Published using Google Docs
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
Updated automatically every 5 minutes

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية

إنما خصت الكلمة الأيوبية بالحكمة الغيبية لكون أحواله عليه الصلاة والسلام بأسرها من ابتداء حاله وزمان ابتلائه وبعد كشف بلائه إلى انتهاء كلامه غيبية ، لأن الله تعالى أعطاه من الغيب بلا كسب ما لم يعط أحدا من المال والبنين والزرع والخول والعبيد ، ثم ابتلاه من الغيب ببلايا في نفسه وماله وأهله وولده ولم يبتل بمثلها أحدا ، ورزقه الله صبرا جميلا وافرا بلا شكوى إلى أحد في مدة لم يرزق مثله أحدا ، ولما بلغ الابتلاء غايته وتناهي الصبر نهايته ولم يجزع قط ولم يشك إلى أحد ، ولم يترك من أعماله وطاعته وأذكاره وأنواع شكره شيئا " نادى رَبَّه - أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ "،

فكشف عنه ما به من ضر ، ووهب له أهله -   "ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً " من عنده وخزانة غيبه وأظهر له من غيب الأرض مغتسلا باردا وشرابا ، وكل ذلك كان من قوة إيمانه بالغيب ، وثقته بما ادخر الله له في الغيب ، فكان أمره كله من الغيب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أن سر الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر والأركان ، ولذا جعل الله من الماء كل شيء حي وما ثم شيء إلا هو حي ، فإنه ما ثم من شيء إلا وهو يسبح بحمده ، ولكن لا يفقه تسبيحه إلا بكشف إلهي ، ولا يسبح إلا حي ، فكل شيء حي ، فكل شيء من الماء أصله ) .

اعلم أن الحياة إذا تمثلت وتجسدت ظهرت بصورة الماء ، وكذلك العلم الذي هو الحياة الحقيقية ، وهو معنى قوله : سر الحياة سرى في الماء ولما كان أصل الكل الحياة والعلم والماء صورتهما جعل أصل النار الماء ، فإن الحياة التي هي عين الذات الأحدية تمثلت بصورة الأرواح ، ثم نزلت إلى صور الطبائع ، ثم تمثلت بصور العناصر فثبت أن من الماء الذي هو صورة الحياة كل شيء حي ، وأنه لا شيء إلا وهو حي كما ذكر ، فلا شيء إلا وأصله من الماء .

 

"" أضاف بالي زادة : قوله ( وهو أصل العناصر والأركان ) الباقية ، فالحياة صفة من صفات الله حقيقة واحدة كلية شاملة على جميع الموجودات ، لكن تظهر في بعضها في العموم والخصوص وفي بعضها في الخصوص ، وسرها هو الهوية الإلهية الظاهرة بصورة الحياتية ، فأول ما ظهرت به الهوية الإلهية الحياة ، ولذلك تقدمت على باقي الصفات تقدما ذاتيا ، وأول ما ظهرت به الحياة الماء ، لذلك كان أول كل شيء وأصله ( ولذلك ) أي لأجل سريان سر الحياة في الماء ( جعل الله من الماء كل شيء حي ) كالحيوانات فإنها خلقت من نطفة الأمهات والآباء - وهي الماء ، وكالنبات فإنها لا تنبت إلا بالماء .أهـ بالى زادة. ""

( ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنه منه تكوّن )

المراد بالعرش العرش الجسماني : أي الفلك الأطلس ، وإنما تكون من الماء لأن الله تعالى خلق أول ما خلق ذرة بيضاء فنظر إليها بعين الجلال فذابت حياء فصار نصفها ماء ونصفها نارا فكان عرشه على ذلك الماء ،

فالدرة هي العقل الأول الذي تكون منه جميع الأكوان ، والنظر إليه بعين الجلال احتجاب الحق تعالى بتعينه ، فإن نظر الجمال تجلى الوجه الإلهي بنوره ، ونظر الجلال تستره بغيره ، وذوبانه تلاشيه بماهيته الإمكانية العدمية وتكون الأشياء منه ،

