العلما ( به ) .
المستدرجين والعمال ، فيحق عليهم كلمة العذاب والنقمة ، وتحيد منهم كلمة النعيم والرحمة ، فيتيهون في قفر الظلمة .
فيقول الآخر : قد نزل الأول بحجابه ، واستثر خلف بابه ، فله ما سألني عمله ، إذ أقامني بدله .
ثم يقول :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
فيقول الأول : قد سألني أن أهديه سراطه ، وأشد رباطه ، وأقيمه بالمحبة البيضاء ، واجعل متنزهه المهجة الغضاء ، واجعله وارثا لرسلي ، وقائما بسبلي ، واجنبه موارد الهلاك ومصارع الهلاك فله ما سأل وما أمل .
ثم يقول الأول : يا آخر أجبني إلى ما سألتك .
فيقول الآخر : قد أجبت .
ثم يقول الآخر : آمين .
فيقول الأول : إن أخلصت فقد فعلت .
فقد أبانت الفاتحة عن الصورة الصادية ، والحكمة العادية ، وبقيت الصورة السينية القائمة بالمنازل السنية ، وهي في الأعالي والأسافل من مائتين وثمانين وسبع منازل ، إلى ثلاث منازل ، وتضيق هذه العجالة عن إيرادها فيها ، وقد ذكرناها في الفتوحات المكية ، في المنازل بأمهات معانيها لمن يعانيها .
وأريد أن أقصد هنا إلى هنا إلى بعض سورة الإسراء ، وما تحصل فيها بالتلاوتين من الأنباء فأقول بالتلاوة الإلهية إلي لا تسأل عنها بالكيفية ولا بالماهية وَالنَّجْمِ إِذا هَوى
في قلب تعرى عن الهوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ولكنه شرب فارتوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىلخروجه من كرة الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى
أنزلناه عليه بلا واسطة : كشفا وتلويحا ، فكان به عند نزول الواسطة في عالم الألفاظ عجولا فصيحاعَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى بحضرة الأستوا ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوى
بما أيده به من القوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى غاية مراتب روحانيات العلى ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى على المقام الأجلي :فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىمن المقام الأسنى ( لأنه ) خلف حجاب العزة الأحمى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فما أمسى عليه يوم ولا أضحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى
من حسن الرؤىأَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وهوى بحيث لا يرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عند الصيحة الكبرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى
ومستقر الحسن والبها عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى المحفوفة بالبلوى ،
حضرة ارتفاع الشكوى المنتجة للنجوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى فيعدم البصير ويظهر الأعشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ولو طغى لسفل ، ولو زاغ ما ارتقا ، فتحقق تلاوة هذه المشاهد ( أيها المشاهد ) وحصل هذه المنافع من هذا الاسم الجامع .
ثم أقول : بالتلاوة الإنسانية : الجسمانية والروحانية :وَالنَّجْمِ إِذا هَوى بالسر الأنسى في الموقع الرباني ، لتحصل معرفته وتكمل مرتبتهما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى نقول قد أصاب المطلوب وظفر بالمحبوب وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى لأنه مقدس عن التأليف والتركيب ، والتدبير والترتيب إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى من اللّه إلى الرب .
كما تقول في شاهد الغيب : من السر إلى القلب عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى رحمن الاستوا : إله الاستوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى جبار قهار مقتدر أقوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى فوق فلك الإشارات العلى ثُمَّ دَنا من حضرة المنى فَتَدَلَّى حين تجلى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أو كحبل الوريد الأدنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى لما اشتغل بمنافعه وهو قاعد ،
وقام بأسبابه وهو راقد ما كَذَبَ الْفُؤادُ النكتة الجامعة الإلهية ما رَأى من الحقائق الإنسانية وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ولا كون يرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى حضرة ذات الانتها عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى
حيث مقام السوا إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى
عند صلاة الظهر والعشا ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لأنه في خط الاستوا .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممن عرج به إلى الملأ الأعلى ، وهيئت لقدومه الحضرات العلى .
الباب السابع والثلاثون في معرفة أسرار الركوع ، وما يختص به من التسبيح
ركعنا نريد علم برزخ ذاتنا * وتجري لنا البحرين : أنك قادر
فإن دخل البحر الفرات على الذي * خلقت أجاجا فالمفضل قاهر
إذا عاينت أبصارنا سر فضله * تعبدنا اسم للمهيمن فاطر
فسبح بالتعظيم والحمد لفظنا * وأنت لمعناه الحكيم المؤازر
نزل للروح ، وقال : هذا قد تجلى العظيم في عظمته ، لوجود كلمته ، لما وقفت في برزخ الوقفة ، الذي هو واسطة العقد ، والمقام الذي يلي اتحاد الفرد ( بالفرد ) ، وسنبين ذلك لمن وجده ، عند قوله : سمع اللّه لمن حمده .
كل من دون الموجود الأول المطلق ، وفوق الموجود الآخر المقيد فموجود برزخي محقق ، وخذه حيث شئت ، فإنك تجده كذلك ، وإذا وقفت على هذه الحقيقة ، فأنت لجميع مفاتيح الغيب مالك فأعرف قدر مقامك وإن كان بهيميا ، من حيث مقابلتك الأفق ، فلا تجزع ،
فالمحقق من يركب طبقا عن طبق ، وعظم من بناحية وترا أو عشرا ترتفع بذلك عنده قدرا ، وليكن ذلك من حضرة النزيه التي هي على الحقيقة حضرة التنبيه ،
فإن السبح هو الميزة لا المسبح وهذا مفتاح قفل من قال من العارفين - سبحاني فمن شاء فليفتح ، فإنه سيلوح له الوجه الأغر الأصبح .
فهذا من بعض أسرار الركوع ، إذا صبحه شيء من الخضوع والخشوع .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن أطمأن في ركوعه ، وان لغلبة الوارد في خشوعه وخضوعه ، آمين .
الباب الثامن والثلاثون في معرفة أسرار الرفع من الركوع ، وما يقال فيه
قلت إذا صحت عزيمتنا * وأتى العبد بمن عبده
نائبا عن وصف موجده * سمع اللّه لمن حمده
يا مقاما أرى بدلا * منه في القلب لمن وجده
يا سنا لاح لا عيننا * نعم الطرف الذي شهده
نزل الروح ( الأمين ) وقال : لما صحت العزائم اتحدت الذوات في الكامات ،
ولما ظهرت المعالم نابت عن القديم : الصفات المحدثات على - القائم على النفوس باكتسابها وفرح العالم باستنادها إليه وانتسابها ، فلما أثبت سمعه السميع : حمده العبد المطيع .
وقال :
إذا صحت عزائمنا اتحدنا * ونبنا بالصفات المحدثات
عن الذات المقدسة التي لم * يدنسها العيون بالإلتفات
وقد قال الإله على لساني * سمعنا منك حمد الحامدات
وجاءتنا به رسل العوالي * على متن السواري السابحات
فنادى بربوبيته إلهية لثبوتها ، وصرح على لسان عبده بإجمال لعوبها ، فإن التفصيل يقيده بحضرة ما ، ولا يقع في ذلك إلّا من هو عن الحقائق أعمى ، فإن زاد على هذا الإجمالي القرار بالمنع والعطاء للمعطي والمانع وأثبت الريح والخسران ، والمضار والمنافع ، للضار النافع ، فقد استكمل قيامه وثبت مقامه .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممن صح عزمه فاتحد ، ثم بان له محال الاتحاد : فتوحد .
الباب التاسع والثلاثون في معرفة أسرار الهوى إلى السجود إن شاء اللّه
هويت من القيام إلى السجود * هوى الروح من فلك البهاء
نزلت أريد ما تعطيه ذاتي * نزول الحق لي من الاستواء
فحقق يا أخي نظرا إلى من * أتى في الصورتين بلا امثراء
فأني عبد : يبدو كمالي * إلى قلبي : أقول بلا مراء :
أنا رب الأسافل والأعالي * وسر العالمين على السواء
فلي يوم العروبة والثلاثات * ولي يوم الخميس والأربعاء
ولي الاثنين والسبت المعلى * ولي الأحد المحكم في ذكاء
فتدبير المعادن من وجودي * كتدبير الكواكب في السماء
نزل الروح وقال : نزل الحق الرباني إلى السماء الدنيا : شاهدا لطالب الدرجة العليا ، فقبل الحصول في سمائها ، وبعد مفارقة استوائها ، وهي في حالة « الشبر » والذراع والهرولة الواردة في الأخبار مجملة غير مفصلة ، وقصد العبد
في أي حالة كان يفصلها ، وعند ذلك يحصلها ، فإن التجلي له صور معقولة ، ووجوه مجهولة ، وفي مقابلتها منك صورة معلومة ، ووجوه غير مرسومة ، لكنها مرسومة ، فبالصورة التي تخرج إليه فيها أطلب ثجليه إليك ، فإن يمثلها منه تنزل الرقيقة الإلهية في تجليها عليك ، فتحفظ من هذا المقام ، ومن استحكام سلطان الأوهام .
وأعلم أن في هويك علاؤك ، كما أن في أرضك سماؤك ، واعرف أنها حالة هوائية لطيفة ، سريعة الذهاب خفيفة ، كذلك تجليها سريع الزوال ، وشيك الإنتقال ، وهي شبيه بالأحوال ، ليس لها قدم ، فتطلب رسوخها ، ولا هي حضرة فتبقى شموخها .
هي حالة وردية - سيالة - كالدهان - فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممن نزل من سدرته إلى دحييته ، فعلم جزئيته من كليته آمين .
الباب الموفي الأربعون في معرفة أسرار السجود وما يختص به
من : التسبيح والدعاء
وقوله جلّ شأنه :وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْولم يقل تقترب ، وسبب عصمة الإنسان في سجوده من الشيطان :
تفطن لوتر في الركوع محقق * وشفع سجود : إن ذا لعجب
لأنك في حال الركوع معبد * وأنت بحالات السجود قريب
وسبح بتسبيح العلو وحمده * فإنك للسر العجيب مصيب
نزل الروح « الأمين » وقال حصل المتجلي في ثلث ليلة في سمائه ، وصرح بما يليق بالوقت من أنبائه ، وقد أمرك أن تنزل نزوله ، وتحقق فصوله ،
ودعاك إلى الاقتراب الاسم « القريب » فإنك المحب ليس الحبيب ، ولهذا قال لك "قْتَرِبْ"
ولو كنت محبوبا لقال لك " تقرب فإذا لاحت عبوديتك " في سجودك ، وصحت لك القرية من معبودك ، وتحققت كبرياه فيها ،
وقلت عند ذلك توفيها : غلطت وأصبت ، وأحطت وخبت ، فانظر في علوه ونزاهته وسموه وسبحه على مقدار ما ظهر ، كما شرع وأمر ، يبدو لك في هذا الخضوع ما بدا لك في الركوع ، من إعادة التنزيه إليك ورده عليك ، فاجتهد في الدعاء ، مع أن قبله في السماء ، وقبلتك في سجودك في الأرض ، محل الإنحطاط والخفض .
لا تجزع أيها الساجد ، فإنك لفخذ نقطة الدائرة :
المشاهد ، وهو الغيب الحقيقي ، والإله الخالقي ، فمكن كفيك من التراب ، فإنك في محل القرب ، فتقطن لما رمزناه ، وفك المعمى الذي لغزناه .
وأعلم أنك معصوم في سجودك من الشيطان فإنه قهار فليس له عليك فيه سلطان ، إذا عاين هذه الحالة اشتغل بنفسه ، واحترق في برج نحسه ، وصار شاهدا لك عند ربك بالطاعة ، ومشاهدا لما يؤول إليه من الخسران يوم قيام الساعة .
ويكفيك يا أخي هذا القدر في سجودك ، فإن حجابك في استمرار جودك .
جعلنا اللّه سبحانه ممن سجد فوجد ، وتوجد ، وتوجد فتمجد بمنه :
وكرمه : لا رب غيره ، آمين .
الباب الحادي والأربعون في معرفة أسرار الرفع من السجود إن شاء اللّه
رفعنا للتستر والهداية * وجبر لانكسار في البداية
وعافية وعفو عن ذنوب * وتحصيل لما فيه الكفاية
فإن جهل الفقيه سبيل قولي * أقول له : كذا أتت الرواية
فإن حقيقة الكشف المجلي * بتحصيل لتعمل الولاية
وتحصيل التكون عن وجودي * بجودي في البداية والنهاية
فذات الشخص جامعة الم * . . . . . . . . . . . . . . .
وسر الملقيات أمور سعدي * وسر الغاويات مع الغواية
نزل الروح على القلب وقال : تنفس الصبح فرحل المتجلي عن سمائه ، إلى حضرة استوائه فعاين احتراق الأفلاك ، وقيام الأملاك .
واعتزاز الملأ الأعلى وما حصلت من الحسن والوضائة الراتب العلي ، والحجاب بين يديه مصطفون ، والروحانيات عليه ملتفون ، وحجابة سبعة أعلام ، لهم قضايا في العالم وأحكام ، يقدمهم : الغفار ، ثم الراحم ، ثم الهادي ، ثم الرازق ، ثم الجبار ، ثم المعافى ، ثم العفو ،
واللّه من ورائهم محيط : قياما أمام عالم جسمانيتك ،
ثم في روحانيتك إذا أرادوا تحصيل العلم الأنزل ، وهذا مثاله
فهم يمشون بين يديه ، فوقع منهم التفات إلى علم الكائنات ،
فقال لهم : إلى من تلتفون وإلى من تنظرون : فيقولون : طائفة من عبادك رفعوا رؤوسهم من سجودهم إليك ، وسألونا أن نهبهم ما هو خلقه موقوف عليك ،
فيقول : أدفعوا إليهم ما سألوه ، مما جعلتكم خزنة عليه ، ومحبوسين لديه ، فإن به يظهر سلطانكم ويعلو شأنكم ، وقد وكلتكم وجميع الخزنة على حفظ العالم وكلائته ، وصونه وحمايته ، والأمر فيه لمن سبق منكم ، فإن الوقت للسابق ، ويتأخر اللاحق .
ثم نظر بنفسه إلى السائلين ، وتطلع إلى الداعين الراغبين ، فعندما أبصرته الأرواح المسجونة في أقفاصها ، والواقفة في مناصها ، بادرت إلى السجود الثاني لتجليه ، ومرغت وجهها في التراب لتدليه ، وأثبت بهذا السجد الثاني ما حصل له من الحقائق ، حين في ( نقيض ) هذه الحالة من السبع المثاني ، فأرسل إليهم خزنة السماء ، فأخذوا بنواصيهم من السماء ، وأجلسوهم في بساط حضرة مضاهاه الاستواء .
فهذا بعض ما في الرفع من السجود من الأسرار ، وما يتجلى فيها من الأنوار .
جعلنا اللّه وإيّاكم ممن عرف الحجاب والحجاب ، ولازم الباب ، لتحصيل لب الألباب (آمين).
الباب الثاني والأربعون في معرفة أسرار الجلوس في الصلاة : إن شاء اللّه تعالى
جلسنا في الصلاة عسى نراكم * على العرش المحاط بالاستواء
يخاطبني جلالك : يا عبيدي * أنا في الأرض عندك والسماء
فما لك طالب عرشا محيطا * بسيطا في ذرى أوج العلاء
وقلبك قد نزلت بغير حد * إليه عند خاتمة السواء
فنعتك بي إذا ما كنت عندي * صحيح في الغناء وفي البغاء
نزل الروح ( على القلب ) : وقال أيها المضاهي والمباهي هذا العرش قد استوى برحمانه ، وظهر المستوى عليه بإنسانه ، وثبت الملك واستقر ، ودام الانفعال واستمر ، وما بقي حجاب على درك هذه الحقائق ،
وتحصيل هذه الرقائق : إلّا حجاب واحد ، وهو : مزج هذا العالم المحسوس المشاهد وإذا وقع الانفصال ، وزال الاتصال ، وجليت صور البرازخ ، وبان المقام الشامخ للعالم الراسخ : حينئذ تجلت الحقائق ، وعوينت وبان كيفية امتداد الرقائق بالحقائق من الخلائق ،
وأدركت ما غاب عنك من الأسرار في اعتمادك على اليسار ، وبأن لك عموم نشأتك بتنوع هيئتك .
جعلنا اللّه وايّاكم ممّن أستوى به سريره ، وأشرقت بالرؤية الإلهية أساريره .
الباب الثالث والأربعون في معرفة أسرار التشهد في الصلاة : إن شاء اللّه
إن السعادة سر في التحيات * الكائنات اللواتي في المناجاة
ثم السلام على الرسول مرشدنا * ثم السلام علينا بالكنايات
ثم السلام على السادات أجمعهم * الكائنين هنا أو في السماوات
ثم الشهادة بالتوحيد مطلقة * فرض علينا جميعا والرسالات
فانظر سرائها تأتي على قدر * على القوب بألطاف الإشارات
نزل الروح ( على القلب )
وقال أنت قد دخلت حضرة الاستواء ، وتعاليت عن حكم الأرض والسماء ، فحي من ضاهيت ، وسلم على من تولاك حين توليت ، وزك وبارك وطيب وأوجز في الخطاب ،
وقرّب تلح لك أنفاس الأنوار ، وتزكو أفعالك قبل إلقائها عصار التسيار ،
وتظهر البركة في عموم الحركة . سلّم على من أرشدك فيه من أنت بأن يديه أسعدك ،
مقرا بثباته بحرف ندائه ، ثم سلّم تحية من عند اللّه مباركة طيبة على نفسك ،
وعلى أبناء جنسك فإن السلام هناك مولاك : حضرة السلام وحضرت الإسلام مجلاك وأقر بوحدانية الأحد ، وأنت الشريك والولد ، ولا بد لك أن تغيب هناك ، فإن في غيبتك تحصيل مناك .
وأشهد للرسول بالخلة والمحبة ، فهي أعلى درجات القربة ، وأثبت له الرسالة العامة الظاهرة ، سيادته يوم الطامة ، وأضفه إلى اللّه لا إلى غيره ، فإن في ذلك جوامع خيره ،
فإذا تجلى القاضي والمفتي على منبره : ذي الخمس الدرجات ، فناده يا عائذ أعذني من هذا المفتي مما يقابل هذه الدرجات من الدركات ، فإن تجلى لك في المنبر ذي السبع الدرجات ، فزد الإستعاذة من المأثم والديون ، فإن رانها أقبح ما يطلع على القلب من الريون .
جعلنا اللّه وإياكم ممن نجا من جحيم دركاته ، حين لجأ إلى نعيم درجاته .
الباب الرابع والأربعون في معرفة أسرار السلام من الصلاة
سلام عليكم أهل بيتي ومسكني * فقد جئتكم بالخير عند مسكني
سلام على اسم قد دعاني لحكمه * لسلطانه فارتاح سر ممكن
سلام انفصال واتصال بمشهد * وعن مشهد أفناه عز تمكني
سلام عليه ، ثم منه سلام * به لا بنفسي : لو عرفت تلكني
سلام على ما لاح من حركاتنا * علينا فهل يوما يراني مسكن
نزل الروح وقال : إن أردت أيها المصلي أن يقبل كلامك ، ويتلقى بالترحيب سلامك ، فلا تدخل إلى مصلاك حتى تعرف من تولاك ، وغت من أهلك ودكانك ، وعمارك وسكانك ، فإذا فرغت من الأكوان ، فانصب ذاتك لمشاهدة الرحمن ، و إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ في الدوام إن أردت أن تفوز بلذة السلام .
وأعلم أن المسلم في صلاته : رجلان لهما طريقان ، فإن كانا في شخص واحد فقد جمعت له الحقيقتان ، فالعالي من سلّم لكونه انفصل عن أمر ما إلى أمر ما إلى اسم ما من اسم آخر ، فيكون سلام توديع وإقبال : أما من جليل إلى
جلال ، أو من جميل إلى جمال ، والدون من سلم على الرحمن ، وعلى الأكوان ، فسلام على الرحمن لانفصاله ، وسلام على الأكوان لرجوعه إليهم وإتصاله ،
ولهذا لا يسلم المصلّي على يساره إلّا إذا جاوره مثله ، فيظهر فيه ظله ، ومن خرج عن هاتين الحقيقتين لم يصح سلامه ، ولا قبل كلامه ، فإنه لم يكن عند الحق فيفصل عنه بسلام ،
ولم يغب عن الكون فيسلم عليه عند الإلمام ، وهذه صلاة العوام : برية عن الكمال والتمام ، ليس لها انتظام ولا إلتحام .
جعلنا اللّه وإياكم ممن سلم على اسم ( من اسم ) ويحكم في حكم من حكم .
الباب الخامس والأربعون في معرفة أسرار سبب السهو والسجود له
ولما سهونا عن مناجاة ربنا * وثار علينا ثائر الغفلات
تثلم عرش القرب منا فبادرت * محاجرنا تنصب بالعبرات
فشرع مولانا السجود لسهونا * فحار اللعين الرجس بالحسرات
وكان لذاك الكسر بالفعل جابرا * إلهي ، وأخفاه عن الخطرات
فعاد صحيحا محكم الفعل قائما * قوي المباني دائم اللحظات
نزل الروح الأمين على القلب ، وقال : إذا التفت المصلي إلى نفس صلاته إلى غير من يناجيه ببعض حركاته ، فقد ظهر نهوه وثبت سهوه ، فنظر إليه من ناجاه فناداه ، لم زلت عني أنتظر إلى من خو خير مني ؟
فيحن القلب في عالم الغيب ، وإن لم يشعر به المصلّي ، إلى ذلك الخطاب من ذلك المتجلي ، فيسجد له إجلالا وتعظيما ، فيلقى - رؤوفا رحيما - فيجبر له التفاته ، فتكمل صلاته ،
فيسمى هذا السجود إرغاما للشيطان ، ومرضاة للرحمن ،
ولهذا لم يجبر سهو الصلاة بعد السجود ، لأنه يحزن المطرود ، فأفهم هذه الإشارة ، فإنها سنية المحتد ، عزية المشهد ، وكل يسهو على قدره فمصل مع شمسه ومصل مع بدره ، وتكفيك هذه اللمحة الافقية ، لهذه النية .
جعلنا اللّه وايّاكم ممن لم يزه : فلم يسه ، ولم يبعد : فلم يسجد آمين .
الباب السادس والأربعون في اختصاص الامام بيوم الأحد وما يظهر فيه من الانفعالات
سلام على اليوم السعيد المعظم * وسلطان أيام الوجود المنظم
تصدى له قلب الوجود من أفقه * فعلمه من كل سر مكتم
هو الأحد المختار : أول موجد * به البنية العليا : دون التهدم
تسمى بنعت الحق من دون غيره * من أمثاله ، فاختصه بالتقدم
به سرت الأرواح في كل مسلك * فيدعى لها قطب الندى والتكرم
تصدى له قطب الوجود من أفقه * فعلمه من كل سر مكتم
فأحيا به الأرواح في ملكوتها * وأحيا به أهل اللظى والتجسم
وناطت به الأفراح منه فلا يرى * بمشهده أهل الأسى والتذرم
خرجت - أبقاكم اللّه ووقاكم - من روحانية اسم كريم من الأسماء إلى اسم آخر ليصعد بي إلى السماء ، فعندما تجردت عن هذه السدفة الترابية :
لاحت لنا أعلام المشاهد الغيبية ، فركبنا الجادة ، وسألنا المادة ، واستعذنا من وعثاء السفر وكآبة المنقلب ، وروعة الحذر ،
وقطعناها علما علما واتخذناها لمعراجنا سلّما حتى وصلنا السماء المتوسطة ، والحضرة العادلة المقسطة سماء النبي أبي العلا والمهاة –
وهما أسنى الآباء والأمهات في ايجاد الحياة ، فلما وصلنا هذه السماء المطلوبة واستأذن لنا حاجب الحكمة المحبوبة ، فأذن السيد فدخلنا ، وقام لقدومنا فقعدنا ، وقال : من أين جاء الركب المحفوظ المصان الملحوظ .
فقلنا : من بلد الجسد الغريب .
فقال : مرحبا بالزائرين من بلد الحبيب ، ما أحسنها من مدينة حصينة ، فامت أركانها على التربيع ، وجعل سلطانها من العالم البديع ،
وهذا العالم على جنسين : رفيع ونازل ، وهذا السلطان من الجنس الرفع ، وقامت بها الصفات الإلهية ، فدعيت بالحي العالم المريد القادر ، المتكلم البصير السميع ، وأحكمت بتسع قوى مرصعة : غازية ، ونامية ، ومصورة ، وناطقة ، وعاقلة ، وحافظة ، ومفكرة ، ومتخيلة ، ومحسة ، فجاءت حسنة الترصيع ، واتقت بقوة تجذب المنافع ، وقوة تمسكها ، وقوة تهضم ما حصل في المعدة ، خوفا من المضار ، وقوة تدفعها .
وشرح ترتيب هذه المدينة يطول ، لكثرة ما فيها من الفصول ، لكنها جمعت حقائق المحدثات ، وبعض حقائق الإلهيات ، ما خلق اللّه خلقا أشرف منها ، ولا أخذت حكم عن أحد مثل ما أخذت عنها ، أوتيت جوامع الكلم ، وأودعت فنون الحكم ، يا طول شوقي إليها ، ويا حسرتي عليها ، ما أشتهي قيام الساعة إلّا لردى إليها ونزولي عليها ، هي مدينة لا يعرف قدرها إلّا من عرف سر القدر ، ولهذا جهلها أرباب الفكر ، هي بوطيقي الحكمة ، وموسيقي النغمة ، وبرزخ النور والظلمة ، لا زالت أطباقها سافرة ، وأطباقها دائرة ، فخدم الجلساء الحجاب ، وسجدوا لظل الحجاب ، ثم رفعوا وأصاخوا واقنعوا وعاد إلى الكلام :
السيد الإمام والنسابة العلام ، وقال : هل عرفتم أن هذا المحل الأسنى ، لا يجوز عليه التكليف ، ولا يتحكم عليه لطيف ولا كثيف ، أين المفصح عنا ببعض ما نحن عليه ؟
والمترجم عنا بما قدرنا لديه ، فرفع لنا بيت من الذهب الأحمر ، قد فيق بالمسك وجمر بالعنبر ، ونصب فيه منبر من الياقوت الأحمر ، وخرج الترجمان وعلى رأسه تاج من اللؤلؤ والجوهر ، وقد حفت به أقاويل الملأ الأعلى ، وروحانيات السماوات العلى ، وما بقي روح إلّا حضر ، ولا ملك محجب إلّا ظهر ،
وسطع الشعاع ، وعمر القاع واليفاع ، وسرت الضياءات وأشرقت الأنوار ، وازدانت السماوات ، وظهر سلطان الإستواءات ، وتعالى العلا وقام البناء وخلص الولاء وتمكن الصفاء ، وعظم الأشراف وتلألأت الآفاق ،
وتبخرت الجداول وأخذ في مراتبها الأقاول وصعد الخطيب المصقع منبره ، وحمى أثره وإذا به معتدل النشأة ، حسن الهيئة ، وضاع الجبين ، أشم العرنين ، سبط البنان ، ذرب اللسان ، من أهل الدين ، وداره بعليين ، في أحسن تقويم ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، مستنير الوجه الأغر ، كأنما فقيء حب الرمان في خده فاحمر ، فسلم ولم يشر ببيانه ، وضرب بلسانه أرين أنفه ، وأداره في شدقيه - ثم شرع في بيانه ،
فقال : " الحمد للّه الذي " كان ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه "كان"
ثم أبدع العالم واخترعه ، ولم يرجع إليه أثر من خلقه الكيان ، أوجد ما علم من ذاته لا من شيء ، وأخرجها من غير ستر
كانت فيه ولا خبء ، وكان موصوفا بالوجود قبل كل موجود ، ولا قبل إلّا من حيت العبارة ، ولا كان إلّا من الإشارة ، والمنهج القويم في معرفة ارتباط المحدث بالقديم ،
فليس بينهما بينية ولا قبلية ، إذ القبل مخلوق إضافي ، وامتداد زماني ، ولو تحققتم مراتب الموجودات لاستحال عندكم وجود الأزمان ، والتقدم بالمكان وقضيتم فيها بالإحالة بعد الإمكان ، فمن ثبت قدمة استحال عليه صيغ الأزمان .
والإشارة بصيغ المكان ، إلّا من طريق المجاز ، لا على الجواز ، لما في عالم العبارة من العجز والقصور ، وفي ذلك المقام من العلو والأعزاز ، فيطلقها عليه للعقول المعقولة بأفكارها ،
ليجوز منها إلى إدراك المعاني المقدسة الموصلة في فطرها المؤسسة ، ولولا الإمداد لهذه العقول المتعطشة لمعرفة بارئها : الحائرة ، ما احتجنا إلى استعمال هذه العبارات القاصرة ، فله الصفات العلي ، والأسماء الحسنى ، والنبأ الأسنى ، وحجاب العزة الحمى تجلى اسمه الحي فحييت به الموجودات ،
والقيوم فقامت به الأرض والسماوات ، ومن فيهن من عوالم البقاء والاستحالات ، فعنت لحياته الوجوه ، وسجدت لقيوميته الجباه ،
وأقنعت لعظمته الرؤوس ، وتحركت بذكره الشفاه ، وحبا سيدنا هذا بفنون المعارف والأسرار ، ومنحه جزيل العوارف في مطالع الأنوار ، فأداره مع الأفلاك ، واسرى به مع الأملاك ، فوقف على الآثار الفلكية ،
وتحقق بأسرار اللطائف الملكية ، وخاطب كل روحانية بلغتها ، فعرفته بمكان حكمتها ، فلما حل في أوج العلا نزل في خط الاستوا ، خوفا أن ينحرف إلى أحد الميلين ، فتذهب بعض معارفه ، وتستحيل إلى الكثافة بعض لطائفه ،
وعلم ما يكون من طمو البحور ، فأودع الحكم في الصخور ، ثم عاد إلى مرقاه الأوسط ، وحل منه في الوسط ، وهو مقامكم هذا الذي أنتم به قاطنون ، وعنه عند انقضاء كلامنا راحلون .
ثم لما وصل محفوظ الجوانب ملحوظ المآرب ، نكح المهاة ، وامهرها الحياة ، فسرت منها في زوايا وجود الكون ، وتخللت مسالك كل عين ،
وقام ميزان العدل في قبة الفضل ، وزالت البغضاء وارتفعت الشحناء ، وظهر سلطانه في القلوب ، بانتصاصات الغيوب ، لا زال مجده سنيا ، ومكانه عليا ، ثم نزل فقلت يا أبا العلا لم أختصصت بالقلب ؟
فقال : لكونه الحضرة التي وسعت جلال اللّه ، الموضوعة على صورة القلب ، قلت ولم اختص بها سر المهاة ،
فقال : لكونه معدن الحياة ، وسيبدو لك في روحانية كل سماء ما يقابله منك من القوى أو الأعضاء ، فقلت له : أريد أن توقفني مشاهدة عين على تأثيراتك في قلوب العارفين ولعلماء والمريدين من عالم الكون وما تعطيه أفلاكك ، وما تهبه أملاكك ، فأشار إلى بعض جلسائه وأكرم خدمائه ،
وقال : أخترق به الدور المربع وأشرق به على الكور المسبع ، فإذا حصل مفاتيح الخزائن ، وموازين المعادن ، رده إلي ، وأحضره بين يدي ، فاخترق بي تسعين فلكا ،
فرأيت مع كل فلك ملكا ، يرجع ( أمر ) هؤلاء الأملاك إلى ثلاثة أملاك :
الملك الواحد موكل بالحليل ،
والملك الآخر موكل بالموت ،
والملك الآخر موكل بالأنفاس ،
ومدة تدبيرهم في العالم ثلاثة وثلاثون ألف سنة ، وتدبيراتهم شريفة حسنة ، بين أيديهم سبعة أملاك على صور المردان ،
كأنهم قضبان خيزران ، لهم انثناء وانعطاف ، وبركات وألطاف ، لانبات بعوارضهم ، ولا تأخر عندهم في أداء فرائضهم ، وأعراضهم طيبة الروائح ، بأيديهم الطوابع والمفاتح ، قد شمروا أذيالهم ، وقصروا أردانهم ، وثبتوا مكانهم ، علامون بما يراد منهم ،
محكمون لما يصدر عنهم ، منهم خمسة لهم حركة واحدة ، واثنان لهم حركتان ، واثنان منهم بين يدي ملك التحليل ، واثنان منهم بين يدي ملك الأنفاس ، وواحد منهم بين يدي ملك الموت ، ما عندهم علم بغير ما هو سلطانهم عليه .
وأما الأثنان فالواحد منهم له علم التحليل والموت ، والآخر له علم الأنفاس والموت ، فلملك الموت تصريفهما معا ، ولملك التحليل تصريف الواحد منهما ، ولملك الأنفاس تصريف الآخر ، وهم على درجات معتدلة متساوية في العدد والقوة وأحكام الفعل ، غير أن الاثنين أعلم من الخمسة لتحصيلهم العلمين .
فلما عاينت هذه المراتب سلكت هذه المذاهب ، أشرف بي علي الكون المسبع ، وهو العرش الأكمل المعظم المكرم الأرفع فعاينت ما أحدث اللّه في قلوب العباد على مراتبهم في تحركات تلك الأفلاك ، وتوجهات أولئك الأملاك ،
وذلك أن اللّه تعالى عنده ( هذه ) الحركات الفلكية ، والتوجهات الملكية ، يجمع بين الأنوار والأسرار في موقف السوا على رقيقة من الحقيقة في العالم المعقول والمحسوس .
ويسرى بين حقائق النفوس ، ويظهر معارف التأسيس ، ويكسر الأرواح أنفاس النور ، ويذهب كل باطل وزور ، ويحل على العلماء باللّه وبالأحكام : المسائل المعقدة في العلوم المقيدة وغير المقيدة ، ويوضح المبهمات - ويشرح المشكلات ،
وتفتح معالم الصنائع في قلوب الصناع ، ويحسن مواقع النغمات في الأسماع ، وسيل أودية المعارف في قلوب العارفين ،
وتنفجر عيون العلوم في نفوس العالمين ، وتعظم أنهار الأسرار والحكم في قلوب الحكماء المحققين ، وتترادف التنزلات الغيبيات ،
وترتفع الأسرار الرحموتيات ، إلى أعلى فروع سدرة الانتهاءات ، ويفتح على الشيوخ المربين علوم العلل والأدوية ، ومعرفة اعتدال الأهوية النفسانية المردية وغير المردية ،
ويبدو لأهل المجاهدات نتائج المجاهدات ، وتعطي ما فيها بالقوة من الكائنات المستحسنات ، فطائفة منهم تنعم بالمشاهدات الذوقية ،
وطائفة منهم تنعم بمشاهدات الأنفاس والروائح العطرية ، وفي الخضر تجتمع هذه المقامات ، وعليه تبدو هذه البركات ، وفي هذه التوجهات والحركات تنفخ أرواح المعاني في قلوب أهل البدايات ! وترضع أطفال المريدين ثدي أوائل التجليات ،
وينتشر عالم الصعود ويقلب أحوال البقاء ، وتتشوق همم العارفين إلى الوصال ، وتتسابق العباد بالأعمال والمريدون بالأحوال ، ويفني ما يضاد البقاء ، ويموت ما يقابل الحياة ، وينمحي ما يناقض الإثبات .
فهذا ذكر بعض ما عاينت في الكور من تأثير النمط الأول من هذا الدور .
ثم ردني إلى النمط الثاني من هذا الدور - فقطع بي تسعين فلكا ، أبصرت أيضا مع كل فلك ملكا ، يرجع أمرهم إلى ثلاثة أمرك ، الملك الأول موكل بالحياة ، والملك الآخر موكل بالتركيب ، والملك الآخر موكل بالفناء ، ومدة تدبيرهم في العالم أربعة ، وعشرون ألف سنة ، بين أيديهم سبعة أملاك مقتبلوا الشباب ، كأنهم أبناء خمسة وعشرين سنة ،
معصومون في أغراضهم ، أقوياء في انتهاضهم ، أشداء على التصريف ، علماء بحدود التعديل والتحريف ، وحالهم مع الثلاثة الأملاك كحال السبعة المتقدمين في الخدمة وترتيب الحكمة ، خمسة منهم علماء بفن واحد ، اثنان لملك الحياة وواحد لملك الترتيب ، واثنان لملك الفناء .
والاثنان : الواحد عالم بالحياة والتركيب ، والآخر عالم بالتركيب والفناء .
