21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
( المالك ) مأخوذ من ( الملك ) وهو الشدة والقوة . و ( المليك ) الشديد القوى .
و ( ملك ) الطريق وسطه . ويطلق على القدرة والتصرف أيضا .
ولما كانت الكلمة ( الزكرياوية ) مؤيدة من عند الله ب ( القوة ) التامة والهمة المؤثرة والصبر على مقاساة الشدائد - حتى نشر بالمنشار وقد بنصفين ولم يدع الله أن يفرج عنه ويدفع البلاء منه مع كونه مستجاب الدعوة - اختصت بالحكمة ( المالكية ) .
ولما كان وجود الآلام والمحن من الغضب ، وكان وجوده من رحمة الله ابتداء ويرجع إليه انتهاء ويصير سببا للوصول إلى الكمالات وواسطة لرفع الدرجات وغفرانا للخطيئات ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده ) .
شرع لبيانها فقال رضي الله عنه : ( اعلم ، أن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما ، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه . )
اعلم ، أن الحق سبحانه رحم الأعيان الطالبة للوجود وأحكامها ولوازمها ، فأوجدها في العين ، كما أوجدها أولا في العلم ، فالرحمة سابقة على كل شئ ومحيطة بكل شئ ،
كما قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) . وقوله : ( وجودا وحكما ) أي من جهة الوجود والاستعداد والقابلية له التي هي في حكم الوجود ، فإن الوجود عين الرحمة الشاملة على جميع الموجودات ، أعراضا كانت أو جواهرا .
وكذلك القابلية محيطة وشاملة عليها . ومن جملة الأعيان عين الغضب وما يترتب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن ، وأمثالها مما لا يلائم الطباع ، فوسعت الرحمة لها كما وسعت لغيرها ، فوجود الغضب من رحمة الله على عين الغضب ، فسبقت نسبة الرحمة إليه ، تعالى نسبة الغضب إليه ، وذلك لأن الرحمة ذاتية للحق تعالى ، وعين الغضب ناشئة من عدم قابلية بعض الأعيان للكمال المطلق والرحمة التامة ، فيسمى شقاوة وشرا .
وإليه أشار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن الخير كله بيديك والشر ليس إليك ) .
ومن أمعن النظر في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك ، يجد كلها أمورا عدمية .
فالرحمة ذاتية للوجود الحق ، والغضب عارضية ناش من أسباب عدمية .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمت رحمته كل عين . )
( يطلبه ) يجوز أن يكون ب ( الياء ) المنقوطة من تحت ، وب ( التاء ) المنقوطة من فوق .
وقد مر في فصل الأعيان : أن لله تعالى أسماء ذاتية مسماة ب ( مفاتيح الغيب ) التي لا يعلمها إلا هو .
وهي بذواتها تطلب من الله ظهور أنفسها في العلم ، ثم في العين .
والأعيان الثابتة عبارة عن صور تلك الأسماء وتعيناتها ، وليست الأسماء إلا وجودات خاصة ، فكل عين مستندة إلى وجود معين ، وهو الاسم الخاص الإلهي .
فإذا علمت هذا ، يجوز أن يكون فاعل ( يطلب ) ضميرا عائدا إلى ( الوجود ) ، وضمير المفعول عائدا إلى ( كل عين ) أو إلى ( عين ) .
ذكره باعتبار اللفظ ، أو الشئ . ومعناه : لما كان لكل عين مستند ، وهو وجود خاص
و اسم من الأسماء الذاتية يطلب ذلك الوجود بذاته كل واحد من الأعيان ليكون مظهره ومستواه في العلم والعين ، عمت رحمته تعالى كل عين لأجل ذلك الطلب .
فقوله رضي الله عنه : ( لذلك ) متعلق بقوله : ( عمت ) . و ( عمت ) جواب ( لما ) .
ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا عائدا إلى (كل عين) . وضمير المفعول عائدا إلى (الوجود) .
ومعناه : لما كان لكل عين وجود في خزانة غيبه تعالى مقدر أن يفيض عليه وكان يطلب كان عين ذلك الوجود من الله ، عمت رحمته كل عين ، فأفاضت على كل منها وجودها لأجل ذلك الطلب الذي من الأعيان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنه برحمته التي رحمه بها قبل ) بكسر (الباء) . (رغبته في وجود عينه ، فأوجدها.) تعليل لعموم الرحمة .
أي ، فإن كل عين برحمة الله التي رحمه الحق بها أزلا ، فأعطاه الوجود العلمي قبل رغبته في الوجود العيني ، أي ، صار قابلا طالبا للوجود الخارجي ، ( فأوجدها ) الله ، أي الأعيان فيه .