فإنه كالهيولى لجميع الممكنات ، والنصف الناري تكون الأرواح منه بالتعينات النورية ، ألا ترى كيف سمى روح القدس عند اتصال موسى به نارا حيث قال  :"بُورِكَ من في النَّارِ ومن حَوْلَها "   - وقال :" آنَسَ من جانِبِ الطُّورِ ناراً "   - والنصف المائي تكون الأجسام منه ، فإن الهيولى هو البحر المسجور أي المملوء بالصور ، فإنها ماء كلها فكان العرش على ذلك الماء .

 

ولما كان العقل الأول الذي هو أصل الكل عين الحياة ومثالها صح أن أصل الكل الماء حتى الهيولى والنار .

( فطغى عليه ) أي ظهرت صورة العرش على ماء الهيولى ، فإن كل ما طغى على ماء ظهر ، وبطن الماء تحته ، وكذا بطن الهيولى بظهور صورة الأجسام فيها .

( فهو يحفظه من تحته ) أي الهيولى يحفظ الصورة العرشية من تحته ( كما أن الإنسان خلقه الله عبدا فتكبر على ربه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه ) "وفي نسخة : بربه" وكلاهما يستقيم ، لأن الجاهل بنفسه جاهل بربه وبالعكس ،

وإنما خلق الإنسان عبدا لأنه مقيد في تعينه ، وليست حقيقة العبد إلا صورة تعين الوجود للحق المتجلى فيه ، والمتعين لا بد أن يعلو المتعين به المستور فيه وإلا لانعدم ، إذ لا تحقق للمتعين بدون المتعين به ، فإنه بلا هو هالك ، فالحق يحفظ العبد من تحته.

"" أضاف بالي زادة : (فهو يحفظه من تحته ) أي الماء يحفظ العرش من تحته ، فإذا كان أصلا العرش كان أصلا لكل ما أحاط به العرش ، فكل شيء أصله الماء اهـ بالى زادة. ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لو دليتم بحبل لهبط على الله" فأشار إلى أن نسبة التحت إليه كما أن نسبة الفوق إليه في قوله : "يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ " وقوله : " وهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه" فله الفوق وله التحت ، ولهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالنسبة إلى الإنسان ، وهو على صورة الرحمن ) .

لما كانت نسبة الفوق والتحت إليه سواء فحفظه لعبده من تحته لا ينافي فوقيته فإنه بإحاطته فوقه وتحته ، وكونه على صورة الرحمن إحاطته بجميع الأسماء ، فإن الرحمن في جميع الجهات المتقابلة لاشتماله على جميع الأسماء المتقابلة ، و « ما » في كما نسبة زائدة كقوله:  " فَبِما رَحْمَةٍ من الله " .

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولا مطعم إلا الله ، وقد قال في حق طائفة "ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ ".

ثم نكر وعمم فقال :" وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " فدخل في قوله :" وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " كل حكم منزل على لسان رسول أو ملهم .

" لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ " هو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه " ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه عليه الصلاة والسلام ).

هذا بيان الإحاطة وحفظه للعبد من جميع الجهات ، فإن الإحاطة والحفظ من الصفات الرحمانية ، ومن الحفظ الإطعام فإنه من الأمداد الرحمانية التي لو انقطعت لهلك العبد ،

وقد قال الله تعالى :" لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " . أي لو أقاموا ما في الكتب الإلهية وهيأوا الاستعداد لأطعمناهم من جميع الجهات ،

والتحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله وهو قوله « لو دليتم بحبل الله لهبط على الله » .