فلما عاينت منحاهم ، وتحققت مغزاهم أشرف بي على الكور المحبوب ، لأرى تأثيراتهم في القلوب بأنواع الغيوب ، وذلك أن اللّه تعالى عند هذه للحركات الفلكية ، والتوجهات الملكية ، يظهر عالم الأسرار على عالم الأنوار ،
ويكون العلم في المغرب أكثر منه في المشرق ، ويقر العارف الرباني بالسبق الإلهي المحقق ، ويتقوى سلطان الاصطلاح على أهل الأحوال والكرامات ويتمكن العلم النوري في قلوب أهل المقامات ، وطلبت الأسرار عالمها ، وسلطنت عالمها ، وأحتدت شوكتهم ،
وقامت مملكتهم ، واستحكم سلطان الشهوات على عالم النفوس ، وبانت حقائق الحس والمحسوس ، وظهر الضعف في العقول ،
وانقطعت مواد المعقولات واستمرت مواد المنقول ، واحترقت النفوس شوقا إلى التجليات واستحكم سلطان الحب في نفوس المحبين حين ظهرت لهم إتصالات النهايات ، ورفعت لهم أعلام الغايات ،
وتغمرت بحار المحسوسات بفنون الانفعالات ، ورضع أطفال المريدين ثدي الملقيات ، وتجلت العظمة المعظمة لأسرار الأولياء وتمكنت النشأة البشرية بما أعطيت من الأسماء الإلهية ، من تسخير الأرواح التي أسرارها في أقدامها ، والأرواح التي معارفها في جوانبها .
وهذا بعض ما عاينت في الكون من تأثير النمط الثاني من هذا الدور ، وقطعت كل نمط من هذا الدور بإقامتي فيه خمسة عشر يوما ونصف يوم ، وست ساعات ، كل يوم منها مقدار ستة أيام ونصف من أيام الدنيا .
ثم ردني إلى النمط الثالث من هذا الدور ، فجبت تسعين فلكا قد وكل اللّه مع كل فلك ملكا يرجع أمرهم إلى ثلاثة أملاك ،
الملك الواحد موكل بالنفس ، والآخر موكل بالأرواح ، والثالث موكل بالنيران ، ومدة تدبيراتهم في العالم خمسة عشر ألف سنة ، يتصرف بين أيديهم سبعة أملاك كهول ، قد كملت قواهم وتحكمت عقولهم ، وحسن تدبيرهم في التقسيم على حكم الخدماء المتقدمين في الدرجات ، والتساوي .
فلما أطلعت على سرهم ، وكشفت ما خفي على الناس من أمرهم ، نزلت إلى الكور لأرى تأثيرهم المودع في ذلك الدور .
وذلك أن اللّه تعالى ساوى في الدقيقة بين عالم الأنوار والأسرار ، وسكن فلق المشتاق ، وخمدت نيران الاشتياق ، وطرأت على القلوب التغييرات ، وقلت المعارف ، وتوقفت التنزلات ، واحتجبت المقامات المتجليات وانقطعت موارد علوم العلل والشفا ،
وذهبت أسرارهم فكان أصحابها على شفا ، ورجع العالمون عارفين بسر الانتقاص ، وحكمة المناص ، وتوفرت دواعي الاخلاص ، وحصل الواقفون في موقف السلب ، وتجلى الاسم ( الحفيظ ) وسمع للملأ الأعلى ، لانضغاضهم كظيظ ،
وانتقلت المحبة من المحبوب إلى الحب المطلوب ، ووقفت العصمة على الخواطر والقلوب ، وأنطردت الوساوس والأبالس ، ولم يكن لعالم الأرواح قوة في التصرف إلّا الخسائس ،
وظهرت أسرار الأكوان ، وما تضمنه الملوان ، واستوى الخفيف والثقيل ، والبعيد والقريب ، فهذا بعض ما عانيت في الكور من هذا النمط الثالث من هذا الدور وقطعته في خمسة عشر يوما ونصف يوم ، وست ساعات ، كل يوم منها مقدار ستة أيام ونصف يوم من أيام الدنيا .
ثم ردني إلى النمط الرابع من هذا الدور ، فدرت مع تسعين فلكا قد رتب اللّه لكل فلك ملكا يرجع أمرهم أيضا إلى ثلاثة أملاك الملك الواحد ، موكل بالمحو ، والملك الآخر موكل بالإرجاء ، والملك الثالث : موكل بالعلم ، ومدة تدبيراتهم ستة آلاف سنة ،
بين أيديهم سبعة أشياخ هرم لهم قوة الشباب ، يتصرفون في كل ما يؤمرون ، وحكمهم حكم من تقدم من إخوانهم في التسخير والانفراد والاشتراك ، والمساواة وغير ذلك ، فلما فككت رمزهم واستخرجت لغزهم : أطلعت على الكور لأرى ما ظهر عن بسلطا هذا الدور في قلوب أهل الغور ، والحور والعدل والجور .
وذلك أن اللّه تعالى عند هذه الحركات العلويات والتوجهات الافقيات :
أظهر عالم الأنوار على عالم الأسرار ، ووقعت النجوم ، وكثرت التنزلات من الحي القيوم وكورت الشمس ، وطمس الحس ، وسيرت الجبال ، ونسفت الرمال ، وعطلت العشار الظاهرة ، وحشرت الوحوش المتنافرة ، ووقع ملطوفان ، وزفر البركان ، وزوجت النفوس وتعشق بالمحسوس ، ونشرت الصحائف ، وتبينت المعارف ، وظهرت اللطائف ،
وأوتي بجميع الظرائف ، واتصل حبل التلاق ، وكثر بين المحبين اللثم والعناق ، وثل عرش الفراق ، ونثرت الكيان نجوم أسرارها ، واطلعت البرازخ لوامع أنوارها ، وخلي البرزخ من سكانه ، وتعشق التاجر بدكانه ، وضجر أهل الشكوك وتنعم سمراء الملوك ، ونبت الريحان في النيران ،
وظهرت يواقيت اللهب في العيان ، وعمرت المعادن كلها بروح التكوين ، وجاء الرب في ظلل من لغمام ، والملائكة في لحف الظلام ، وكثرت مناجاة الوعد والوعيد ، وتقصفت جوانح المحبين ، وذابت أبدان العارفين ، وسكنت النفوس بآلافها ومألوفاتها ، وحنت لعرافها ومعروفاتها .
فهذا بعض ما عانيت في الكور من تأثير هذا النمط الرابع من هذا الدور ، وقطعته في قدر المدة التي قطعت فيها النمط الذي قبله .
فلما وقفت على هذه المعارف ، وحصلت فنون هذه « الأسرار واللطائف » رددت إلى السيد الإمام « إدريس » صاحب التأسيس ، فقال لي : إيّاك والنسيان ، فإنه سببب الحرمان .
ثم قال لي ركب جوادك ، واشحذ فؤادك ، وسر إلى حضرة أبيك ، وحافظ على ما يحصل لك في تجليك ، واعرف أسرار الإنسان الوحيد وهناك يتبين لك الفرق بين المراد والمريد .
جعلنا اللّه وإياكم ممن عرف نفسه ، وشاهد شمسه . بمنة : لا رب غيره آمين .
الباب السابع والأربعون في اختصاص المأموم بيوم الاثنين ،
وما يظهر فيه من الانفعالات
سلام الله يا ابن الأثير * عليك الطيب الزاكي الخطير
لك العليا والفلك المعلي * لك السجين والفلك الأثير
وزيرك مثل ذاتك : لا يجازي * سريع العدو ، كرار يدور
له المحق العلي إذا تعالى * وإبدار إذا يدنو : كبير
له الوصفان والاثنين ملكا * كما لأبي ذكاء الزمهرير
يفيض على العوالم ما لديه * كريما مثل ريتنا يفور
فينمو حين ينمو كل شيء * وينحل حين ينحل أو يبور
هو المحيا إذا يدنو إلينا * وإن يعلو هو الموت المبير
تولع بالفراق وبالتلاقي * هو الوثاب والكابي العثور
يقوم بذاته محقان علما * وإبداران : مدركهم عسير
إذا يدنوا فابدار ومحق * وإن يعلو كذلك يا خبير
وما ينفعك عن محق محيط * وأبدار ، فاظلام ونور
مع الأحيان والأنفاس فيه * تعالى الواحد الرب القدير
ولما دعتنا دواعي الاشتياق إلى الكشف على ما أودع اللّه من الأسرار ، في هذه الطباق ، رحلنا نريد حضرة الميثاق ، وهي حضرة أبي الأباء وعنصر أجسام الأولياء وأعداء .
أول بوطيقي تكون أكسيرها ، وصار فضة بيضاء ، قزد يرها ، الجامعة للقبضتين ، والحاكمة للحكمتين ، واندفعنا من قلب الأفلاك ، وقد حفت بركابنا أقاويل الأملاك ، فما بقيت حقيقة مررنا بها في طريقنا ، إلّا تجلت بأحسن زي ، وقامت وخدمت ، لا روحانية إلّا سألت لنزول عليها واحترمت ، وأكرمت ، فأخرتهم أن الحاجة الآن في رؤية الوالد .
والغرض في مشاهدة الإنسان الواحد ، فإذا أنقضت المآرب وتميزت المذاهب ، وسالت المذايب وافترقت العواقب ، وأتحد الأول بالعاقب ، وبانت المطالب ، وتخلصت الرغائب ، وعقلت تفاصيل المواهب ، مع الإقرار بوحدانية الواهب ،
والتحقت بالعدم والوجود الاكاذب أسرعنا إن شاء اللّه إليكم الكرة ، ونزلنا عليكم عيد ابتداء الدورة ، بافستغدوا لحلولنا ، وتأهبوا لنزولنا ، ثم أخذنا نقطع روب الدائرات ، وقلوب الروحانيات ، إلى أن نزلنا بفناء الوالد ، والإنسان الواحد ، الموصوف بالناجي والهالك ، والمعروف بالباكي والضاحك ،
فأرسلت إليه رسول الهمة ، ينهي إليه المامي بحضرته ، وحبي في القيام بمبرته فأدخلني عليه واحضرني بين يديه ، فقبلت يمن بساط مقامه ، وسجدت تعظيما لمعالي أعلامه ، فإذا به في بيت من اللجين من أحسن ما نظرت إليه عين ، قد فتح فيه خوختين الواحدة عن يمينه ينظر منها إلى عليين ، والأخرى عن شماله ينظر منها إلى سجين .
بواب الخوخة اليمينية ببغاء مستتدة إلى الباب ، وبواب الخوخة الشمالية عقاب ، وعلى رأس الولد تاج من الياقوت الأبيض ، كأنه البرق إذا أومض ، وعليه حلة دمشقية ، وأمامه مجامير كاقورية ، تبرق من أسازيز وجهه أنوار ظهيرية ، في المجامير بخور المصطكي واللوبان ،
وبين يديه أطباق البسامين وللسوسن والجرجير والأقحوان ، فإذا استتشق الأقحوان تبسم ، إذا استنشق الجرجير اهتم فلا يزال باكيا ضاحكا ، مملوكا ملكا ، والإنسان الواحد بين يديه قائم ، يبث إليه ما عنده من معالم العوالم ،
فقال لي : مرحبا بالابن السعيد ، والطالب المستفيد ، يا أيها الابن ، ما الذي أوصلك إلينا ، وما السبب الذي أنزلك علينا ، فخدمت بساطه ، واستغنمت انبساطه ،
وقلت : أدام اللّه أيام الوالد المعظم المقدم ، وعدل فسطاسه ، وأبرم أمرأسه وحرر أنفاسه ، لما عرف العبد أنك صاحب العلمين والصورين ، وحامل سر الاثنين ، أراد أن يقف عليهما منك مواجهة ، وأن يسمعها منك بحضرتك مشافهة ، فقال : همة شريفة ، وداعية سلطانية منيفة ، ثم دعا بترجمانه وصاحب لسانه ،
وقل له : أصعد إلى منبر الاستواءين وأذكر بعض ما عندنا ، وعند حاجبنا من سرائر علوم الكونين والصورتين ، فصعد الخطيب وتكلم ،
وقال بعد أن بسمل وصلّى ثم سلّم :
الحمد للّه الذي جمع لآدم عبده وخليفته برسوله بين يديه ، وحباه بصورتيه ، ومنحه سورتيه ، وأودعه سريرته ، وحصل فيه قبضتيه ، وهداه نجديه ، والحب له سبيليه ، وخاطبه بكلمتيه ، وأمره على ملأيه ، واستخلفه على كونيه ، واصطفاه برسالتيه ، واختصه بخلافتيه ، وكرمه بمشاهدتيه ، وخصه بجنتيه ، ووهبه معرفتيه ، وأنزله بين علميه ، وأشهده مركزه وقاب قوسيه ، وأسكنه في البرزخ بين كتابيه ، لأظهار صفتيه ،
فقام عظيم الشأن سلطانا على الأعيان ، واستوزر له الزبرقان الذي هو نظير الرئة في الأبدان فيعلو فينمو ، فيفضل ويدنو ، فينحل فيذبل ، فوزيره مثله ، وعلى صورته وسورته :
له وجهان وطريقان وسيران وتجليان ، أمحاقان وأبداران ، ومحق وأبدار ، في كل أوان ، عند العالمين بما في الصفة العلوية من الحكام والترتيب والاتقان ، واعتدال الأوزان ، وله أمحاق واحد وابدار واحد ، عند العامة ، فله الضدان ،
وسرعة التأثير في الأكوان ، وهو شبيه بالإنسان من جميع الوجوه :
القباح والحسان ، وله التقابلان وإليه منظر الثقلان ، وفيه : كسران ، وبدايتان ، وغايتان ، ونقصانان ، وكمالان ، وسران وأمران ، وتأثيران ( وكمالان ) وله يدان ، ورجلان وعينان ، وأذنان ، وثديان ، وعلوان ، وسفلان ، ويمينان ، وشمالان ، وفوقان ، وتحتان ، وخلفان ، وأمامان ، ومخاطبتان ، وقلبان ، ولسانان ، ( ومغربان ، ومشرقان ومعدنان ، وأثران ، وعرشان ، وكرسيان ، وروحانيتان ، وتحميران ) وتبيضان ، وتسويدان ، وتكليمان ، وحياتان ، وموتان ، واعتدالان ، وانحرافان ، عقدتان ، وفيه من كل شيء اثنان .
فسبحان من فطره وفطر الخليفة آدم على هذا الاتقان ، إنه مولى الامتنان .
والصلاة على الحقيقة المحمدية ، صاحبة الإمامة المطلقة ، والخلافة المحققة : « ما اتصلت الأرواح بالأرواح ، والأبدان بالأبدان .
ثم نزل وتكلم الأب ، فقال : اعلم يا بني شرح اللّه صدرك ، ورفع في ذروة التوحيد قدرك أن اللّه تعالى لما كنى على الحقيقتين ، وأبان عنهما بالقبضتين في الموطنين ، وأنبأ عنهما في عالم العبادات بالحرفين ، وجعلهما على السواء في الفطرتين والنعيمين والعذابين والطاعتين ، والمعصيتين ، باعتدال الكفتين ، وجعل الآخرة ذات دارين لتحيط بالعالمين ،
وفيها يقع الميز بين الفريقين ، كما وقع في أوان القبضتين ، وقبل أخذ ، لميثاقين ، وجعل الدنيا ذات برزخين ، فأظهر الكافر في صورة المؤمن ، والمؤمن في صورة الكافر ، لذي عينين ، وجعلها محل تمحيص وبلوى للطائفتين ، فوجه إليهم على لسان واحد منهم حكمين ، فأمر ونهى لتمييز الكلمتين ، فمن وجد حبي بنار وجنتين ، ومن أشرك جوزي بجنة ونارين .
وأعلم يا بني أن اللّه تعالى خلق الإنسان بين ستة أعلام : الفوق ، والتحت ، واليمين ، والشمال ، والخلف ، والأمام .
فالفوق والتحت أختص بهما رب العزة من طريق المثل والمثال ، والحقيقة والخيال ، فالفوق للرؤية ، والتحت للحجاب ، فكانت الجنة ثمانية أبواب للرؤية الإلهية ، وكانت النار سبعة أبواب النفسانية ، ولو كان الحجاب ى جحخ ع جحخ ع جحخ ع ث ل ج طل ج ظ ، واستوى البصير والأعمى .
وأما بقية الأعلام : اليمين ، والشمال ، والخلف ، والأمام ، فهي مرتبة على مراتب الجنة والنار ، ومنها يأتي الملك بالطاعة المحلة دار القرار ، وإبليس إلى المعصية الموصلة إلى دار البوار ، قال تعالى : ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ
أخبر بذلك عن إبليس ، وفي مقابلته ملك التقديس ، وهذه قسمة مدينة الإنسان ، وهو مخاطب من ثلاث جهات :
روح ، ونفس ، وجثمان ، في كل علم من هذه الأعلام الأربعة ، لهذا كانت مدينة مربعة ، وللشيطان في كل علم سبع مردة ،
وللملك في كل علم ( سبعة وزعة ): ملكان للروح ومريدان ، وملكان للجسم ومريدان ، وملك واحد للنفس ومريد ، وملك سادس بين الروح والنفس ، ويقابله مريد عتيد ، وملك سابع بين النفس والجسم ، ويقابله مريد عنيد ، وهكذا في كل علم من الأعلام ، ومودة للوساوس ، وملائكة للإلهام ، فمتى أتى الملك بلمته وهمته ، أتى إبليس بلمته وعزمته ، ومن أرتقى عن الملك والشيطان بدت لعينيه أصبعا لرحن ،
ولما كانت أعلام الإنسان أربعة ، والجنة أربعة ، والنار أربعة ، كانت ( ملائكة ) المنازل في الكثيب والحجاب أربعة ، فالمنزل الواحد في الكثيب والحجاب منابر ، والمنزل الثاني أسرة ،
والمنزل الثالث : كراسي والمنزل الرابع ، مراتب ، وقد يدخلها كسر كما يدخلها في الأعمال ، وفي عدم تتميم الأحوال ،
قال ( عليه الصلاة والسلام ) : « يقبل من الصلاة : عشرها ، تسعها ، ثمنها . . . » ،
هكذا إلى « نصفها » ، فقد جاء بالعدد المكسور ، مع كونها حضرة النور ، فإذا رأيت في هذه المراتب كسرا فهو على هذا الحد لنقص كان في أداء العهد ،
ولقد نبه ( عليه الصلاة والسلام ) في قتل جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة ، على ما ذكرناه فأخبر أن في سرير عبد اللّه بن رواحة أزوراد عن أسرة أصحابه ، وكذا شهدنا ،
فإن عبد اللّه بن رواحة توقف قليلا في ( غزاته ) عن القتال كما رويناه ، ولما كان المصطفون ثلاثة : الروح ، والنفس ، والجسم في حق الموحدين ، وكان المبعدون ثلاثة الروح ، والنفس في حق المشركين .
فافهم فافهم ما قررناه لديك ، وأبرزناه إليك ، فالروح : خليفة والنفس : وزيرة ، والجسم مبلغ يشرف به سريره ولكل واحد من هؤلاء الثلاثة ، منبر ، وسرير ، وكرسي ، ومرتبة من شكله ، وعلى مثله ،
وقد قال ( عليه الصلاة والسلام ) في سر التثليث : « لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى آخرها ، والمهدي وسطها » فانحفظ الطرفان والوسط ، وأنضم الملك وارتبط ، فأتى بالثلاثة على حكم النشأة ، وتقابل الهيئة ، فادفع رأسك وانظر إلى الصور ، الذي هو قرن من نور ، وانظر إلى اتساعه في عليين ، وما أعطى اللّه فيه من الدرجات لأصحاب اليمين ، وانظر أيضا إلى ضيقه في السجين ، في أسفل سافلين وما أودع ( اللّه ) فيه من الدركات للمحجوبين ، فنظرت فرأيت الأمر على ما قاله ، وإن كل إنسان لا بد له من إحدى الدارين : لا محالة .
وقد مثلت لي في مثال : هذا بيانه .
وقد تمثل في وقت آخر في صورة أخرى كما قد مثلت النار لابن قسي في صورة حية ، ومثلت لابن مرجان في صورة حاموس ، ومثلت لنا في صورة دار لها طبقات : علوا وسفلا .
فلنقل في بيان ما مثل لي .
إن الدائرة العليا صورة الكثيب الذي تجتمع الناس فيه ، لرؤية الحق ، وهو في جنة عدن ( قصبة الجنة ) والناس فيه :
أربع مراتب : ربع منهم تنصب لهم ( فيه ) مناتر ، وهي الرسل والورثة والأئمة والمهتدون ، وهم فيها بين كامل ،
لا وهو جامع المقامات والصفات ، وأهل جلال ، وأهل جمال ، وما ثم طبقة رابعة ، في كل مرتبة ، وفي مقابلتهم في النار ، في منزل الحجارة منها خاصة ، وهو منزل ميها يقابل الكثيب من الجنة ، وهو للأئمة المضلين ، الذين شرعوا ما لم يأذن به اللّه ، وقالوا لاتباعهم : هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
والمرتبة الثانية : ينصب لهم فيها أسرة ، هي للأنبياء الذين هم على شريعة من ربهم ، في أنفسهم : ما أرسلوا ، ومن جرى مجراهم ممن لهم أخبار إلهي ، ما هو على شريعة خاصة ، وحالهم كحال الرسل : أعني على ثلاثة أحوال لكامل ، وذو جلال ، وذو جمال ، وفي مقابلة ، الدار الدجاجلة ، وأصحاب الخيالات الفاسدة ، الذين ضلوا في الحياة الدنيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً .
والمرتبة الثالثة : أصحاب الكراسي ، وهي للأولياء الصالحين ، الذين ، تولاهم اللّه ، واللّه ربهم « 4 » وهي أولياؤه ، وهم فيها على ثلاثة أحوال : كامل ، وذو جلال ، وذو جمال ، ويقابلهم في النار ، أهل الكراسي ، وهم أولياء الشيطان ، ووليهم الطاغوت .
والمرتبة الرابعة : أهل مراتب ، وهم المؤمنون باللّه ، وما جاء من عند اللّه ، وهم أيضا على ثلاثة أحوال : كامل ، وذو وجلال ، وذو جمال ،
ويقابلهم في النار أهل مراتب وهم المؤمنون بالباطل ، قال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ
وإنما سميناهم محجوبين عما يراه أهل السعادة من اللّه ، وأما هؤلاء فيرون ما اعتقدوا ، وهو المتولي عذابهم ، فيودون أنهم لم يروه ، لما يصيبهم منه .
وأما الشجرة فلها فروع لأهل الجنان عالية ، ولها فروع لأهل النار مستفلة ، هي التي سمي في الشجرة عروق وأصول ، فروعها العالية لأهل الجنان ، تسمى السدرة ، وفروعها في أهل النار ، تسمى شجرة الزقوم ،
فيها من المرارة في الطعم على قدر ما في ثمرها من الحلاوة في الطعم لأهل السعادة ، ويقوم في كل مرتبة خطيب من أفضلهم ،
وهو الكامل من هؤلاء ، ومن هؤلاء ، فيخطب بهم ويذكرهم بما يذكره في الخطب بعد هذا : خطيب في السعداء ، وخطيب في الأشقياء ، ويجتمعون حوله ،
فإذا فرغ السعيد من خطبته شكرهم وشكروه ، ودعا لهم ودعوا له ، وإذا فرغ خطيب الأشقياء من خطبته لعنهم ولعنوه ، ودعا عليهم ودعوا عليه ، فيكفر بعضهم ببعض ،
ويلعن بعضهم بعضا ( ومأواهم النار ) وما لهم من ناصرين ،
وذلك يكون في الوقت الذي يكون السعداء ( في الجنة ) بهذه الحالة : تكون من الأشقياء في جهنم بهذه الحالة ، ومنزلهم جهنم خاصة ،
فإن غاية القرب : الكثيب ، وغاية البعد : جهنم .
وأعلن أن للسعداء في كل مرتبة درجات ، وللأشقياء دركات ، فلأهل المنابر : إحدى وعشرون ومئتان وثلاثة آلاف .
ولأهل الأسرة ، ولأهل الكراسي ألفان وسبعمائة وثمانية ، ولأهل المراتب أربعة آلاف ومائة وسبعة وأربعون فاعلم ذلك .
واعلم أنه إذا تميز فريق في الجنة : دار الثواب ، وفريق في السعير : دار العذاب والنقمة : إذن الرحمن لأئمة السعداء أن يقوموا خطباء في أتباعهم ، وأذن الجبار لأئمة الشقاء أن يقوموا خطباء في أشياعهم .
فصل في أهل المنابر
خطيب السعداء : صعد الخليفة منبره وقام بين يديه خدماؤه الكرام البررة ، وقال : « الحمد للّه من غير تقييد بنعت ، كما قيده سادات أهل الوقت :
المقدس التحميد ، ذي العرش المجيد ، الذي تردى برداء الكبرياء والعز ، وأودع معرفته في القصور والعجز - جاعل الملائكة رسلا - ومعرف العقول إليه سبلا ،
نصب المنابر وأقعد عليها ارساله ، وأشهدهم جماله وجلاله ، وأنطقهم بأوضح ما تكلم به أو قاله : تعالى في ذاته عن إدراك المدركين ، وتسامى في قدسه أن تحيط به غايات السالكين ،
حارت الأسرار في مشاهدة عظمته ، وعبدت الظلم أنوار كلمته ، واحتجب بسبحات عزة أحديته في أزلته وأبديته ، نزل في علو وعلا في نزوله ، وفصل في إجماله ، وأجمل في تفصيله ، اصطفاكم أيها الحائرون بالنعمة والرؤية ،
وأوصلكم إلى منازل القرية والبغية ، وأحلكم الجوار الأحمى ، وحمى سلطانه بعز العماء فانعموا بالمعارف الصمدية ، وجولوا في ميادين الحقائق المحمدية ، وامتطوا متون العتاق الدرية ، وأنفسحوا في فسحات التوحيد ، وترأسوا بخصائص المشاهدة على كل موجود ،
فطوبى لكم وحسن مآب وهنيئا لكم بما طوعتموه من لباب معارف الألباب ، غضضهم الأبصار المشاهدة ، لم أزل في دنياكم أرغبكم في هذه المشاهدة للموافقة والمساعدة ، فقرت أعينكم بالمعاينة في المقدسة ، وأشوقكم إلى هذه المناصب المؤسسة ، وأحرضكم على تحصيل المقام المحمدي ، والتجلي الحدى ،
فيقولون : " صدقت جزاك اللّه عنا خير ما جازى مرشد حق ، واقعدك عنده مقعد صدق " .
خطيب الأشقياء
صعد الخليفة الناطق ، منكوس الرأس ، وقام خدماؤه بين يديه : أهل الريب واللبس ، وقال : « الحمد للّه الذي لا أحكم عليه بوصف ، ولا أقيده بنعت ، فاني في موطن وقف أحتجب عن أبصار المعطلين ، وأهل الإصرار والذين أشركوا بين الاريسيين
والذين تملكوا ، فسألهم عن ذلك الرسول الأخفى ، فقالوا : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فأهلكتهم عادتهم ، ولم تنفعهم عبادتهم ، ولم تغن عنهم من اللّه شيئا آلهتهم ،
وتبرأ منهم عند اضطرارهم أئمهم فلم تنبع البراءة أولئك الأئمة ، وضوعف عليهم العذاب خلف حجاب الظلمة ، فكانوا وأتباعهم عن سعادتهم بمعزل ،
وأنزلوا في هذه الدار التي أنتم فيها ماكثون شر منزل ، أيها الحاضرون والجماعة السوء الخاسرون ، هذا مقام الأسف الذي لا ينجي حين لم يساعد الجد ، وهذا مواطن الاعتراف الذي لا
يرد حين لم ينفع الحجد ، أنا شر متبوع ، وأنتم أخسر أشياع ،
أوردتكم المهالك ، وأهلكتكم بساحة مالك ، أخذت بنواصيكم إلى مغاصيكم ، وأنزلتكم إلى الشرك من مغاقل فطركم وصيامكم ، فزورت لكم الأقاويل المزخرفة ، وأوضحت لكم المناهج المتلفة ، ونصبت يصد عقولكم جبائل الجهلة والخدع ، فوقعت فيها شر وقوع لا يرام منه انفكاك ولا يستطاع ،
وقلت لكم : لو كان ثم باله الحمى سبله ، وجعلت عندكم فيمن تخلص منهم ، إنما تخص بغراره وعدم قراره ، أو باتباعه الأزادل وأشياعه الأسافل ، وألحقت المعجزات بالسحر والخيالات ،
وقلت : إنما جعلها كما فعلت أنا لصيد العقول القاصرة حبالات ، فركبت بكم بكم جادة الكفر والاضلالات ، وخضت بكم لجج الغمرات ، وأنزلتكم منازل الحسرات ، ونصصت لكم أن في الأخذ بما دللتكم عليه سبل نجاتكم ، وتحصيل درجاتكم ، وارثقاء عقولكم ، عن حضيض حسها ومعراج أرواحكم عن خسائس نفسها ، وعطفت على بعضكم بأنه مائم إلّا هذا الدولاب للدائر ، وهذه التكوينات عن هذه العناصر ،
ولا يزال هذا الدولاب راجعا وسائرا ، فإنه المعبر عنه بالإله ، وما شاهدنا فاعلا فنيا نثبته سواه وأن التناسخ صحيح ، والقائل بغير هذا يخبط في مهامه للجهالة قبيح ، وكذبت بيوم الدين ، فحرمت شفاعة الشافعين ، وقلت بإحالة حشر الأجساد ، لكون الآخرة ليست بدار كون ولا فساد،
وإن النبوة سياسة حكيمة ، ليس لها أصول أصلية ، وأن الميزان عبارة عن إقامة العدل في ذاتكم ، وأن الصراط عبارة عن آخذكم في تطهير خلقكم وصفاتكم ، وأن الحوض في الحكم عبارة عن العلم ،
وكون آتية عدد النجوم إشارة إلى فنون العلوم ، وجعلتها عندكم رموزا فلسفية وإشارات تمويهية ، ليس وراءها غير ما ذكرناه ، ولا يوجد فيها سوى ما قررناه ، وسخرت بالشريعة ، وبايعت سلطان الطبيعة ، وكذبت الرسل ، وأعميت السبل فيها سوء مذهبي ، وياشؤم من أغتربي ، يا شر منقلبي » .
فيقولون : « لعنك اللّه من مضل ، كذلك فعلت جزاك اللّه عنّا شر ما جازى بالأمان ، به ملحدا ، وجعل لك في أسوء المنازل مقعدا
." وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ."
فصل في أهل الأسرة
خطيب السعداء : استوى الخطيب الناطق على سريره باسميه ، وقام وزراؤه الأدباء بين يديه ، وقال : الحمد للّه الذي استوى على العرش اسمه الرحمن عند استواء الألوهية على عرش الإنسان ، فقال : وما وسعني أرض ولا سماء ، وسعني القلب الموصوف بالإيمان ،
فأقام علم البيان مقام العيان ، حين عجزت عن درك هذا الضرب من العلم حقائق الكيان ، أفاض على الأكوان عامة أنوار رحمانيته ، وحكم فيهم أسماء ربانيته ، ونظم اثنى عشر نقيبا في سلكه ، وأقربهم سائسين في ملكه ، وجعل لكل نقيب أمدا ينتهي إليه حكمه ، وحدا يقف عنده علمه ، وجعلهم على أربعة مذاهب : لايجاد الرسالة والنبوة والإيمان بالمنابر والأسرة والكراسي والمراتب .
فمنهم من وصلت مادته إلى الفلك الأثير واستقرت ، فتكونت المعادن والنبتات والحيوانات النارية فاستمرت ، ومدتهم أربعة وعشرون ألف سنة .
ومنهم ( من ) وصلت مدته إلى فلك الهوى ولبثت ، فتكونت المعادن النباتات والحيوانات الهوائية وثبتت ، مدتهم ثمان عشرة ألف سنة .
ومنهم من بلغت مادته إلى فلك الماء وسكنت ، ومدتهم خمس عشرة ألف سنة .
ومنهم من بلغت مادته إلى الأرض فتكون الإنسان والمعادن ، والنباتات والحيوانات الترابية ، ومدتهم إحدى وعشرون ألف سنة ، وقال ( اللّه ) تعالى وخاطب هؤلاء النقباء ولسادات النجبا الذين اختصهم بالاستوا المعبود ،
والظل الممدود إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فأقاموا صلاتهم ، فضاعف صلاتهم ، وأدوا زكاتهم فقدس ذواتهم ،
وآمنوا بالرسل فأوضح لهم السبل ، وعزروهم فعزروا ، وأقرضوا اللّه قرضا حسنا فوفاهم سرا وعلنا من كونه محسنا ، فلما استوى على سرير ملكه افأثر ، وكان الإمام المكبر ، نظرت العقول في آياته ، وما أودع الرحمن من التكوينات في حركاته ، وأنتم أيها الحاضرون المصطلون الأخيار ، والمقربون المجتبون الأبرار ،
أتذكرون إذ أبنت لكم في الدار الدنيا عن استواء الرحمن :
أنه ليس كاستواء الأكوان ، وأنه لو جلس عليه جلوسا كما يدعيه المشبهة لحده لمقدار ، وقام به لافتكار إلى مخصص مختار ، لا تحيط به الجهات والأقطار ، والافتقار على اللّه محال ، والاستقرار بمعنى الجلوس عليه محال ، ولا سبيل إلى هذا الاعتقاد بحال ، وما بقي لكم فيه سوى أمرين مربوطين بحقيقتين .
الأمر الواحد : أن يصرف لفظ ذا الاستواء إلى الاستيلاء .
والأمر الآخر : أن يؤمن بها كما جاءت ، من غير تشبيه ولا تكييف ، ونصرف العلم بها إليه ، فإنه أسلم بالمؤمنين عند قدومهم عليه ، ولهذا يختم المنزه تأويله بقوله :وَاللَّهُ أَعْلَمُلمعرفته بأن التنزيه قائم بذاته ، ولكن صرف هذه الآية إلى هذا الحكم خاصة لا يلزم ،
وعرفتكم أن أسماء اللّه تعالى لها حقائق ورقائق ، وأن بامتداد تلك الرقائق المعنوية المنزهة الأقدسة ، يظهر فيكم سلطانها ، ويضلكم ويهديكم إغماضها وتبيانها ، وقلت لكم : تحفظوا من مكر اللّه في التأويل واستدراجه ،
وأسألوه لثبوت والإستقامة على منهاجه ، وطهروا قلوبكم بماء التقديس والتنزيه ، من التجسيم والشبيه ، فإنه :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
ويستوي ، وينزل ، ويجيء ، وهو في السماء والأرض كما قاله ، وعلى المعنى الذي أراده من غير تشبيه ولا تكييف ، وهو العليم القدير .
على هذا دللتكم ، وإليه دعوتكم ، فأوصلكم استعمال ذلك إلى ما أنم فيه الآن من النعيم المقيم ، في دار القرار ، واختصكم بلذة الجوار ، فانعموا بخير جار في خير دار « فيقولون » صدقت الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ورضي اللّه عنك رضاء لا سخط بعده ، وجازاك عنا أفضل ما جازى به ناصحا ، وجعلك لكل باب مقفل من التجليات الإلهية فاتحا .
خطيب الأشقياء
استوى الخطيب الناطق على سريره : ذليل النفس ، وقام وزراءه بين يديه في أضيق حبس ، وقال : « الحمد للّه المنزه في علوه ، المقدس في سموه ، الذي لا يحده مكان ولا يحويه زمان ، ولا يقيده آن ، ولا تختلف عليه الحالات ، ولا يتعذر عليه حل الأمور المشكلات ، تنزه عن الحد والمقدار ، واتصف بالإرادة والاختيار ، وتقدس عن الحركة والإنتقال ، وتعالى عن الأشكال والأمثال ،لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌفي ذاته ،
ولا يشبهه مخلوق في صفاته : أيها الحاضرون الخاسرون : سمعا: أنتم الذين ضل سعيكم في الحياة الدنيا وأنتم تحسبون أنكم تحسنون صنعا أنا الذي سلكت بكم مسالك الغي والضلال ، وقررت في نفوسكم كل ما هو على اللّه محال ، وزينت لكم سوء أعمالكم ، وأعميت عليكم ضرر أحوالكم ، فبئس المعلم كنت فيكم ، وبئس ما قبلتموه ،
فبئس الوارد الذي قد وردتموه ، شبهتهم معدبكم سبحانه وتعالى بذواتكم ، وجعلتم كلامه ككلامكم في حروفكم وتقطيع أصواتكم ، تكتبون حروف المصحف بآلات موضوعة وأدوات مصنوعة ، ثم تصنعون تلك الحروف التي صنعتموها بالقدم ، وتدعون أنكم في ذلك على الطريق الأتم وأنكم قد فضلتم بهذا الاعتقاد على سائر الأمم ،
( ثم ) عمدتم إلى خالقكم وعلامكم ، وجعلتم له أجساما كأجسامكم ، وجوارح كجوارحكم ، وصورة كصورتكم ، وتبشبشا كنيشبسكم ، وقدما كقدمكم ، وفرحا كفرحكم ، واستواء كاستوائكم ، وضحكا كضحككم .