فضمير ( فإنه ) و ( قبل ) عائد ان إلى ( كل عين ) .
ويجوز أن يكونا عائدين إلى ( الله ) . وضمير ( رحمه ) إلى ( كل عين ) .
ذكره باعتبار لفظ ( الكل ) ، أو باعتبار الشئ ، إذ في بعض النسخ : ( كل شئ ) .
ومعناه : فإن الله برحمته التي رحم الكل بها قبل رغبته كل شئ في وجود عين ذلك الشئ .
أي ، قبل الله سؤاله وأجاب ندائه ورغبته في وجوده العيني ، فأوجدها ، أي الأعيان فيه ،
كما يقال : تقبل الله منك . و ( قبل ) على التقديرين خبر ( إن ) .
وقرأ بعض العارفين ( قبل ) ، بسكون ( الباء ) ، وقال : أي ، فإن الله برحمته التي رحم الشئ بها سابق رغبته في وجود عينه . أي ، طلبه ( فأوجدها ) أي الرغبة . وفيه نظر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلذلك قلنا : إن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما . ) أي ، فلأجل قبول الحق طلب الأعيان ورغبتها في أن تكون موجودة في الخارج ، قلنا : إن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما . أما ( وجودا ) فظاهر .
وأما ( حكما ) ، فلأنه رحم وقبل سؤال كل شئ ، فأعطاه الاستعداد والقابلية للوجود العيني ،
فوجد في العين ، فذلك القبول وإعطاء الاستعداد رحمة من الله على الأعيان حكما ،
لذلك قال تعالى : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . أي ، بلسان الاستعداد والحال والقال .
قال الشيخ رضي الله عنه : (والأسماء الإلهية من الأشياء وهي ترجع إلى عين واحدة . فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأول شئ وسعته الرحمة نفسها ، ثم الشيئية المشار إليها ، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة ، عرضا وجوهرا ومركبا وبسيطا . )
لما كانت الأسماء من حيث تكثرها مغائرة للذات الأحدية ورحمة الله وسعت كل شئ ، جعل الأسماء أيضا داخلة تحت الرحمة الذاتية ، لأنها من الأشياء المتكثرة ، مع أنها راجعة إلى عين واحدة وهي الذات الإلهية . فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة ، وهي عين اسم ( الرحمن ) من حيث تميزها بتعينها الخاص عن الاسم ( الله ) .
وإنما وسعت الرحمة الذاتية للعين الرحمانية ، لأنها من حيث امتيازها عن الذات الإلهية إنما
حصلت بالتجلي الذاتي والرحمة الذاتية على تلك العين ، إذ لولا التجلي الذاتي والرحمة الذاتية على تلك العين لما كان لشئ وجود أصلا ، اسما كان أو صفة أو عينا ثابتة .
وإذا كان الأمر كذلك ، فأول ما تعلقت به الرحمة الذاتية هو نفس الرحمة الظاهرة في العين الرحمانية ، ثم الشيئية المشار إليها ، أي العين الرحمانية .
وإنما جعل الرحمة الرحمانية أول متعلق الرحمة الذاتية ثم العين الرحمانية ، لأن عين الاسم ( الرحمن ) ذات مع صفة الرحمة ، والمجموع من حيث هو مجموع متأخر عن كل من أجزائه . ثم شيئية كل موجود ، أي عين كل موجود .
يوجد إلى ما لا يتناهى مفصلا ، دنيا وآخرة ، عرضا وجوهرا ، مركبا وبسيطا ، لأن جميعها أخلة تحت العين الرحمانية إجمالا .
فالأولية في قوله : ( فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجودة ) أولية بالنسبة إلى باقي أعيان الأسماء التي بعدها ، كقوله عن لسان إبراهيم عليه السلام : ( وأنا أول المسلمين ) وإن كان من قبله من الأنبياء أيضا مسلمين .
ويجوز أن يكون المراد ب ( الشيئية ) وجودات الأعيان لا أعيانها .
( ولا يعتبر فيها ) أي ، في إفاضة الرحمة على كل شئ .
قال الشيخ رضي الله عنه : (حصول غرض ولا ملائمة طبع . بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.)