 

"" أضاف بالي زادة : من حيث أنه مخلوق على الصورة ، وهو الجاهل بنفسه لأنه لو عرف نفسه عرف ربه ولو عرفه ما كبر وما اعتلى ( على لسان رسول الله ) ولم يوجد ذلك الحكم نسخا أو إثباتا في التوراة والإنجيل ، وإلا لكان منهما كسائر الأحكام الموجودة ، ويدل عليه قوله (أو ملهم) من ربهم على قلوبهم والمقصود (تعميم) الحكم بما لا يدخل فيهما (لأكلوا) من المعارف الإلهية وهي الأرزاق الروحانية (من جهة فوقهم ) المعنوي كما أكلوا الرزق الصوري بسبب المطر ، فعلى أي حال (وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه و) لأكلوا الرزق المعنوي (من تحت أرجلهم) بالسلوك والمجاهدات كما أكلوا الرزق الصوري من أنواع الفواكه من الأرض التي تحت أرجلهم اهـ بالى زادة. ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص )

يعنى إذا عدم الحي الحياة التي الماء صورتها انحلت أجزاء نظامه ، وذلك لأن الحرارة الغريزية التي بها حياة الحي إنما تنحفظ بالرطوبة الغريزية ، فحياة الحرارة أيضا بالرطوبة وهي صورة الماء فبفقدانه وجود الموت الذي هو افتراق أجزاء الإنسان ، وهذا مقدمات مهدها لبيان حال أيوب عليه السلام .

 

ثم عدل إلى قوله : ( قال الله تعالى لأيوب " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ " يعنى لما كان عليه من إفراط حرارة الألم فسكنه ببرد الماء ، ولهذا كان الطب النقص من الزوائد ، والزيادة في الناقص ).

يعنى طبه الله تعالى بنقص حرارة الألم وزيادة البرد والسلام منها، فإن الآلام كانت نارا أوقدها الشيطان سبع سنين في أعضاء أيوب عليه السلام، فشفاه الله منها بهذا الطب الإلهي .

( والمقصود طلب الاعتدال،  ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه ) .

ولا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي ، فإنه لا يوجد في هذا العالم كما بين في الحكمة إلا أن الاعتدال الإنسانى يقاربه .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا ولا سبيل إليه أعنى الاعتدال من أجل أن الحقائق والشهود تعطى التكوين مع الأنفاس على الدوام ، ولا يكون التكوين إلا عن ميل يسمى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي الحق إرادة وهي ميل إلى المراد الخاص دون غيره ، والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع ، وهذا ليس بواقع ) .

أي ولا سبيل إلى الاعتدال في عالم الكون والحضرة الأسمائية دون الذات الإلهية ، فإن التعين واللا تعين والجمع بين المتنافيين والنسبة إلى الأسماء المتقابلة في الحضرة الأحدية سواء ،

وأما في حضرة التكوين فلا ، فإن الشهود يحكم بالتكوين وتجديد الخلق مع الأنفاس دائما ، ولا يمكن التكوين إلا عند الانعدام ،

وإلا لا يسمى تكوينا فإن تحصيل الحاصل محال أفيدوم الانعدام في الخلق وذلك عن ميل في الطبيعة يسمى انحرافا أو تعفينا ، والتجديد عن الحق وذلك عن ميل للحق يسمى في حقه إرادة وهي ميل إلى المراد الخاص ، والاعتدال يؤذن بالسواء ،

وهذا ليس بواقع في الحضرتين المذكورتين وتنفرد به الذات الإلهية بالنسبة إلى الجمعية الواحدية دون الربوبية يعنى نسبة الذات إلى الصفات وهي نسبة الأحدية إلى الواحدية ، وأما في نسبة الإلهية إلى الربوبية فلا بد من الميل دائما ( فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ) أي في هذا العالم

( وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضى والغضب وبالصفات ) أي المتقابلة .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والرضى مزيل الغضب والغضب مزيل الرضا عن المرضى عنه ، والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض ، فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل ، وما رضى الحق عمن رضى عنه وهو غاضب عليه فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل ) .