وأصل ضلالكم ( في ) هذا كله من أضلالي ، ومن زور قولي لكم ومحالي ، فلعنكم اللّه من أتباع " .
فيقولون : « لعنك اللّه من متبوع غوى ، أورثنا اتباعه عذابا لا يستطاع » .
فصل في أهل الكراسي
خطيب السعداء : قعد الخطيب الناطق على كرسيه الأسنى ، وقام وزراؤه بين يديه على قاب قوسين أو أدنى ،
وقال : « الحمد للّه الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ، ووضع فيه ميزان الرفع والخفض ، ودلى إليه قدم النهي والأمر وصيره طريق روحانيات التدبير في السر والجهر ، رتب لهم فيها المنازل ليحل فيها المنازل .
فأما الروحانيات الآدمية فتنزل منزلة كل ليلة وتستمد في كل منزل من ربها كرامته ونيله ، فإنها سريعة الحركة كثيرة البركة .
وأما أخواتها وإن اجتمعوا معها في سرعة السير - فإنه يبطىء بهم عنها - حكم الدور فإن عتاق أفلاكهم يسري بهم وبحقاق أملاكهم .
أيها الحاضرون السعداء هل تسمعون ؟
أتذكرون حين رويتكم نزول الحق في الليل إلى السماء الدنيا من أجل الخلق ، وينصب له في كل سماء كرسي يقعد عليه ، والملائكة بين يديه ، فنفيت التشبيه ، وقلت إن صح هذا الخبر فقد عرف المراد ، والباري على وصفه من التنزيه ،
فإن النبي ( عليه الصلاة والسلام ) قال : « كان اللّه ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان » ، فنزهه عن المكان بوجود الأكوان ، لكن الرسول ( عليه الصلاة والسلام ) أمر أن يخاطب الناس على قدر عقولهم ، ويبين لهم على ( قدر ) طاقة تحصيلهم ، وقد قيل إيمان السوداء في أشارتها إلى السماء مع علمنا أن اللّه في عماء عن إدراك العلماء .
ثم أثبت لكم أن الرب هو النازل ، ومعلوم أن الثابت غير الزائل فهذا حظ السر بالعلم من نزول هذا الاسم .
فقضى الحاجات ، وقبل السعايات ، وتاب على التائبين ، وغفر للمستغفرين ، وأعطى للسائلين وأجاب الداعين ، وشملت رحمته المتهجدين والنائمين ، فأنزل من كرسيه كلمتيه ، وأرسلهما على قبضتيه ، فتميزت بالأخذ والترك ، وانفصلت بالتوحيد والشرك ، فأنقلب أهل الشرك والترك إلى دركاتهم ، وانقلب أهل التوحيد والأخذ إلى درجاتهم ، وهم أنتم ، طاب مسكنكم ونعمتم ، فأعطى الكرسي بالقوة حقيقته ، وأبرم في العالم رقيقته .
يا أيها الحاضرون : ألم أكن فيكم نعم الداعي والحافظ ؟ .
فيقولون : صدقت : « الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن - ( ورضي اللّه عنك ، فلقد كنت نعم الواعظ ، جازاك اللّه عنا أفضل ما جازى به داعيا ، وجعل لك في كل مقام من مقامات الجمع المقدس ناديا » .
خطيب الأشقيا : « قعد الخطيب الناطق على كرسيه في النار ، وقام بين يديه وزراؤه الفجار ، وقال : « الحمد للّه الذي خلق اللوح والقلم ، وفيه ما هو كائن إلى يوم القيامة مما علم ، وجعل الكرسي موضع قدم ( القدم المنزه وجوده أن يكون مسبوقا بعدم ،
فحقت الكلمات في اللوح علينا أهل الخسران ، وعلى أهل الريحان والروح ، إذ جعلنا كرسيه علمه لا غير ، وكذبنا نبيه فناط بنا الضير ، واخرمنا الخير ، دللتكم أيها الحاضرون الضالون المكذبون ، على ما فيه شقاؤكم ، وحرضتكم على ما تسلط به عليكم بلاؤكم ،
وخاطبت كل طائفة منكم على قدر نقصان علمها ، وقهرها تحت سلطان علمها ، فمن غلبت منكم روحانيته على ( حسية ) جسمانيته ، جعلت له هذه العبارات الحسية إلى أمور معنوية ، وكل من ألحقها بالمحسوس فنظره معكوس ، وحشره منكوس .
وقلت في قوله تعالى :
يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أنه أراد الرجال ، وقلت في ذلك ( انه ) محال ، واعطاؤه لسليمان تسخير الرياح إنما أراد به الأرواح ، وكون مريم حين تمثل الروح بشرا إليها أن حيالكم حكم عليها ، وكذبت بالملك والشيطان والمس ،
وقلت : أن هذه كلها من المخاطبات التمويهية لإيقاع اللبس ، وأن ذلك عبارة عن أخلاط فاسدة ، تحدث عن أغذية رديئة ، وأن الملائكة قوى في النفس روحانية ، وخواطر نفسانية ، وأنه ما في الأفلاك سوى نجومها ، وأن الملائكة عبارة عن قوى سلطان علومها ، وأمثال هذا الهذيان ، الذي لا يقوم عليه برهان .
وأما من غلبت منكم جسمانيته على روحانيته ، فخاطبته على ما علمت من قصور فهمه ، وعدم علمه ، وقلت له : إذا لم يكن كلام ربك بحرف وصوت ، فماذا تسمع ، وأنزلت له الصفات المقدسة المعنوية على مثال ما يصححه أول عقله ، فقبل ولم يدفع ، فلحق بأمثل التشبيه والتجسيم ، ووصف القديم بصفات الحدوث ، فالحق بالجحيم ، فلعنكم اللّه : لقصور أفهامكم وعدم نظركم في معاني منقولكم " .
فيقولون : « صدقت » لعنك اللّه من مفسد مضل ، وألبسك ثياب الهون والذل " .
فصل في أهل المراتب
خطيب السعداء : ظهر الخطيب الناطق في مرتبته ، وقام وزراؤه بين يديه قائلين بحرمته ، وقال : « الحمد للّه رب العالمين ، ونعمت العاقبة للمتقين ، هذا الحمد هو آخر دعواكم معاشر السعداء ، ويرجع الأمر على الابتداء ، وهكذا تكون الدرجات في الجنان ، والأحوال على ترتيب ما كان عليه الإنسان ، فالحمد للّه بملء الميزان ، وهي آخر موضوع ، ولا إله إلّا اللّه تثبت الإيمان ،
وهي أول مسموع وأنعموا ( رضي اللّه عنكم ) بين طرفين شريفين ، وحقيقتين عظيمتين ، توحيد وثناء ، فسنا وسناء ، فالتوحيد للسنا ، والسنا : للثناء فقد جمع لكم بين الرفعة والضياء ، فالحمد الذي أعلمتكم بهذه الأمور ، ونهجت لكم مناهج الأمور ».
فيقولون : " صدقت : الحمد للّه رب العالمين ( رضي اللّه عنك ) جازاك اللّه عنا أحسن ما جازى به الداع ، ومنحك لذة الاستماع في السماع عند الإيقاع " .
خطيب الأشقياء :
قعد الخطيب الناطق على مرتبته من الغضى وقام وزراؤه بين يديه في لظى ، وقال : « الحمد للّه ، ولا أدري كيف ؟ لأني في موطن العطب والخوف ، لم أذل في ربقة التقليد مغلولا ، وبقيد الشرك مقيدا مكبولا ،
( لا أدري ) أما المعبود فيكون مني الإقرار والجحود ، فلما قبلتم يدي لعنكم اللّه وعظتموني ، وجعلتموني إماما وقدمتموني ، فرحت نفسي الخسيسة بتلك الرئاسة المحوشة ، ولم تأخذوا في تعظيم حالي إلّا رغبة في جاهي وطمعا في مالي ،
ولم يكن عندي علم ألقيه إليكم ، ولا معرفة أسردها عليكم ، ومنعني الكبر أن أسأل العلماء العمال ، ورأيت العلماء السوء منكم يخدون بابي ، ويلازمون ركابي ، رغبة فيما عندي من الأموال ، فأن قلت قولا باطلا صححوه ، وإن زورت كذبا حققوه وشرحوه ، وقالوا : هذا هو الحق الذي لا يرد ، والعلم الأقدس الذي لا يحد ،
لقد أعطيت أيها السيد من الذكاء والفطنة وجودة القريحة ما لم يعطه أحد ، فاغتر الجاهلون بهم على ذلك ، فجروا على مذهبهم ، فأوردهم المهالك ، فغالطتني نفسي واحتجبت عن صرف عقلي برئاسة حسي ، فصرت أخترع الأكاذب ، وأشرع المذاهب ، وفتحت بيوت الأموال ، وملكت بها العلماء السفال ، وتبعتموني على كل باطل ،
فكنتم قوما بورا ، فوتدعوا اليوم ثبورا واحدا وأدع ثبورا كثيرا ، تخيلتم أن ربوبيتي دائمة ، ومملكتي لا تزال قائمة ، واغتررتم بوعدي ، فأجهدتم نفوسكم في شكري وحمدي ، فاليوم أقول لكم ما قال الشيطان الرجيم ، حين قضى الأمر في سواء الجحيم :" إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ " زادكم اللّه إلى عذابكم عذابا ، وفتح لكم إلى كل شر بابا " .
فيقولون : " صدقت وأنت الكذوب ، لعنك اللّه وأخزاك ، وأهانك وأرداك ، جازاك اللّه عنا أسوأ ما جازى به مفسدا ملحدا ، وجعل لك في كل منهل من السوء موردا "
فلما عاينت هذه المشاهدة المتقابلة وعرفت سبب ضحك الأب في المنازل العالية ، وبكائه في المنازل السافلة ، قلت له يا أبت أريد أن تخبرني بما علمت ، من الأسماء ، وهل كانت لكم خلافة في السماء ،
فقال : يا بني من القدم الواحدة مخصوصة بالسماء ، والخلافة ذات قدمين ، فلا يصح فيها وجود الخلفاء .
وأما ما سألت عنه من معالم الأسماء ، فإن اللّه عرض الحقائق قبل تأليفها ، وعرفني بأسمائها وأسماء ما يتألف منها ، وأعلمني بكيفية تركيبها وتصريفها ،
ثم عرض على الملائكة تلك الحقائق ، وأخفى عنهم ما أشهدني من الرقائق ، لما تقدم منهم في حتى من التجريح ،
كما رأيته في النبأ الصحيح فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وأشار إليهم ، لكونهم حاضرين ، ولو أراد الأسماء خاصة ، لقال « عرضها » وفي قوله - عرضهم محجة واضحة يعرفها من فرضها ،
فعرفت الملائكة أسماء الحقائق في حال افتراقها ، حين اختصصت أنا بمعرفة أسماء تركيبات حقائقها ، فقالوا : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال اللّه جلّ ثناؤه : يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فألفت الحقائق بطريقة ما ،
وقلت : هذا فرس وألقنها بطريق آخر ، وقلت : هذا إنسان ، فأنبأتهم بأسمائهم ، فظهرت حجة اللّه على خلقه ، وقام لهم برهان حقه .
فمثل هذه الأسماء اختصصت وهي التي على الملائكة نصصت ، وإلّا فليست في الأسماء عند وجود الأعيان معرفة غامضة عند الأرواح ،
لأنها علي مجرد الإصلاح ، ولهذا اختلفت عوالم العبارات عنها عند شهودها ، ولم تختلف المعاني التي بها قوام وجودها ، ولهذا قالت الأعراب : هذا فرس وهو جواد ، وهو طرف ،
وقالت الإفرنج فيه « كفالة » وقالت الروم فيه « ألوغ وقالت الترك فيها آآت وقالت الأرمن فيه : سي ، وقالت العجم فيه : أسب ، فالنفس تعقل معانيها وان اختلفت أساميها في مبانيها ، فقلت له هذه الأسماء الكيانية فهل اختصصت أيضا بالأسماء الإلهية ؟
فقال : عليها فطرت الصورة الإنسانية ، انظرها فهي في مصرمك ، وتحققها فهي معرفتك بمعرفتك تفاضلت أشخاص هذا الجنس ، وبمشاهدتها تقدس العقل وزكت النفس .
فقالت له : كذلك وجدتها ، ولهذا عبدتها وما عبدتها
ثم قلت : يا أبت أنت جامع القبضتين ، وصاحب الحكمتين ، وحامل الصورتين ، فأخبرني عن السر الذي يرد المعادن إلى معدنين ، وأوقفني على الكنزين الأحمرين والأبيضين ، وعن سر كل وصفين ، كالجلال والجمال ، والانفصال والاتصال ، والتركيب والتحليل ، والتجميل والتفصيل ، والغذاء والبقاء ، والثبات والمحو ، والسكر والصحو ، الرب والعبد ، والحر والبرد وما أشبه ذلك ، فأما أن يخبرني بحقيقة تجمع لي هذه المعاني ، وأما بتفصيل هذه المباني .
فقال : أما التفصيل فيطول ، وايضاح الحقيقة الجامعة أولى بالوقت ،
فأقول : إن الأشياء المنفعلة إنما تنبعث من فاعلها على حقيقة وجوده في الأعيان ، ولهذا « لم يبق أبدع من هذا العالم في الإمكان » وأبين ما يكون ذلك في الإنسان إذ له أجود المطلق ، والفيض المحقق ، فإن تفطنت فقد أبنت لك عن درج التحقيق ، وألقيتك على الطريق ، فادرج عليه ، حتى تعاين أسرار التفصيل لديه .
وأما بحثك عن الكنزين ، والأمر الذي يرد المعادن إلى معدنين ،
فاعلم أن هذا الأمر على مرتبتين :
المرتبة الواحدة : في الشاهد ، تسمى خرق العوائد ، وهي تصريف المحسوس على حكم همم النفوس مختصة بأرباب الهمم ومعادن الحكم ، فقوتهم تسري في الأرواح ، تقلب صفات أعيان الأشباح ، فهذه صناعة علمية ، وصورة حكمية ، آلاتها روحانية ، وموادها سماوية ، أكسيرها مقرون بسعادة الأبد ،
وفعله : مشاهدة الأحد ، يتصرف في العقلاء تصرف الأفعال بالأسماء .
وأما المرتبة الأخرى : فهي صناعة علمية ، موقوفة علي عناية أزلية ، تورث الجنان ومجاورة الرحمان . ولهذا قال في الكتاب المبين نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ - وفيه - وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فمن أراد أن يقف عليها ، ويتصل إليها ، فإنها الكنز الذي لا يهد جداره ، والزند الذي لا يظهر أواره ،
هي حكمة لا يودعها اللّه إلّا الأمناء من عباده ، والمتألهين بحضرة أشهاده ، فإذا أراد الشيخ أن يظهر في المريد ربوبيته : يخفي عنه سببيته ويضرب له ميقاته ،
ثم يحجب عنه أوقاته ، ويأمره بالقصد إلى خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار ، والحر والبرد فيه على السواء واعمد فيه إلى الجبل الشاهق في السماء ، فستجده جبلا على الذرى صعب المرتقى ،
فيه أنواع من الحيوان ، وكهوف وغيران ، يغمره بيض وسودان ، جردته أكثر من خضرته ، يخترقه الرياح ، ويغمره النارية والنور من الأرواح ، لهم سلطان عظيم ، يسكن في قننه ، وزرعته وحافون بقبته له أجناد امراء ، وحكام وحكماء ، فقام لنفسي الملك خاطر السعادة ، والتوجه إلى طريق المستفادة ، بخرق العادة ،
والبحث عن الأمر الذي به دوام الملك بيده إلى أبد ، فاستعمل الفكر المحرق لما قام به من الشوق المقلق ، فأنتج له : أن هذا الأمر موقوف على معركة الحكمة ، وأنها موضوعة بين النور والظلمة ، موقوفة على المعدن والنبات ،
محكوم عليها بعدد شهود الزناة ، ولكن قصر به الفكر عن تعيين ذاته ، وعن الإدراك بجميع صفاته ،
فقال له بعض حكمائه ، وأخص علمائه :
أيها الملك : مطلبك في قدرتي ، وحاجتك بحيث قوتي ، ولكن قد لا تعرف قدرها ، فيحرمك اللّه خيرها ، فأنا أنبهك أولا على كيفية إيجادها وحسن اسعادها ، فإنها من اللّه بمكان ، وكأنها مشاركة للقدرة في وجود الأعيان ، فهي حكمة علوية ، مدرجة في صناعة علمية .
لتعلم أيها الملك أن اللّه هو الحكيم الخبير ، وأنه على كل شيء قدير ، وأنه قبل كل شيء ، وأنه أوجد الأشياء : لا من شيء ، لكن مع اتصافه بهذه القدرة المحققة ، النافذة المطلقة ، لم توجد هذه المعادن ابتداء ،
حتى خلق الأفلاك العلوية ، والروحانيات السماوية ، واللمحات الأفقية ، وأودع كل فلك روحانية كوكبية تحتوي على خاصية بها ، وعند وجودها خلق الأرض والماء والهواء الأثير ، ثم أوجد فيها منها دائرة الزمهرير
ثم أجرى الشمس والقمر والنجوم : مسخرات بأمره ، وخص كل متكون عن هذه الأجزاء بسر من مكنون سره ، فظهرت المعادن في أعيانها ، وتخلصت بكرور زمانها فإذا كان اللّه تعالى - مع قدرته ونفوذ إرادته وقوة علمه - لم يوجد شيئا من هذه المعادن إلّا بعد خلق هذه الأدوات ، وأجزاء هذه المسخرات ،
فكيف تطمع أنت أيها الملك أن تكون فعّالا لهذه الحكمة ، مع عدم هذه الأدوات ، وتحصيل هذه الآلات ، فإن قدرتك قاصرة ، وصفقتك - أن لم تحصل هذه الأدوات - خاسرة ، وما فعل اللّه شيئا من هذه الأدوات ،
وقدم هذه ( المقدمات ) : - الآلات ، مع غناء عنها - إلّا لحكم علمها من علمها ، وجهلها من جهلها .
قال الملك : فكيف السبيل إلى تحصيل هذه الأدوات ، وتركيب هذه المقدمات .
فقال الحكيم : أيها الملك ، ألست ساكنا تحت خط الاستواء ، وأنك من أهل السواء .
فقال الملك : نعم .
فقال الحكيم : من أراد أن يعرف أصل نشأة العالم ، وترتيب هيئته : من خط الاستواء يعرفه .
فقال الملك : فكيف أصنع ، فاني لا أجد في نفسي قوة تصور هذه الأسباب والمقدمات ، وإيجاد هذه التأليفات والمركبات .
فقال الحكيم : إن اللّه سبحانه وتعالى قد منحني القوة على بناء ما يماثلها ، وإقامة ما يشاكلها ، ووهبني أسرار كيفياتها ، وكميات حركاتها ، ولي أصحاب من الحكماء من أهل الفطنة والذكاء ، أشد بهم أزري ، أحكم بمشاورتهم ورأيهم أمري ، ليقضي المولى ، وتقوم له هذه الروحانيات العلى .
فسر الملك بما قاله الحكيم ، وزال عنه ما كان أحاط به من الهموم ، وقام الحكيم فاخترق مخاريق هذا الجبل العظيم ، ينظر فيه : أين نقطة دائرة المركز الذي تقوم عليه النشأة ، ويترتب عليه نظام الهيئة ، فرأى الرياح والبخارات التي تنحل من مسام ذلك الجبل تصير كالدائرة تتحرك في موضعها ، ولا تتعدى إلى غير مهيعها ،
فأعمل الحيلة حتى روحن ذاته ، فالتحق بالاطيار وسوى جناحيه وطار ، واخترق معظم تلك الرياح : محلقا في جوها ، ينزل بنزولها ، ويسمو بسموها ، إلى أن انتهى إلى موضع لا يتعدى النازل فيه على الصاعد ، ولا الصاعد على النازل .
فقال الحكيم : اللّه أكبر ، قام الملك وظهر ، فإذا بذلك المركز المعقول أرضا ذات أشجار وبقول ، وأدار عليها الماء فدار ، وأدار عليه الهواء فصفق النسر بجناحيه فيه وطار ، وأدارته دائرة الزمهرير ، وحلق به الفلك الأثير ،
فلما أكمل هذه الأركان لإنشاء ما يريد من المعادن والنبات والحيوان ، لم ينفعل عنها ما أراد ، لأنها أشباح بلا أرواح ، وإناث بلا ذكور ، فاحتاج إلى إقامة النجوم الثابتة والبروج الحاكمة ، والكواكب السّيارة ، وحركات أفلاكها ، وفتح مسالك أملاكها ،
وأقامها فكانت الآباء العلويات وهذه الأمهات السفليات ، فتناكحا بالحقائق الروحانيات ، والدقائق السماويات ، فتولد منهما بنات الحكم المعونيات والنباتيات والحيوانيات ، ولم تبلغ قوة هذا الحكيم ( فوق ) هذا الحد ،
ولكنه وفي بالمقصد ، فلما أستوت هذه البنية على حسب ما أعطته الرؤية وحسن النية ، وجرت الأفلاك ، وأعطت قواها الروحانيات ، وظهرت التكوينات والانفعالات ، وأشرف الملك الكريم على ما فعله الحكيم ،
وعاين تعيين الحكمة في هذا الأجر وأن عرف أن الأمر لا يقوم إلّا بوجود الأرض والسماء ، وأعجبه ما رأى من حسن الرأي ، فأدركه الطيش والتوله ، فخاف عليه الحكيم التأله ، فأعمل الحيلة والنظر ، حتى لاح له ما أراد وظهر ،
وشرع في إنشاء بستان ذي أفنان ، فيه من كل وليد وقهرمان ، ومن الجواري الحسان ، والنخيل والأعناب والرمان ، ضروب وألوان ، تنساب فيه الجداول انسياب الثعابين بين تلك الأزهار والبساتين ،
وابتنى فيها قصورا من الذهب والفضة البيضاء ، وأسكنها من كل جارية غضاء وفرشها بالحرير من السندس والإستبرق والعبقري المرتق ، وجعل حصباءها الياقوت والمرجان ، والزمرد والجوهر ، وترابها فتيت المسك وآكامها العنبر ،
ثم شرع في إنشاء دار أخرى ذات لهب وسعير ، وبرد وزمهرير وسعير ، وقيود وأغلال ، وسرابيل من القطران ، وأفاعي كأنها البخت ، وأساود عظيمة الشخت وعقارب مكونة من السحت ، وبيوت مظلمة ومسالك ضيقة ، وكروب وغموم ، ومصائب وهموم .
ثم أشرف الملك على الدارين ، وقال : انظر ما بين المنزلتين ، فراعه ما رآه ، وسأله : ما السبب الذي دعاه ؟ .
فقال الحكيم : جعلت لك هذا الدار : دار الرضا تنعم بها من أطاعك ووالاك ، وجعلت لك هذه الأخرى : دار الغضب ، تعذب بها من عصاك وعاداك .
وأعلم أن اللّه تعالى ما أسكنك في هذه الدار إلّا ليجعلها دار اعتبار ، فتتفكر وتعتبر ، وتذكر وتزدجر ، وتعظم من سواك فعدلك ، وصورك فجملك ، وولاك وملكك ، وعلمك وحنكك ، فإن كنت مطيعا لربك ، عادلا في رعيتك فستصير إلى النعيم عند اللّه ، كما تصير أنت من أطاعك إلى هذا النعيم .
وإن كنت عاصيا جائرا في حكمك ، ظالما ، فستصير إلى ضيق وعذاب جحيم ، كما تصير أنت من عصاك وناوأك إلى عذاب أليم ، فخف ربك وذنبك ، وأصلح مع اللّه قلبك ، وأنذر قومك ، وطهر ثوبك ، ولا يحجبنك سلطان عادتك عن تحصيل أسباب سعادتك ، فإن الدنيا لمحة بارق ، وخيال طارق ، كم من ملك مثلك ملكها ، ثم رحل عنها وتركها ، ولا بد لك من الرحلة ( عنها إلى ) الآخرة فأما أن تعمر درجها ، وإما أن تعمر دركها .
واعلم أن اللّه تعالى ما جعلك ملكا على خلقه ، وأقامك بين الباطل والحق في مقام حقه ، لقصور قدرته عن إصلاح الخلق وتدبيره ، وتصريفه في أظهار الملك وتسخيره ،
وإنما ضرب لك بك مثالا في عالم الفناء ، لتستدل به على ترتيب الملك الإلهي في دار البقاء ،
ولهذا جعل هذه الدنيا ظلا زائلا ، وغصنا مائلا ، وجعلك عنها راحلا ، فهي جسر منصوب على بحر الهلاك ، وميدان موضوع لمصارع الهلاك ، كم أبادت من القرون الماضية والأمم الخالية ، والجبابرة المتألهين الطاغين . والحكماء والفضلاء . والأدباء والعقلاء .
والأنبياء والأولياء ، فهل ترى لهم من باقية ؟ .
وأنت أيها الملك على قارعة مذهبهم ، وعن قريب تلحق بهم ، فأما إلى نعيم في دار الخلد بجوار الصمد ، وأما إلى عذاب الأبد ، فاجهد في تحصيل أدوات النجاة والبقاء ، فإن الدنيا متاع ، والآخرة خير لمن اتقى ، والعارية مردودة ، وأعمالك بين يديك موجودة غير مفقودة ، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، ولا علانية ولا سريرة .
وهذا الذي تعين على من نصيحتكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ .
فالسعادة كل السعادة في المحافظة على الأمور الشرعية ، والقيام بالحدود الوضعية » .
فقال الملك : جزاك اللّه خيرا ، لقد وعظت فأبلغت ، ( وقذفت بالحق على الباطل فأدمغت ) .
فأقبل الملك معتبرا على تلك الانفعالات الدورية ، والأحكام الكورية ، ولاحت لعينه نشأة الحكمة التي أرقته وشوقته ، فأقلقته ، فاغتر بها سلطانه ، وتقوت بوجودها أركانه ، فإن دخلت في هذا الجبل وشرح لك الملك استقصاء مسالكه ، مع من يعرفه من ممالكه ، فستقف على تكونها ، وقوة تمكنها بعد تلونها .
وفي هذا الجبل العزيز يتكون الحجر المرموز ، وليس بكامل في ذاته ، ولا متمم في صفاته ، فأدر سماواتك واستنزل روحانيتك ، عسى تنجلي عنك غمامها ، ويبدو لك بدر تمامها ، وكذلك أن لقيت روحانية متجسدة ، ذات همة متعبدة ، فستبين لك عينه ، وتريك أينه ، وتجود عليك بتمام تدبيره ! وتعرفك بكيفية تسخيره .
( فإن التدبير بالأثقال ) لا يزال في سفال ، فإن الحقائق الروحانية ، والرقائق السماوية تتأذى مما تتأذى منه الإنسانية ، فالحذر الحذر من صفقة الغرر ،
واطلب الشيء من معدنه ، ودبره في موطنه ، فإنه من تولد من الحقائق الطيبة) الممزوجة بالأثقال لا بد أن أراد أن يكمل ذاته من مباشرة الأذيال فإنه عنها تكون ، وبها تحقق وجوده وتعين ، ولا يغرنك التحاق الأسافل بالأعالي ، وإلتحام الأباعد بالأداني ،
فإن للمعادن مواطنا ، ولكل ساكن مسكنا ، فمن حال بينها وبين معدنها ، ودبرها لغير موطنها سقط في يديه ، وحار وباله عليه ، وكانت صفقته خاسرة ، وتجارته بائرة ،
فإن كنت إلى تدبير هذه الصنعة وايجاد هذه الحكمة بالأشواق ، فانزل عن هذه الأطباق ، وسل عن الجبل المعروف ، فستجد مطلبك في الحروف .
فنزلت في طلب ما عنه سألت ، فوفق لي روحانية متجسدة ، في محرابها متعبدة ، تقطع الليل ساجدة وقائمة ، ولباب ربها لازمة ، فلما سلمت من صلاتها ، وفرغت من دعواتها ، كوشفت بغرضي ، فأخذت في إزالة مرضي ،
وقالت أنا على علم : ما سلب العقول فقدانه ، وعسير على أهل الطلب والذكاء وجدانه ، وعشقهم في هذا الأمر حيرهم فيه ، فصرفهم عنه وأعماهم ، فلو صحوا وآثروا الزهد فيه ، لحصل لهم ( لوقوفهم على ما هم فيه ) وما هم ؟
وأنا أريد أن أودعك إيّاه ، وأنزهك في محياه ، وأعرفك : لمعناه ، وأتحفك بسر معناه ، وأفرق لك بين حكمته ( في مماته ، وبين حكمته في محياه ) فانتهض معي بلا حول ولا قوة إلّا باللّه ، فرحل إلى خط الاستواء فإذا بالجبل المذكور يعانق عنان السماء ، فنزل إليه شخص من سراة الأرواح ،
في نسيم الأرواح : لطيف الإشارة ، فصيح العبارة فقال : مرحبا وأهلا ، وسعة وسهلا ، فقال الشيخ : هذا الغلام قد أنزلته عليك ،
وسلمته إليك : له همة في طلب الحكمة ، وتشوف إلى معدن الرحمة ، فسلمني إليه ، ووقف وقبلني الآخر ولم يتوقف ، وسرت معه وانصرف إلى أن أدخلنا على الملك ، فقبلت يمين بساطه .
وأنبسط ، فسررت بانبساطه ، وعرف مقصدي فأخذ فيه بيدي ، وأشار إلي بعض وزعته ، وقال : سر به في ملكي ، ثم مكنه من حاجتي ، فأخذني المملوك ، وكان من أحسن المماليك ، فاخترق بي جميع المسالك ، فرأيت ملكا عظيما ، وسلطانا جسيما ، بديع الترتيب والنظم ، رفيع الكيف موزون الكم ، ما من مسلك فيه إلّا عليه السلام
حافظ ، ولا مجلس إلّا وفيه واعظ ، فمما رأيت فيه : نهرا عظيما يجري منه وينتهي فيه ، ينبعث من صهريج محكم البناء ، يخرج منه ترع لمزارعهم وجداول لسقي أشجارهم وبساتينهم ،
فإذا كثرت الأمطار عليهم ، وترادفت السيول ، وعظمت الترع والجداول ، وسالت الجعافر والمذانب خافوا على أنفسهم الدمار ، لترادف تلك السيول ، وتوالي الأمطار ، ولهذه الأنهار أسداد مدبرة محكمة ، لا يقوى كل أحد على فتحها ، إلّا العالمون بذلك .
وإلى جانب ذلك الجبل قرية فيها عالم حكيم صنع اسمه مالك قد ورث فتح تلك الأسداد عن الآباء والأجداد ، فيفتح منها بصنعة معلومة ما يخاف منه ، فينتشر على الأرض ، فيغيض الماء ، وتقلع السماء ، فتصلح الأحوال بوجود الاعتدال فإن النقص والتطفيف سبب البوار ودليل الدمار
فأخبرني الصاحب أن ذلك الماء لما أخرجه الحكيم في ذلك الجبل ، وأجراه وأقام مجراه سواه كالأصاد ، وأوقف منفعته على الاقتصاد ، وضرب لابتداء جريته ميقاتا ، وربط لايجاد أقوات ما يعطيه أوقاتا ، فمن عرف ما أودع في تدبيره الحكيم من العلوم ، دبر منه حكمته بصنعة تقويمية ينظر إليها روحانيات النجوم .
ومما رأيت في ذلك الجبل : صهريجا معلقا في الهواء عليه قبة عظيمة محكمة البناء ، يسقط من تلك القبة حجارة رخوة ، بصنعة هندسية روحانية ، في ذلك الصهريج ، وفيه سرب منته إلى صهريج آخر معلق في الهواء ، ترسب تلك الأحجار فيه ،
فتنتقل ، وعندهم نهر يسمى : النهر الغريب ، يجري في أوقات مدبرة في سرب ، حتى ينتهي إلى ذلك الصهريج ، فإذا امتلأ طفت الحجارة على وجه الماء ، وذلك الصهريج مصنوع من الكبريت ، فيعود ذلك الماء حميما ، فتطبخ تلك الأحجار ، فتكون منها الحكمة ، وهي التي تسمى الكيمياء ، وما نزل عن روحانيتها صار ثفلا وماء ، فلا تزال هكذا أبدا .
ورأيت في ذلك الجبل : مرجلا ، على صورة الإنسان ، له سربان : كبير وصغير ، يسمى البرقان تخرج منه نار محرقة ، وقد وكل الحكيم به شخصا مدبرا مجوفا شبه الروبان يلقف منه حرارة ذلك النار ،
وله سرداب له فتح إلى الهواء فتخرج تلك الحرارة على باب ذلك السرداب ، ولولا ذلك لانهد
ذلك الجبل ، واحترق كل من فيه من ساكنيه .
ولقد أخبرني تجار أهل البحر بهذه النيران في جزيرة صقلية وأن جبلا عظيما خارجا في البحر ، قد عانق العنان ، يقال له البركان ، تخرج منه نار عظيمة تفور كما يفور المرجل على النار ، وترمي بأحجار رخوة على وجه البحر ، وهي الأحجار التي تستعمل لاخراج الوسخ من الأقدام في الحمامات وغيرها .
وكذلك هذا الموضع الذي ذكرته في هذا الجبل .
ثم نهض بي إلى قصر الملك ، فرأيت قريبا منه بيتا عظيما من الورد الأحمر ، ورأيت فيه سردابين عظيمين ، قد أودع فيه الحكيم طلسمين : الطلسم الواحد يعطي هبوب الرياح الزعازع ، والطلسم الآخر يعطي نسيم الحياة ، وله حكم في الغارب والطالع ، وفي ذلك البيت عشر جماعات ، قد رتبهم الحكيم لأعمال بعض الصناعات ، وقد قام فيهم شخيص عريض ، لين الشمائل ، معتدل ( القد ) أريض يدعى تاج الأقاويل ومعتمد الأقاويل له قدم في اختراق الهواء ، وباع متسع في علوم الأرض والسماء ، يحمل من عالم الغيب والشهادة ما ترونه في مستقر العادة ،
ويختص بسر ذلك العلم المحققون من أهل الإرادة ، فغمزني صاحبي وقال أنظر إلى أوسط جماعة وتحققهم ، فإنهم مطلوب أرباب الصناعة ، فمن حصل واحدا فقد استغنى ،
وحصل على المعنى وتهنى ولم يتعنى ، وطوبى لمن أخرجهم من أماكنهم ، وغربهم من مواطنهم ، وشاهدت في ذلك الجبل من العجائب والأرواح المسخرة ، والسيميا الصحيحة ، والانفعالات التامة الكاملة ، والانبعاثات المحققة الشاملة الفاعلة ما تضيق به هذه العجالة عن شرح أمره وإيداع سره ،
فلما طالعت هذه الأعلام المنصوبة ، وعاينت الغاية المطلوبة ، وأخذت في الإسراء والرجوع إلى سماء معلم الأسماء ،
فقلت للوالد ، أريد أن أعرف ما للإنسان الواحد من التصرف في أهل الإرادة السالكين طريق السعادة ، فقال : شأنك وإيّاه ، ولا تغفل طرفة عين عن اللّه ، فناديته يا هلال ، يا قمر ، يا بدر : فما أجاب ، وقال : خسر من دعاني هنا بهذه الأسماء ، فناديته يا سلطان الأنوار والظلم ، فضحك وقال : لا أجيب لمن ناداني في سمائي بغير أخص أسمائي ، وأما من ناداني بغير أسمائي ، فكل اسم يناديني به فهو من جملة أسمائي .