إذ لو كان حصول الغرض وملائمة الطباع معتبرا في الإيجاد ، لما كان للعالم وجود ولا
للأسماء الإلهية ظهور وتعين أصلا ، لأن الأسماء متقابلة ، فمظاهرها أيضا كذلك ، وطبيعة أحد المتقابلين لا تلائم طبيعة الآخر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد ذكرنا في " الفتح المكي " أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود . وإن كان للموجود فبحكم المعدوم . وهو علم غريب ومسألة نادرة لا يعلم تحقيقها ) في بعض النسخ : ( حقيقتها ) . ( إلا أصحاب الأوهام ، فذلك بالذوق عندهم . وأما من لا يؤثر الوهم فيه ، فهو بعيد عن هذه المسألة . )
لما ذكر أن الرحمة وسعت كل شئ وجودا وحكما ، وذكر أن شيئية كل شئ ، حتى الأسماء الإلهية والأعيان الكونية ، كلها من الرحمة - والرحمة لا عين لها في الخارج فهي معقولة المعنى معدومة العين ،
وكأن قائلا يقول : كيف يؤثر الرحمة في أعيان الأشياء وهي في نفسها معدومة فقال قد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم .
ولا يريد بالمعدوم المعدوم مطلقا ، لاستحالة التأثير منه ، بل المعدوم في الخارج الموجود في الباطن ، وذلك لأن جميع ما في الظاهر لا يظهر إلا من الباطن ، فالباطن المطلق هو الذات الإلهية ، فإن الحق غيب الغيوب كلها ، وقد علمت أنه من حيث ذاته غنى عن العالمين ومن
حيث أسمائه يطلب وجود العالم ،
فالعالم مستند إما إلى الحق من حيث الأسماء ، وإما إلى الأسماء ، وأياما كان ، يلزم المقصود ، لأن الأسماء ذات مع الصفات ، والصفات لا أعيان لها في الخارج لكونها نسبا ، فالمؤثر إن كان الذات ، فتأثيرها بحسب النسب التي لا أعيان لها في الخارج .
وإن كانت الصفات فلا أعيان لها فيه ، ومظاهر الأسماء التي هي الأعيان ثابتة في الحضرة العلمية ، ما شمت رائحة الوجود الخارجي بعد ، والموجود هو الوجود المتعين على حسبها ، لا الأعيان .
فصح أن المؤثر في الوجود هو الذي لا عين له في الخارج .
ثم ، تنزل بقوله : فإن كان للموجود حكم وأثر فهو أيضا بحكم المعدوم ، و هو المرتبة التي بها يحكم الوجود على الشئ . ألا ترى السلطان ما دام متحققا بالسلطنة تجرى أحكامه وينفذ أوامره في رعاياه ولو كان صبيا ، وعند انعزاله من السلطنة ، لا ينفذ له حكم أصلا مع أنه موجود ، وكذا الوزير والقاضي وجميع أصحاب المناصب .
ولما كان هذا المعنى غير مشعور به مع وضوحه وحقيته ، قال : ( وهو علم غريب ومسألة نادرة . ) قوله : ( ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام . )
أي ، الذين يتوهمون أمورا لا وجود لها ، وتنفعل نفوسهم منها ويتأثر انفعالا عظيما وتأثرا قويا ، هم الذين يدركون بالذوق الأمور المعدومة المتوهمة كيف تؤثر فيهم .
وأما من لا يتأثر من الوهم ، أي ما يدركه الوهم من الأمور المعدومة المتوهمة ، فليس له نصيب من هذه المسألة بحسب الذوق .
وقيل معناه : أي ، الذين يؤثرون في الأشياء بالوهم فيوجدونها ، فإنهم يعلمون ذلك علم ذوق . وفيه نظر .
لأن الكلام في أن المعدوم يؤثر في الموجود ، لا أن الموجود يؤثر في المعدوم ، والوهم قوة موجودة في الخارج . والله أعلم .
"" أضاف المحقق :
قال الشيخ الكبير مولانا صدر الملة والدين صدر الدين القونوي في المفتاح والنصوص :
( كما أنه من ذاق هذا المشهد وقد كان علم أن الأعيان الثابتة هي حقائق الموجودات وأنها غير مجعولة ، وحقيقة الحق منزهة عن الجعل والتأثر ، وما ثم أمر ثالث غير الحق والأعيان ، فإنه يجب أن يعلم أن إن صح ما ذكرنا أن لا أثر لشئ في شئ ، وأن الأشياء هي المؤثرة في أنفسها ، وأن المسمات عللا وأسبابا مؤثرة شروط في ظهور الأشياء في أنفسها ، لا أن ثمة حقيقة تؤثر في حقيقة غيرها ) . ""
(فرحمة الله في الأكوان سارية .... وفي الذوات وفي الأعيان جارية )
ولما كان الإيجاد باختفاء الهوية الإلهية في الصور الكونية الخلقية ، والأشياء ما وجدت إلا بالرحمة - والرحمة عين تلك الهوية في المرتبة الأحدية وإن كانت غيرها في المرتبة الواحدية - جعل الرحمة سارية في أعيان الأكوان ، كسريان الهوية فيها ، لأنها لازمة للهوية .