 

زوال الغضب عند انصاف الحق بالرضا وزوال الرضا عند اتصافه بالغضب إنما هو بالنسبة إلى مغضوب عليه أو مرضى عنه معينين ،

وأما بالنسبة إلى الغضب الكلى القهري الجلالي ، والرضا الكلى اللطفى الجمالي ، فلا يزول اتصافه بهما من حيث كونه إلها وربا مطلقا ،

وكذلك من حيث غناه الذاتي فإنه من حيث كونه غنيا عن العالمين لا يتصف بشيء منهما ، فظهر أن الميل والانحراف ليس إلا من قبل القابل ،

والربوبية المحضة المقيدة بمربوب معين لظهور حكم الرضا والغضب في القابل ، وعدم ظهوره في غير القابل ،

وأما باعتبار حقيقتي الرضا والغضب الكلبين أحكامهما أبدا سرمدا في المرضى عنهم والمغضوب عليهم من العالمين ، فهما ثابتان لله تعالى رب العالمين على السواء فلا يتصف بأحدهما بدون الآخر ، إلا أن حكم سبق الرحمة الغضب أمر ذاتي دائم لا يزال ولا يتغير .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه فما لهم حكم الرضا من الله فصح المقصود ، فإن كان كما قلنا مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار فذلك رضى فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) .

إنما قلنا إن الاتصاف بأحد الحكمين دون الآخر لأنه لم ير أن غضب الله على أهل النار لا يزول أبدا ولا يكون لهم حكم الرضا قط ، فإن كان كما زعموا فالمقصود حاصل ، وإن كان كما قلنا مآلهم إلى زوال الآلام مع كونهم في النار ، فذلك عين الرضا لزوال الغضب بزوال الألم.

 

"" أضاف بالي زادة : ( إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) تصريح منه بأن الوجوه المذكورة في إثبات حكم الرضى والرحمة تدل على جواز وقوع ذلك الحكم لهم ، فلا يقطع أن يكون العذاب دائما لهم ، فتؤدي أدلته إلى التوقف ، فمذهبه التوقف في مثل هذه المسألة كما بيناه من قبل اهـ بالى زادة. ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن غضب فقد تأذى فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه ، والحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة ) على هذا الحد أي الألم ، وفي بعض النسخ : على هذا الحد ، من متن الكتاب .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذا كان الحق هوية العالم فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه ، وهو قوله :" وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه "  حقيقة وكشفا " فَاعْبُدْه وتَوَكَّلْ عَلَيْه "  حجابا وسترا ، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة الرحمن أوجده الله : أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية ، فنحن صورته الظاهرة وهويته روح هذه الصورة المدبرة لها فما كان التدبير إلا فيه كما لم يكن إلا منه ، فهو الأول بالمعنى والآخر بالصورة ، وهو الظاهر بتغيير الأحكام والأحوال والباطن بالتدبير ، وهو بكل شيء عليم ، فهو على كل شيء شهيد ليعلم عن شهود لا عن فكر ، فكذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصحيح ، وما عداه فحدس وتخمين وليس بعلم أصلا ) .

قد مر أن الحق عين كل شيء فإذا كان عين هوية العالم أي حقيقته فالأحكام الظاهرة في العالم ليست إلا في الله وهي من الله ،

وهو معنى قوله : " وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه " حقيقة وكشفا فإنه تعالى باعتبار التجلي الذاتي الغيبي يسمى هو ، وذلك التجلي هو الصورة بصور أعيان العالم ، فكان هوية العالم وهوية كل جزء حجابه وستره ليتوكل عليه ، فإنه به موجود وهو الفاعل فيه لا فعل للحجاب ، والحجاب الذي هو العبد صورة أنية ربه والرب هويته ، وهو معنى قوله : فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأن العبد صورة العالم والعالم صورة الرحمن ، ومعنى أوجده الله ،

"" أضاف بالي زادة : ( فإذا كان الحق هوية العالم ) أي إذا نظرته من حيث أسماؤه وصفاته كان مرآة للعالم ( فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه وبه ) مع أنه تعالى منزه عن الانفعال والتأثر بالأحكام ، كظهور أحكام الرائي في المرآة، فإن صورة المتألم في المرآة لا تتألم بما يتألم الرائي.