فقلت : أريد أن تخبرني بمالك من التصرفات في أهل الأحوال والمقامات ، وما تعطيهم من التنزلات والتجليات والكرامات ؟
فقال : إن اللّه قدر لي المنازل في الأعالي والأسافل ، فلي في كل يوم منزلة ، وأحوالنا في هذه المنازل مختلفة ، فإذا نزلت بالنطح ، والبطين ، والجبهة ، والخرثاء ، والصرفة ، والنعائم ، والبلدة : أعطيت من الأعمال المجاهدات ، ومن النزلات الإشارات ، ومن التجليات الإصطلاميات ، ومن الكرامات المشي على البحور الزاخرات ، وإذا نزلت بالثريا ، والدبران ، والهقعة ، والعوا ، والسماك ، والذابح ، وبلع :
أعطيت من الأعمال الرياضيات والحلقيات ، ومن التنزلات : برد الأنامل الحاملات لجميع العلوم الكائنات ، ومن التجليات ما يختص بالنزول في السماوات ، ومن الكرامات قطع ما بعد من المسافات بيسير الخطواف ، وإذا نزلت بالهنعة ، والذراع ، والغفر والزبانا ، والسعود ، والأخبية ، والمقدم : أعطيت ما تكثر فيه الحركات ! ويسرع فيه تغير الحالات ، ومن التنزلات ما تحمله المعصرات ، ومن التجليات ما يظهر في المواطن البرزخيات ،
ومن الكرامات اختراق الهواء كالطير والذاريات ، وإذا نزلت بالنثرة ، والطرق ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والمؤخر ،
والرشا : أعطيت من الأعمال الوصال في الهاجرات ، ومن التنزلات ما يختص بسريان الحياة في الحيوانات ، ومن التجليات ما يأتي على أيدي المرسلات ، ومن الكرامات إحياء الموات .
فهذا يا أخا الأجلال ذكر حالتي معكم على طريق الإجمال .
وأقمت في هذه السماء ، في تحصيل هذه الأنباء ، يومين : كل يوم منهما على قدر أربعة عشر يوما من أيام الدنيا .
جعلنا اللّه وإياكم ممّن عقل معناه ، وأكرم مثواه ، وبر أباه وحفظه وتولاه ، وقدس في كل موطن معناه ، وأبين له طريق هداه ، ونزه في كل وجهة محياه ، وأكرمه مولاه ، في مماته ومحياه ، وحياه عند اللقاء الأنزه بالتحتيات الطيبات المباركات ، ويياه .
فالفائز - واللّه - من زكى روحه ، والخائب من دساه .
الباب الثامن والأربعون في اختصاص العشاء بيوم الثلاثاء ، ومن هو الامام فيه ، وما يظهر فيه من الانفعالات
سلام على يوم الثلاثاء أنه * له همة خصت بعشق محمد
لها الدرج العالي إلى كل غاية * من العالم العلوي في كل مشهد
به كان بأس اللّه في الأرض ظاهرا * ولكنه في كل عضب مهند
ثم أنشأ لي جوادا من المرة الصفراء ، والتحفت بالبردة الحمراء ، وسرت أريد سماء الخلافة النبوية ، والإمامة البشرية ، فلما وصلت الفلك الخامس إذا بالخليفة جالس ، مرتديا برداء العزة والسلطان ، عديم النظراء والأقران ، فسلمت فرحب وأهل ، وسع وسهل ،
وأمر بذبح ما حضر من الحيوان ( وتسعير النيران ) ، فحمرت القدور الراسيات ، وأحضرت جفان كالجابيات ، وجيء بالكوامل المستديرات ، عليها من الخبز المرقق واللحم المدقق : ما تسر برؤيته الحياة في الأشباح ، وتنعم بمشاهدته لطائف الأرواح ،
ناهيك عن طعام صدر عن سر الحرفين ، ونزل من كرسي القدمين ، فلما تملأنا من الطعام ، وحمدنا اللّه تعالى على ما منحنا من سوابغ الأنعام ، أظهر الخليفة غرة نفسه وقوة بأسه ، وبيمينه قضيب من الذكر اليماني رقيق الأشفار ، ماضي الغرار
فقلت : حذار من أسد العرين حذار ، وبين يديه جماعة من الأنجاد الأجود ، قد أمتطوا متون
الصافنات الجياد ، عليهم الدروع المحكمة السرد ، وبأيديهم رماح الخطى وقواضب الهند ، وهم عازمون على إيقاع البلايا والمحن وأظهار الحروب والفتن ، وإهلاك الأعداء من النحل والملل ، والفتك فيهم بحد القواضب والأسل ، وقد ظهر سلطان الغضب المقلق ، وارتفع لنار الحمية :
اللهب المحرق ، وبان الطريقان ، وامتاز الفريقان ،
وكل فريق يذب عن سننه ، ويحمى ذمار سننه فقلت يا سوء المكر الذي يحيق لعالم الخفض ، وبأبوس لأهل الأرض ، وقام وزير الخليفة خطيبا في ذلك الملاء الأعلى ، عن اذن الخليفة المولى ، بيده عصا من الحديد ، يلحق بها القريب والبعيد ، متوجا بغمامة حمراء ، مرتديا برداء أحمر ، عليه فظاظة نكير ومنكر ،
فعندما أراد الشروع في خطبته العمياء ، والتحريض على فتنة الداهية الدهياء :
أقام المؤذن صلاة العشاء ، فبادرت إلى الصف الأول خلف الإمام ، فبينا أنا أحضر نية الأحرام ، إذ سنح بخاطري رسول الإلهام بأبيات سمائية في أسرار صلاة عشائية
( واللّه الموفق : لا رب غيره ) وهي :
دعاني للمسامرة المنادي * مع المحبوب حين أتى العشاء
فأسبغت الوضوء وجئت قصدا * إليه ولم ينهنهي اللقاء
فكبرنا نشير بأن أتينا * فما رفع الحجاب ولا اللواء
فأثنينا بحمديه جميعا * فشال الستر وأرتفع الغطاء
وقال أصبت خيرا يا سميري * وصح لنا السنا ، ثم السناء
تسامرني بلفظك من بعيد * وللمعنى على القرب استواء
فلا شرق ولا غرب لذاتي * وليس لها الإمام ولا الوراء
وليس لها الأسافل والأعالي * وليس لها الكفاح ولا الأزار
لنا الظلمات ، والأنوار حجب * على الأبصار ، ثم لنا العماء
فإن أكني بنيت على وجودي * لتعليمي ، فأنت له لحاء
فيا قوم اسمعوا ما قال ربي * وما أعطى التعبد والحياء
فلما أن صفا الود : اتحدنا * فكان المرتدي وأنا الرداء
فلما أحرمنا بدت ظلمات العمى ، فلما افتتحنا المخاطبة أجبنا من غير أرض ولا سما ، فلما جهرنا قيل : من أنتم ؟ ومن أنا ؟
فلما أسررنا ، وقعنا في العنا ، فلما كبرنا للركوع هيمنا في الهوى ، فلما رفعنا . ظهر سلطان الحيرة ، فلما سجدنا أسدل حجاب الغيرة ،
فلما أستوينا جالسين رأينا المستوى على السرير غيره ، فلما سلمنا سلبنا المعرفة ، ورمى بنا في بحر الصفة ، ولما فرغ الإمام من صلاته ، وأكمل جميع تسبيحاته ودعواته ، أخذ الخطيب عصاه ، وقام إلى ما كان قبل ذلك نواه ،
وقال : « الحمد للّه واضع الملك ، وشارع النحل ، تارة بالوحي وتارة بالإلهام ، فوقتا خلف حجاب الاشراق ، ووقتا خلف حجاب الأظلام ، فأضل وهدى ، وأنجى وأردى ، وأقام أعلام الضلالة والهدى ،
ففصل بها بين الأولياء والأعدا ، فجعل الهدى لحزب السعادة سلما ، ونصب الضلالة لحزب الشقاوة علما وأوقع بينهما الفتن والحرب ، في عالم الشهادة والغيب ، وثبت في صدورهم الشحناء ، وبدت بينهما العداوة والبغضاء ، فسفكت الدماء ، واتبعت الأهواء ، فالسعيد منا من ناضل عن عرشه المؤيد بالآيات ،
وقاتل عن وضعه المقرر بالمعجزات ، والشقي من احتمى بحمى الضلالات ، ودافع عنها بمجرد المحميات .
وأعمى نفسه عن ملاحظة الصواب ، فيما وقع من الخطاب ، فبادروا إلى نصرة الدين الملكي وقاتلوا بما ثبت في قلوبكم من اليقين اليميني ، وقد خاب من طلب أثرا بعد عين ورجع بعد معرفته بعلو مرتبة الصدق إلى المين.
جعلنا اللّه وإيّاكم ممن ذب عن شرعه المعصوم ، وناضل عن دينه المعلوم .
وأنا أيها الأشراف الأقاول ، والربانيون الأوائل ، روح المقام المحمدي ،
ومعطيه سيف منزل الاستخلاف الكلي ، لنا الحياة والنمو ، والاعتدال والسمو ، ومعالي الدرجات ، وبلوغ الغايات ، والترقي إلى المعالي ، والتلقي من المقام الأنزه العالي ،
وتحليل الجامد ، والترحيب بالقاصد ، والعز القاهر ، والسلطان الظاهر ، والنضال عن الدين ، وسفك دماء الملحدين ، ونصرة الغزاة والموحدين ، ونيل الأغراض ، وسرعة الانتهاض إلى إزالة الأمراض .
فله الشكر سبحانه على ما أولى ، وله الحمد في الآخرة والأولى .
الباب التاسع والأربعون في اختصاص العصر بيوم الأربعاء ومن هو الامام فيه ،
وما يظهر فيه من الانفعالات « بعون اللّه ومنه وكرمه »
سلام على عيسى المسيح بن مريما * نبي له الأرواح أيان يمما
تبدي ونور الشمس في الأفق طالع * فلم أدر ممن أشرق الكون منهما
تولد في الأرحام من غير شهوة * عن النفخة العليا : فصار محكما
على سر أحياء الموات ونشرها * فكان ليوم الأربعاء متمما
وكاتبه الوهمي أرسل همه * على روح فرار ، فيسمى مجسما
فكان لطيفا في التحاليل صانعا * وكان شجاعا في التراكيب مقدما
فلما فرغ خطيب الفلك الخامس من خطبته ، وقرع الأسماع بموعظته ، وأثنى على نفسه بعلو درجته : خرجنا تريد السياحة في فلوات المعاني ، والسباحة في الفلك الثاني ، فسحت في مساحات الأكوار والأدوار ، وسبحت في ساحات الأنوار والأسرار ،
فتلقتني ( النفحة ) الروحانية المنبعثة من القوة اللوحية ، بالشعلة اليوحية المتكونة في الأرحام من غير التحام .
فقلت : سلام على الكلمة والروح الإلهي ، والمنزه عن الاستنكاف الرباني
فقال « وعليك السلام أيها الطالب » علو المراتب ، والذاهب في أقصد المذاهب .
فقلت : الحمد للّه على شهادة اعتصامية حاكمة ، من نبوة خاتمة .
فناداني بالحبيب المضاف إليه : ودعا لي بالتثبيت المعول عليه ، وسألني :
هل وقفت على حقائقي وميزت بين لطائف دقائقي ، فإن موارد أرواح القدس إنما تكون بعد تقدم معرفة النفس ، فأنشدت ( هذه الأبيات أقول )
أن القلوب بذكر اللّه وآلهة * والسر في مشهد المذكور مشغول
والنفس في البرزخ الكوني قابلة * والروح في الفلك العلوي مقبول
والعقل بين أمينيه : جليسهما * والحس في الفلك السفلي مغلول
فقال : أبدعت في تفصيلك ، ونعم ما أودعت في تجميلك ، فهل بان لك نور الخلق والإبداع ، فتعشق بك القاع البقاع فأنشدته :
النور نور المبدعات الوله * في أوجها إلّا على القريب الأنبه
بيدي الذي يخفيه في ملكوته * من ملكه الأدنى القريب الأنوه
فانظر إلى روح تجسد في الثرى * ( وأنظر إلى جسم تروحن أنزه )
تبصر عجائب في منازل خلقها * بمشبه فيها وغير مشبه
فالروح تشبه جسمه إن شاءه * والجسم ليس كذاك عند تأله
فقال : وهل سلكت أول طريق السعادة ، وهو الإيمان بالغيب والشهادة ، فعرفت منزل صاحبه ، وأين يبلغ جواده الكريم السابح بركابه ؟ .
فأنشدته :
قل للذي يؤمن باللّه * أنت على نور من اللّه
أنت الإمام المصطفى ، والذي * يأتي من اللّه إلى اللّه
أنت الذي دان لك المستوى * وعز سلطانك باللّه
فافخر فإن الفخر لا ينبغي * إلّا لمن يعتز باللّه
لولا الذي عندك من صدقه * ما كنت في ظل من اللّه
واحذر فإن اللّه مستدرج * نفس الذي يغتر باللّه
وأحسب على نفسك أنفساها * واهرب من اللّه إلى اللّه
فقال : هذا الإيمان قد حصل ( لك ) فهل ألم بك الإسلام ، ونزل فأعطاك فائدته ، وأجرى فيك عادته ؟ :
فأنشدته ( هذه الأبيات ) :
إذا أسلم العبد وأستسلما * وكان لأمر الهدى محكما
ينادي به في طباق العلا * الأقربوا السيد ( الملهما )
فيأتي إليه براق الهدى * يكون له : للعلا سلما
فيعلو عليه بانكاره * فينزله المحضر المعلما
وينزله في ذرى أوجه * فيسمع من حينه : من وما
وينطق في سره : سيدي * أتسأل عني ب « من ذا ، وما »
وأنت الذي جئت بي قاصدا * إليك وخاطبت كي أفهما
فهمت الذي همت فيه ، وما * يفيد الفؤاد إذا أسلما
فقال : هذا قد شهد لك الإسلام بالتمام ، فهل للإحسان بساحتك المام ، فإنه يعطيك أسرار الكمال ، وتصريفات الجلال والجمال .
فأنشدته ( هذه الأبيات ) :
إذا كان إحساني شهودي خالقي * وكوني مشهودا فمالي إحسان
فإن وجودي من وجود مشاهدي * واني في عين المشاهد إنسان
لئن كنت قد ساءت ظنوني برؤيتي * وجودي يا جودي فإنك محسان
تراني إذا جاء الشتاء بمنزلي * كئيبا ، ومسرورا إذا جاء نيسان
وما ذلك إلّا أن في الصدق ثلمة * تدلي لها عاد بذل وساسان
فقال : هذا الإحسان قد ظهرت منك أعلامه ، وانتشرت فيك أحكامه ، فهل انتقلت عنه إلى سر السرى ، فعلمت أنه لا يعلم ولا يرى .
فأنشدته ( هذه الأبيات ) :
سرى بسر السر للسر موصول * ولا تكيف : أن الكيف تضليل
إذا عجزت عن إدراك الإله بما * يعطيه برهانه ، فالعجز تحصيل
فلا تفصل ففي التفصيل تجملة * ولا تجمل ففي الإجمال تفصيل
العلم باللّه : نفي العلم عن خلد * لكن مشهده للعقل معقول
إذا شهدت الفنا فيه : شهدت وقد * أتى بذلك معقول ومنقول
العلم باللّه ذوق لا دليل له * ما اللّه في العقل للبرهان مدلول
فقال : هذا سراك ظاهر ، وسرك به قاهر ، فهل أوقفك على سر الأيام المقدرات ، الموجودة عنها الأيام المسخرات ؟
وهل أشهدك سر الأبدية في يوم الاستحالات ، وكيف جمع المحالات .
فأنشدته ( هذه الأبيات ) :
فقد كان الوجود بلا زمان * ولا كون ، وكان له التمام
فلما أن أراد وجود عيني * وكان الخلف قيده الأمام
فما يدري الوجود بغير ضد * كما المأموم ميزه الإمام
فأول ما بدا : روح تعالى * وصح له الإقامة والدوام
فيوم ، ثم يوم لا يجاري * وأربعة ، فقام بها النظام
وأيام الإله مقدرات * فليس لها وجود : والسلام
فمنها ستة ظهرت وبانت * وقيدها التصرف والمقام
وواحدها عزيز سرمدي * له القدم الصحيحة والمقام
وذاك السبت رفعته نهار * بأقوام ، وشتوته ظلام
إلى الأبد الذي ما فيه وقف * وفيه كان للنفس القوام
فقال : نعم ما به أتيت ، وصحيحا يا حبيبي كل ما رأيت ، لقد جمع لك بين مشاهدة العين ، ومكاشفة الكون ، فأنت الإمام الذي لا يجاري ، والعلام الذي لا يباري ،
ثم أقيمت في عالم المثال صورة الدجال ،
فقتله في عالم المعاني ، بحيث أرى ، وألحقه بالثرى ، ثم جيء بكساء صوف من النور الأصفر ، فانتزع من عرضه قدر أربع أصابع ، ليس أكثر ،
ولم يكن لطول ذلك الكساء ابتداء ولا انتهاء ،
وقال : هذا كفنك ، وفيه مسكنك ، ثم أمرني بالزهد والسعاية ، والجد ، وأحضرت بين أيدينا مائدة الابتداء فأكلنا معرفين بالنعمة والنعماء ثم منحني عوارف اللطائف ، وفنون المعارف ، وترتيب المواقف ، ومنازل العلوم ، وأسرار ما يحمله في ساحتها النجوم ،
وميز لي بين الخواطر ، وأوقفني على المراتب والكراسي ، والأسرة والمنابر ، وأدخلني حضرة الإلهام والوحي ، وحذرني من موارد القياس والرأي ،
ورفع لي عن منازل المبشرات ، وكشف لي عن معادن النبوات ، ونصب لي موازين الفكر ، وعرض على مقادير النظم والنثر ، وخاطبني بغرائب السجع والشعر .
وأبان لي عن سر الصعود بالتحليل وفرق لي بين التحقيق والتخييل ، وأوقفني على غلطات الأذهان والنفوس في الأعيان ، وسر المشي على الماء ، وإبراء الأكمة وإحياء الموتى ، وكشف ( لي ) عن خواص المعادن والأحجار ، وقال : ليس أقبل للسر من الفرار ، ولقد تطاول إليه الحيوان ، وما حواه نبات المعارف في كل جنان .
ثم قال لي : ( ع ) ما أسمعتك ، وخذ ما أودعتك ، وأنزل به في الآن فستري ( آثاره ) في أعيان الأكوان ، وهذا وقت صلاة العصر قد حان ، فصل معنا وانصرف ، حيث شئت ، من الطريق الذي عليه جئت ، فأقيمت الصلاة ، وتقدم الإمام واستوت الجماعات ، وترتبت الصفوف ، وطال الوقوف ، فخطر في النفس أن أقرع الأسماع بأبيات من الشعر ، في أسرار صلاة العصر ، وهي :
دعاني إلهي كي يناجيه سري * فنادى المنادي : قد أتى مشهد العصر
فقمت وأسبغت الوضوء ولم أزل * بعلمي عمري : على أسبغ الطهر
فكان لنا نورا على نورنا الذي * أهنأ به من قبل في مشهد العصر
فقال عبيد : قلت لبيك سيدي * أتدري بأني واهب النفع والضر
وأن لي التحريك في كل حالة * وأن لي التسكين !!؟ قلت له : أدري
فقالي أشرع في الصلاة فإنني * أناجيك فيها بالبشارة في السر
وأعطيك علم الالتحام بصورتي * وكونك مني في الوجود على قدر
فتلثم منها الثغر في روضة المنى * فبورك من لثم ، وبورك من ثغر
ويمتص منها ريق علم ولا ترى * تشبهه بالسلسبيل وبالخمر
تعانقها الليل الطويل بحضرتي * تنكحها بالوهب : من غير ما مهر
ولا شيء أحلى من نكاح بلا مهر * ولا شيء أعلى من صلاة بلا طهر
فإن طهور العبد نقصان سره * فما أحسن اللغز الذي سقت في شعري
فلما كبر الإمام ، صح الإلمام ، فلما افتتحنا التحفنا ، فلما ركعنا امتطينا ،
فلما دفعنا : اعتنقنا ، فلما سجدنا اضطجعنا ، فلما جلسنا استوينا ، فلما سلمنا علمنا بأنا وهمنا فيمن همنا وما فهمنا .
ثم قمت بعد أن فرغنا من الصلاة : أسمع الحاضرين تعظيم الأرواح والكلمات ، فقلت :
الحمد للّه الذي اختص هذه الحضرة بالعلمين ، ونزه امامنا هذا عن الشهوتين ، وأعطاه لواء الختمين ، وأضافه إلى كلمة ،
وسبح به في لجج حكمه : انتسب إليه فعبد ، واستوى عليه فقصد ، اختص بخصائص الفهم ، ووهب غرائب العلم .
ونطق في المهد بالاقرار والجحد ، فقال إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا
فعرف مآله قبل فطامه ، وحكم على نفسه بالاستقامة قبل استحكامه ، وشهد لنفسه بقبول الوصية الإلهية ، بالصلاة النورية ، والزكاة البرهانية ، وسلم على نفسه ( في ) الثلاثة الأحوال ، ثم نزه نفسه تعالى عما قاله أهل الضلال ،
فقال : ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
فبادروا أيها الحاضرون إلى هذا النبي الكريم ، بالتوقير والتعظيم ، وتفوزوا بالمقام الجسيم عند الرؤوف الرحيم .
جعلنا اللّه وإياكم ممن رحم الصغير وعرف شرف الكبير .
فنال المقام الخطير ، آمين .
الباب الموفي خمسين في اختصاص الظهر بيوم الخميس ومن هو الامام فيه وما يظهر فيه من الانفعالات
سلام على موسى الكليم المكلم * سلام عليه من نبي مكرم
أتانا على يوم الخميس [ يوما ] محكما * فأظهر فيه كل روح محكم
واخلى له قاضي السماء محله * فروحن فيه كل شخص مجسم
وبيض فيه كل شيء مسود * وفتح فيه كل باب مختم
وشال حجاب الغيب عن عين قلبه * فشاهد فيه كل وسم مسوم
ثم رحلنا نبتغي سماء الكلام ، لنقف على وراثنا من موسى ( ع ) ، فلما دخلنا عليه ، وحضرنا بين يديه ، سلمنا وخدمنا ، فاكرمنا واحترمنا ، وجمع لنا بين إقبال الأخوة والأبوة ، إثباتا لشرف مقام النبي محمد ( عليه الصلاة والسلام ) ووفاء بمقام النبوة ،
فقلنا له : هات حظنا منك ، لنخبر به عنك ، وأوقفنا على ما لديك ، وما صرف الرحمن فيه من النظر إليك ، فشال الحجاب ،
فانفتح الباب من خلفه جنتان :ذَواتا أَفْنانٍ-فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ-فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ-فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ- كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فقال هذا لمن حرم في دنياه الأمان ، ثم شال عن يساره الحجاب ، فانفتح الباب ، من خلفه جنتان مُدْهامَّتانِ-فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ- فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ- فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ-حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ-لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ-مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ
فقال : هذا لمن عاش
بالأمان ، وبقيت الأعيان تطلب العيان بالعيان ، فشاهدنا ما أخبرنا اللّه به في السورة التي يذكر فيها : الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ
غير أن جني الجنات ليس بدان ، فلما قصرت أيدينا عن تناول شيء منها ، سألته ما السبب الذي قصر بنا عنها ؟
فقال : يا وليي ، تناولها موقوف على التركيب الثاني ، إن قمت بتعظيم معرفة المثاني ، وأنت في التركيب الأول ، فاصبر حتى يتحول ، فإذا سترت روحانيتك جسمك ، ووسمت وسمك ، وعرفت سعادتك واعادتك واسمك ، وصرت في الصور الحول ، القلب يذهب فيها كل مذهب ، حينئذ تتناول ما بسق عن أشجارها ، وتستنشق ما شئت من روائح أزهارها ، وتقف على سر حجرها وأحجارها ، فهنالك يبدو شرف الاعتدال ، وصورة التمام والكمال ،
وسر الثوب الذي مال ، وروح الضياء والظلال ، والتحاق النساء بالرجال ، وشغوفهن عليهم في جنات الأحوال ، ويظهر لعينيك استواء المنحرف الميال ،
ويبقى العلم ويذهب الخيال ، وتتضح المعاني ، ويزول الأشكال ، وينحفظ الترتيب باعتدال التركيب ، وتبرز حقيقة الأبد ، ويدوم البقاء بالديمومية الإلهية من غير أمد ،
وتلوح كيفية التولد ، وما هية التعبد ، وأسرار الصلوات والصدقات ، وسبب الأولياء والشهود في النكاح والصدقات ، ومعالم الوقوف بعرفات ، وسفك دماء القرابين بمنى لابتغاء القربات ، ومقام الذاكرين اللّه [ فيه ] كثيرا والذكرات ، المقرون بذكر الآباء والأمهات ،
وانتظام الشمل بالحبائب ، والتحاق ، الأجانب بالأقارب ، وتنوع المراتب ، باختلاف المذاهب ، وسرور الروح والنفس بتحصيل الجمال والأنس وتقف على سر إجابة دعوة المضطر وإن كان كافرا ، وهدي الطالب إذا كان حائرا ، وتعلم أن اللّه لا تضره معصية عاص ، ولا تنفعه طاعة طائع ، ولم تسمى بـ " المانع ".
ناد : يا حنان يا منان ، يا رؤوف يا محسان ، يا من جعل معدن النبوة أشرف المعادن ، وموطن الأحكام أرفع المواطن ، أنت الذي سويت فعدلت ،
وفي أي صورة ما شئت ركبت ما سويت ، يا واهب : إذ لا واهب ، ويا مانع المثوبات أهل المكاسب ، أنت الذي وهبت التوفيق ، وأخذت بناصية عبدك ، ومشيت به على الطريق ، وجعلت فيه الأعمال الرياضية ، والأقوال الزكية ، وأنطقته بالتوحيد والشهادة ، ويسرت له أسباب السعادة ، ثم أدخلته دارك ،
ومنحته جوارك ، وقلت له : هذا بعملك ، ولك ما انتهى إليه خاطر أملك .
فناديته كما أمرني فأجاب ، وقرعت بابه بهذه الكلمات ، ففتح ورفع الحجاب ، فلما تجلى دك الجبل الراسي ، وخررت على رأسي ، فأنصرف الإدراك إلى القلب فأبصر ، وقال : أين هذا من مقام « اللّه أكبر » وهو : " اللّه أكبر " .
فلما أفقت بعد الصعق ، وأبدرت بعد المحق : نطقت بالتنزيه الذي إلّا في غير هذه الدار ، وأخلصت المتاب ، فمن اللّه وتاب .
فقلت لموسى ( ع ) : هذا ميراث مشهدك ، وأسنى مقعدك ؛ صدق [ الأنبياء ] في إبانته عن مرتبة العلماء ، بأنهم ورثة الأنبياء .
فالحمد للّه الذي أورثنا ، ثم أماتنا وبعثنا .
فقال موسى : هل رأيت معدن النورين ، ومحل السردرين ؟ .
فقلت : وأين ذلك ؟ .
فقال : صلاة الظهر : نور في نور ، وسرور في سرور .
فقلت : لو حان وقتها ، صليتها في حضرتك ، ووقفت عليها من مرتبتك فإنك الأخ من ثمينك الأنفس ، والسيد [ من ] المقام النبوي الأقدس .
فقال : أما ترى الشمس في مدرجة السلوك قد شرعت ، فأقم الصلاة وأحرم ، وحلل كل ما يأتيك فيها ولا تحرم حتى تسلم ، فإذا سلمت حرمت عليك الأشياء ، وحكمت عليك الأنباء .
فوقع في نفسي من أسرار صلاة الظهر أشياء ضمنتها أبياتا من الشعر ، فأسمعتها الإمام ، قبل أن أشرع في القيام ، وهي : [ هذه الأبيات ]
دعاني للمناجاة السلام * وقال لنا التكلم والكلام
فأسبغت الوضوء على حضور * إلهي : يؤيده التمام
وأحرمنا فحرمنا المغاني * وكبرنا ، فكبرنا الأنام
تناجينا طويلا بالمعاني * على كثب ، وقد رفع القرام
وفاتحناه بالتحميد كيما * يراجعني ، فيثبت لي المقام
فمنى اللفظ ، والمعنى إليه * ومنه إلى معنى والسلام
فيظهرني به فيها لديه * على كوني إذا أشتد اللزام
ويظهر لي ، فأكتمه فيخفي * فأظهره فيستره الغمام
ويأتي الأمر منه إلي حتما * بأن الكشف في الدنيا حرام
فأستره فيسترني فيبدو * لدي السترين آيات جسام
فأرجع للأنام من الكلام * وعندي منه أهوال عظام
فمنها العين والتحكيم فيها * ومنها الإنزعاج والاصطلام
أكاسير ترد الميت حيا * ويمطر عند رؤيتها الجهام
وكان الحق مأموما ورائي * على تعظيمه ، وأنا الإمام
وذلك في الظهيرة حين زالت * غزالتنا ، فصح لها المقام
فهذا اللغز إن فكرت فيه * وجدت الحق حقا يا غلام
فلما أحرمنا أحللنا ، فلما فتحنا منحنا ، فلما ركعنا أسمعنا ، فلما رفعنا أطعنا ، فلما سجدنا وجدنا ، فلما جلسنا أنسنا ، [ فلما أسلمنا أحرمنا ] فلما فرغ الإمام من جزيل المثوبات ، واستعاذ من وبيل العقوبات ، صعدت منبر النور ، وبيدي عصا من البلور ،
وقلت :
بسم اللّه الرحمن الرّحيم
الحمد للّه الذي ألحق العلماء بأنبيائه ، وأسكن أرواحهم مع ملائكته في سمائه ، وجعلها طيارة في فسحات الأفلاك ، سيارة في روحانيات الأملاك ، أفاض عليها من نور تجليه ما أداها إلى الصعق ، وأبان لها من مقامات القرب [ ما حكم عليها به ] سلطان السحق ،
دعتها نغمات إيقاع السماع في الأسماع إلى الاستماع ، فاشتاقت إلى خطاب الأحباب بمدارك لباب الألباب ، من غير حجاب ولا حجاب ، فوقعت المحاورة والمخاطبة ، والمؤانسة والمعاتبة ، وزالت المراسلة
والمكاتبة ، فسطعت أنوار أسرار نور ذاتها ، وبلبلت بلابل سرها بكلماتها ،
فقالت وقال ، وأطالت وأطال ، ثم منحها الوصيات القدسيات ، والتدبيرات الإلهيات ، وأطلعها على أسرار النبات في المناجاة بالنيران المتخيلات ،
وقيل لها أن جل الخير في السعي على الغير ، فمن أراد مني قضاء مآربه فليقضي حاجة صاحبه وإن لم يستند فيها إلى جانبه ، ولو ذهب في غير مذاهبه ، يا أيتها الأرواح الطاهرة ، والأنفس الزاكية المتظاهرة ، ها أنا أقرب إليكم منكم إليكم ، ولكن لا تغتروا ،
فكما أنا لكم : عليكم ، وقد أبنت لكم في مقام المعرفة أنه لا تقيدني صفة ، فالزموا مواطن العدل ، وانعموا بسوابغ الفضل .
فإني الشهيد الذي لا يقبل الرشا ، والبصير الذي لا يقوم ببصره عشا - فلا تحاسدوا ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا ، ولا تهاجروا ، ولا تباغضوا ، ولا تنافروا ، وكونوا عباد اللّه إخوانا - تنالوا بذلك رفعة وأمانا ، فأنتم السابقون المقربون ، وأنتم الرسل المقربون ، وأنتم المرشدون الأعلون ، فلا ينجوا بكم الغير وتشقون ، فاحفظوا وصيتي ولا تنسوا .
فرجعت الأرواح بألوية رسالاتها منشورة ، ونصبت كل لواء بإزاء كل صاحب سورة ، وخاطبت النهي ، ومنحت اللهى .
جعلنا اللّه وإياكم ممن تميّز في صدر الجلال وألبها ، وتعزز بالسمو على سدرة المنتهى .
.
الباب الحادي والخمسون في اختصاص المعرفة بيوم الجمعة ومن هو الامام فيه وما يظهر فيه من الانفعالات
يوم العروبة آخر الأيام * الستة المشهورة الأعلام
فيه تلقف لوحنا أسراره * من ربه بوسائط الأقلام
في كل ما يجريه في تعريفه * بوسائط [ الأحكام ] في الأحلام
فالسر [ بالنفوس ] وبالنهي * كتلاعب الأفلاك بالأيام
حتى إذا ما تنقضي أيامه * يبقى جهولا بالمقام السامي
ثم نزلنا من سماء النظام إلى سماء التصوير التام ، بحسن الانتظام لنأخذ ورثنا من يوسف ( ع ) ، فوجدناه على سرير قدسه ، فاستتر لنا روحانية نفسه ،
فنزل في حسنه البديع ، موافقا زمان حركة الربيع ، فأبصرنا وجها كأنه البدر التم ، أو الشمس انجلى عنها الغيم ، فتصدعت القلوب وتيمت النفوس ،
وهيمت الأرواح ، وتقيدت العقول ، وتوقفت الحواس ، وانكشف البال ، وتغير الحال ، وبليل بليل الوجد بين الجوانح ، وتقصفت الأعضاء ،
وخدرت الجوارح ، ودعا داعي الأشواق ، وقام بالقلب الاصطلاح والإحراق ، وتمكن الأرق واشتد القلق ، واستوى سلطان الذبول بجيش النحول ، وأرسلت سماء الدموع على أرض
الخضوع ، فقلنا له : « هذا فعلك على النصف ، فكيف لو اجتمع الموصوف بالوصف » وبين يديه صورة ينشؤها وبنية يهيؤها ، قد زينها أحسن تزيين ، وأسرى في مسالكها أحوال التلوين ، وأرسلها في الكون محبوبة إلى كل عين ، تسحر الناظر ، وتقيد الخاطر ،
وتعطي اللذة قبل النيل ، وتحير السمع في ترجيع القول : إن غنت : غنت ، وإن نظرت : سحرت ، وإن لمست أبلست ، وإن ملكت : فتكت ، وإن لعبت : أتعبت ، وإن لهت ولهت ،
وإن عرفت :
أرعفت : على رأسها تاج من الغمام وعلى جبينها أكليل من الدر التام ، وفي أصبعها خاتم الحمام : إن هجرت : أقبرت ، وإن وصلت قتلت .
إلّا أن لها سياسة مدنية ، ورئاسة إنسانية ، تتواضع فتهتك السرائر ، وتترافع فتتعب البصائر ، والهيبة منوطة بذاتها ، والجلال من جملة صفاتها .
فبينا أنا أنظر في جمالها ، وأهيم بين دلها ودلالها ، إذ أقيمت صلاة المغرب ، فقالت : ( قم لمشاهدة الأمر المغرب ) فقمت .