ولسريان الرحمة في الأكوان والأعيان يعطف بعضهم على بعض و يحن بعضهم بعضا .
( مكانة الرحمة المثلى إذا علمت .... من الشهود مع الأفكار عالية ) المكانة المرتبة العلية والمنزلة الرفيعة ، و ( المثلى ) الفضلي ، تأنيث ( الأفضل ) .
كما قال تعالى : ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) . أي ، إذا علمت مكانة الرحمة بطريق الشهود ، كانت عالية على الأفكار ، أي ، كانت بحيث لا تدركها الأفكار .
ف ( عالية ) خبر المبتدأ . و ( مع ) بمعنى ( على ) . ولو قلنا معناه ، إذا علمت من الشهود والأفكار على سبيل الجمع بينهما ، أي إذا علمت عين الرحمة بالشهود ولوازمها بالأفكار ، ظهر علوها ومنزلتها الرفيعة ، ف ( مع ) على معناه
قال الشيخ رضي الله عنه : (فكل من ذكرته الرحمة فقد سعد، وما ثمة إلا من ذكرته الرحمة . وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها . فكل موجود مرحوم فلا تحجب يا وليي عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء، وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به. )
أي ، عمن قامت الآلام ووجوداتها به .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فاعلم أولا ، أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة ، فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام . ثم ، إن الرحمة لها الأثر بوجهين : أثر بالذات ) وهو أثر الرحمة الرحمانية العامة المتعلقة بإيجاد كل الأعيان مطلقا .
وإليه أشار بقوله رضي الله عنه : ( وهو إيجادها كل عين موجودة . ولا تنظر ) الرحمة . ( إلى غرض ولا إلى عدم غرض ولا إلى ملائم ولا إلى غير ملائم ، فإنها ناظرة إلى عين كل موجود قبل وجوده . ) ( قبل ) على صيغة الماضي . أي تنظر الرحمة في كل عين حال كونها قابلة للوجود .
( بل تنظره في عين ثبوته . ) فاعل ( تنظره ) ضمير ( الرحمة ) .
وضمير المفعول عائد إلى ( كل عين ) . لذلك ذكره تغليبا للفظ ( الكل ) . أو باعتبار الشئ . أي ، بل ناظرة فيها ، أي في عين كل موجود منهما ، حال ثبوتها في العدم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا رأت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة ، فرحمته بنفسها بالإيجاد .)
( الحق المخلوق ) هو تجلى الحق سبحانه على حسب اعتقاد المعتقدين فيه . وإنما سمى ( مخلوقا ) لأنه مجعول متكثر ، وكل مجعول مخلوق .
ويسمى ( حقا ) ، لأنه حق في اعتقاد المعتقد . ومجلى الحق في نفس الأمر . ومعناه : ولكون الرحمة تنظر في الأعيان حال ثبوتها في العدم فترحم عليها ، شاهدت أعيان الموجودات ورأت عين الحق المخلوق ثابتة في اعتقاد كل عين في جملة العيون الثابتة . ( فرحمته بنفسها ) .
أي ، فرحمت الرحمة الحق المخلوق بنفس الرحمة الذاتية ، فأوجدته .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولذلك قلنا : إن الحق المخلوق في الاعتقادات أول شئ مرحوم بعد رحمتها بنفسها في تعلقها بإيجاد المرحومين . ) أي ، ولأجل أن الحق المخلوق بحسب الاعتقادات أول شئ مرحوم بعد تعلق الرحمة الذاتية بنفسها بالإيجاد ،
قلنا من قبل : إن أول ما وسعت الرحمة الذاتية شيئية تلك العين الموجدة للرحمة الصفاتية ، وهي عين الاسم ( الرحمن ) . ولما كان ( الرحمن ) هو الذي يتجلى بحسب اعتقاد المعتقدين ، ويصير حقا مخلوقا فيدخل في جملة ما يتعلق الرحمة بإيجاده من الأعيان المرحومة ، جعله مقول القول بحسب المعنى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولها أثر آخر بالسؤال ، فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم . وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم ، فيسألونها باسم "الله" ، فيقولون : يا الله ارحمنا . ولا يرحمهم إلا بقيام الرحمة بهم . )
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الأثر الآخر ) هو أثر الرحمة الرحيمية المعطية لكل عين ما يوصل إلى كمالها ، إما بسؤال لسان الاستعداد ، أو بسؤال لسان الحال والقال ، كما مر من قبل فيسأل المحجوبون أن يرحمهم الحق الذي هو معتقدهم ، ويغفر لذنوبهم ويتجاوز عنهم رغبة في الجنة وهربا من النار .