أو نقول ( إذا كان الحق هوية العالم ) ففي حق كل فرد من العالم هوية من الحق مختصة به ، يظهر جميع أحكامه في الهوية المختصة به ، وهو الحق الخلق وهو العبد ، فالمتألم هو الحق الخلق لا الحق الخالق ، فلا يستريح الحق الخالق باستراحة المخلوق ولا يتألم بتألمه ، فهوية العالم هو الحق المخلوق لا الحق الخالق ، فالإنسان من حيث تحققه بالصفات الإلهية من الحياة والقدرة وغيرها يقال له حق ، ومن حيث إمكانه وتحققه بالصفات الكونية عبد وخلق ، والله من حيث تحققه بالصفات اللائقة بشأنه حق ، ومن حيث وجوبه الذاتي خالق وموجد ، فقد جرى اصطلاحهم على ذلك اهـ بالى زادة. ""

 

ولهذا أي ولأجل كون الشهود قربا للبصر وهو الحجاب الذي يمس عين قلبه ، فالشيطان يقرب منه بسبب هذا المعنى ، فطلب من الله إزالة الحجاب عنه خوفا عن تصرف الشيطان فيه اهـ بالى زادة .

ظهر بصورته ، وشبه ظهور وجوده تعالى بظهور العالم بظهور حقيقة الإنسان بوجود صورته الطبيعية أي بدنه ، ثم قال : فنحن ، أي نحن مع جميع العالم صورة الحق الظاهرة ، وهوية الحق روح هذه الصورة المدبرة لها ، والباقي ظاهر مما ذكر .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم كان لأيوب ذلك الماء شرابا بإزالة ألم العطش الذي هو من النصب ، والعذاب الذي به مسه الشيطان أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه فيكون بإدراكها في محل القرب ، فكل مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة فإن البصر يتصل به من حيث شهوده ، ولولا ذلك لم يشهده أو يتصل المشهود بالبصر كيف كان ، فهو قريب بين البصر والمبصر ) .

سمى الشيطان شيطانا لبعده عن الحق والحقائق ، من شطن شطونا إذا بعد ، وقيل من شاط إذا نفر فهو فيعال أو فعلان بمعنى المبالغة أي البعيدة في الغاية ، ولهذا أطلق الشيخ رضي الله عنه تسميته بالمصدر للمبالغة ، كقولهم : رجل عدل ، والمراد الذي هو في غاية البعد عن إدراك الحقائق على ما هي عليه ، وإذا كان كذلك فهو في غاية البعد عن الحق ،

لأن المدرك للحقائق على ما هي عليه يكون بإدراكها في محل القرب ، ألا ترى أن المشهود قريب من العين ولو كان بعيد المسافة ، لأن البصر يتصل به على مذهب خروج الشعاع ، أو يتصل المشهود بالبصر على مذهب الانطباع ، فإنه ليس هذا موضع تحقيقه ، وكيف كان فالمشهود قريب بين البصر والمبصر ، وإنما كان الشيطان لا يدركها على ما هي عليه لكونه على صورة الانحراف العيني ، أي جبلت عينه على الانحراف والميل عن العالم العقلي إلى العالم السفلى ، ولهذا كان من الجن .