وقد رويت أبياتا من الشعر في أنزه ما يكون في المغرب من الأمر ، في غيابات السر ، وهي هذه [ الأبيات : رب يسر كل عسير ] :
أفلت شمسنا بمغرب ذاتي * فدعاني إلى الصلاة الشهيد
فتوضأت ثم جئت إليه * من قريب ، وأنه لبعيد
قلت : ربي ، فقال لبيك عبدي * أين حمدي فقلت : أنت الحميد
فافتتحنا به ، فرد علينا * [ مثله ] وأكتفى ، وكان المزيد
وتدانى ، فكان مني كأني * ثم ولى فقلت : أين تريد ؟
قال : تمضي ، فإن قومك جاءوا * ومقامي مع الكيان شديد
قم فحييهم ، فقلت : السلام * وبقلبي من الفراق : وقود
ما ألذ الخلو باللّه ليلا * لو تصح العصور صح الوجود
فاستمع رمز ما أغار عليه * يا حبيبي ، وأنه لكنود
يشبه العسجد الكريم وجودي * وهو شخص وجدي : منه الوريد
لو رأى عالما به ، لا بذاتي * لتوالى علي منه الشهود
فأنا عالم به وبذاتي * فوصال . وقتا ، ووقتا صدود
فلما كبرنا : كبرنا ، فلما قرأنا أنبئنا ، فلما ركعنا رفعنا ، فلما رفعنا وضعنا ، فلما سجدنا : شهدنا ، فلما جلسنا يئسنا ، فلما سلمنا : حكمنا ، فلما فرغت الصلاة وأجيبت الدعوات ، قمت إلى منبر من الياقوت الأكهب بخطبة ذهبت فيها أحسن مذهب ،
وقلت :" الحمد للّه الذي - أحسن كل شيء ، وبدأ خلق الإنسان من طين . ثم يواه ونفخ فيه من روحه - المسكين فلما أقامه في أحسن تقويم ، رده إلى أسفل سافلين ، فلما أناطه بالمركز ليقيم به دولة العز : أعطاه سر التدبير والتفصيل ،
ووهبه في كل ما علمه قوة التحصيل ، فما بقي روح مجرد إلّا سجد ، ولا ريح معبد إلّا شهد ، ولو تكبر وجحد ، ولا صامت إلّا تكلم ، ولا مائت إلّا حيا وسلّم : فإنه النور الأعلى ، والقطعة المثلى ، ولولا ما هو من ذلك المقام ما أنقادت لسلطانه الروحانيات الجسام ، فشقت هذه السدفة الترابية أنواره ،
وتخللت مسالكها أسراره ، ونفدت إلى حضرة توحيد موجودها ، وعاينت كريم مشهدها ، من غير أن تؤثر فيها هذه الظلمة ، لما هي عليه من نفوذ الهمة ، فأقرت الأرواح المجردة بعلو منصبها ، واعترفت بسمو مذهبها ، وأن لها أرفع المناصب ، وأشرف المناسب ، ثم اختصت دونها بالمكاسب ، وتعظمت لديها المواهب ،
فكم روح مجرد تكلم فيها بما لا يعلم ، قبل أن يعلم منها ما علم ،
ثم أقر لها بعد ذلك بكمال المقام ، وأن الروح المجسد له الكمال والتمام ، وحسن التقويم والنظام ، ثم صبغها في الجمال العرضي للتعشق الغرضي ، فعشقت نفسها بنفسها ، حتى لا تتعلق بغير جنسها فتذعن لغير الجنس ، فكان يذهب عنها ما كان لها من العز بالأمس ، ويظهر التيه عليها ممن نقص عن مقامها ، وتقاصر عن تمامها ، فبقيت بذلك عزتها عليها موقوفة ، وهمم غير جنسها إليها بالخدمة
مصروفة ، وهي بذاتها في ذاتها مشغوفة ، وجعل لها هذا الشغف الغرضي في الجمال العرضي : حجابا على الجمال المطلق ، والحسن البديع الفائق المحقق ، القائم بذات الحق ، الذي لا يتقيد بالوقت ، ولا يدرك بالنعت ، ومن مراتب الكمال قوله ( عليه الصلاة والسلام ) : أن اللّه جميل يحب الجمال
ومن غوامض السر المكنون قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
فمن أنحجب من هذه الأرواح المجسدة بهذا الحجاب عن هذا الجمال : لم يزل في سفال العوال ، ومن لم ينحجب به :
[ صح له المقام العالي ، وسجدت له الظلال بالغدو والآصال ، ومن انحجب عنها بهذه الأرواح المعبدة عن هذا الحجاب ، لم يزل في سفال السفال ] .
جعلنا اللّه وايّاكم ممن تعشق بربه ، وأن لم ير به : آمين بعزته .
الباب الثاني والخمسون في اختصاص الصبح بيوم السبت ، ومن هو الامام فيه ، وما يظهر فيه من الانفعالات
لم يبق للأيام فعل ينتمي * فيه إليها غير يوم السبت
يوم له فضل على اخوانه * فيه وضعنا سرنا بالسبت
يوم إذا رفعت لنا أعلامه * قطعت إليه ركابنا بالسبت
منها منطقة عزيز نيلها * وقلائص : موصوفة بالصمت
وقلائص حرنت على ركابها * وقلائص : موسومة بالسمت
( وقلائص تشكو الطوى في سيرها ) * وقلائص شغلت برعي النبت
وقلائص تشكو ؟ الوجا وقلائص * حفيت [ وتوضع ] في السرى المنبت
لا تشتكي ألم الوجا لخلوصها * في سيرها من سطوات السبت
للّه من يوم كثير فعله * في الكون محمود كريم الشخت
يوم تصرف في جهات ستة * ملك على الأيام سامي التخت
شمس اليمين مع الإمام ، وفوقه * ليل الشمال وخلفه والتحت
ما زال مخصوصا على إخوانه * بالجمع في تصرفه والشت
فله المشيئة في سرائر ملكه * بالوصل في ترتيبها والبت
لا تنتمي لحقيقة علوية * إلّا إذا جاءت بوفق البخت
للشرع منه شفاعة مقبولة * مقسومة من أجل أهل المقت
بين الذي ما زال يعبد واحدا * في الفطرتين وبين أهل التخت
يدني سعادته من أهل جلاله * وكذا شقاوته من أهل السحت
فكأنه صوفي وقت وجوده * ما زال يسكن تحت حكم الوقت
ثم جاءت الروحانية المسرحة الإنسانية ، بأيديهم الرايات السود الخراسانية ، ومعهم براق أدهم ، كأنه قطعة ليل مظلم ، فامتطوته عشاء ، واندفعت طالبا اعتلاء ، إلى أن وصلنا سماء الخليل ، فاستأذن الرسول ، وإذا بإبراهيم ( ع ) ، قد غشيته الأنوار الليلية ، والضياءات الإلّيّة ، فعندما أبصرت هذا الأب الثاني ، سويت المثاني ،
واندفعت أقول ( بهذه الأبيات ):
الأمن مبلغ عني مقاما * وقفت : عليه يا أبت السلاما
وملتزما دعوت به إلهي * لقلبي ، والتزمت به التزاما
وقبلت اليمين : يمين ربي * وراعيت المودة والذماما
وكانت قبلة قبلت لكوني * أردت بها التقدم والأماما
فخاطبني اليمين وزاد وجدي * وهيمني فأورثني السقاما
وقد أستند إلى البيت المعمور ، المغشي بأستار النور ، « يدخله - كما قال ( عليه الصلاة والسلام ) - سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا » فهفا إليه الروح ،
وتأخرت التربة ، وهاجت به الأشواق إلى الطواف بالكعبة ، فانبعث الحس من زاوية تربته ، مخيرا ما استقر عنده من الشوق إلى الكعبة:
اني إلى الكعبة الغراء مشتاق * فيها لعشاقها في السر أعلاق
إذا تذكرت أسراري ومشهدها * فيها تحركني للبين أشواق
اللّه يعلم أني لست أذكرها * إلّا وعندي لذاك الذكر أحراق
فالروح تائهة ، والنفس وآلهة * والقلب محترق والدمع مهراق
فلما سمع بذلك الوالد الإسلامي ، والسيد النجدي التهامي ، قال : يا بني أبعد الوصول إلى البيت المعمور ، ووقوفك في مشهد النور ، تحن إلى البيت الذي لا يبور القائم بالتراب وبالصخور ؟
فقلت : يا أيها السيد ( الأميلد ) لا حرج على من حن إلى جنسه ، فإنه اشتاق إلى نفسه ،
الا ترى كيف هفا إلى البيت المعمور ، وهم بالخروج من حبسه ، فهو ينزعج ويمسكه الأجل المسمى ، فهو كمقعد يحمله أعمى ، فلو تخلص من ناشئه ليلته ، وشدة وطأتها ، وتحرر من ثقل الكلمة التي ألقيت عليه ، وعظيم سطوتها ،
فلو وهب السراح : راح ، ولو منح المفتاح : استراح .
يا أبت : كيف لا أشتاق إلى تلك المناسك والأعلام ، وأنت الذي أسستها لعالم الأجسام ، وأعليته للمتثاقلين عن النهوض إلى هذه المشاهد الكرام .
فقال : ظننت أن سرك أنحجب بتربته ، ولهذا حن إلى كعبته ، ثم قال يا أبا رزين ، ويا أيها العاشق المسكين ، المشغوف بالحجارة والطين ، كيف تركت سرك بالكعبة حبيسا ، وصرت في العالم العلوي رئيسا .
فتنفس أبو رزين الصعداء ، وقال : واشوقاه إلى أعلام الهدى ، وعظم هيجانه ( واشتد ) ورق أنينه ،
وأنشد ( هذه الأبيات ):
قل لبيت الحبيب رفقا قليلا * بقليب أمسي عليلا ذليلا
لست أنسى بلابلا بفؤادي * يوم نودي بنا الرحيل الرحيلا
ليت أنى يوم النوى والتداني * للوداع أبقى لديه قتيلا
لست أنسى ببطن بكة يوما * قوله لي : باللّه صبرا جميلا
إن بي مثل ما بكم فلتكن * بي طيب النفس : للسرور وصولا
لم أزل حين بنت عنهم وقاموا * ( اشتكي ) الوجد والجوي والغليلا
وأنادي في كل فج فؤادي * وأقاسي منه عذابا وبيلا
فرق له المولى ، وقال : النزول إلى الكعبة بهذا المسكين الواله أولى .
فقلت : يا أبت إذا مشينا بأخينا هذا أبدا إلى مغناه ، متى يلتذ السر بمعناه .
فقلت : يا بني إذا سريت بفكرك إلى عالم المعاني ، أنحجب حسك عن التلذذ بالمغاني ، وإذا سري حسك في المغنى ، لم ينحجب سرك عن مشاهدة المعنى ، فالبقاء مع الحس أولى في الآخرة والأولى ، وسيبدو لك شرفه عند الرؤية في جنة المنية .
فقلت يا أبت فما تراني صانعا ؟ .
قال : أنزل به الآن إلى البيت بعمرة ، قبل أن يبدو الفجر طالعا ، « فنزلت بهمة مهمة » فوقعت في بيداء مدلهمة ، ليس فيها نبات سوى السمرات ، ولا سكان إلّا الأفاعي والحيات ، قد درست طرقها ، فتاة طارقها ، عديمة الأنس ،
لم يسكنها جن ولا أنس ، وحشة الطبع ، كريهة الوضع ، فقطعتها بجهد وعناء ، ومقاسات وبلاء إلى أن أشرفت على الأعلام ، فلبيت بعمرة يا ذا الجلال والإكرام ، فلما عاينت البيت : هاج القلق ، وعظم الحرق ، وبادرت إلى الحجر الأسود فقبلته ،
وشرعت في الطواف فأكملته ، واستجرت بالمستجار ، والتزمت بالملتزم ، ثم ركعت في المقام ، وشربت من ماء زمزم ، ثم سعيت ، وأحللت ، ثم نهضت إلى السماء ورحلت ،
فلما رآني الخليل قال : مرحبا بالابن الجليل ، هذا الفجر قد بدت دلائله ، وطلعت منازله ، وبدت أعلام الفتح ، من أجل صلاة الصبح ، فتوضأ يا بني من السلسبيل ، فإنه موقوف على أبناء السبيل ، فغسلت يدي ، ولم يكن بها أذى ،
فقال أمين النهر : من ذا ؟
ثم مضمضت فأفرطت ، ثم استنشقت فعبقت ، ثم استنثرت فأوترت ، ثم غسلت وجهي فأربت ، ثم غسلت يدي إلى المرافق فسورت ، ثم مسحت برأسي فتوجت ، ثم مسحت بأذني فكلمت ، ثم غسلت رجلي فدملجت ، ثم أقيمت الصلاة فأقمت ،
فلما أحرمنا أحرمنا ، فلما كبرنا كبرنا ، فلما افتتحنا سرحنا : فلما رفعنا : رفعنا ، فلما سجدنا عبدنا ، فلما جلسنا رأسنا ، فلما سلمنا حكمنا ، فرقيت في منبر من السبج ، وقمت فيه خطيبا في سابع درج ، وأنشدت :
ولما بدا الفجر الذي لاح من قلبي * دعاني ودادي للحديث مع الرب
فطهرت أثوابي ، وطهرت بقعتي * وطهرت أعضائي ، وناديت بالحب
حبيبي تراني عند باب جلالكم * فهل لي إليكم من سبيل ومن قرب
تريد جفوني أن ترى نور وجهكم * فتشهدكم عيني ويرعاكم قلبي
ترفق بمن أضحى قتيلا بحبكم * وبالكلف المشتاق وألوانه الصب
أتاكم من الكون الغريب لترفعوا * بفضلكم عنه مشاهدة الحجب
يناجي الذي في قبله من وجودكم * بما جاء منكم في الصحائف والكتب
فمنوا عليه بالوصال فإنه * أسير هوى الجو : إن كان ذا سحب
فو اللّه مالي راحة دون وجهكم * وما لي شفيع أرتضيه سوى حبي
فاطلع شمس الذات في القلب فانتفى * وجودي ، ولم يثبت سوى عالم القرب
فسلمت من تلك الصلاة مقدما * على عالمي كوني ، وعدت إلى غيبي
الحمد للّه الذي جعل الهوى خير ما تحج إليه قلوب الأولياء :
وكعبة تطوف بها أسرار ألباب الظرفاء ، وجعل الفراق أمر كأس يذاق ، وجعل التلاقي عذب الجنى طيب المذاق .
تجلى اسمه الجميل سبحانه فوله الألباب ، فلما غرقت في بحار حبه أغاق دونه الباب ، وأمر أجناد الهوى : أن يضربوها بسيوف النوى ، فلما طاشت العقول وقيدها الثقيل ، ودعاها داعي الاشتياق ، وحركتها دواعي الأشواق ،
رامت الخروج إليه عشقا ، فلم تستطيع :
فذابت في أماكنها الضيقة ، ومسالكها الوعرة ، وجدا وشوقا فاشتد أنينها ، وطال حزنها وحنينها ، ولم يبق إلّا النفس الخافت ، والإنسان الباهت ، ورثى لها العدو الشامت ، وإذا بها الأرق ، وأقلقها القلق ، وأنضجتها لواعج الحق ، وفتك فيها الفراق بختامه ، وجرعها مضاضة كأس مدامه ، واستولى عليها سلطان البين ، فمحق الأثر والعين ، ونزلت بفنائها عساكر الأسف ، وجردت عليها سيوف التلف ( وأيقنت بالهلاك وعاينت مصارع الهلاك ) وما خافت ألم الموت ، وإنما خافت حسرة الفوت ،
فنادت : يا جميل يا محسان ، يا من قال هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ يا من تيمني بحبه وهيمني بين بعده وقربه ، تجليت فأبليت ، وعشقت فأرقت ، وأعرضت فأمرضت ، فيالتك مرضت فأفرطت فقطعت ، وأيبست فأيست ، وقربت
فذويت ، وبعدت فأبعدت ، وأجلست فآنست ، وأسمعت فأطمعت ، وكلمت فأكلمت ، وخاطبت فأتعبت ، وملكت فهتكت ، وأملت فأهلكت ، واتهمت ففرحت ، وانجدت فأترحت ، ونوهت فولهت ، وزينت فأفتنت ، وألهت فنبهت ، وفوهت فتوهت ، وغلطت فنشطت ، وعزرت فعجزت ، وأسلبت فأغفلت ، وأمسكت فنسكت ، ووسعت فجمعت ، وضيقت ففرقت ، وأحرمت فأحللت ، وأحللت فأحرمت ،
وهذا كله سهل إذا ما أنت أقبلت ، فياليتني لم أخلق ، وإذا خلقت لم أتحقق ، وإذا تجمعت لم أعشق ، وإذا عشقت لم أهجر ، وإذا هجرت لم أقبر ، وإذا قبرت لم أنشر ، وإذا نشرت لم أحشر ، وإذا حشرت لم أعتب ، وإذا عوتبت لم أزجر ، وإذا زجرت لم أطرد ، وإذا طردت لم أسعر في النار التي فيها على الحجب أن أنظر .
فلما سمع ندائي ، وتقلبي في أنواع بلائي بادر الحجاب إلى رفع الحجاب ، وتجلى المراد فنعمت العين والفؤاد .
جعلنا اللّه وإياكم ممّن عشق فلحق ، وصبر فظفر .
ثم رددت وجهي إلى المقاتل المشغوغ بالمقاتل ، وقلت يا صاحب الغين والرين ، إلى كم تنتهي حقائقك التي أعطاك اللّه في تدبير الكون .
فقال : إلى مائتي ألف حقيقة ، واثنتين وستين ألفا ، وثمانمائة .
ثم نزلت إلى المشتري ، فسألته عن كمية حقائقه التي أودعها اللّه في تدبير خلائقه ، فقال : مائة ألف حقيقة ، وخمسة آلاف ومائة وعشرين .
ثم نزلت إلى المريخ ، فرأيت له ثمانية آلاف وأربعمائة ، وثمانية وأربعين رقيقة .
ثم نزلت إلى الشمس ، فرأيت لها ثمانية آلاف ، وسبعمائة وستا وستين رقيقة ، ونزلت إلى الزهرة فرأيت لها ثمانية آلاف وسبعمائة ( وخمسا ) وستين رقيقة .
وكذلك عطارد مثل الزهرة .
ونزلت إلى القمر فرأيت له ستمائة واثنين وسبعين رقيقة .
ثم نزلت على بعض الرقائق الشمسية في الصورة الدحيية ، إلى أن أستويت
على الأرض المدحية ، وقد عرفت ترتيب حركات الأفلاك ، ووقفت على مراتب الأملاك ، وتحققت بما في القوى الروحانيات من الانفعالات الكونيات ، فسرحت في ميدان معارف النسب ، وفزت بمدارك وضعية السبب ،
وعلمت أن اللّه قد رتب الوجود أحسن ترتيب ، وحصره في تحليل وتركيب ، وحكم عليه بالبقاء فلا ينفد ، وعلى عالمه بالسعادة والشقاء ، فلا يبعد .
أسعدنا اللّه وإياكم بما أسعد به أولياؤه وأحباؤه .
الباب الثالث والخمسون في أن يوم السبت هو يوم الأبد ، وهو يوم الاستحالات
السبت يوم للبقاء والاستحالات * والشغل يصحبه مع البطالات
عجبت من يومنا فيه الفراغ * وفيه الشغل جمعها من المحالات
ليس الهدى في جناب السر فالذ * كر أولى به من تصاريف الضلالات
فانظر إلى بدء يوم السبت تحظ به * فقد تقدس عن وصف النهايات
نهاره في جنان الخلد رؤيتنا * وليله في لظى حجب الزيارات
فالليل : منه على أهل الشقاوات * كما النهار على أهل السعادات
سري يوم السبت في الموجودات سريان العدد في المعدودات : والدوام في الدائمات ، والقيام في القائمات ،
فهو : لا معدوم ولا موجود ، ولا حاضر ولا مفقود ، فيه استلقى الفاعل من ايجاد الأجناس والأمهات ، وشهدت له بالملك والثبات ، وذلك أن اللّه جل أن يسبق وجوده عدم أو يتصف بما يناقض القدم ، خلق الخلق أسفله وأعلاه ، في ستة أيام من أيام اللّه ،
فلما كملت أجناس العوالم ، وتميزت المراتب والمعالم ، ابتدأت يوم السبت : الاستحالات والتكوين ، والتغيرات والتلوين ، فتنوعت الصورة والأشكال ، وتغيرت المناصب والأحوال ، فصارت ( فتغيرت ) لآباء أبناء ، والأبناء آباء ،
وتداخلت الموجودات بعضها في بعضها ، وحصل خفضها في رفعها ، ورفعها في خفضها واستحال المعدن نباتا والنبات حيوانا ، والحيوان إنسانا ، والإنسان معدنا ، وضرب الكل بالكل ، وظهرت القوة بالفعل ،
وعاد العزيز ذليلا ، والذليل عزيزا ، والحديد لجينا ، والنحاس ذهبا إبريزا ، والمركب محللا مفصلا ، والمحلل مركبا موصلا :
وهكذا في الآخرة ، وقد بان في قوله - في الحافرة - وقوله في غائط السعداء أنه عرق مثل المسك ، ووصفه الأشقياء بنضيح المسك .
ولما كانت الآخرة لا تنقد ، وسكانها لا تبعد ، انسحب عليها حكم يوم السبت ، إذا كان يوم النصب والسبت فلا ليل لنهاره في دار القرار ولا نهار لليله في دار البوار ، ولا منتهى راحة لظلمة وأنواره ، ولا قاهر لسلطان أسراره .
ولقد شهدت روحانية البتي ( محمد بن هارون الرشيد في الطواف ) وهو يجنح إلى الأطراف وكان قد اختص في وقت حياته أن يسعى يوم السبت في تحصيل أقواته ،
ويتعبد فيما بقي من أيام الجمعة مغمرا لأوقاته : فسألته لم خصصت يوم السبت للخدمة ،
فقال : إبقاء للحرمة فإن الغني في الستة الأيام من الأسبوع المقدر : اعتني بإظهار أعياننا لمن تفكر ، فاشتغلنا فيها بما شرع من خدمته وقدر .
ولما أنفرد يوم السبت لمعناه : لهذا خصصته بتدبير مغناه .
فقد بان أن السبت هو يوم الأبد ، وعنده انتهى العدد ، وليس وراءه يوم ينتظر ، ولا وقت يقدر .
وقد ثبتت أعيان الذوات ، ودخلت الاستحالات والتغيرات في الأشكال والصفات .
جعلنا اللّه وإياكم ممن عرف أنه لابد من يومه ، فلم يعجل من قومه .
الباب الرابع والخمسون في بيان الصلاة الوسطى أي صلاة هي ولماذا سميت الوسطى
السر منا في البرزخ الوسط * وهو بسر القديم مرتبط
فانظر إلى بدئه وعنايته * يجمع أسرار دينك الوسط
وانظر إلى الفوز بين راجية * وبين قوم من ربهم قنطوا
فمن أراد الوقوف منه على * غايته ، فالخفاء مشترط
يا فرحة القوم لو بدا لهم * سر وأبدوا ذاك الظهور واغتبطوا
أقول من المعارف الرسمية ، والعلوم الوسمية : أن الوسط من الوساط والفضيلة فمن جعلها الوسط ، فهي في المغرب ، لما جاء في الخبر أن أول صلاة صلاها جبرائيل بالنبي ( عليهما الصلاة والسلام ) صلاة الظهر ، وقد ثبت ذلك وظهر ، ومن جعلها من الفضل ، فتكون العصر لاقتران فواتها بمصيبة الأهل والمال وتغير الحال والأحوال ،
وقد جاء في الخبر الحق في يوم الخندق ، أنه ( عليه صلاة والسلام ) أبدل العصر من الوسطى بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة ،
فمن المختارة المثلى : وقد أثبتتها عائشة أم المؤمنين في مصحفها بواو التوكيد وهذا في المسألة من أعظم تأييد ، ومن خالف ما ذكرناه من علماء الآراء والرواية ، فروايات واهية ، وآراء ما عليهما من طلاوة ، فسلطان هذا الحكم من معارف الرسم وعلوم الوسم .
ثم نرجع فيها إلى الحكم بعلم الكشف المحقق بالنور المطلق ، فأقول :
شاهد عين السر في حضرة الوتر « ان الصلاة الوسطى هي صلاة العصر » ، لأن الظهر لظهوره في مقام الفناء ، والمغرب لظهوره في مقام البقاء : والعشاء لظهوره
في مزج الأولياء بالأعداء ، والصبح لظهوره من طرائق أخبار السفراء ، والعصر لظهوره في خط الاستواء ، لأن شجرة المشاهدة لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ والمراد بقاء الأبصار ، فجمع بين عالم البسيط اللطيف ، وبين عالم التخطيط ؟
الكثيف ، ولم يغير في هذا المشهد شيء من أشكال نظام الأحوال ، فشاهده الإنسان في كماله : بقوة اعتداله ، وما عدا هذا المقام فانحراف عن الاعتدال بنور أو ظلام ، والحق المطلوب والفضيلة عند الرجال إنما هي في المشاهدة والاعتدال ، فضمه إليه عند صحوه ، وأثبته بعد محوه ، وألحفه لحق الجمال والأنس وأمره أن يخلع على عالم النفس ، فلا يفرق الحقائق الروحانية إلّا بتنزلات الرقائق الإلهية .
ولتكف هذه الإشارة في الوسطى من الوسط الأوسط ، فإنها تنزيل من الحكيم المقسط .
وجعلنا اللّه وايّاكم من الأئمة الوسطية : وخصنا وايّاكم بما خص به إبراهيم الفرع الكريم الباسق من الأرض القبطية .
الباب الخامس والخمسون في معنى قوله : « والذين هم على صلاتهم دائمون »
إذا ما صح لعبد الدوام * يصح له الدوام على الصلاة
ففي ديمومية السر المعلى * بشارات الإقامة والثبات
أقامك في المعارج تبتغيه * لتلحقه رداء المكرمات
ففاجأها بنعت لا يسامى * ويعلو عن سمات المحدثات
فعانقها وضاجعها قليلا * فأولدها بسر الذاريات
فلما عاينت شخصا سويا * تعالى عن لحوق المرسلات
تولت نحو حضرتها وقالت * عشقنا الدائمات الملقيات
وقلنا حين قالت ما سمعنا * عشقنا الجاريات الحاملات
من عرف سر وضع الصلوات : لم يزل يستعمله في عموم الحالات ، على تنوع التصرفات ، فلا يبرح على صلاته دائما ، ولسرها حاكما ، ولا يقنع بالاقتصار على محافظة الأوقات ، فإنه لأهل الأشغال والغفلات ،
ولا شغل للعارفين إلّا بربهم : ولا مراقبة لهم في شيء إلّا في قلبهم ، فإن الذي وسعه ، وناداه فسمعه ، فهو في كل الأحيان شاهده وسره ، مع الأنفاس عابده ، فقابل الدوام بالدوام ، وزاد عن التعيين المنفصل عند أصحاب الليالي والأيام ،
فجواد همته في ميدان الديمومية سابح : ونون سره في بحرها المتلاطم سابح وإن كانت للصلاة مرتبتان محققان مرتبة عميمة ومرتبة مخصوصة ، وأسرارها عند المحققين الذين هم على بينة من ربهم منصوصة ،
والدوام إنما يقع في المرتبة العامة وهي المناجاة ، وأما المرتبة المخصوصة فلا يتمكن فيها الدوام ، لاختلاف المقامات ،
وتنوع التنزلات ، لتنوع الحالات فمن وقف على سر الحضور :
لم يقتصر به على بعض الأمور ، وفيه يصح الدوام عند علماء الإلهام .
فقد تبينت الرتب وتحققت النسب .
جعلنا اللّه وإياكم ممن داوم على صلاته في الحكمين ، ففاز بالعلمين .
وقد تمّ الباب : وبتمامه تم جميع الكتاب .
وجميع ما فيه من الأبيات هو من سنوح الخاطر ، على ما أعطاه الوقت الحاضر ، إلّا البيتان اللذان في الباب الأول ، فإنهما لغيري ، وهما :
يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا
الحمد للّه رب العالمين ، وصلاته على محمد وآله أجمعين ، وسلّم تسليما دائما كثيرا كثيرا
***
من التنزلات في معرفة النية والفرق بينهما وبين الإرادة والقصد والهمة والعزم والهاجس
أساس وجود الفعل في القلب خمسة:
فأولها عند المحقق الهاجس، ومن بعده عین الإرادة قائمة، وهم وعزم صادفته، ومن بعد هذا نية مستقيمة، تباشر فعل الشخص والقلب سائس، وقد قيل أيضا النص المحقق، فإن صح هذا القول فالقصد سادس، ومن قال: إن القصد معناه نية فحسب، فإن القصد المقوم خامس.
نزل الروح على القلب وقال: أيها العقل الأقدس اعلم أن الله تعالى إذا أراد إيجاد فعل ما بمقارنة حركة شخص ما بعث إليه رسوله المعصوم، وهو الخاطر الإلهي المعلوم، ولقربه من حضرة الاصطفاء، هو في غاية الخفاء، فلا يشعر بنزوله في القلب إلا أهل الحضور والمراقبة في مرآة الصدق والصفاء.
فينقر في القلب نقرة خفية لتزول نكتة غيبية، فمن حكم به فقد أصاب في كل ما يفعله، وتحجج في كل ما يعلمه.
وذلك هو السبب الأول عند الشخص الذي يعول، وهو نقر الخاطر عند أرباب الخواطر، وهو الهاجس عند من هو للقلب سائس.
فإن رجع إليه مرة أخرى فهو الإرادة، وقد قامت تصاحبه العادة.
فإن قام ثالثة فهو الهم، ولا يعود إلا لأمر مهم.
فإن عاد رابعة فهو العزم، ولا يعود إلآ لنفوذ الأمر الجزم.
فإن عاد خامسة نهر النية، وهو الذي باشر الفعل هذه النية، وبين التوجه إلى الفعل وبين أن يظهر القصد، وهو صفة مقدسة يتصف بها الرب والعبد.
في معرفة أسرار التكبير
قال الروح في تنزله: أعلم أن الجمع في حضرتين، كما بينا من قبل أن الوجود كله بني على اثنتين:
فالله وأعني به الاسم حضرة جامعة لجميع الأسماء الحسنی.
والذات التي لها الألوهية حضرة جامعة لجميع الصفات الذاتية القدسية، والصفات الفاعلية في العالم الأبعد والأدنى، والأرفع والأدنى.
فإذا كنت في حالة من الأحوال، أحوال الأرض وأحوال السماء، فلا تشك أنك تحت قهر اسم من الأسماء سواء عرفت ذلك أو لم تعرف.
أو وقفت في مشاهدته أو لم تقف، فإن ذلك الاسم الذي يحركك أو يسكنك، أو يلونك أو يمكنك.
يقول لك: إنه إلهك ويصدق في قوله، فيجب عليك أن تقول: الله أكبر.
وأنت یا اسم سبب فعله، فلك الرفعة السيئة، ولله الرفعة الإلهية.
ويصح (أفعل) على طريق المفاضلة، فإنها من حضرة المماثلة قال الله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" .
وكذلك له الصفات العلى ، فإن الله هو الرحمن الرحيم إلى ما يعلم منها وما لا يعلم، وما يفهم منها صفاته وما لا يفهم، وعلى هذا يصح «الله أكبر»، وبه ثبتت المعارف الإلهية و تقررت.
واعلم قطعا أن الذات لا يتجلى إليك أبدأ من حيث هيأته، وإنما يتجلى إليك من حيث صفة ما متعالية، وكذلك اسم الله لا يعرف أبدأ معناه، ولا يسكن وقت ما في معناه، وبهذا السر
تميز الإله من المألوه، و الرب من المربوب، ولو لم يكن ذلك كذلك، لألتحق المهلك بالهالك، فقد بانت الرتب، وعرفت النسب، وثبتت حقيقة السبب.
جعلنا الله وإياكم ممن شاهد فخر من الكبر، فتجلى له ما هو أكبر منه، لا رب غيره.
وما أشقى إلا على العمر ينقضي، وليس لنا في الاجتماع نصیب، انتهى..
"الشيخ الأكبر ابن العربي" في إسرائه مع المخاطبة بآدم عليه السلام
قلت له : يا أبت إني أريد أن تخبرني بما علمت من الأسماء، وهل كانت لك خلافة في السماء؟
فقال: يا بني إن القدم الواحدة مخصوصة بالسماء، والخلافة ذات قدمين، فلا يصح فيه وجود الخلفاء.
وما سألت عنه من مقام الأسماء، فإن الله عرض علي الحقائق قبل تأليفها، وعرفني بأسمائها وأسماء من يتألف منها.
وأعلمني بكيفية تركيبها وتصريفها، ثم عرض على الملائكة تلك الحقائق وأخفى عنهم ما أشهدني من الرقائق لما تقدم منهم في حقي من التحريج.
كما رأيته في البناء الصحيح فقال: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين" آية 31 سورة البقرة ، وأشار إليهم لكونهم حاضرین.
ولو أراد الأسماء خاصة لقال: عرضها، وفي قوله: عرضهم، حجة واضحة عرفها من فرضها، فعرفت الملائكة أسماء الحقائق في حال افتراقها، حين اختصصت أنا بمعرفة أسماء ترکیبات حقائقها: " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" آية 32 سورة البقرة.
قال الله جل ثناؤه: "يا آدم انبئهم بأسمائهم" ، فألفت الحقائق بطریق ما، وقلت : هذا قدس بطريق آخر.
وقلت: هذا إنسان، فلما أنبأتهم بأسمائهم، فظهرت حجة الله على خلقه، وقام بهم برهان حقه فبمثل هذه الأسماء اختصصت، وهي التي على الملائكة نصصت.
وإلا فليست في الأسماء عند وجود الأعيان معرفة غامضة عند الأرواح أنها على مجرد الاصطلاح، ولهذا اختلفت عوالم العبارات عنها عند شهودها، ولم تختلف المعاني التي بها قوام وجودها.
فالنفس تعقل معانيها، وإن اختلفت أساميها في مبانيها.
فقلت:
هذه الأسماء الكيانية، فهل اختصصت أيضا بالأسماء الإلهية؟
فقال: عليها فطرت الصورة الإنسانية، انظرها فهي مصرفك، وتحققها فهي معرفتك، بمعرفتها تفاضل أشخاص هذا الجنس، و بمشاهدتها تقدس العقل، و تزكت النفس.
فقلت له: كذلك وجدتها، ولهذا عبدتها، والله أعلم.
في بيان الصلاة الوسطى، أي صلاة هي ولماذا سميت بالوسطى ؟
إن الوسطى من الوسط والفضيلة، فمن جعلها من الوسط فهي المغرب لما جاء في الخبر: إن أول صلاة صلاها (جبرائیل) بالنبي عليهما السلام صلاة الظهر، وقد ثبت ذلك وظهر، فمن جعلها من الفضل فيكون العصر، لاقتران فواتها بمصيبة الأهل والمال وتغير الأحوال.
وقد جاء الخبر الحق في يوم الخندق: إنه عليه الصلاة والسلام أبدل العصر من الوسطى، بدل الشيء من الشيء، ومن العين الواحدة، وهي المختارة المثلى، وقد أثبتتها
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في مصحفها بواو التأكيد، وهذا في المسألة من أعظم التأييد، ومن خالف ما ذكرناه من العلماء الآراء والرواية، فروايات واهية، وآراء ما عليها من طلاوة رونق.
فسلطان هذا الحكم من معارف الرسم، وعلوم الوسم، فنرجع فيها إلى محكم يعلم الكشف المحقق بالنور المطلق.
فأقول:
شاهد عين السر في حضرة الوتر ….. إن الصلاة هي صلاة العصر
"شاهد عين السر في حضرة الوتر ….. إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر"
كان إلى آخر ما ذكره.
وفي معنى قوله والذين هم على صلاتهم دائمون
من عرف سر وضع الصلوات لم يزل في عموم الحالات على تنوع التصرفات.
فلا يبرح على صلاته دائما، و لسرها حاكما، ولا يقنع بالاقتصار على محافظة الأوقات؛ فإنه لأهل الأشغال والغفلات، ولا شغل للعارفين إلا بربهم، ولا مراقبة لهم في شيء إلا في قلبهم.
فإنه الذي وسعه وناداه فسمعه، فهو في كل الأحيان يشاهده، وسره مع الأنفاس عابده، فقابل الدوام بالدوام، وزاد على التعيين عند أصحاب الليالي والأيام.
فجواد صمته في ميدان الديمومية سانح، ونور سرها في بحرها المتلاطم سابح، وإن كانت الصورة في مرتبتين محققتين: مرتبة عميمة،
ومرتبة مخصوصة، وأسرارهما عند المحققين الذين على بينة من ربهم منصوصة. والدوام إنما يقع في المرتبة العامة، وهي المناجاة.
وأما المرتبة المخصوصة فلا يتمكن فيه الدوام لاختلاف المقامات، بتنوع التنزلات لتنوع الحالات.
فمن وقف على سر الحضور لم يقتصر على بعض الأمور، وفيه يصح الدوام عند علماء الإلهام.
فقد تبينت الرتب، وتحققت النسب.
جعلنا الله وإياكم ممن داوم على صلاته في الحكمين ففاز بالعلمين، آمين.
رسالة المحبة
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن للمحبة أربعة ألقاب:
منها الحب: وهو خلوصه إلى القلب وتنقيتها عن كدورات العوارض، فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبه.
واللقب الثاني: الود، وله اسم إلهي، وهو الودود، والود من نعوته، وهو الثبات فيه، وستي الودود لثبوته في الأرض.
واللقب الثالث: العشق، وهو إفراط المحبة، وكنى به بشدة الحب في القرآن العظيم في قوله: " وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" ، وقوله: " قد شغفها حبا"، أي صار حبها ليوسف عليه الصلاة والسلام على قلبها كالشغاف، وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب، فهي ظرف له، فتحيط به، وقد وصف الحق نفسه بشدة الحب، غير أنه لا يطلق اسم العشق والعاشق عليه تعالی.
واللقب الرابع: الهوى، وهو استفراغ الإرادة في المحبوب، والتعلق به في أول ما يحصل في القلب، وليس لله تعالی منه اسم.