وأهل الكشف يسألون أن يتصفوا بالرحمة ، فيقومون بها من الحضرة الإلهية المطلقة ، لا من الإلهية المقيدة ، فيقولون : يا الله ارحمنا بلسان استعداداتهم .
ولا يرحمهم إلا بأن يجعل قيام الرحمة بهم ، فيكونوا راحمين لأنفسهم ولغيرهم من المستعدين بإيصالهم إلى الكمال .
هذا بالنسبة إلى بعض المكاشفين ، لا بالنسبة إلى المحققين ، فإنهم يختارون مقام العبودية على الربوبية ويجوز أن يكون بالنسبة إلى جميع المكاشفين ويكون المراد الاتصاف بها ، لا الظهور بها ، فإن الكمل لا يطلبون الظهور بالصفة الرحمانية .
( فلها الحكم ، لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل ، فهو الراحم على الحقيقة . ) أي ، فللرحمة الحكم في كل مرحوم ، لأن المعنى القائم بالمحل ، هو الحاكم في الحقيقة على نفس المحل ، أو على من دونه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( المعنى ) هو الحاكم ، لا نفس السلطان . ولكون المعنى قائما بالمحل يظن أنه هو الحاكم . وكذلك جميع المعاني . ويظهر حقيقة هذا الكلام في أصحاب المناصب ، كالسلطان والقاضي والوزير وغيرهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة . ) أي ، بقيام الرحمة بهم ، ليكونوا راحمين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا قامت بهم الرحمة ، وجدوا حكمها ذوقا . فمن ذكرته الرحمة ) أي ، الرحيمية لقيامها به ، كما في الكاملين ، أو بالمغفرة وإعطاء الجنة ، كما في العابدين الزاهدين المحجوبين عن معرفة الحقائق . ( فقد رحم . ) بما يناسب استعداده وتقبل عينه ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واسم الفاعل هو "الرحيم " و "الراحم " . ) أي ، الحاكم هو الرحمة ، وإن كان اسم الفاعل هو ( الرحيم ) و ( الراحم ) . أي ، وإن أضيفت الرحمة إلى الذات الموصوفة بالرحمة في "الرحيم" و "الراحم " .
قال الشيخ رضي الله عنه : (والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجيه المعاني لذواتها. فالأحوال لا موجودة ولا معدومة.)
لما قال : ( وجدوا حكمها ذوقا ) قال : والحكم أيضا غير موصوف بأنه مخلوق ، لأنه لا عين له في الخارج ليكون موصوفا بالمخلوقية ، بل هو أمر معنوي يستلزمه المعاني المعقولة لذواتها ، وهي المعاني الكلية المذكورة في الفص الأول من أنها باطنة ولا تزول عن الوجود الغيبي بحسب الحكم .
فالأحوال والأحكام كلها لا موجودة في الأعيان ، بمعنى أن لها أعيانا في الخارج ، ولا معدومة ، بمعنى أنها معدومة الأثر في الخارج .
ولو قال قائل : إن الأحوال لا أعيان لها في الخارج أعيانا جوهرية ، ولم لا يجوز أن يكون لها أعيانا عرضية موجودة في الخارج ، لأتجه . وتحقيقه أن الأعيان العرضية بعضها محسوسة ، كالسواد والبياض ، وبعضها معقولة ، كالعلم والقدرة والإرادة وأمثالها ،
والمعقولات من حيث إنها معقولات ليس لها وجود إلا في العقل ولا عين لها في الخارج غيره ، ومن حيث إنها هيئات روحانية مرتسمة في الذات الموصوفة بها ،
لها أعيان عرضية غير أعيان محالها ، واتحاد عين الصفة مع عين الموصوف وعدم اتحادها ، مستفاد من المرتبة الأحدية والواحدية التي للحق ، وقد علمت أن الصفات كلها عين الذات في المرتبة ( الأحدية ) ، وغيرها من وجه في ( الواحدية ) ، فكذلك حال الصفات الروحانية مع محالها . والله أعلم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أي ، لا عين لها في الوجود ، لأنها نسب ، ولا معدومة في الحكم ، لأن الذي قام به العلم يسمى عالما ، وهو الحال ) أي ، ذلك القيام هو ( الحال ) الذي به يسمى صاحبه عالما .