"" أضاف بالي زادة : ولما ذكر أن للبعد وقربه من أيوب حكما وأثر فيه كان محلا لأن يقال البعد والقرب أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ، فكيف يكون لهما أثر وحكم في الموجودات الخارجية ، دفع ذلك بقوله : وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان اهـ بالى زادة. ""

 

( ولهذا كنى أيوب في المس فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس ، فقال : البعيد منى قريب لحكمه فىّ ) أي ولأن الشيطان بعيد عن محل القرب كنى في المس :

أي أوقعه على كناية المتكلم مضافا إلى الشيطان فقال :"أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ "   أي خصني البعيد بالمس الذي هو غاية القرب لحكمه فىّ بالضر الذي هو النصب والعذاب ، شكى إلى الله من غلبة حجابية تعينه وإلا لم يكن للانحراف فيه حكم ،

فإن الشيطان الذي هو العين المنفردة بالانحراف والبعد ، إنما حكم على نفسه بالانحراف عن الاعتدال لاحتجابه بتعينه عليه ، فإن قرب البعيد منه إنما يكون لبعده .

 

ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه :   ( وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامهما في البعيد والقريب ).

 فإنهما مع كونهما معدومين في الأعيان يحكمان على الموجودات العينية بمعناهما ، ألا ترى أن الشيطان في عين القرب لوجوده بالحق بعيد عن الله لانحرافه العيني ، فقربه من أيوب نفس كونه بعيدا منحرفا عن الاعتدال ،

فحكم على أيوب في عين القرب منه بالبعد عن الحق والانحراف عن الاعتدال .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أن سر الله في أيوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليا تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفا لها ، فأثنى الله عليه أي على أيوب بالصبر مع دعائه في رفع الضر عنه ، فعلمنا أن العبد إذا دعا الله في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره وأنه صابر وأنه نعم العبد ، كما قال : " نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أَوَّابٌ ".

أي رجاع إلى الله لا إلى الأسباب ، والحق يفعل عند ذلك بالسبب لأن العبد يستند إليه ، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق ذلك علم الله فيه ، فيقول : إن الله لم يستجب لي ، وهو ما دعاه وإنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان ولا الوقت ، فعمل أيوب بحكمة الله إذ كان نبيا لما علم أن الصبر الذي هو حبس النفس عن شكوى عند الطائفة ).

أي المتقدمين من الشرقيين من أهل التصوف القائلين بأن الصبر هو حبس النفس عن الشكوى مطلقا.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس ذلك بحد الصبر عندنا ، وإنما حده حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله ، فحجب الطائفة نظرهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء وليس كذلك ، فإن الرضا بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى الله ولا إلى غيره وإنما يقدح في الرضا بالمقضى ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضى والضر هو المقضي ما هو عين القضاء ).

إذ المقضي به أمر يقتضيه عين المقضي وحاله واستعداده ، والقضاء حكم الله بذلك وهما متغايران فلا يلزم من الرضا بحكم الله الرضا بالمحكوم به ، فإنه مقتضى حقيقة العبد المقضي عليه لا مقتضى حكم الله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلم أيوب أن في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي وهو جهل بالشخص إذا ابتلاه الله بما تتألم منه نفسه ، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ويسأل الله إزالة ذلك عنه ، فإن ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف ، فإن الله قد وصف نفسه بأنه يؤذى فقال : " إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورَسُولَه " وأي أذى أعظم من أن يبتليك الله ببلاء عند غفلتك عنه ، أو عن مقام إلهي لا تعلمه ، لترجع إليه بالشكوى فيرفعه عنك فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك ) .   باعتبار التعين الذي أنت به عبد.

"" أضاف بالي زادة : وهو ما دعاه : أي والحال أن العبد لم يدع فافترى على الله وعلى نفسه وهو لا يشعر بذلك ، وأساء الأدب اهـ بالى زادة .

إذ المقضي هو المحكوم به والقضاء حكم الله ، فظهر أن الصبر أخص مطلقا من الرضا اهـ بالى زادة.

فإن الرسول وجه خاص من الوجوه الإلهية فمن يؤذيه فقد آذى الله ، والله منزه عن التألم ، لكن لما كان غاية كراهة عنده وصف نفسه بما يتأذى به عبده اهـ بالى زادة .