وقلنا فيه:
علق بمن أهواه عشرين حجة …. فلم أدر من أهوى ولم أعرف الصبرا
ولا نظرت عيني إلى حسن وجهها …. ولا سمعت أذناي قط لها ذكرا
إلى أن تراءى البرق من جانب الحمى … فنعمني يوما وعذبني دهرا
وقلنا فيه أيضا:
علق بمن أهواه من حيث لا أدري ….. ولم أدر من هذا الذي قال: لا أدري
قد حلت في حالي وحالت خواطري و ….. قد حارت الحيرات في وفي أمري
فبينا أنا من بعد عشرين حجة ….. أترجم عن حب يعانقه سبي
فلم أدر من أهوى ولا أعرف اسمه …… ولم أدر من هذا الذي ضمه صدري
إلى أن بدا لي وجهها من نقابها …… كمثل سحاب الليل أسفر عن بدر
فقلت لهم: من هذه؟ قيل: هذه ….. بنية عين القلب بنت أخي الصدر
فكبرت إجلالا لها و لأصلها ….. فليلي بها أربى على ليلة القدر
واختلف الناس في حده ، فما رأيت أحدا حده بالحد الذاتي، بل لا يتصور ذلك.
فما حده من حده إلآ بنتائجه وآثاره ولوازمه.
ولا سيما وقد اتصف به الجذاب العزيز، وهو الله عز وجل.
وأحسن ما سمع فيه ما حدثنا غير واحد عن أبي العباس بن الصنهاجي رحمه الله تعالى، قالوا سمعناه يقول وقد سئل عن المحبة فقال:
" الغيرة من صفات المحبة، والغيرة تأبى إلا الستر، فلا تحد."
وألطف ما في الحب وجدته، وهو أن تجد عشقا مفرطا، و هوی وشوقا مقلقا وغراما ونحولا، وامتناع نوم، ولذة طعام، ولا تدري فيمن، ولا بمن؟
ولا يتعين لك محبوبك، وهذا ألطف ما وجدته ذوقا، ثم بعد ذلك بالاتفاق.
أما يبدو لك تجلي في كشف فيتعلق الحب به، أو ترى شخصا فيتعلق ذلك الوجد تجده به عند رؤيته، فتعلم أن ذلك كان محبوبك وأنت لا تشعر.
أو يذكر الشخص فتجد الميل إليه بذلك الهوى، فتعلم أنه صاحبك، وهذا من أخفي دقائق استشراف النفوس على الأشياء من خلف حجاب الغير.
فيجهل حالها، ولا تدري بمن هامت، ولا فيمن هامت وما هيامها؟
وتجد الناس في ذلك القبض والبسط الذي لا يعرف له سبب، فعند ذلك إما يأتيه ما يحزنه، فيعرف أن ذلك القبض كان لذلك الأمر.
أو يأتيه ما يسره فيعرف أن ذلك البسط كان لهذا الأمر.
وذلك لاستشراف النفوس على الأمور من قبل تكوينها في تعلق الحواس الظاهرة، وهي مقدمات التكوين، وينسبه ذلك أخذ الميثاق على الذرية بأنه ربنا .
(إشارة الشيخ الأكبر رضي الله عنه إلى الآيات 172- 174 من سورة الأعراف:
"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)").
فلم يقدر أحد على إنكاره بعد ذلك، فيجد في فطرة كل إنسان افتقارا لموجود يستند إليه، وهو الله تعالى، ولا يشعر به بعد ذلك.
ولهذا قال تعالى: "يا أيها الناس أنتم القراء إلى الله " ، يقول له: ذلك الافتقار الذي تجدونه في أنفسكم متعلقة بالله لا غيره، ولكن لا تعرفونه، فعرفنا به الحق.
ولما ذقنا هذا المقام قلنا فيه:
علقت بمن أهواه عشرين حجة ….
بالتمام إلى آخره، والله أعلم.
تم في مكة.
14
رسالة الوقت والآن
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، وصلى الله على سيدنا محمد صفوته من خلقه وآله وصحبه وسلم.
اعلم أيها الأخ الموفق السعيد، بعناية الله الحميد المجيد، أن مدار طريق أهل الله، وهم السادة الصوفية الموصل إلى الله تعالى، على حفظ الوقت، والقيام بحكمه ومرسومه.
وهذا الوقت الذي وقع عليه اصطلاح الصوفية، من الأمور الدقيقة الغامضة التي لا يتنبه لها، إلا المؤيد بنور البصيرة القدسية، والمنصور بعناية الحضرة العلية، والحقيقة الإلهية.
والمراد به وقت المريد السالك الرامي إشارته إلى الحق، عن قوس صدق العزيمة السائرة على ضوء مصباح اليقظة، أو على ضوء مصباح الكشف الصادق، ولا يزال هذا الوقت مشهدا في باب السلوك، مصاحبا للسالك، حتى يفنى رسم السالك في وجود الحق، ثم يحققه بفني رسم الوقت بالحق، ومن هنا قال المتقدمون من علماء الحق:
إن الوقت هو الحق لاستغراق رسمه في الحق، وقد كشف لنا الحق في الوقت أمرا جليلا ذكرناه في الجزء الثاني من كتاب: "السر الأحدي".
وتلخيصه: إن الوقت واحد مشهد، لكنه يختلف بحسب اختلافات المقامات، والمقصود ها هنا: ذكر وقت المرید
16
الصادق فهو برزخ بين الجلال والجمال، وهو باطنه وباعثه إلى نعت الجمال، وإلى نعت الجلال على السواء.
وذلك أن وقت المريد هو أن من الفرد الأحد، الذي هو أجل أن يعبر بوقت، لنزاهته عن الوقت، و سابقيته على الإلهية والفناء والبقاء في شأن الخلق الجديد، المشار إليه بقوله:
"بل هم في لبس من خلق جديد" ، فالمريد الصادق محتجب في الوقت من أجل المؤقت، بالقيام فيه بحق العبودية للحق على الحضور، وهو في عين ذلك الوقت ملاحظ النعت الجمال واللطف، ولنعت الجلال والقهر على السواء.
فأما كونه ملاحظا لنعت الجمال واللطف، فهو من كونه مخصصا في عين ذلك الزمن الفرد بالوجود، الذي اقتضى الحق منه القيام بالعبودية فيه، التي أوجده لها.
ويشهد ذلك من لطف الحق به، ومراعاته إياه، وحسن توجيهه إليه، في عين ذلك الزمن الفرد.
وأما ملاحظته لنعت الجلال في عين ذلك الوقت الدقيق، فهو من حيث ملاحظته بسلب وجوده، العائد لله في عين ذلك الوقت بالعبودية.
فإن وجود الكائنات كلها، إنما هو ثوب معار عليها بتخصيص من الحق، ينزعه مالكه إذا شاء بأسرع وقت.
فلهذا قلنا لك: إن وقت المريد الصادق برزخ بين الجلال والجمال، فهو لا يشهد في الزمن الفرد العالم فيه الله بالعبودية، إلا مسألة الجواز بين وجوده وعدمه في عين ذلك الوقت وإلى ذلك الإشارة بقولهم: .
"الصوفي ابن وقته" ، فهو وإن كان مخصصا في عين ذلك الوقت بالوجود العالم بالعبودية، فهو لا يحكم على الحق باستمداد الوجود إلى ما فوق ذلك الوقت، الذي هو فيه بالوجود.
وإن شاء سلب عنه الوجود في عين ذلك الزمن، فالمريد عمي من غير الوقت الدقيق في التحقيق، فيقوم الله في عين ذلك الوقت الدقيق، بعبودية مودع على حسب ما يعطيه تحققه في مقام الإشارة، قال عليه السلام:
"إذا صليت، صلى صلاة مودع"، وهو الذي لا يرى له وجودا أبدا على عين وقته الدقيق، الذي هو فيه بالتحقيق، فإذا كانت عبودية المريد عبودية مودع في مقام الإحسان، الذي أشار إليه بقوله عليه السلام:
"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهو مقام المراقبة والحضور، بالمحبة والأدب، حصل الإرب، ونجح القصد، وانطوى رسم الوقت في عين الحق، وهذا هو الصوفي، الذي هو ابن وقته.
وقد ورد في الحديث حين سئل: من أسعد الناس یا رسول الله؟
قال: " أسعد الناس من لم ينس المقابر والبلي، وعد نفسه من الموتى، ولم يحسب من أيامه غد".
وهو عين ما ذكرناه؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ولم يحسب من أيامه غدا بقيت أوقاته الدقيقة الفردية، التي له عند الحضور في الحقيقة.
فإن من عد نفسه في عين كل وقت دقيق من الموتى، فهو ملاحظ عدمه في الزمن الفرد، ملحوظ من باب نعت الجلال، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم الأيام، لكونه مشرعا متكلما عن العامة، فالكلام الجامع الذي يعطيهم مشربه من حيث عمومه، ويعطي ذا الحاجة مشربه من حيث خصوصه.
وهذا مطرد في كلام الله، وفي كلام رسوله؛ فإن الحاجة لا تقع عندهم إلا أيام الرب، التي هي الشهور الإلهية في متعلقاتها؛ لكونهم طالعوا سر الألوهية في المخلوقات، وفرض فعل القدرة وانفعالها في الزمن الفرد، فلم يقع عندهم من العبارة المحمدية والأمر المطابق للمعنى الإلهي.
وأما العامة، فأخذوا اللفظ من حيث عمومه، وساغ لهم مشربه من هذه الحيثية، لتوسع الرحمة المنزلة إليهم، المشار إليها بقوله تعالى:
"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" . فاعلم هذا أيها الأخ الموفق السعيد، واحفظ الوقت المشار إليه:
"بل هم في لبس من خلق جديد" ، فإن السر كله في حفظ الوقت، والقيام بحكمه ومرسومه.
فافهم هذه السدنة الصغيرة، فإنها جليلة القدر، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعده، وعلى أتباعه وجنده وسلم
رسالة الانتصار
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وحده هذه رسالة الانتصار في جواب ما سأل عنه عبد اللطيف بن أحمد بن محمد بن هبة الله كتب بها إليه الشيخ الإمام العالم العارف المحقق محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي رضي الله عنه.
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وعلى عبد اللطيف ابن أحمد ابن البغدادي سلام عليك ورحمة الله وبركاته .
أما بعد فإني أحمد الله على ما ألهم وأن علمني ما لم أكن أعلمه وكان فضل الله عظيما، وأصلي على الموروثة أسراره وعلى آله الطيبين وسلم تسليما.
وقد أنهى إلي بعض الإخوان ممن يوثق بنقله ما جرى بينكم وبين الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الشريف أنفاسي المعروف بالصيقال .
من السؤالات في طريق التصوف ابقى الله رسمه وتمم علينا نعمه فيه، فأخبرني أنه ما سألكم أبو عبد الله الشريف في مسألة إلا أجبتموه على غاية الاستيفاء و الايضاح من طريقة القوم وكلامهم رضي الله عنهم .
ثم أخبرني أنكم سألتموه عن أسولة "أسئلة" متعددة فما أجابكم عن واحد منها ثم رغب إليكم في الجواب عنها .
فما أدري هل تكلمتم عليها أم لا وهنا انتهى الخبر عندي.
وأنا أعزكم الله وإن كنت لم ألق الشريف أبا عبد الله المذكور مجالسه ولاخبرته ممارسة لكن أخبرني غير واحد ممن أثق بنقله إن لأبي عبد الله المذكور باعة متسعة ومجالا رحبا ولا أدري هل ذلك من ذوق أو نقل .
لكن والله أعلم على ما وصل إلى من شاهد حاله أنه من أهل النقل وعجز الناقل في هذا الطريق لا ينظر فإن المسائل ذوقية والناقل حال ومع هذا فإنه يحتمل وقوفه عندي لا حد أربع موانع .
المانع الأول
من طريق الوقت والمكان وذلك المسائل في أنفسها عظيمة القدر إذ هي واردة من الحضرات الإلهية على قلوب أهل الصفاء والوجود، الكلام عليها لا يصلح في كل موطن على ما في علمكم حتى يوجد لذلك وقت وإخوان فربما حضر المجلس من لا يعرف طريقة القوم واشاراتهم لعدم الذوق ومطالعة أغراضهم ومواظبة مجالسة شيوخهم في أوقات ميعادهم فخاف على نفسه وعلى منكر يحضر المجلس فأمسك رحمة به لئلا ينكر فبهت .
ولولا ما اتبع موسى الخضر على شرط عن أمر إلهي لعاقبه على فعله كما تقرر حكمه في شريعته.
ألا تراه لما نسي الشرط وقع الإنكار والسؤال فلما نبهه عليه سكت موسى صلی الله عليهما حتى كان من أمرهما ما كان .
والخضر رأس أهل الطريق وسيد الطائفة فمبنى الطريق في القول والفعل على التسليم وهو قليل.
المانع الثاني
أراد التأدب معكم والتبرك بكلامكم وأخذ الفائدة منكم لسر تخيله فيكم أو علمه فتحصل الفائدة وتكون لنفسه مجاهدة إذ السكوت عن العلم مع القدرة على الكلام من أشق ما يجري على النفس .
اما المانع الثالث
إن الكلام في هذا الطريق إنما هو على الفتح الموهوب اللدني لا على النظر والبحث والتفتيش وإنما هي مراي الهمم مجلوة مهيأة لتجلي الحكم وحصول المشاهدات.
فالقلوب إذا قامت بها الهمم صفت ونطفت فعلت فوصلت فأدركت فملكت فإن شاء تعالی وصلت وإن شاء أمسكت.
والصفاء أكرمكم الله يتفاضل على حسب الطريق فقد يوجد في هذا الطريق صاف وأصفى.
فإذا اجتمع رجلان من هذا الصنف في محل واحد صافية وأصفى بحيث أن يكون الواحد مثلا عنده من نور الصفا قدر نور الشمس وعند الآخر قدر نور بصر الخفاش فلا شك في مذهبنا أنه يغطى عليه بقوته ويمنعه من الكشف.
إذ النور عندنا حجاب لمن ضعف بصره والضعف نفس الوقوف معه.
اللهم إلا أن يحتجب عنه له بسحابة الرحمة والجود فيأتيه من حيث هو ويقتضي إدراكه عنه فحينئذ تقع بينهما المحادثة وهذا من الموانع العظيمة فقد يمكن أن يكون صمت الشريف من هنا .
المانع الرابع
أن يكون صمته من عجز وحصر فرب صاحب علم قد يعجز في مسائل من فروع علمه.
الذي هو سبيله وإذا كان هذا على هذا الحد فأراد العبد الفقير إلى الله تعالى وهو أحقر صوفي في المغرب وأقله سلوكا و أنقصه فتحا واكثفه حجابا مجاوبتكم فيما وصل إليه من سؤالاتكم لأبي عبد الله المذكور .
فوالله لو رأيت الواصلين منا إلى عين الحقيقة لفنيت في أول لمحة
فنائك في الحق ففتح المغرب لا يجاريه فتح إذ حظه من الزمان الوجودي الليل وهو المقدم في الكتاب العزيز على النهار في كل موضع .
وفيه كان الإسراء للأنبياء وفيه تحصل الفوائد وفيه يكون تجلي الحق لعباده وهو زمان السكون تحت مجاري الأقدار وهي الغاية إذا السكون عدم الدعوى.
لا يبقى وجودا ولا رسما فالحمد لله الذي جعل فتح هذا المغرب فتح أسرار وغيره فلا تفتض أبكار الأسرار إلا عندنا .
ثم تطلع عليكم في مشرقكم ثيبات قد فرضن عدتهن فنکحتموهن بأفق المشرق فتساوينا في لذة النكاح وفزنا بلذة الافتضاض .
فارتفعت همة العبد الضعيف إلى إجابتكم عند ما دخل أحرار طريقتنا في خدور الصور والتقديس عن ملاحظات الخطاب ومحاورات الكلام وإن كنت عاصيا في الجواب على أصل الطريق فالسائل بدأ بذلك وجوابنا غيره على مغربنا .
ولذلك ركبت هذا الصعب المهم حتى لا أقعد في مقعد العين .
قال العبد فلنقدم ما يجب أن يقدم بين يدي جوابنا
فنقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل:
السؤال في هذا الطريق عند القوم رضي الله عنهم في معاني الأسرار على حد ما سألت لا يتصور أصلا .
وإنما يتصور السؤال عنهم في المعاملات ونتائج المقامات على حد ما نوجهه عليكم من السؤالات في آخر المسألتين إن شاء الله .
وإنما قلنا لا يتصور السؤال في معاني الأسرار لما نذكره إن شاء الله .
وذلك أن شخصين من أهل هذا الطريق أهل الأذواق جمعهما محل واحد فلا يخلو أن يكونا في مقام واحد أو لا في مقام واحد .
وإذا لم يكونا في مقام واحد فلا يخلو أن يكون أحدهما دون الآخر أو فوقه وليس ثم قسم رابع .
وفي كل قسم ندعي أنه لا يتصور سؤال وعليه أتينا الطريق .
وذلك أنهما إذا كانا في مقام واحد فلا فائدة فيه لأنهما شربا من عين واحدة بكأس واحد .
وإذا قد تقرر هذا وكشف كل واحد منهما على صاحبه فلا يتصور أن يسأل أحدهما الآخر مع حصول العلم عند كل واحد منهما ذوقا.
فسؤال أحدهما صاحبه عن أسرار ذلك المقام مع شهوده له فيه هذيان وفضول.
إذ الصوفي ابن وقته فلا يشتغل فيه إلا بما هو أولى به لأن الوقت عزيز إذا فات لا يدرك.
وصاحب الهمة يريد أن يكون الوقت له وتحت ملکه فلا يتصور سؤال بين المتكافيين إلا على ما سنذكره فيما يأتي إن شاء الله.
فإذا لم يكونا في مقام واحد وعدم التكافؤ فلا بد أن يكون أحدهما في دون الآخر أو فوقه فإن كان دونه وسأله.
فهو عندنا سوء أدب الطريق الأشياء يعرفها كل من دخله ولهذا نرى الشيوخ الراسخة أقدامهم فيها لا سبيل أن يتكلموا السائل على سر أصلا .
لأن السائل لا يخلوا ما أن يكون مبتدئا أميا أو قد مارس العلوم وأخذ منها بطرف أعني علوم الدرس والبحث والاجتهاد لا علوم الأذواق فكشفه إياها للمبتدي
العامي حرام لأنه وضع الحكمة عند غير أهلها وأنها تزیده عمي وجهالة.
وتحصل لها في نفسه فائدة فإن أخذها بتحسين في يوم ما فربما ارتد فشنع عليك بها ورماك بأحجارك والطريق مجهولة والإنكار أسرع إليها من السهم إلى منتهاه .
وإن كان السائل كما ذكرنا فهو لا يقبل شيئا على التسليم إلا بدليل ولما كانت علوم أذواق وعسر الدليل عليها لم يبق إلا أن يدل على أن القائل بهذه العلوم ولي قداوتي الحكمة.
وإقامة الدليل على تصحيح مسألة من مسائل الطريق أقرب وأيسر من إثبات الولاية الشخص على التعيين.
إذ المخبر عن الحق بالعصمة المقطوع بها على صدقه قد فقد وهو الرسول عليه السلام فما بقي لنا إلا تحسين الظن بالله في عباده عند ظهور الطاعة منهم ولزوم التقوى وتخيل الولاية فيمن هو على هذا الوصف من غير قطع بها .
فلا دليل لهم رضي الله عنهم في مسائلهم على التعيين إلا على العموم مثل قوله تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله " سورة البقرة : 282 . " يؤتي الحكمة من يشاء " سورة البقرة : 299 .
لكن من هو هذا من أو بأي دليل أخرجه من التنكير إلى التعريف مع أنا نعلم أن الله أولياء يلهمهم أسراره و يهبهم حكمه.
ولكن متى ادعاها إنسان اتهم ويتهمه الخارج عن طريقته أصلا ومقامه فرعا فتعين الشخص عسير جد أو لو انخرقت له العادات .
فما ظنك بشیخ ربما قد ارتقى عن منازل خرق العادات البشرية الحسية وانتقل إلى خرق عوائد الأسرار التي لا يعرفها إلا من هو في حزبه كيف يكون حاله مع هذا السائل له .
وأكثر تبیین مسائلهم بالأمثلة أو الاسترواح من الكتاب والسنة على صناعة التأويل والاعتبار وأما إن كان فوقه فسؤاله من دونه عناء ولا يتصور هذا منه.
لأن الأعلى عندنا متى ادعي له من دونه تحصل أسرار مقام ما فشاهد حاله يكذبه عنده أو يصدقه على هذا جرت الطريقة .
فسؤال من ذاق من لم يذق من سؤال العنيين لذة النكاح .
اعتراض والانفكاك عنه
فإن قلت وفقك الله ينتقض عليك هذا بأنا وجدناهم يتكلمون بالأسرار السئية ويخاطب بها بعضهم بعضا .
فنقول هذا لا يلزمني إلا إذا اعترضت بأن يقول يتصور الأسرار وتقيمون عليها الأدلة ثم تأخذ سرا من أسرار التصوف وتقول دليل هذا السر من العلم كذا وكذا ونبين به حقيقة السر عند السامع الخارج عن طريقك وحينئذ كان يصح اعتراضك.
وأما التحدث بالأسرار بينهم لا أنكره وأنه من باب التحدث بالنعم کرجلين أحضرهما الملك في بساط مشاهدته و ارتاعا في رياض أنسه ثم انصرفا من عنده و قعدا يتحدثان بما شهده في ذلك المجلس من محادثاتهما للملك ومحادثته لهما وما عايناه في تلك الروضة من اطراد الأنهار وسمعاه من نغمات الأطيار واستنشقاه من نفحات طيب الأزهار وطعماه من
فنون فواكه الثمار، فعلى هذا الوجه يكون التحدث بالأسرار بينهم لا على طلب وجه الدليل فهذا وفق الله الولي أنبتنا عليه الطريق على ما في کریم علمه.
تذكرة
ثم أذكر وليي بعد هذا فإن الذكرى تنفع المؤمنين . وهو أن السؤال في هذا الطريق له شرط عظيم أعني في موضع السؤال وحيث يجب كما تقدم وهو أن يكون السائل عارفا بمقام المسألة وقدرها ومن أين صدرت؟
و من حظها من الحضرات الوجودية ؟
وعارفا بقدر المسؤول عنها ومقامه منها . فإن شهد للسائل حال المسؤول بمسألته حينئذ يسأله ليجمع بين قوله إن أمكن من النطق وبين حاله إذ قد تقرر في طريقتنا أنه متى ذاق الرجل شيئا من مقامات هذا الطريق وحصل عنده تخلقا فلا بد له من تأثير على ظاهره أصلا .
فيسمون ذلك التأثير شاهد الحال وهو الصحيح الذي يعول عليه لا الفصاحة ولا الجعجعة .
ألسنا نشاهدهم عند قطع الأسباب والسكون تحت مجاري الأقدار والفرح بما يرد عليهم من الله تعالى من أنواع الآلام والعذاب لا يتغيرون .
هذا هو شاهد الحال لهم على قوة اليقين والرضاء والتسليم لمراد الله تعالی.
سواء ساء ذلك أم سر نفع أو ضر إنما هم يشاهدون القائل في الفعال فلا يرون إلا حسنة .
ولهذا نرى كل إنسان في هذه الطريقة يتكلم وليس كل إنسان يتصف .
فكان ينبغي لك أيها الولي الحميم، وإن كان سوء أدب مني في حقك لكنها معاتبة وغيرة مني عليك أن تنظر إلى شاهد حال من سألته.
فإن شهد لك حاله برسوخه في تلك المقامات التي سألته عنها ولم يكن من النطق فعذره مقبول وشاهد حاله فصيح .
وإن كان على غير ذلك وسألت من لا يحب سؤاله فقد لزمك الندم والاستغفار ووجبت لك التوبة مما أتيت به والتضرع بالإقالة مما عثرت فيه.
وعرف الولي عرفه الله ذنبه وجعل ممن أثر ربه إنما أنهي إلى من أسولتكم للشيخ أبي عبد الله سوى مسألتين المسألة الواحدة كيف يجمع بين قول رسول الله ؟
من طلب الله وجده وبين قول أبي يزيد رضي الله عنه "السالك مردود والطريق مسدود" ؟.
وهذا كما لا يخفى عليكم فإن القائل بالوجه الواحد ليس هو القائل بالوجه الآخر ولا يصح تعارض کلامین ويطلب وجه الجمع بينهما أو بإبطال أحدهما حتى يكون القائل لهما واحدة .
أو يكون من شخصين تكلما عن مقام واحد في مسألة واحدة فيكون عين ما ثبته الأول عين ما نفاه الآخر أو يوهم اللفظ ذلك مسألتنا ليس فيها من هذه الشروط شيء.
والمسألة الثانية قول الحسين بن منصور :
سقاني مثل ما يسقي ..... كفعل الضيف بالضيف
ما معنى هذا البيت ؟.
فتعين لي أن أجيبكم عن هاتين المسألتين اللتين صحتا عندي في مقام يرتضيه الوقت ويسلمه السامع .
وأعرج عن المراد في تحقيقها إلا لو وقعت المشافهة ثم بعد كلامي عليهما إن شاء الله أوجه على الولي في هاتين المسألتين خمسين سؤالا أطلب جوابه عنها تبركا بكلامه وتيمنا بخطه والله يمد الجميع من خزائن لطائفه بالإصابة إن شاء.
المسألة الأولى
سأل الولي تولاه الله كيف يجمع بين قول الحبيب رسول الله ؟
"من طلب الله وجده" وبين قول أبي يزيد رضي الله عنه "السالك مردود الطريق مسدود".
قد تقدم ما وقفت عليه فنقول ينبغي أن لا يسأل عنه من شم من طريقة القوم رائحة، ولا من بدت له لائحة لقربه على الأفهام ، فإنه متى أمكن الجمع بين شيئين يظهر بينهما التعارض بوجه ما وبين حصل الغرض والمراد .
وقد يجتمعان من وجه ووجوه آخر خلاف ذلك لا يعرفها إلا من مارس العلوم ورسخ قدمه فيها .
ونحن الآن نجمع بينهما إن شاء الله بأيسر شيء في الطريق وستر ما فوقه وما هو أعلى منه وأغمض لعلو منصب أبي يزيد لا غير رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا سبيل إليه إلا بحكم الاتباع خاصة.
وأما غير ذلك من المقامات فلا، ونوجه على الولي وفقه الله بعد فراغنا من الكلام على هذه المسألة يتبين سؤالا ولو شئنا بلغنا بها أكثر من ذلك لكن اقتصرنا على السؤالات التي تتعلق ببعض الظاهر منها وتركنا ما عدا ذلك لئلا يتعسر على الأفهام ويقال لنا من أين يلزم هذا السؤال وليس في ظاهر اللفظ ما يعطيه ولا ما شهد له فلذلك تركناها.
ووجه الجمع بينهما بالاستفصال وذلك أنا نقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب الله وجده هذا صحيح لكن قوله صلى الله عليه وسلم من طلب الله يعني بالله أو بغيره إن كان بالله فضرورة أن يجده ومن طلبه بغيره كيف يصح أن يجده ومعنى وجوده إثبات التوحيد له في ذاته وفي صفاته وأفعاله .
والطالب له تعالى بنفسه لا يصح له هذا التوحيد فإن الاكتساب وإن أضيف له فهو مجاز فإنه لا يصح أن يطلب الله ويجده .
إلا الذي يطلب معرفته تعالى بفعله لأن طلب العبد الله تعالى إنما هو فعل من أفعال الله خلافا لما يدعيه مخالفوا أهل الحق .
فإن وجود الحق في حق من طلبه به يجعل الواحد له كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء .
ومن تكون له إرادة فليس بميت ولا خرج من رق الدعوى والطالب له بنفسه من هذا القبيل نعوذ بالله لا أشرك به أحدا.
فإذا تقرر مفهوم هذا اللفظ فقول أبي يزيد رضي الله عنه السالك مردود والطريق مسدود
يجتمع مع هذا الخبر الصدق ويكون هذا الكلام في حق الطالب نفسه لأنه لا يصح له وجود أبدأ .
ونفس السلوك هو الطلب فلا فرق بين أن يقول طلب أو سلك فما دام السالك يثبت لنفسه سلوكا من نفسه ومعنى هذا أنه يشاهد في سلوكه نفس سالکه بإرادتها اختيارة منها وغاب عنه في ذلك المقام أن الله آخذ بناصيته كما دل عليه النص والعقل فهو مردود.
وعين سد الطريق دونه فقده لوجود التوحيد الذي ذكرناه لأنه كيف يصح أن يجده فاعلا على الإطلاق والكمال وهو يجعل معه في ملكه فاعلا غيره .
مثل المعتزلي وإن كان مسلمة مؤمنا فإنه طالب لله تعالى ومع كونه طالبا بضيف الطلب لنفسه حقيقة وجميع أفعاله التي تحت اختياره، فانظر هل وجد الله من يكون سلوكه على هذا المنهج قط.
فإنما أراد أبو يزيد في ظاهر التصوف ما ذكرناه آنفا، وأما في باطن التصوف عند التحقيق وفي أي مقام نطق بهذا الكلام وأي شيء كان المتجلى له في ذلك الوقت فليس هذا موضعه وقد اعتذرنا عنه .
وقد ظهرت المسألة بحمد الله تعالی وجمع بينها وبين كلام رسول الله ؟
وبعدما تقرر هذا فإني أوجه على الولي وفقه الله في هذه المسألة ثلاثين سؤالا.
الأول : لم خصص اسم الله في قوله من طلب الله دون غيره من الأسماء؟ .
الثاني : هذا الطلب كيف يكون مقيد المعنى أولا مقيدا ؟ كقوله :"ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما" [النساء: 110].
الثالث: ما سبب هذا الطلب .؟
الرابع : هل هذا الطلب من المقامات المستصحبة أم لا.؟
الخامس: الطلب في أي مقام يكون. ؟
السادس: قوله من طلب هل هو على حده من العموم أو يراد به الخصوص ؟.
السابع : الكلام في هذا الطلب هل هو من لوح المحو والإثبات أو من أم الكتاب.؟
الثامن : هل هو على الشرط أو على الخير . ؟
التاسع : هذا الوجود هل هو وجود الذات نفسها أو غيرها؟.
العاشر : هذا الطلب هل هو بالجسم أو بالهمة أو بهما معا؟ .
الحادي عشر : هذا الوجود هل هو من الوجود الذي يصح بعده الرجوع. ؟
الثاني عشر : هذا الوجود هل يبقى معه رسم أم لا؟.
الثالث عشر : هذا الوجود هل هو وجود مکاشفة أو وجود مشاهدة .؟
الرابع عشر : هذا الوجود هل هو من مدركات السر خاصة أم لا.؟
الخامس عشر : هذا السالك ما هو. ؟
السادس عشر: متى كان هذا السالك سالكة. ؟
السابع عشر : إذا رد هل يزول عنه اسم السالك أم لا.؟
الثامن عشر : الطريق ما هو. ؟
التاسع عشر: هل أراد طريقة معينة أو جميع الطرق التي للتصوف.؟
العشرون: كيف يكون السر. ؟
الحادي والعشرون: كيف يكون هذا الرد. ؟
الثاني والعشرون: اين يصل هذا السالك وحينئذ يرد؟.
الثالث والعشرون: هل هذا الكلام حال أو نقل. ؟
الرابع والعشرون: السالك هل أراد به الجنس أو العهد.؟
الخامس والعشرون: بما يرد.؟
السادس والعشرون: بماذا يسد.
السابع والعشرون : لأي شيء يرد.؟
الثامن والعشرون: لأي شيء يسد.؟
التاسع والعشرون: هل هذا السلوك يصح معه وصول أم لا وإنما منع ذلك أبو يزيد لعله .؟
الثلاثون: كيف يجمع بين الحديث وكلام أبي يزيد من غير هذا الوجه الذي ذكرناه؟ فهذه وفق الله الولي ثلاثون سؤالا على الاختصار .
وتركنا من الأسئلة التي تتعلق بظاهر المسألة جملة .
المسألة الثانية
وهي قول الحسين "بن منصور الحلاج" رضي الله عنه :
سقاني مثل ما يشرب ….. كفعل الضيف بالضيف
الصوفية وفق الله وليي، أضياف الله تعالى في الأرض وردوا عليه من الأغيار ونزلوا بحضرته فأضافهم بمعرفته ولهذا قيل لشيخ الشيوخ جعفر بن أبي مدين رضي الله عنه كان بتجانة رحمه الله في قطعه الأسباب وجلوسه مع الحق تعالى في بساط مشاهدته .
فقال شيخ الشيوخ الضيف إذا ورد على أحدكم فإنه في كنفه وتحت كرامته ثلاثة أيام.
بعد ذلك يقال له احترف في تلك الثلاثة الأيام فهو غير عارف بالسنة .
وإن ترکه صاحب المنزل فهو عارية.
قيل له: صدقت
فقال رضي الله عنه فإن كانت الضيافة ثلاث والصوفية أضياف الله تعالى على ما قدمنا فليس لنا أن نحترف حتى تكمل لي ضيافتي بكمال الثلاثة الأيام .
وأيام الله كما قال تعالى : "وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" [الحج: 47]. فيأخذ ضيافته على حسب أيامه فإذا كمل لي في بساط حضرته ثلاثة آلاف سنة ثم لا أحترف بعدها حينئذ يقول لي ترك السنة قم فاحترف.
فانظر هذا النور الإلهي ما أسناه وإنما سقنا هذا القول تمهيدا القوله كفعل الضيف بالضيف.
ثم نقول الجواب وفقك الله عن هذه المسألة:
من وجوه على حسب المقامات حتى لو نطق الرجل بهذا الكلام من غير هذا المقام الذي يعرفه فيه لكان شرحه على وجه آخر غير الوجه الذي نورده في شرحه إن شاء الله.
ولقد رأيته في النوم فسألته ما معنى قولك سقاني مثل ما يشرب.
فأجابني: ليس كمثله شيء .
والكلام عندي فيه من صفات الجلال ومن صفات الكمال ومن السبع المثاني ومن قوله يحبهم ويحبونه ومن أشياء أخر لكن اضطرني حال الرجل إلى الكلام عليه من مقام شهد الله أنه لا إله إلا هو لقوله:
ما قد لي عضو ولا مفصل ….. إلا وفيه لكم ذکر
وليس يريد الذكر الذي يكون معه الحجاب فإنه قد نبه عليه بقوله ولو وقعت المشافهة بيننا لكان الكلام أبسط وأتم .
ولكن أجيبك إن شاء الله على أني في حال قبض وهيبة فأقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
نطق الرجل رضي الله عن ذوقه وأعرب عن حاله وصرح بما وصل إليه وذلك أن رب العزة لما أقعده في بساط المنادمة وهو أول مقامات الأنس أدار عليه كأس راح الارتياح إليه لشراب .
"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم" [آل عمران: 18] الممزوج بماء العناية فلما تحساه وسرى في أعضائه أخذته أريحة الطرب وسكر ذلك المقام فكشف له عن سره .
فرأى توحید رب العزة وقد تقرر في سره في توحيده في ذاته وصفاته وأفعاله ثم نظر إلى عالم الله تعالی فوجد أن رب العزة توحيده في علمه القديم القائم به علي
28
فصاح لما عاين ذلك منشدة (سقاني مثل ما يشرب) فكني بالشرب عن العلم القديم وکنی بالمثل حملا على نفسه و تجوزا في لفظه.
إذ الشرب بعد عدم سابق وشرك حاصل والقديم منزه عن هذا كله والشعر موضع تجوز.
فلما صدر منه هذا القول جرد رب العزة سيف العين وضرب عنقه بيد ليس كمثله شيء على نطع الفناء الكلي عند دور كأس معرفة المشاهدة .
فعند ذلك قال:
فلما دارت الكأس ….. دعا بالنطع والسيف
ثم قيل له ناد عليك بلسانك وصف الحالة ونزه قاتلك ونديمك عن الحيف فإني سأظهر فيك عجبا فنادى بلسانه على نفسه قبل أن يؤخذ من تركيبه ومحبيه وقال : نديمي غير منسوب …. إلى شيء من الحيف
سقاني مثل مايشرب …. كفعل الضيف بالضيف
"فلما دارت الكأس دعا بالنطع والسيف.كذا من يشرب الراح مع التنين في الصيف) ثم رده إلى وجوده بسكره كما ذكر فصلب كما شهر .
اعتراض: فإن قلت وفقك الله أن المقام الذي أشرت إليه في المسألة من التوحيد هذا هو اعتقاد أهل السنة وفيه أفنت الأشعرية أعمارها حتى علمته فأي غريبة أتي هذا الصوفي أو بأي صفة زائدة ورد علينا.
انفصال: قلنا صدقت وفقك الله فيما قلت لكن بين الصوفي والأشعري في هذه المسألة ما بين علمت وعاينت هو المعنى اللطيف الذي يفضل به الشاهد الغائب.