أو هذا هو المسمى ب ( الحال ) في مذهب المعتزلة ، الذي هو واسطة بين الوجود والعدم
واعلم ، أن النفس الإنسانية البالغة إلى التجرد التام ، لا سيما إذا بلغت إلى المقامات
القلبية ، لها مقام ( أحدية ) ظلية ، أي ، مقام مشاهدة علومه وإدراكاته وأسمائه وصفاته في
غيب وجوده ، شهودا تاما .
وإذا أراد إظهار ما هو الموجود في غيب وجوده بالاستجنان العلمي ، يتجلى في الصور المفصلة ، لأن العقل البسيط الإجمالي خلاق للصور المفصلة .
وإذا تأملت فيما حررناه وتلوناه عليك ، يعرف أن النفس في مقام إجمال الصور وتحققها
لوجود واحد جمعي أحدي إذا أراد إظهار ما في ذاته الأحدي ، يظهر الصور بعلم ومشيئة
وإرادة وقضاء تكون كلها عين ذات النفس .
وأما المرتبة ( الواحدية ) ، المسمات ب ( الألوهية ) ومقام تفاصيل العلوم والأسماء والصفات ، ليست فيها كثرة خارجية ، لأن الحق بسيط ، ليس فيه شائبة التركيب إلا في المفهوم .
وأهل الفن صرحوا بأن الحق باعتبار اتصافه بالألوهية واحد .
وإن شئت قلت إن الحق باعتبار تعينه باسمه ( الواحد ) واحد بسيط لا تركيب فيه يقتضى مظهرا واحدا مشتملا على جميع القابليات .
ونسمي هذا الواحد ب ( الحقيقة المحمدية البيضاء ) المشتملة على جميع الموجودات من الأزل إلى الأبد .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعالم ذات موصوفة بالعلم . فما هو ) أي ، فليس ذلك الحال ، أي كونه عالما ( عين الذات ، ولا عين العلم ، وما ثمة إلا علم وذات قام بها هذا العلم .
وكونه عالما "حال" لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى . فحدثت نسبة العلم إليه وهو المسمى
عالما . )
أي، حدثت من اجتماع الذات والصفة العلمية هذه النسبة وصار الموصوف بها مسمى بالعالم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم . ) أي ، من جملة الراحم . ( وهي ) أي ، الرحمة .
( الموجبة للحكم ) على صاحبها بأنه راحم . ( فهي الراحمة ) أي ، الجاعلة لصاحبها راحما ، وهي الراحمة في الحقيقة للأشياء المرحومة ، وإن كانت في الظاهر مستندة إلى صاحبها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (والذي أوجدها في المرحوم ، ما أوجدها ليرحمه بها ، وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به.) أي ، الحق الذي أوجد الرحمة في المرحوم ، ما أوجدها ليرحمه بها ، فيكون مرحوما ، وإنما أوجدها فيه ليكون راحما ، لأنه بمجرد ما وجد أولا ، صار مرحوما بالرحمة الرحمانية ،
وعند الوصول إلى كمال يليق بحاله ، صار مرحوما بالرحمة الرحيمية . فإيجاد الرحمة فيه وإعطاء هذه الصفة له بعد الوجود والوصول إلى الكمال ، إنما هو ليكون العبد موصوفا بصفة ربه ، فيكون راحما بعد أن كان مرحوما .
وإنما كان كذلك ، لأن الصفات الفعلية إذا ظهرت فيمن ظهرت تقتضي ظهور الفعل منه . ألا ترى أن الحق إذا أعطى لعبده صفة القدرة وتجلى بها له ، كيف تصدر منه خوارق العادات وأنواع المعجزات والكرامات .
والرحمة مبدأ جملة الصفات الفعلية ، إذ بها توجد أعيانها . فنسأل الله تعالى أن يرحمنا بالرحمة التامة الخاصة والعامة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث ، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه . وهو الراحم ، ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به . فثبت أنه عين الرحمة . ) أي ، الحق سبحانه هو الذي يرحم جميع الأسماء والصفات والأعيان والأكوان ، فهو الراحم ، وليس محلا للحوادث ، ليكون له صفة زائدة عليه حادثة بالذات ،
فرحمته عين ذاته غير زائدة عليها وبها رحم الرحمة الصفاتية فأوجدها والعين التي هي قائمة بها ليرحم الأشياء كلها بها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن لم يذق هذا الأمر ولا كان له فيه قدم ) أي ، من لم يحصل له هذا الأمر بالذوق ليكون راحما بالفعل مالكا لهذه الصفة متمكنا فيها ، ولا له قدم بوجه من الوجوه في هذا المقام .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما اجترأ أن يقول إنه عين الرحمة ، أو عين الصفة ، ولا غيرها . فقال ) أي ، الأشعري .