إن علمنا قطعة أن الخليفة في الوجود لسنا كمن شاهده وشاهد حضرته فقلد في مشاهده صفة واحدة من صفات جلال الله عند فنائك عن نفسك نعني كل أشعري على البسيطة ليس بصوفي .
ولهذا قيل:
ولكن للعيان لطيف معنى …. لذا سأل المعاينة الكليم
وهذا هو عين اليقين الذي يفضل علم اليقين.
ودليلي على ذلك أن أهل السنة وإن كان هذا هو اعتقادهم فإنهم يتغيرون عندما تجري أمور الله تعالى عليهم على غير مرادهم مخالفة لأغراضهم .
فكيف عند حلول البلايا العظيمة وهذا لعدم مشاهدة المعذب في العذاب أو المنعم في النعمة.
وهذا الرجل صاحب البيت وكل من حصل في مقامه لا يتغير لذلك بل يلهج فرحا بمراد الله تعالی فيلحظه ساکن تحت مجاري الأقدار.
وسكونه عبارة عن ترك الاعتراض في فعله فيه .
فبهذا فضلت هذه الطائفة غيرها وقد شوركوا في العلم وهذا القدر كاف في الجواب عن هذه المسألة .
وأنا أوجه على الولي وفقه الله في هذا البيت عشرين سؤالا على التحرير كما تقدم في المسألة الأولى.
السؤال الأول: من أي مقام نطق صاحب هذا البيت بهذا الكلام هل من مقام الجمع أم من مقام الفرق ؟ ويتوجه عليك في أي مقام أدعيته منهما سؤالان .
السؤال الأول: إن كان في مقام جمع ففي أي جمع، في جمع الهمم؟ أو في جمع الأسرار؟.
وإن ادعيت أنه كان في الفرق ففي أي فرق في فرق السلوك؟ أو في فرق الرجوع؟.
الثاني : هذا السقي ما هو. ؟
الثالث : كيف يكون هذا السقي . ؟
الرابع : بماذا يكون. ؟
الخامس: في أي مقام يصح.؟
ولا السادس : هل هو من السقي الذي يكون عنه السكر أم لا. ؟
السابع : هل يصح بعد هذا السقي صحو أم لا إن كان يولد السكر .؟
الثامن : هل يستصحب هذا السقي المقامات أم لا.؟
التاسع: هل روي بهذا السقي أم لا. النهاية العين . ؟
العاشر: هل هذا السقي سقي فناء أو سقى بقاء.؟
اما الحادي عشر : الساقي المضمر في سقاني من هو.؟
الثاني عشر : المثلية لغوية هي أم عقلية. ؟
الثالث عشر : هذا الشرب ما هو.؟
اما الرابع عشر: الشارب المضمر في شرب من هو.؟
الخامس عشر : كاف الصفة من فعل هل هي ومثليه الشرب على حدوا حد أم لا؟.
السادس عشر: الضيف بالضيف هل أراد ضيفين في بساط مستضاف غيرهما أو کنی بالضيف الواحد عن المستضاف تجوزا.؟
السابع عشر: هل حكم الضيف هنا حكم ضيف العامة أم لا.؟
الثامن عشر: هل خاطب وجوده بوجوده أو هل خاطب موجده ؟
فهذه ثمانية عشر سؤالا، والسؤالان اللذان في الجمع والفرق في أول سؤالات هذه المسألة فهذه عشرون سؤالا .
ومثل الولي وفقه الله من يتفضل بجواب وليه في الخمسين سؤالا مع حامل ويفيض عليكم بمواده العلية الكتاب لا زال الحق يمدكم بأنواره من الحضرة الربانية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تمت الرسالة بحمد الله ومنه والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا
محمد وآله وصحبه وسلم.
السلام
كتاب المنزل القطب و مقاله وحاله
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على النبي وآله وسلم تسليما
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا.
اعلموا وفقكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل منزل القطب من الحضرة منزل السر وهجيره من الأسماء الإله .
ثم جعل منزل الإمام الذي عن يسار القطب منزل الجلال والأنس وله الاسم الرب فله صلاح العالم والنبات وعنده سر البعدية وبيده المقاليد وهو السيد الطاهر في العالم وهو سيف الإمام القطب.
ثم جعل منزل الإمام الذي عن يمين القطب منزل الجمال والهيبة وله الملك والسلطان بالمقام لا بالفعل وبيده مقاليد عالم الأرواح المجردين عن الصور المسخرين وكيف هيأتهم في الحضرة الإلهية
وأن القطب وجه بلا قفا قال صلى الله عليه وسلم : «إني أراكم من وراء ظهري» فأثبت الظهر حكمة على المادة ونفي حقيقته بوجود النظر منه وجعل الوراء إثبات لفقدهم وجعل إمام اليسار ذا وجهين وجه مركب .
وهو ما يقابل به العالم ووجه بسيط وهو ما يقابل به القطب وجعل إمام اليمين ذا وجه واحد واقفة ثم غيبه عن الشعور بقفاه فلو سئل لقال إنه وجه بلا قفاء .
وقد بينا منزل الإمامين في الفلك القلبي من کتاب مواقع النجوم ونحن نتكلم إن شاء الله في هذا الباب على منزل القطب والإمامين بما يليق من هذا الكتاب .
منزل القطب ومقامه وحاله
القطب مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق، علیه مدار العالم له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق بالخير والشر على حد واحد لا يترجح واحد على صاحبه وهو عنده لا خير ولا شر ولكن وجود ويظهر كونها خيرة وشرة في المحل القابل لها بحكم الوضع عند أهل السنة وبالعرض والعقل عند بعض العقلاء.
قال تعالى : "فألهمها فجورها وتقواها " [الشمس: 8] .
وضعا صحيحة من سر الآلهي ثم ظهرت الجنة والنار وجميع النسبة في الوجود نظير الحضرة الذاتية الإلهية ومنها قوله تعالى والله باسم الذات الجامع يقبض ويبسط وبيده المنع والعطاء وعلى التحقيق الذي لا خفاء به عند المحققين أن ماثم منع البتة بل عطاء سرمد .
لا ينقطع وفيض دائم وإنما المنع في الوجوب الإلهي الذي أطلق عليه لأمرين، الواحد أن المعطون ليس من حقائقهم أن يقبلوا العطايا كلها في الزمن الواحد لكن يقبلوا بعضها فعدم القبول للبعض سميناه منعا إلهية .
إذ قضية العقل عند من يعتد بهم عقولهم يعطى إن لو شاء لأعطي الممنوع الممنوع له في الزمن الذي منعه إياه .
وهذا صحيح ولكن لو حرف مشوم ما اقترن قط إلا بما لا يكون.
قال تعالى : "لو أراد الله أن يتخذ ولدا" [الزمر: 4]. "لو أردنا أن نتخذ لهوا" [الأنبياء:217 ] . "ولو شاء ربك ما فعلوه" [الأنعام: 112] . "و ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها " [السجدة: 13].
وأما الأمر الذي لأجله سمي مانعا وليس بمانع وذلك أن العقول تقصر عن درك بعض ماهیات الموجودات فإن الحدود الذاتية عسيرة المنال وأكثر العقول إنما تعرف الأشياء بالحدود الرسمية واللفظية فافاض الحق جوده على الأشياء فيضا مطلقا .
كفيض الشمس نورها على الأرض للمبصرين فاختلف القبول الاختلاف المجال لا أن النور مختلف ولكن قبول الأجسام الصقيلة له ليس كقبول الأجسام الدرنة.
وأما من هو في كن فليس له إلا ضد النور وهو عطاء أيضا فيصف المنع هذا المحروم الممنوع للحق .
وهو الذي حجب نفسه إما بحقيقته وإما بعرض مثل الفعل والكن والران والضدا وغير ذلك من العوارض .
التي يمكن زوالها ولكنه مدرکه لحجبها إدراكا صحيحا ولسوقها إلى غير حجبها سمیت ممنوعة مما تشوقت إليه .
فمنزل القطب حضرة الإيجاد الصرف فهو الخلفية ومقامه تنفيذ الأمر وتصريف الحكم و حاله الحالة العامية لا يتقيد بحاله تخصیص فإنه الستر العام في الوجود وبيده خزائن الجود والحق له متجل على الدوام.
ولهذا قال الصديق ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله وله من البلاد مكة ولو سكن حيث ما سكن بجسمه فإنه محله مكة ليس إلا ولا بد لكل قطب عندما يلي مرتبة القطبية أن يبايعه كل سر وحيوان وجماد ما عدا الإنس والجان إلا القليل منهم فقد صنفنا في هذه البيعة وكيفية انعقادها كتابة كبيرة سميناه کتاب مبايعة القطب في حضرة القرب.
فالإسرار إليه منصة إذا كان المحبوب يعرفه كل شيء فكيف القطب الذي توقفت عليه حوائج العالم من أوله إلى آخره .
قال عليه السلام إذا أحب الله عبدا أخبر به حملة العرش وأمر جبريل أن ينادي في السموات باسم ذلك العبد حتى يعرفوه ويحبوه ثم يوضع له القبول في الأرض .
ولهذا رأيت من رأى الحية العظيمة التي طوق الله بها جبل قاف المحيط بالأرض وقد اجتمع رأسها مع ذنبها فسلم عليها فردت عليه السلام .
ثم سألته عن الشيخ أبي مدين الكائن بجابية من بلاد المغرب.
فقال لها وأني لك بمعرفة أبي مدين فقالت وهل على وجه الأرض أحد لا يعرفه إن الله تعالى منذ وضع اسمه على الأرض ما بقي منا أحد إلا عرفه .
هذا حال المحبوب فكيف حال القطب الذي هذا المحبوب حسنة من حسناته وبه صلاح العالم وإليه ينظر الحق في الوجود .
ونرجو إن شاء الله عن قريب يظهر عنه للخاص والعام فالزموا طريقته وعضوا عليه بالنواجذ .
وسأل بعض العارفین عارفا آخر وأنا حاضر بمدينة فاس عن شخص الوقت هل هو الآن موجود أم لا .
فقال المسؤول لا ولكنه ينتظر فعرفنا قصوره .
وقلت ما عنده من معرفة سر الله المبثوث في العالم شيء فلو علم أن القطب صاحب الوقت ما من يهودي ولا نصراني ولا نحلة من النحل وملة من الملل إلا ونفسها صبه إليه محبة فيه للسر المودع عنده .
وإنما تنكر الاشخاص للجنسية وهي الفتنة الإلهية .
قال تعالى : "ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا" [الأنعام: 9]
وقال : "لنزلنا عليه من السماء ملكا رسولا" [الإسراء: 95] .
"وما نراك إلا بشرا مثلنا" [هود: 27]
وقال : "يأكل مما تأكلون منه ويشرب ما تشربون" [المؤمنون: 33].
فهم ينظرون ظاهره إنكارا يؤدي إلى الموت وهم يعشقونه بأسرارهم ولكن ليس لهم علم بأن هذا الشخص المطرود هو الذي عنده السر الذي تعشقوا به.
ولهذا كان عليه السلام يقول :"اللهم اهدى قومي فإنهم لا يعلمون" .
وهكذا يقول المحمدي منا حين قال : من نزل عن هذه المرتبة "ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" [نوح: ۲۹] .
وهكذا يقول من ورث غير المحمدي منا فالقطب يتعجب ممن يقاتله عليه فإن السر الذي قاتل الكفار عليه الأنبياء وذبوا عنه هو الذي جاءت به الأنبياء و اتصفت به .
فلما كان الظاهر ضيقا لأنه طرف قرن الصور انضغط العالم فيه فحارت الأسرار لذلك الانضغاط فلو انفسحت . انفساح الملائكة لنظرت إلى الحق وهي مشتركة.
فالأقطاب متفاضلون في هذه المرتبة قال تعالى: « تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" [البقرة : ۲۰۳] .
فأكمل الأقطاب المحمدي وكل من نزل عنه فعلى قدر من ورث فمنهم عیسویون و موسويون وإبراهيميون ويوسفيون ونوحيون وكل قطب ينزل على حد من ورثة من الأنبياء .
والكل في مشكاة محمد عليه السلام الأمر الجامع للكل وهم المتفاضلون في المعارف غیر المتفاضلين في نفس القطبية وتدبير الوجود.
فإن هذه الدورة المحمدية الذي الولي فيها بنی ليست مثل الدورة الترابية فإن الدورة الترابية كان يوجد في الزمان الواحد نيين وثلاثة وأكثر .
كل شخص لطائفة مخصوصة كإبراهيم ولوط في وقت واحد في تلك الدورة تقتضي ذلك بحقيقتها .
وهذه الدورة العلوية المحمدية ليست كذلك فإن الزمان قد استدار كأوله ولهذا قال عليه السلام :"لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني".
وقال :"إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما".
فليس الحكم كالحكم ولا الدورة كالدورة وقد تقدم الكلام في استدارة الزمان من هذا
34
أولياء هذه الأمة فقد جمع صلى الله عليه وسلم بين النبوة في دورته والولاية في دورتنا فله حشران. .
فإذا قلت فيه ولي فالصديق خلفه وغيره .
وإذا قلت عليه السلام إنه نبي رسول فالصديق أمامه وغيره .
فما أعجب معرفة الحقائق وهكذا الناس وكل رسول أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة ولهذا قال:"كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران: 110].
فكانا للناس مثل النبي للناس "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" [البقرة : 143] .
أي خيار ان تكونوا شهداء على الناس "ويكون الرسول عليكم شهيدا" [البقرة: 143] فجعل حكمنا ومنزلتنا في غيرنا من الأمم منزلة الرسول منا فنحن في حقهم رسل .
ولهذا قال عليه السلام :"علماء هذه الأمة أنبياء سائر الأمم" في هذه المنزلة والمرتبة وكما يحشر كل نبي مع أمته كذلك يحشر كل قطب مع أهل زمانه صالحيهم وطالحيهم .
وأعجب ما عندنا من العناية الإلهية التي صحت لنا بمحمد صلى الله عليه وسلم أن الرسول يحشر فجري الحكم لاقترانه أنه بطائفة مخصوصة .
والقطب منا ليس كذلك فإنه عام جامع لكل من في زمانه من بر وفاجر وإن كان ورثه عيسويا أو موسويا فلا يقدح ذلك فيه .
فإنه من مشكاة محمدية فله المقام الأعم وقد نبه عليه صلى الله عليه وسلم .
فقال:عن طائفة "ليسوا بأنبياء يغبطهم النبيون" للبركة المحمدية التي نالتهم من المقام الأعم .
وسيأتي إن شاء الله من هذا الكتاب أبواب كثيرة من أحوال الأقطاب وتفاضلهم في المنازل مستوفي إن شاء الله تعالى.
وبين أيدينا اليوم تلميذ يخدمنا أرجو أن يكون منهم من أكابرهم وقد بشرنا بذلك .
وأما مناجاة هذا المنزل المبارك فأنا أذكرها وحينئذ اذكر منزل الإمامين إن شاء الله من هذا الباب .
مناجاة هذا المنزل المحمدية
بسم الله الرحمن الرحيم
تلك تميمة الولهان لطارق الإنس والجان، فقل أعوذ بالإله الملك الرب من شر ما يغرا "يوغر" في القلب، حاك في الصدور، محدثات الأمور .
وسمة القلوب في طلب الغيوب بالسر الموهوب ذلكم حكم الله يحكم بينكم، يا أيها الناس أنتم ثلاثة أطباق هلال الطبقتين في محاق وشمس الواحد في إشراق إن ربك هو الخلاق العليم.
يصلح العالم بعلمه ويؤتي الملك بحكمه وينفرد الوسط وإن تأخر في المسطور بسر نظمه.
إن حکیم علیم سر الغيب والشهادة علم في رأسه نار يضيء للبصائر السليمة والأبصار.
فالله يعلم ما يسرون وما يعلنون من جاء ثم حبس لم يزل في لبس من خلق جديد والله على كل شيء شهید.
ختمت اللهم بحق إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومحمد والحسن والحسين صلى الله عليهم أجمعين .
إلا ما شفيت صاحب هذه الأسماء وحاملها من كل داء وعصمته من شر كل شر يهجس في النفس
منزل الإمام الأكمل
الذي على يسار القطب بينه وبين منزل الاتحاد أن يموت القطب فينتقل السر إليه فإن الاتحاد للقطب فإن الإمام قد يموت في إمامته ویلي مكانه الإمام وينتقل واحد من الأربعة إلى مكانه الإمام الآخر.
وهكذا يتفق في الإمام الآخر ولهذا الإمام المسمى برب العالم وهو عبد الرب.
فما قاتلوا عن ربهم و ربيبهم ….. ولا آذنوا جارا فيظعن سالما
فعبد الإله هو القطب وليس عند الله أحد البتة وهذا الإمام عبد الرب والإمام الآخر عبد الملك وأسماء بقية العبيد على حسب مقاماتهم .
فلهذا الإمام معرفة سر الأسرار وله التدبير الإلهي وله في العدد أسرار الإلهية لا يعرفها غيره .
ويختص هذا الإمام بعلم الصنعة المعشوقة ويعلم خواص الاحجار وهي عنده مكتمة وربما قد يحصل له من معرفة أسماء الانفعالات ما يكون منها حقيقية .
وله في المحاربات والمكائد أمر عجيب وهو على النصف من عمره مع العالم وعلى النصف مع القطب أو الحق المخلوق على السواء إلى أن ينتقل إلى القطبية أو يموت .
وقد تظهر صولته في عالم الكون بالسيف وقد تظهر بالهمة على حسب ما سبق له في الأزل وهذا الإمام عنه تظهر أسرار المعاملات على هذه الهياكل الترابية وله خمسة أسرار:
سر الثبات به يعلم حقائق الأمور وبه يدبر ويفصل ویولد ويزوج ويعبر على سر الرموزات وفك الطلسمات وأصول الأشياء الظاهرة والباطنية والحقيقة وغير الحقيقية وله خرق السفينة وله إقامة الجدار وليس له قتل الغلام من حاله وكشفه فإن قتله يوما ما فعن أمر القطب .
وأما السر الثاني من الخمسة فهو سر التمليك به يرحم الضعفاء وينجي الغرقى ويكسب المعدوم ويقوي الضعيف ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق ويجود على من أساء ويعفو عن الجرائم ويصفح ويقيل العثرات ويجمع بين المتعاشقين و الوالدة وولدها وهو يطوي الطريق على القاصدين لما اشتاقوا إليه وما أعطته الحقيقة الرحمانية على عمومها من هذا السر ينبعث ظهوره في الوجود.
وأما السر الثالث فهو سر السيادة وبه يفتخر ويبدي حقيقته ويقول: «أنا سيد ولد آدم» و"إني أنا الله لا إله إلا أنا" و "سبحاني" و "ما في الجبة إلا الله" وما أعطته الحقيقة التي تظهر مكانته ورفعته فمن هذا السر .
وأما السر الرابع فهو سر الصلاح وعن هذا السر الذي له يحمل الخلق على المكاره التي فيها نجاتهم وتجنبهم عن الملذوذات التي فيها هلاكهم .
وبهذا السر يحول بين الولد
36
ووالدته . وبين المتعاشقين وإن تحابا واجتمعا لله وفي الله . و يسعى في تفريق الشمل بين المخلوقات .
فإن هذا السر يعطيه بحقيقته أن الأشياء القلبية لم يخلق بعضها البعض ولا يغيرها إلا الله فهو يردها إلى مقام التفريد إلى الله وهو الذي أريدت له .
ولذلك قال :"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [الذاريات: 56] أي ليعرفون .
ولم يقل وما خلقت الجن والإنس إلا ليأنس بعضهم ببعض ولا يتعشق بعضهم ببعض ولا يتعرف بعضهم أسرار بعض وإنما خلق المكلف من أجله .
فلا ينظر إلى غيره فبهذا السر يقطع الإمام القلوب عن غير الله ويردها إلى الله وما من حالة من هذه الأحوال إلا والناس يجدونها في نفوسهم ولا يعرفون من أين تنبعث ومعدنها قلب هذا الإمام فهو في حكمه على حسب السر الذي يقوم في حق الشخص المنظور إليه مما سبق في علم الله منه .
فيقم السر في قلب الإمام على ذلك وما أعطته الحقيقة التي فيها صلاح الخلق عن هذا السر ينبعث .
وأما السر الخامس فهو سر التعدية وبه ينزل المطر ويدر الضرع ويطيب الزرع وتحدث الشهوات وتنضج الفواکه وتعذب المياه وبه تكون القوة تسري في أهل المجاهدات والمحاضرت حتى يواصلون الأيام الكثيرة من غير مشقة والسنين العديدة من غير التفات ولا ضرر .
وله تمد الحقيقة الإبراهيمية والميكائيلية والمحمدية والإسرافيلية والجبریلية والآدمية والرضوانية والمالكية .
فإن مدار بقاء العالم على هذه الثمانية. وسر بقاء العالم غذاؤه ولهذا الجوهر غذاؤه تجديد أغراضه على الدوام والتألي فمهما عري عنه زمن فردا عدمت عينه وبهذا السر غذاء الأغذية وقد ذكرناه في مواقع النجوم في بعض النسخ لأنا استدركناه في الكتاب.
وقد خرجت منه نسخ في العالم وما أعطته الحقيقة التي بها بقاء العالم ظاهرا وباطنا جسم وروحا ونفسا.
فعن هذا السر ينبعث فهذه خمسة أسرار يختص بها هذا الإمام واسمه
عبد الرب.
وفي هذا المقام عاش الشيخ أبو مدين بتجانة إلى أن قرب موته بساعة أو ساعتين خلعت عليه خلعة القطبية ونزعت عنه خلعة هذا الإمامة .
وصار اسمه عبد الإله وانتقلت خلعته باسم عبد الرب إلى رجل ببغداد اسمه عبد الوهاب وكان الشيخ أبو مدين قد تطاول له بها رجل من بلاد خراسان مات الشيخ قطبا كبيرا وكان له من القرآن " تبارك الذي بيده الملك" [الملك: 1] وسيأتي الكلام على حاله عند ذكر أبواب الأقطاب من آخر الكتاب .
منزل الإمام الروحاني
الذي على يمين القطب اعلموا أن هذا الإمام صاحب حال لا صاحب مقام مشتغل بنفسه من جهة مالکه واسمه عبد الملك وإضافته إلى الخلق إضافة غير محضة متمکن القدم
37
في الروحانية له علم السماء وليس عنده من علم الأرض خبر للملأ الأعلى به تعشق وله تشوف أكثر من الإمام الأول لقوة المناسبة وليس عنده سر إلا منهم .
ولذلك هو غير مخلص فإنهم رضي الله عنهم على ضربين محمول وغير محمول فالأول قائم بنفسه غير محمول وهذا محمود غیر قائم واقف خلف حجب السبحات يرى نفسه وربه على حكم ربه لا على حكم نفسه .
بخلاف من نزل عن مرتبته فإنه يرى ربه على حكم نفسه .
وأوقاته مشغولة بما هو فيه فهو للقطب مرآة والآخر للقطب محل ومرآة .
وإن كان الأول حظه اللوح والقلم الأعلى فحظ هذا الثاني الإلقاء بما يناسب العلو وله سران سر العبودية وسر السيادة فبسر العبودية هو يسبح الليل والنهار لا يفتر فالتحق بالعباد المكرمين .
غير أن المقام فيه أمر سفلي فإن الأعداء نطقوا بأنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا فإضافتهم إلى الرحمن إضافة محضة خالصة.
ولهذا انسحب عليهم اسم الأنوثية فلو كانوا عباد الإله الغلبت عليهم الذكورية وعبد الملك من عباد الرحمن .
ولذلك هو منكحه للروحانيين تلقى إليه وتنزل فيه ولا يلقى إلى أحد ولا ينزل في أحد الأسرار والمعارف والعالم العلوي نكحه وهو لا ينكح أحدا.
وكذلك كل روحاني من الملأ الأعلى إذا لم يكن لهم في العالم السفلي أثر فهم منکوحون غير ناکحين ومن كان منهم له عندنا أثر فهو منکوح وناکح فغلب عليه التنكير لأنه الأسبق والأشرف تقول العرب الفواطم وزید خرجوا ولم تقل خرجن وإن كان التذكير واحدة والفواطم جماعة فالتغليب للذكر فتفهم هذا فإنها إشارة لطيفة دقيقة فعبد الملك مؤنث علوي صحيح الحال سعید فارغ من الكون واقف بين يدي الحق .
وهو كان الغالب من حال صاحب محمد بن علي بن عبد الجبار النفزي صاحب المواقف فهذا قد ثبت في هذا الباب .
وقد تقدم الكلام في أول الكتاب على القطب وحقيقته و منسبه ومصدره وأنه واحدا على سر القطبية فانظره هناك.
محاضرة قطبية
في حضرة عينية كنت ببلاد المغرب بمدينة فاس وقد أنست من نفسي بعض إيناس بما استمرنت عليه من العوائد .
وذهلت في ذلك الحين عن مشاهدة المشاهدة فتنبهت فإذا بالكون قد أخذ بخناقي وشد أسري ووثاقي وأحاطت بي ذنوب الحجاب فقمت قائما خلف الباب طورا أقرع وطورا أتسمع فإذا بالباب قد فتح ففرح صدري وشرح.
وإذا بالقطب واقف فتبسم وقال : ما يريد العارف.
فقلت : لي إلى ملائنا العلوي ارتياح لصفات ظهرت علينا قباح وأنا قد وقفت من سري على ما يكون من أمري وإنما غرضي لذة الحال واحد في الترحال .
وقد نظر في الملأ الأعلى بعين السخرية والازدراء فقال اكتب عني ما يبدو لك مني فما زلت أنظر إليه والأسرار ترد علينا وما يريده القطب ماثل بين أيدينا فانشدته عنه في ذلك المشهد العيني والسر الربي .
فكأني بلسانه أتكلم وعن ضميره أترجم حتى أتيت على آخر النظم فأمرني بالكتم فكتبت الكتاب وسارت به الهمة على براق الصدق إلى أن حطت بالأحباب فعرفوا مقدارهم.
فصل ذا النون المصري يزور أبا يزيد
قال يوسف بن الحسين سمعت ذا النون المصري يقول لبعض من يزور أبا يزيد قل لأبي يزيد" "إلى متى هذا النوم والراحة وقد جازت القافلة".
قال : فخرج الرجل قاصدا لأبي يزيد وسلم عليه وقال له ذو النون المصري يقرئك السلام ويقول لك: " إلى متى هذا النوم والراحة وقد سارت القافلة".
فقال أبو يزيد قل لأخي ذي النون:" أن الرجل كل الرجل من ينام الليل كله فإذا أصبح أصبح آمنا في المنزل قبل نزول القافلة" .
قال فرجع الرجل إلى ذي النون فأخبره .
فقال :" هذا كلام لا تبلغه أحوالنا هنيئا له هذا المنزل منزل عال شريف فيه أسرار عجيبة ومعان لطيفة القائم بهذا المنزل عبد الرب وهو الإمام الأكمل الذي تقدم فيه سر الصباح والظلام والذحول والنمائم والرموز والتحاسد .
سلوك أهل الطريق إلى الحق على طريقين :
طريق يسلكونها بأنفسهم وهو قوله :"من عرف نفسه عرف ربه".
وطريق يسلك بهم عليها وهذه حالة المرادين المنقطعين .
والأولى حالة المریدین والمنقطعين ومع هذا فكلا الفريقين سالك وإن سلك به .
و مثالهما في السفر الحسي سلوك المشاة في قطع المفازات وسلوك راكبي البحر ولهذا شبه بعضهم سير العمر بالإنسان براکب البحر قال قائلهم.
فسيرك ياهذا کسیر سفينة …. بقوم قعود والقلاع تطير
فيظهر من كلام أبي يزيد أنه يريد هذا السفر بقوله أصبح آمنا في المنزل قبل نزول القافلة فدل كلامه على أنه طالب ما طلبت القافلة فزاد عليهم بالراحة والنعيم مثل الفقراء مع الأغنياء بنصف اليوم الذي يختصون به في نعيم الجنة.
ثم تقع الشركة بعد ذلك هذا هو الظاهر من كلام أبي يزيد .
ولكن له عندنا مدرك رفيع خلاف هذا مذكور في شرح أحواله في الكتاب الذي سميناه "مفتاح أقفال إلهام التوحيد" فلينظر هناك .
ثم نرجع ونقول قال الله تعالی :."سبحان الذي أسرى بعبده، ليلا" [الإسراء: 1] وقال: "ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى " [النجم: 8 -9 ] .
" ما كذب الفؤاد ما رأى " [النجم: 11] .
وقال ما وسعني أرضي ولا سمائي وقد وسعني قلب عبدي وهذه بحور لا سواحل لها ولكن لا بد لنا أن نظهر منها قدر ما يليق بهذا الكتاب حتى نستوفيها على مقتضى ما تعطيه مرتبة هذا الكون إن شاء الله .
فاعلم أن القلوب التي اعتني الله بها على ضربين قلوب غلب عليها الشوق وقلوب لم يغلب عليها الشوق .
فالقلوب التي لا شوق لها وصلت إلى شاهد علمها بسير من أنواع المعاملات وقنعت واطمأنت ولذا قيل للمطمئنة "ارجعي إلى ربك" [الفجر: 28.].
وأين هذا المقام من قوله: " ألم ترى إلى ربك " ثم سدل الحجاب.
فقال :"كيف مد الظل " فرده إليه فواحد يدعوه من نفسه الأضعف والأقوى والأكبر والأصغر والأعلى والأسفل والأشرف و الأوضع. وجهان :
وجه يجتمع به مع ضده يدل على الله .
ووجه ينفرد به كل واحد عن صاحبه يدل به أيضا على العلم بالله .
فالطرق وإن تنوعت وتشعبت فكلها منه انبعثت وإليه تعود كالخطوط الخارجة من نقطة الدائرة إلى المحيط .
فإذا تقرر هذا وتبين تشعب الطرق إليه فاعلم أيضا أن له جل وعلا لكل طريق وجه لا يشبه الوجه الآخر كما لا يشبه الطريق.
فاختلفت إذن المعارف ولا تقول تضادت فصار كل متکلم عن الله بعد مشاهدة کانت منه إليه إنما ينطق عن حقيقة وقد خالف طريق صاحبه فاختلفت المشاهدة فتنوع المشهود فتنوعت العبارة فوقع الإنكار عند السامع المحجوب الذي ليس له مدخل في هذه الحقائق.
فسمع محققين قد اختلفا وكلاهما يقول أن الله اريد بما أقول فيحمل السامع كلاهما على الجهل ويقول لا بد أن يكون الحق عند أحدهما.
أو ليس عندهما حق على حسب ما تعطيه القسمة في الانتشار أو الانحصار وكلاهما مصيب لا محالة عند المحقق العارف بالحضرة الإلهية .
فإذا ثبت هذا فقد تبين أن الساري إلى الحق والنائم في المنزل كلاهما سار وكلاهما عند الصباح واصل .
غير أن المشاهدة اختلفت إذ ليس طريق النوم طريق التعب كان عليه السلام يحمد على السراء بالمنعم المفضل وعلى الضراء يعلى كل حال.
والمحمود واحد من حيث الذات .
والمحمود مختلف من حيث الصفات والأسماء .
فإن الأسماء التي عينها تكون الذات ليست الصفة التي عينها تكون الآلام فلا وجود للصفات إلا بالذات فلا معنى للذات إلا بالصفات والأسماء .
فإذا بالجملة يسلم لمن قال الحمد الله الراحم ويسلم لمن قال الرحمن ولهذا حق يرجع إليه فالأمر دقيق يعسر على الأفهام .
فأبو یزید نام عاشقا فاستيقظ ومحبوبه عند رأسه التي تطلبه القافلة والقافلة أصبحت فحطت عند مطلوبها في الوقت الذي استيقظ فيه أبو يزيد برفيقتين صحيحتين مختلفتين متماثلتين.
وقد ذكرنا هذا المقام مرموزا في كتاب عنقاء مغرب في مرجانة .
حم عسق مناجاة هذا المنزل
بسم الله الرحمن الرحيم
رد لك حجاب الحق من طوارق الخلق وتمام الطواسم من سر الطلاسم إذا انفجر الصبح ودخل القمر في صورة الفتح فتعوذوا بالله من شره .
واسألوا أن يدرأ عنکم اليم ضيره وهو اللطيف الخبير ختمت " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" [البقرة: 137] ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهى الكتاب والحمد لله رب العالمين .
كتاب القربة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الحول والقوة
الحمد لله مخصص من شاء من عباده بخصائص علوم الإلهام والتجلي لهم في كل مشهد وموقف بحضرة الجلال والإكرام، والمسدي إليهم عوارف الآلاء ولطائف الأنعام، و مصرفهم في لطائف عوالم الأرواح و كثائف الأجسام بفنون التصرفات الإلهية وضروب الأحكام. ومقيمهم سبحانه على ما صرفهم فيه بين النقض والإبرام.
فأبرموا من الأمر ما كان منقوضا ما له من نظام، ونقضوا منه ما كان مبرما محكم الإبرام والالتحام، فصارت الكلمة عربية عرباء ذات سداد وقوام، بعدما كانت أعجمية خرساء ذات عوج ومیل ما له من قيام .
فقربت مأخذها على أهل البصائر والأفهام، وتسهل منها ما كان يتعسر عند الأفهام وانتقلت إلى مقام الإيضاح من مقام الإبهام، أكرم به من موقف عال وأعزز به من مقام مؤیدهم سبحانه في أحوالهم بالشواهد العزية القهرية القائمة الإعلام.
فهم المتبرزون المقامات المحمدية الجسام، المقول عليها بلسان القرآن "يا أهل يثرب لا مقام لكم" في صدر تشریف فارجعوا رحمكم الله إلى مناهج الإرشاد والإعلام فأنتم الملائكة البررة المشهودون في صور البشرية وأنتم السفرة الكرام.
وهم الطاهرون بنعوت العز الأحمي عند المبعوث بالتقريب والمخصوص بالكلام، المظهرون عيون الحقائق، وامتداد الرقائق بفنون دقائق المعارف في موارد العقول ومصادر الأوهام.
الأدباء عند نسبة الأفعال إلى حضرة العلي الخلاق العلام لما تقتضيه الأفعال من الممادح الوضعية و المذام.
فمنها ما هو خالص في باب الذم تام، كخرق السفينة فأردت أن أعيبها ولم يقل فأردت أن أخلصها، وإذا مرضت بتحكم سلطان الأوجاع والآلام، ومنها ما هو مشترك بما تعطيه قضية الإلزام.
کالمسألة المعروفة من قتل صاحب موسی علیهما السلام للغلام.
ومنها ما هو خالص للمدح كقوله:" فهو يشفين" [الشعراء: 80] .
وإقامة جدار کنز الأيتام، فهم المتنزهون البراء من تعدي الحدود الإلهية وارتكاب الآثام، الموصوفون بالغيرة على الإسرار فهم أهل السير والاكتتام، وهم الموسومون بالسطوة على الجبابرة العظام.
لما خصهم به سبحانه عند التجلي الذاتي بمنزل السلام، الموصوفة ذواتهم
في مقاصيرهم العزة فهن الحور المقصورات في الخيام، ولما كانوا على بينة من ربهم و تلاهم شاهد منهم رفعهم به إلى ما تعطيه واجبات الإحسانين الإيمان والإسلام.
وأيدهم بالقوة الإلهية فمكنهم من الستر على عيون الأنام بل على عيون الليالي والأيام، وإن كان قد خرج لهم التشريف بقدم محمدا صلى الله عليه وسلم دون سائر الإقدام.
فما منعهم عن ما ذكرنا من الهجوم والإقدام، لكن زادهم قوة إلى قوتهم في مواطن الإقحام والإحجام، فهم الأفراد الذين لا يعرفهم الأبدال ولا يشهدهم الأوتاد ولا يحكم عليهم الغوث والقطب والإمام وصلى الله على من هذه كلها بعض أنواره الساطعة المخصوص بالوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمحاميد المكتومة بالمقام المحمود وحالة الكمال والتمام، وعلى آله ما تاقت نفوس العلماء بالله وهم في قصورهم إلى الظل من الغمام، لا ما لاح نجم وناح حمام، فإنها حالة لها انقضاء وانصرام، وغرض العارفين ما يعطيه البقاء ويشهد له الدوام، وسلم تسليما كثيرة. .
أما بعد فإن الحقيقة العامة إذا تحكم سلطانها في العبد الكلي وبدت دلالاتها على شاهده وظهرت آیاتها وعجائبها على ظاهره شهد كل صديق من حيث صديقته بزندقته .