( ما هو عين الصفة ولا غيرها . فصفات الحق عنده
لا هي هو ولا هي غيره ، لأنه لا يقدر على نفيها ، ولا يقدر أن يجعلها عينه ، فعدل إلى
هذه العبارة . وهي عبارة حسنة ، وغيرها ) أي ، وغير هذه العبارة .
( أحق بالأمر منها ) أي ، أحق بما في نفس الأمر منها . ( وأرفع للإشكال . ) وهو أن يكون الذات ناقصة بالذات مستكملة لنفسها بالصفات .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف ) ( هو ) عائد إلى قوله : ( وغيرها ) . أي ، القول بنفي أعيان الصفات الزائدة على الذات القائمة بها أولى وأليق بما في نفس الأمر وأرفع للإشكال من أن يجعل له صفات زائدة على ذاته تعالى قائمة بها ، وهي لا عينها ولا غيرها .
والقول بالنفي مذهب أكثر الحكماء والمعتزلة .
(وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة . ) أي ، وإنما الصفات نسب وإضافات ، تلحق بالذات الإلهية ، حاصلة بين الذات
الموصوفة بها وبين الأعيان المعقولة لها ، إذ لكل صفة حقيقة يمتاز بها عن غيرها ،
فتلك الحقائق أعيانها
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإن كانت الرحمة جامعة ، فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة . فلهذا يسأل سبحانه أن يرحم بكل اسم إلهي ، فرحمه الله . ) ( يسأل ) على المبنى للمفعول .
و ( أن يرحم ) على المبنى للفاعل . أي ، الرحمة الذاتية ، وإن كانت جامعة لجميع أنواع الرحمة ، لكنها يختلف بالنسبة إلى الأسماء المختلفة ، إذ كل منها يرحم مظهره وداعيه بما يخصه ، ويعطى حقيقته .
( فلهذا ) أي ، فلأجل هذا الاختلاف يسأل الحق سبحانه أن يرحم بكل واحد من أسمائه ، فيرحم الله ذلك السائل بالاسم الذي سأل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فرحمه الله ) بمعنى يرحمه الله ، كما يقال في الدعاء : رحمه الله . ويجوز أن يكون ب ( التاء ) والإضافة إلى ( الله ) . أي ، فرحمها الله .
( والكناية هي التي وسعت كل شئ . ) ( الكناية ) هي ضمير المتكلم في قوله : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) . والمخاطب في قوله : ( ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ) أي ، رحمة الله والذات التي ( الكناية ) تدل عليها ، هي التي وسعت كل شئ إذ رحمته عين ذاته كما مر آنفا .
( ثم ، لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية . فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص الإلهي في قول السائل : رب ارحم . وغير ذلك من الأسماء .
حتى ( المنتقم ) ، له أن يقول : ( يا منتقم ، ارحمني ، ) ( ما ) في قوله : ( فما تعم ) للنفي .
أي ، ثم للرحمة الإلهية شعب كثيرة يتعدد بتعدد الأسماء الإلهية . أي ، إذا قال
السائل : رب ارحمني . أو : يا الله ارحمني . أو غير ذلك من الأسماء ، حتى للسائل
أن يقول : يا منتقم ارحمني . فما تعم الرحمة وإن كان الاسم المدعو من الأسماء الجامعة ، كالاسم ( الله ) و ( الرحمن ) و ( الرب ) . أي ، ليس المطلوب بالرحمة من جميع الأسماء معنى عاما شاملا للكل ، بل معنى خاصا .
فإنك إذا قلت : يا رب ارحمني . تريد أن يجعلك موصوفا بالكمالات . وإذا قلت : يا منتقم ارحمني . تريد أن يخفف عنك العذاب .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وذلك لأن هذه الأسماء تدل على الذات المسماة ، وتدل بحقائقها على معان مختلفة ، فيدعو بها في الرحمة ) أي ، فيدعو الداعي بتلك الأسماء في طلب الرحمة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير ، ) ( ذلك ) إشارة إلى قوله : ( فما تعم ) . أي ، فما تعم الرحمة . لأن الأسماء تدل على الذات وتدل بحقائقها .