وكذلك الإمام صاحب النفوذ والأحكام، وذلك أنه أخذ من وجه الحق الذي منه ينظر إلى مبدعه وموجده .
ولذلك سموا أفرادا أي ليس لهم حكم العموم ولكن من هذا مقامه له قوة التستر عن أعين الخلق حتى لا يتسلط الخلق على فساد بنيته.
ومنهم من له هذا المقام ولكن أعطى من القوة من يحمله ولا تظهر أحكامه عليه كأبي بكر الصديق وغيره.
ولكن له مواطن يظهر فيها سلطان هذا المقام بحيث لا يشهد عليه لسان الإنكار إلا بغفلة ونسيان من المنكر ثم يرجع إلى حضوره مع علمه بهذا الموطن.
فيقوله بالحق وإن كان لا يعطيه شرعه كقصة موسى والخضر عليهما السلام .
و كقول عمر رضي الله عنه : «فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق».
ومن هذا المقام قابل ومن هذا المقام حكم المجتهدين من علماء الإسلام إذا اجتهدوا يلوح لهم منه تجليات يعرفون بها الأحكام بتعريفها ولا يعرفونها فينسبونها إلى نظرهم بجهلهم بهذه المرتبة .
ثم إذا رأوها على من ليس بمجتهد وهو يحكم وقد أخذ ذلك بعينه من غير طريقة الاجتهاد المعلوم واختلفت الطريق واتحد الحكم أفتوا بقتله وشهدوا بزندقته
وقالوا: هذا لا يجوز ولا يحل ولو قيل لهم هذه الشروط التي وضعتموها للمجتهد في دين الله هل هي وضعكم أو نقلتموها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت عن وضعكم فلا كرامة لكم .
وإن کنتم نقلتموها عن الكتاب والسنة والإجماع على قول من يقول بها فهاتوا الدليل.
فإن قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كل مجتهد مصيب وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران".
قلنا: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمهم مقالته لا غير ما اعترضنا عليكم
في المجتهد .
وإنما كلامنا في شروط المجتهد من نصبها لكم وسلمنا أن ما اشترطتموه في المجتهد.
فلنطالبكم بماذا حصرتم وجوه الاجتهاد في ذلك ثم نقول ذلك شروط المجتهد النقلي وللاجتهاد طريقة أخرى وهي تصفية النفس وتزكيتها وتحليتها بالحق الحميدة وتخلقها بالخلق الربانية وتهيؤها واستعدادها لقبول العلوم من الله .
فإذا صفى المحل بهذا النوع من التصفية لاح له علم الحق في مسألة من مسائل الأحكام مثل ما لاح للمجتهد عندكم فاختلف الطريقان واتحد الحكم فبأي وجه أخذتموه من الشافعي ولم تأخذوه مثلا من شيبان الراعي صاحبه .
والعلم الله ليس لكم وإنما لكم الاجتهاد والنظر ويخلق الله (العلم عنده) عقيبه إن كان في المعقولات والحكم إن كان في الظنيات .
كذلك صاحبنا له (الاجتهاد في) التصفية والتهيؤ بالفقر واللجأ إلى الله تعالی وصدق العزم في الأخذ وعدم الاتكال على قوته وحوله فيخلق الله العلم عنده عقيب هذا الفعل مثلكم.
فهل هذا إلا تعصب منكم قال به أحد من المجتهدين المتقدمين ولو انفرد به واحد منه ربما وجدتموه ثم إذا وجدتموه صار حقا عندكم بعدما كان باطلا وفسقا وما شهد لكم بعصمة ذلك الذي استندتم إليه وغايتكم أن تقولوا اجتهادنا أدانا إلى تصديق ذلك وتكذيب هذا وهو محل النزاع .
فالله يعفو عنا وعنكم ولقد ورد حديث مسند وإن لم يكن إسناده بذلك القائم أن النبي صلى الله عليه وسلم : أمر أن يجعل الحكم إذا لم يوجد له دليل شورى بین الصالحين فما حكموا به قبل.
ولكن لسنا ممن يتعرض للاحتجاج بمثل هذه الأخبار التي لم يتم إسنادها على ساق يقربه الخصم ولا بما يحتمل التأويل وشبه ذلك بل ما يعطي طريقنا مخاصمتكم .
وإنما أوردنا هذا تنبيها لغافلكم عسى ينصف ويرجع فإن الغالب علينا وما يعطيه حال هؤلاء الأفراد ترك التحكم في العالم بالصورة الظاهرة .
لكن لهم الهمم فإن المراد من القبول الذي يفتي المجتهد بقتله من كونه على حاله ويعطي لذلك في الشرع ولكن يمنع من قتله عزه وسلطانه .
فللمجتهد أن يفتي بقتله ولا يعظم عليه سلطانه وهذا أقوى ما عند علماء الرسوم وأصحابنا إذا أعطاهم وأرادهم بأن ذلك يجب قتله لم يمنعه منهم سلطانه ولا حصنه أحالوا عليه همتهم فعرض له عارض من ذاته أو من غيره فقتله .
فلا يحتاجون من هذا إلى الحكم بما ينكرونه عليهم ويسلمونه لكم، وإن تنبهتم فقد افدناكم وإلى طريق الحق أرشدناكم.
ولنرجع إلى أصحابنا ولنقل : يا أولياءنا وأصفیاءنا الأخفياء الأبرياء الغرباء الذين قصرت بهم الهمم عن هذه المراتب الفردانية أنصتوا وإذا أنصتم فلتسمعوا وإذا سمعتم فعوا وإذا وعيتم فاعملوا واتكلوا لعلكم تفلحون.
اعلموا أن كثيرا من أهل طريقنا كأبي حامد الغزالي وغيره تخيل أنه ليس بين الصديقية والرسالة مقام وأن من تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وبابها مسدود عندنا دوننا .
فلا سبيل إلى تخطيهم لكن لنا المزاحمة معهم في صفهم هذا غايتنا، ولسنا نعني بالصديق أبا
بكر ولا عمر ولا أحدا رضي الله عنهم
فإن أبا بكر من جملة أحواله کونه صديقا وقد شاركه في هذا المقام غيره من الصديقين ولذلك قال تعالى: «أولئك هم الصديقون" [الحدید: 19] .
وقد فضل الصدیق بسر وقر في صدره أعطاه الله إياه وشهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم فعندنا بين الصديقية والرسالة مقام .
وهذا هو المقام الذي ذكرناه والذي أقول به أنه ليس بين أبي بكر رضي الله عنه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجل ولا نذكر الصديقية فأرفع الأولياء أبو بكر رضي الله عنه فاجتهدوا رضي الله عنكم في تحصيله وأنا انبهكم على العلامات التي تستدلون بها عليه.
وذلك أنكم إذا قمتم بشرائط الخلوة كما ذكرناها في كتاب الخلوة ورفعت لكم أعلام المشاهد وقطعتموها وشاهدتم وعاينتم وأطلعتم ونزهتم ووقفتم المواقف المقدسة وقلبتم العوارف العرفانية فأنتم من أهل الولاية العظمى والدائرة المحيطة الكبرى لا تتسلطوا في التحكم في العالم بالهمم أو بالصورة الظاهرة إن كانت لكم قوة سلطان أصلا لعلو المقام الذي أنتم عليه.
فإن الله مستدرجكم فيه من حيث لا تعلمون وقد قال : " وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)" [الأعراف: 181 - 183].
ولم يقل من الدنيا فقد يملي لكم من هذه الصنف فإنه سبحانه يملى أنه يملى لكل طائفة من حيث ما تشتهيه وتتعشق به واستوى في ذلك أبناء الدنيا وأبناء الآخرة والاستدراج والمكر لهذه الطائفة أسرع وأنفذ من غيرهم من الطوائف .
فالله الله لا تنفذوا حكما ولا تتعدوا حدا من الحدود المعلومة عند أهل الرسوم وإن اختلفوا في ذلك وحرم الواحد عين ما حلله الآخر .
فلا تتقلد هذا الرسمي في شيء من ذلك ولا تخالفه واعمل ما توجه عليك في وقتك مما فيه سلامتك واشتغل بنفسك شغلا كليا واهرب إلى محل إجماعهم فإن لم تجد إجماعا فكن مع أكثرهم فإن لم تجد كثرة فكن مع أصحاب الحديث في تلك المسألة المطلوبة.
وقل أن يحتاج أهل الطريق إلى مثل هذا لأنهم قد زهدوا في الدنيا فقلت أفعالهم فقل الحكم عليهم .
فإذا بدت لكم وفقكم الله حضرة الأحكام وتنزلات الشرائع و رأیتم خازنها جبريل عليه السلام .
فذلك أول أعلام تحصيل هذا المقام فإن مد بين يديك هذا اللوح الذي يتضمن الأحكام فستعاين الأوضاع والشرائع الحكمية والنبوية وستعاين الأعصار والأماكن وستعاين الأحوال وستعاین توجه هذه الأحكام على الأحوال لقيامها بالأشخاص فينفذ الحكم في الشخص للحال لا لعينه فاحفظ ما تراه .
واعلم أن جبريل لا ينزل على غير رسول يوحي أبدا ولا ينسخ شريعة فتعمل هناك في وسيلة ورقيقة تكون من ذلك اللوح إلى قلبك إن أردت تحصيل هذا المقام .
فتسجد صورة جبريل وما هي بجبريل وهي مختصة بالأولياء فانظر إليها فإن رأيتها ناظرة إليك فاعلم أنك منهم وإن لم ترها ناظرة إليك فاعلم أنك غير مراد لذلك المقام فتأدب وانصرف وكن من الأولياء الذين ما لهم تصريف
واجعل بالك إلى الحقيقة التي تراها على الصورة الجبرائيلية فسترى منها رقائق كثيرة ممتدة نافذة قد تجللتها تنزلات حکمية .
فأنزل معها بعينك نحوا لكون الأسفل فستراها متصلة .
منها ما هي بقلوب الأفراد ومنها ما هي بقلوب المجتهدين من علماء الرسوم فإذا عاينت هؤلاء الأشخاص آخذين منهم ما تعطيهم الأحكام بالأدب الكامل وسترى المجتهدين من علماء الرسوم عيونهم مصروفة إلى أفكارهم وأفكارهم حائلة في الوقائع .
ولك الرقائق تندرج لهم في الوقائع فتبدو لهم الأحكام من خلف حجاب رقيق فيقولون الحكم في هذه المسألة كذا .
فحقق الزمان والمكان والحال من جميع وجوهه فسترى تلك الواقعة بعينها عند ذلك المجتهد بعينه قد رجع من ذلك الحكم إلى حكم آخر .
فانظر إلى الرقيقة فتجدها تهب على حسب الزمان أو الحال أو المكان ولهذا اختلفت معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخرق العوائد عند أربابها بالمكان والحال والزمان.
ثم انظروا وفقكم الله إلى تلك الحقيقة التي على صورة جبريل التي بيدها ذلك اللوح هي الملقية لجبريل ما يلقي على الرسل صلوات الله عليهم وجبريل هو على الحقيقة على صورتها.
وإنما عکسنا الأمر لمعرفتكم بجبریل دون معرفتكم بها، ولهذا ينقل عن بعض العارفين أنه يقول يتنزل جبريل على قلوب الأولياء للاشتراك في الصورة والإحساس بالتنزل .
ولكن ما أنصف ولا وفي صاحب هذا القول الحقائق حقها بل ما يقولها من له مثل هذا المقام ثم ارتفع بالنظر في هذه الحضرة عن النظر لهذه الرقائق وانظر مراتب القوم فيها فستجد مرتبة الرسل من كونهم عارفين .
فأولياء لا من كونهم رسلا فوق المراتب البشرية كلها ثم ترى مدرجتهم من ذلك المقام إلى ذلك اللوح إلى القبول إلى النزول بالحكم فتخلع عليهم خلع الرسالة عند هذا اللوح فينزلون بها .
فهم من كونهم أولياء عارفين أرفع من كونهم رسلا فإن الولاية والمعرفة تحصرهم في بساط المشاهدة في الحضرة المقدسة .
والرسالة تنزلهم إلى العالم الأضيق ومشاهدة الأضداد ومكابدة الأسماء الإلهية القائمة بالفراعنة الجبابرة فلا شيء أشد عليهم من مقارعة الأسماء بالأسماء، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم بعد استعاذته من الأفعال والأحوال "أعوذ بك منك" لشدة سلطان هذا المقام.
وإذا شهدتم هذا يا إخواننا فانظروا إلى حظ الورثة من هذه الرسالة في قوله عليه السلام العلماء ورثة الأنبياء وقوله تعالى : " الأرض يرثها عبادي الصالحون" [الأنبياء: 105] .
فلهم الحكم فيها وإذا سمعتم لفظة من عارف محقق مبهمة وهو أن يقول الولاية هى النبوة الكبرى .
والولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول فاعلم أنه لاعتبار الأشخاص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب فالأنبياء صلوات الله عليهم ما فضلوا الخلق إلا بالمراتب، فالنبي صلى الله عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة .
و مرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي و الولي العارف مقيم عنده والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج فهو صلى الله عليه وسلم من كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من کونه رسولا .
وهو الشخص بعينه واختلفت مراتبه، لأن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله من الخذلان.
فعلى هذا الحد يقولها أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا تتكلم إلا فيها لا في الأشخاص.
فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال .
ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم فاجتهدوا وفقكم الله في نيل هذا المقام وقد نبهتكم عليه وأظهرت لكم سبيله ونصبت لكم أعلامه .
وأقمت لكم معاذیر علماء الرسوم في أحكامهم ومن أين مأخذهم فلا تطعنوا عليهم ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا واشتغلوا بنفوسكم عما هم الخلق عليه حتى يأتي أمر الله تعالی.
فعند ذلك يقف العارف به عند حده والله المرشد لا رب غيره.
وانتهى بعض الغرض من هذا الكتاب في بيان هذا المقام وكنت ما رأيت أحدا من أصحابنا نبه عليه ولا ندب إليه .
بل منع ذلك أكثرهم لعدم الذوق فبقيت به وحيدا وبين أقراني فريدا لا أستطيع أفوه به من أجل منكريه إلى أن وفقت لأبي عبد الرحمن السلمي في بعض كتبه عليه نصة وسماه مقام القربة فسررت بالمساعد الموافق والحمد لله رب العالمين.
تم الكتاب على قدر الوقت لا على قدر الوارد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، يتلوه كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام إن شاء الله تعالی.
کتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام
بسم الله الرحمن الرحيم
و به الحول والقوة
قال الشيخ الإمام المحقق المتبحر محيي الدين أبو عبد الله محمد بن على ابن محمد بن العربي الطائي الحاتمی رضی الله عنه .
هذا كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام سألنا في تقييده بعض من يكرم علينا من الإخوان فامتثلنا مرسومه على وفق ما نتمنى ولم أتعد فيه غرضه والله ولي التوفيق لا رب غيره.
قال تعالى :" فأشارت إليه " .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للسوداء : " این الله" وكانت خرساء "فأشارت الى السماء" فقال صلى الله عليه وسلم لسيدها: " أعتقها فإنها مؤمنة ".
باب في الرؤية
قال الصديق رضي الله عنه : "ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله" .
و قال الفاروق رضي الله عنه:" ما رأيت شيئا إلا رأیت الله معه" .
وروي عن عثمان رضي الله عنه :" ما رأيت شيئا إلا رایت الله بعده".
ومنهم من قال :" ما رأیت شيئا الارایت الله عنده".
ومنهم من قال :"ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه".
ومنهم من قال:"ما رأيت شيئا حين رأيت ".
ومنهم من قال:" ما رأيت شيئا ".
ومنهم من قال:" من رآه لم ير شيئا".
ومنهم من قال:" لا يرى إلا في شيء ".
ومنهم من قال: "اغلقت عيني تم فتحها فما رأيت إلا الله".
ومنهم من قال :"من رأى نفسه فقد رآه فإن الرؤية تتبع ومن عرف نفسه عرف ربه".
ومنهم من قال:"لا تثبت الرؤية إلا بنفيها من لم يره فقد رآه ".
ومنهم من قال:" منذ رأيته لم أر غيره".
ومنهم من قال:"لا يراه إلا من عرفه على ما عرفه".
باب في السماع
قال تعالى : " فأجره حتى يسمع كلام الله " .
وقال بعضهم : من سمعه سمع كل شيء .
ومنهم من قال: لا يسمع كلامه إلا من كان له سمع بلا آلة.
ومنهم من قال: من سمعه في شيء و لم يسمعه في شيء في سمعه".
ومنهم من قال: لا يسمع أحد ابتداء حتى ينادي به من سره".
ومنهم من قال:" من سمعه لم يتميز عنده القرآن".
ومنهم من قال :"من ادعى أنه سمعه فاطلبوه بالفهم عنه فإنه لا يسمع إلا بالفهم ".
ومنهم من قال:"انه سمعه يقرأ الكتب المنزلة والصحف وكل كلام ظهر من العالم بلسان واحد ".
ومنهم من قال:"كن أنت المخاطب إذا قال : ( يا أيها الذين آمنوا ) .
ومنهم من قال:" منذ سمعته لم أجهل لغة ولا اعتاص على معنى".
ومنهم من قال:" إذا صحت النيابة في الكلام صحت النيابة في السماع وقد صحت النيابة في الكلام فأجره حتى يسمع كلام الله فسمعت الآذان عبارات عهد صلى الله عليه وسلم وسمع السمع كلام الحق جل وعلا.
ومنهم من قال العبارات والدلالات للتوصل والكلام وراء ذلك.
والسمع يتبع الكلام فالسمع وراء ذلك كله .
و منهم من قال :"دليل من سمع حزنه على حكم ما سمع".
باب في الكلام
قال الله تعالى: (و کلم الله موسى تكليما) قال بعضهم لا تسمعه الا منك.
ومنهم من قال:" لا يكلمك الا منك".
ومنهم من قال:" من كلمه فيه فقد كامه".
ومنهم من قال:" لو كلمه منه ما ناداه" .
ومنهم من قال:"لا يكلمك الا من بطنت حياته".
ومنهم من قال :" ما ثم متكلم إلا هو فمن سمعه عرف ما قلت".
ومنهم من قال :"من لم يسمعه لم يعرف كلامه" .
ومنهم من قال:"إذا كامك من ظهرت حياته وسمعته فانت اقرب الاقربين وإذا لم تسمعه فيه فأنت أبعد الأبعدين واذا كلمك من بطنت حياته وسمعته فأنت القريب و اذا لم تسمعه فانت البعيد ومن قال من كلامه من الجانب فهو ذاهب" .
ومنهم من قال:" من لم يسمع بكلامه ولم يتكلم بسمعه فما كلمه الحق ولا سمع ".
ومنهم من قال:" من صار لسا ذا كله فذلك كلام الحق و من صار سمها كله فذلك سمع الحق كله".
ومنهم من قال:" من فرق بين العبارة والكلام فما كلمة الحق".
ومنهم من قال:" الكلام كلام فمن لا أثر عنده فما صح له كلام" .
باب في التوحيد
قال بعضهم:" لا لسان له إذ لا مخاطب" .
و منهم من قال:" لا لسان يتميز بل والألسنة كلها لسانه فخطابه يتردد إليه منه و هكذا نظره و سمعه وعلمه".
ومنهم من قال:" القدرة والارادة تنافي التوحيد فإن التوحيد لا غير وهو غير مقدور ولا مراد فبطل توحيد الوجود لأن توحيد الفعل ثابت".
ومنهم من قال:" التوحيد إذا كان له مثبت فهو شرك وإذا لم يكن له مثبت فليس بمقام".
ومنهم من قال:" من وحده به ما وحده و من وحده بنفسه فإنما وحده نفسه".
ومنهم من قال:" التوحيد أنا والمتكلم الحق".
ومنهم من قال:" التوحيد نفي التوحيد والتشريك فيبقى هو كما ينبغي له".
ومنهم من قال:"إن جعلت العالم واحد اصح لك التوحيد وإن جعلته متعددا لم يصح التوحيد".
ومنهم من قال:" التوحيد إثبات عين الواحد و حكم الاحدية مع قضاء المثبت بإثبات الواحد نفسه بحكم احدية نفسه ".
ومنهم من قال:" التوحيد أن تغيب فيه او يغيب فيك ".
ومنهم من قال:"التوحيد إثبات الأحكام و نفي المعاني عن الذات".
ومنهم من قال:"التوحيد عين لا علم فمن رآه عرف التوحيد ومن علمه فلا توحيد له.
ومنهم من قال:" التوحيد إثبات واحد بلا أول".
ومنهم من قال:" التوحيد إثبات الواحد من غير مشاركة في وصف ولا نعت".
ومنهم من قال:" التوحيد إثبات عين بلا وصف لا ونعت".
ومنهم من قال:" التوحيد معرفة الأسماء".
ومنهم من قال:" التوحيد نفي الفعل".
ومنهم من قال:" لا يعرف التوحيد الأمن كان واحدا".
ومنهم من قال:" التوحيد لا تصح العبارة عنه لانه لا يعين إلا للغير و من أثبت غيرا فلا توحید له".
ومنهم من قال:" التوحید سريانه في نفسه بحكم ما هو عليه".
باب المعرفة
قال بعضهم المعرفة ربانية .
ومنهم من قال:" المعرفة إلاهية".
ومنهم من قال:" المعرفة قدسية".
ومنهم من قال:"المعرفة أن تعرف ما أنت عليه و ما هو عليه.
ومنهم من قال:"المعرفة أن تعرف ما أنت عليه و تعجز عما هو عليه".
ومنهم من قال:"المعرفة أن تعجز عن معرفتك بك ".
ومنهم من قال:"المعرفة رؤية المعروف من المعروف ".
ومنهم من قال:" المعرفة جمعية بينك و بينه".
ومنهم من قال:" المعرفة علم الحد الذي بينك وبينه فتكون أنت أنت وهو هو".
ومنهم من قال:" المعرفة أن تلحظ ما سواه منه به ثم تفنيه فيه فيبقى هو وانت مدرج".
ومنهم من قال:" المعرفة علم الحكم".
ومنهم من قال:" المعرفة من روائح التوحيد يعرفها أصحاب الأنفاس".
ومنهم من قال:" المعرفة الاستشراف على الكل بعينه".
ومنهم من قال:" المعرفة لمن استوى على العرش".
ومنهم من قال:" من كان العرش له صحت له المعرفة وقيل فيه عارف".
ومنهم من قال:" المعرفة خطاب مخصوص من الحق لعبده يسمى به عارفا".
ومنهم من قال:" المعرفة ما تواطأ عليه الحق والعبد واستعمل في العالم".
ومنهم من قال:" السؤال عن المعرفة جهل فإن المعرفة مثبوته في العالم فيما ثم الا عارف على قدره ،این الله قالت: في السماء ، وكان الله ولا شيء معه و هو الآن على ما عليه كان وكلاهما عارف".
ومنهم من قال:" المعرفة سر التكوين".
ومنهم من قال:" من اعطي کن فقد اعطى المعرفة".
قلت لبعضهم سمعت عن شيخ أنه قال الزاهد من اعطی کن فزهد فيه فقال كذا زعم و الزعم باطل".
ومنهم من قال:" المعرفة شطح".
ومنهم من قال:" المعرفة إلحاق السوء بالحسن مع ثبوت الحكم".
باب الحب
قال بعضهم:" الحب لا يصح" .
ومنهم من قال:" ما تم الا حب ".
ومنهم من قال:" الحب نعت لا صفة".
ومنهم من قال:" الحب سر الهى يعطى في كل ذات على حسب مايليق بها".
ومنهم من قال:" كيف تنكر الحب وما في الوجود الاهو و لولا و الحب ماظهر من الحب ما ظهر وبالحب ظهر و الحب ساري فيه و الحب ينقله".
ومنهم من قال:" لا يصح نكر ان الحب فبالحب حرك المحرك و بالحب تحرك المتحرك و سكن الساكن وبالحب تكلم المتكلم و صمت الصامت".
ومنهم من قال:" الحب سلطان يتبعه كل شيء".
باب في اشاراتهم في أنواع شتى
منها المتشابه، قال بعضهم:" من نظر نظر".
وقال بعضهم:" من صام صام".
وقال بعضهم:" من صلى صلى".
وقال بعضهم:" من قام قام ".
وقال بعضهم:" من اعتبر عبر".
وقال بعضهم :"من ز کی زکی".
وقال بعضهم :" من آمن آمن".
وقال بعضهم:" من اسلم اسلم".
وقال بعضهم :"من احرم احرم و من غير المزدوج والمزدوج".
قال بعضهم:" دعيت فلم أجب فسكرت".
وقال بعضهم:" رأيته فعميت".
وقال بعضهم :" كما كان ولم اكن فيكن الآن وليس هو".
وقال بعضهم :" الوجود فی الآن".
وقال بعضهم :" من کنته فإنه يكونك".
وقال بعضهم :" العرش ظل الله و الانسان العرش".
وقال بعضهم :" وقد قيل له قد أذن بالصلاة . فقال انما جعل النداء للغافلين ، منذ دخلت إليه لم أخرج ".
وقال بعضهم :" الصلاة مناجاة لا رؤية و لهذا شرعت بالحركات".
وقال بعضهم :" الجناية جناية ".
وقال بعضهم :" من تكلم تكلم".
وقال بعضهم :" التقوى زاد و الزاد للمسافر لا المقيم ، من لا سفر له لا زاد له".
وقال بعضهم :" الحج عرفة ، والراحة المبيت في المزدلفة والحثي في منى".
وقال بعضهم :"من اعطانا شيئا فعطية الكون لنا لا له ، هو له ما نحن له".
وقال بعضهم :" أشهدني فلم أره باسطني فلم أعرفه ".
وقال بعضهم :" ليس لي أمر فأفوضه إليه".
وقال آخر حين سمع قارئا يقرأ ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) كيف يحشر إليه من هو جليسه.
وقرأ بعضهم (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) .
وقرأ بعض الساس( !دخلوا الجنة ) .
وقرأ بعضهم ( واعبد ربك حتى يأتيك) .
وقال آخر (عصى آدم ربه) اذان عصى غيره ما كانت ".
وقال بعضهم :
خيالك في عيني و ذكرك في فمي ….. ومثواك في قلبي فأين تغيب .
وقال بعضهم :" مالي إلى الله حجة و الحمد لله ".
وقال بعضهم :" إنما يتوكل عليه من يرى غيره".
وقال بعضهم :" عجبت لمن عرف الله كيف أطاعه ".
وقال بعضهم :" لا تغتروا بدخول إبليس النار فأنه تعالى يقول لأملأن جهنم منك".
وقال بعضهم :" رجال الله کالسراب".
وقال بعضهم :" الشرع أمانة و الحقيقة أمن".
وقال بعضهم :" لا يصام إلا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن".
وقال بعضهم :" الرحمن على العرش وقف ، والابتداء استوى له ما في السموات".
وقال بعضهم :" ما أنا بليلة مباركة يفرق في كل أمر حكيم ".
وقال بعضهم :" رسل الله الله".
وقال بعضهم :" المطيع يسيء الظن بربه والعاصي يحسن الظن بربه".
وقال بعضهم :" الطاعة تجر إلى النور والمعصية تجر إلى النار و النور اشد احراقا".
وقال بعضهم :" الأخلاق ربانية والآداب شرعية".
وقال بعضهم :" العلائق حقائق فمن غاب عنها سعي في قطعها ".
وقال بعضهم :" على قدر ما يقطع العبد من العلائق يفوته من الحقائق".
وقال بعضهم :" المحجوب من اتسعت معارفه والعالي من قلت معارفه".
وقال بعضهم :" هجران الخلائق من سوء الخلائق".
وقال بعضهم :" ليس فوق الصلاح مرتبة وهي ، طلب رسل الله من الله وهم اعلم الخلائق بالله".
وقال بعضهم :" العلم للخلق و الحقيقة للحق".
وقال بعضهم :" الأحكام لا تبطل الحكمة والحقيقة لا ترفع الاسم والرسم".
وقال بعضهم :" الإمام لا يلتفت".
وقال بعضهم :" المريض اكله دواء".
وقال بعضهم :" الحر کلامة التجاء".
وقال بعضهم :" الصفا بلا کدر هو الصفا".
وقال بعضهم :" ليس التكحل في العينين كالكحل".
وقال بعضهم" : الكحل يحتاج الى العين لأنه يحب الثناء".
وقال بعضهم :" العيون تحتاج الى الكحل لانها تحب الزينة".
وقال بعضهم :" من لم تكن له جهة كان وجها كليا".
وقال بعضهم :" ( العلم) العلم الإرادی".
وقال بعضهم :" قلة الغذاء غذاء ".
وقال بعضهم :" من هرب من الخلق الى الله ما عرف الله".
وقال بعضهم :" السكون مع الله تهمة".
وقال بعضهم :" الحركة مع الله رحلة".
وقال بعضهم :" الرجل من يقابل الالوهية بالعبودية".
وقرأ بعضهم :" هل ينظرون إلا أن ياتيهم الله في".
وقال بعضهم :" لا يكون ربا حقيقة من لم يكن عبدا".
وقال بعضهم :" تجريد التوحيد شرك لانه ممن تجردت".
وقال بعضهم :" اخلاص المعاملة للواحد لا تصح".
وقال بعضهم :" ترك الحلال محال لأنه لابد منه".
وقال بعضهم :" ادعي الهوى الالوهية ومن غالبه فقد أثبت له ما ادعاه".
وقال بعضهم :" منازعة الطباع جهل والحكيم من استعمل طبعه".
وقال بعضهم :" من استعمل طبعه وصل الى الله مستريحا".
وقال بعضهم :" بني الشرع على ضد الطبع وانا اسمع فقلت : بني الشرع على الطبع و لهذا قبله ".
وقال بعضهم :" من تباعد من الشهوات جهل سرها و من تبعها يحتاج الى ميزان". وقال بعضهم :" الحلف قعوده رصد".
وقال بعضهم :" ليل الغريم فكره ونهاره ذله".
وقال بعضهم :" المظلوم حي قيوم".
وقال بعضهم :" المحزون در مکنون ، سر مصون، لا يعرفه إلا مثله".
وقال بعضهم :" الكلام هو ، و المنزل عند؛ و الحملة على ، والطينة مع، والرؤية الى، والفرح بـ , والسماع من ، والمعرفة لـ ، وقال بعضهم الحرية عبودية كاملة".
وقال بعضهم :" العقل سراج إلى زيت الشجرة المباركة".
وقال بعضهم :" من ارتحل لم ينتقل".
وقال بعضهم :" سقط القصر في الصلاة عن العارفين إذا سافروا ".
وقال بعضهم :" سفر الاجسام يضع شطر الصلاة و سفر الأرواح يضع الصلاة لأن الخطاب سفلى ".
وقال بعضهم :" السرور في البلا بليس" .
وقال بعضهم :" التلذذ بالكلام حجاب وليس بصاحب کلام".
وقال بعضهم :" من اشتغل بربه لم يعرفه".
وقال بعضهم :" الصمت ضالة".
وقال بعضهم :" النعمة حياة".
وقال بعضهم :" الإفلاس بضاعة الرجال".
وقال بعضهم :" الفتوة ترك الحول و القوة".
وقال بعضهم :" ولي الله لا ".
وقال بعضهم :" الدواء داء ، النظرة إلى المحبوب دواء المعيل وهی تسقم القلوب".
وقال بعضم :" من سافر احتاج إلى الزاد ، قلت له و من أقام احتاج إلى القوت فأين يهرب".
وقال بعضهم :" الانسان ساعته و ساعته نفسه".
وقال :" من فصل بين الأخلاق السنية و الدنية اتسع بحره فغرق".
وقال بعضهم :" ما ثم إلا رفعة مطلقة ما ثم تواضع اصلا لان الكل اليه يصير ومن صار إليه فهو في رفعة".
وقال بعضهم :" ما في الوجود مقابل اصلا ، غني بلا فقر ، من قتل نفسه لشيء فهو لما قتلها".
وقال بعضهم :" غرائب الأمر عند الغرباء".
وقال بعضهم :" التقلل من الدنيا علة و التكثير منها علة".
وقال بعضهم :" الاعتماد على الله يقوي ألوهية الأسباب".
وقال بعضهم :" الرغبة في الطاعات حرص".
قال بعضهم :" الصبر مقاومة وهو سوء أدب في حق الكامل (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر) فتميز اليد عند الأخذ شرك محض في الملك ".
وقال بعضهم :" الذكر الخفي جبن إلا في موطنه بأهله .
وقال بعضهم :" تحقيق الإخلاص تقوية إبليس".
وقال بعضهم :" الرجل من جعل نفسه سفينة نوح".
وقال بعضهم :" الرجل من كان الروح أباه".
وقال بعضهم :" الرجل ذو نفس واحدة ".
وقال بعضهم :" الرجل من كانت له رجلان ولم يسع بهما".
وقال بعضهم :" لیس الرجل من يخترق الهوى وإنما الرجل من سكن وقرئ على بعضهم في حمام ( وله ما سكن في الليل والنهار ) .
فقال : وما له ما تحرك فقلت له هذه اشارة لا حقيقة أن الحركة للدعوى والسكون ما فيه دعوی .
واعرف الموطن حقيقتها ما سكن اى ما ثبت فدخلت الحركة و السكون".
وقال بعضهم : الرجل من لا ينتظر".
وقال بعضهم : الرجل من لا يعرف ما سوى الله".
وقال بعضهم :" الرجل من نفذ في كل شيء".
وقال بعضهم :" الرجل من اعتدل معامل الأوقات بحسب ما جاءت به وعامل الموطن بحسب ما يقتضيه".
وقال بعضهم :" الرجل من إذا نطق سمعه كل شيء ما سوى الثقلين".
وقال بعضهم :" الرجل من إذا سجد سجدة لله لم يرفع رأسه أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة".
وقال بعضهم :" الرجل من اعطى النيابة ".
وقال بعضهم :" الرجل من يعرف جميع الالسنة ولا يعرف له لسان فيقيد به".
وقال بعضهم : الرجل من اعطى ما اعطيت الرسل وثبت على أتباعهم ولم يتزلزل".
وقال بعضهم :" الرجل معتكف في الحضرة بسرة ".
وقال بعضهم :" الرجل من لا يؤثر فيه فقدان العوائد".
وقال بعضهم :" الرجل من استحق أن يأخذ كل شيء و يضيف إلى نفسه كل شيء".
وقال بعضهم :" الرجل من قال الله فأوجد كل شيء ، فقال له من كان حاضرا:
الرجل من قال الله فأعدم كل شيء".
وقال بعضهم :" الفتي من تفتي على الحق".
وقال بعضهم :"الرجل من نازع القدر، فقلت له بعد الاطلاع، فسكت".
وقال بعضهم :" الرجل من عرف قيمة كل موجود عند الله فوفاه قسطه".
وقال بعضهم :" الرجل من لا يغتاب بحضور كل شيء".
وقال بعضهم :" المشيئة عرش اعلى و لا عرش فوقه".
وقال بعضهم :" ما في الوجود مختار".
وقال بعضهم :" خلع النعلين حكم لا حقيقة".
وقال بعضهم :" إثبات العلل زلل ".
وقال بعضهم :" القبضتان ميزان".
وقال بعضهم :"الانسان هو المقصود من الوجود".
وقال بعضهم :" الا مداد واحد".
وقال بعضهم :" النفخة واحدة".
وقال بعضهم :" ما ثم محجوب".
وقال بعضهم :" لأهل النار حجاب، ولا هل الجنة حجاب".
وقال بعضهم :" كل مرکب محجوب ".
وقال بعضهم :" الراجل اشرف من الفارس لان الفارس صاحب مركب وكل صاحب مركب محجوب لأنه محمول ".
وقال بعضهم :" الفوت غنيمة".
وقال بعضهم :" الرجل سماء ظليلة ؛ وارض ذليلة".
وقال بعضهم :" الرجل شمس".
وقال بعضهم :" الرجل بدر".
وقال بعضهم :" الرجل من ظهر عليه ما عبد له ولو كان جمادا".
وقال بعضهم :"الارض مقام في البلاء".
وقال بعضهم :" الرجل عاطش أبدا".
وقال بعضهم :" الرجل من ينفق ".
وقال بعضهم :" والرجل من ينفق عليه"
قال جامع هذه الإشارات ما قيدت منها إلا ما سمعته من قائله إلا ما ذكرت اسمه.
والحمد لله و جملتها مائتان وبضعة وستون كلمة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه و سلم
يتلوه کتاب الميم والواو والنون ان شاء الله تعالى .
تمت