أي ، بما تتميز به عن غيرها على المعاني المختلفة ، فدعاء الداعي بتلك الأسماء في طلب الرحمة ، إنما هو من حيث إنها تدل على الذات المسماة بها لا غير . أي ، نظر الداعي في دعائه إنما هو إلى الذات المسماة بالأسماء فقط ، أي اسم كان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل به عن غيره ويتميز . ) أي ، لا بالخصوصيات المتكثرة المتميزة بعضها عن بعض .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنه لا يتميز عن غيره وهو عنده دليل الذات . ) أي ، فإن الاسم الخاص لا يتميز عن غيره من حيث إنه يدل على الذات الواحدة وهو عنده ، أي ذلك الاسم الخاص عند السائل ، دليل بالذات ، وليس نظره إلا إلى الذات ، فإنها قبلة الحاجات ، وإن كان المسؤول لا يصدر من الذات إلا على يدي الاسم الخاص من حيث خصوصيته .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنما يتميز بنفسه عن غيره لذاته ، إذ المصطلح عليه ، بأي لفظ كان ، حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها . ) أي ، وإنما يتميز الاسم الخاص بنفسه عن غيره لذاته ، إذ الحقيقة المصطلحة عليها بالألفاظ ، أي لفظ كان ، متميزة بذاتها عن غيرها .
ألا ترى أن ( العليم ) متميز عن ( القادر ) بعين العلم ، و ( القادر ) متميز عنه بعين القدرة ، والكل في الدلالة على الذات الإلهية غير متميزة . وإليه أشار بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن كان الكل قد سبق ليدل على عين واحدة مسماة . ولا خلاف في أنه لكل اسم حكم ليس للآخر ، فذلك أيضا ينبغي أن يعتبر ، كما تعتبر دلالتها على الذات المسماة . ) أي ، ولا خلاف أن لكل اسم حكما يختص به ، وليس ذلك للآخر ، فذلك الحكم أيضا ينبغي أن يعتبره السائل كما اعتبر الذات ، وذلك لأن السائل لا بد له من مطلوب يطلبه ، فينبغي أن يطلب ذلك من الذات باسم يعطى بخصوصية مطلوبه ، كما لمريض إذا دعا ( يا الله ) أو ( يا رحمان ) ينبغي أن
يعتبر الشفاء ليقتضي الله حاجته على يد ( الشافي ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا قال أبو القاسم بن القسي في الأسماء الإلهية : إن كل اسم على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها ، إذا قدمته في الذكر ، نعته بجميع الأسماء . وذلك لدلالتها على عين واحدة ، وإن تكثرت الأسماء عليها واختلفت حقائقها . ) أي ، حقائق تلك الأسماء . أي ، ولأجل أن الأسماء كلها في دلالتها على الذات لا يختلف ، قال أبو القاسم بن القسي - وهو صاحب خلع النعلين ، وذكر الشيخ في الفتوحات أنه كان من أكابر أهل الطريق - : إن أي اسم من الأسماء إذا قدمته في الذكر ، نعته بجميع الأسماء لأنه دليل الذات ، والذات منعوته بجميع الأسماء والصفات
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم ، إن الرحمة تنال على طريقين : طريق الوجوب ، وهو قوله تعالى : "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " . وما قيدهم به من الصفات العلمية والعملية . ) ( وهو قوله تعالى ) أي ، ذلك الوجوب مستفاد من قوله تعالى :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فسأكتبها . . . ) - إلى آخر الآية . ومستفاد من الوعد الذي وعدهم في مقابلة ما قيدهم به وكلفهم .
ف ( ما قيدهم ) معطوف على قوله : ( وهو قوله ) . و ( ما ) بمعنى ( الذي ) أو ( الشئ ) . أي ، الرحمة من الله تعالى تنال على طريقين : طريق الوجوب . أي ، على طريق الذي أوجب الحق على نفسه أن يرحم عباده إذا أتوا به في مقابلة ما قيدهم به وكلفهم من العلم والعمل .
كما قال الشيخ رضي الله عنه : رضي الله عنه : ( فسأكتبها ) أي ، أفرضها ( للذين يتقون ويؤتون الزكاة ) . لا أن العبد بحسب عمله يوجب على الله أن يرحمه ، بل ذلك الإيجاب على سبيل الفضل والمنة أيضا منه على عباده .
قال الشيخ رضي الله عنه: (والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة على طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل، وهو قوله : "ورحمتي وسعت كل شئ" . ومنه قيل : "ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر". ومنها قوله : "إعمل ما شئت فقد غفرت لك ". فاعلم ذلك.)
( الرحمة الامتنانية ) قد تكون عامة ، وهو الرحمة الذاتية الشاملة لجميع العباد ، كقوله تعالى : ( رحمتي وسعت كل شئ ) .
وقد تكون خاصة كما قيل : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) . في حق نبينا ، صلى الله عليه وسلم ،
وكما قال لبعض عباده : ( إعمل ما شئت ، فقد غفرت لك ) فلا يتوهم أنها شاملة لجميع الأشياء مطلقا . والله الرحيم المنان ومنه الفضل والإحسان .