لا تعلمه أنت أي إن ابتلاءك أعظم أذى الحق ، فإنه يتأذى بما تتأذى به أي لا يرضى الحق أن يتأذى عباده يقول الله : يا عبادي إن رضيتم ببلائى فقد رضيت بغفلتكم عنى ، وإن شكيتم إلى من ضري فقد شكيت إليكم من غفلتكم ، اهـ بالى زادة.  ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيرتفع عن الحق الأذى لسؤالك إياه في دفعه عنك إذ أنت صورته الظاهرة ، كما جاع بعض العارفين فبكى ، فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معانيا له ، فقال العارف : إنما جوعنى لأبكى ، يقول : إنما ابتلائى بالضر لأسأله في رفعه عنى ، وذلك لا يقدح في كونى صابرا ، فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله ، وأعنى بالغير وجها خاصا من وجوه الله ، وقد عين الحق وجها خاصا من وجوه الله وهو المسمى وجه الهوية ، فيدعوه من ذلك الوجه في رفع الضر عنه لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا ، وليست إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه )

قد مر أن لله تعالى في كل تعين وجها خاصا ، فالهوية المتعينة بذلك التعين هي السبب ، وغير العارف إنما يتوجه إلى حجابية التعين لاحتجابه ويدعو له لدفع الضر ، وكل متعين وجه من وجوه الله وسبب من الأسباب ،

وهو وإن كان حقا لكنه من حيث تعينه وجه وسبب وغير ، لا أنه أعرض في التوجه إليه عن الوجوه الأخر ، وقد يكون رافع الضر من جملتها ، فالذي يوجه إليه ليس إلا هو من حيث التفصيل لأنه من حيث أحدية الجمع هو هو ،

فهو لا هو من حيث الخصوصية ، فالأواب هو الرجاع إلى الهوية الإلهية المطلقة الجامعة المحيطة بجميع الهويات المتعينة ، فلا يوجه وجهه إلا إلى السيد الصمد المطلق الذي تتوجه الوجوه كلها واستندت الأسباب جميعا إليه ، ولا يتقيد بوجه خاص فقد لا يجيبك فيه لعلمه أن ما تسأله في وجه آخر ، فإذا سألت حضرة جمع جميع الوجوه ووجهت وجهك نحو الأحد الصمد والوجه المطلق فقد أصبت .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة ، هذا لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله الأمناء على أسرار الله ، فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا لله ، ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك فاعمل ، وإياه سبحانه فاسأل ) .

الهوية الحقانية التي سألها العارف هي التي عينها الساعي بالخصوصية الإلهية، ولا يحتجب العارف بسؤال الخصوصية الإلهية عن أن تكون هي جميع الأسباب وجميع الأسباب عينها، ولا يلزم طريقة الخصوصية الإلهية إلا الأدباء من عباد الله الأمناء على أسراره، فعليك بالسؤال من ذلك الوجه في كل قليل وكثير وبالجزم بالإجابة إيمانا وتصديقا،

فإن الله يقول : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "  ومنه التوفيق .

 

"" أضاف بالي زادة : فكانت غفلتك سببا لابتلائك باشتغالك بغير الله ، الغفلة في الحقيقة إعراض عن الحق .

فإذا سأل غير العارف في رفع ضره عنه فقد سأل عن الحق المتعين بذلك الوجه الخاص من وجوه الله فسؤاله إنما يكون هوية الحق ، لكن سؤاله يحجبه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة ، بخلاف العارف فإنه وإن كان سؤاله عما سأله غير العارف ، لكن لا يحجبه سؤاله من أن يكون جميع الأسباب عينه ،

فسؤال العارف عين سؤال وجه الهوية الخاصة سؤال عن وجه الهوية المطلقة التي تجمع جميع الوجوه وهو الاسم « الله » ولا كذلك غير العارف لاحتجابه عن العينية ، كان سؤاله عن العين لا عن الله اهـ بالى زادة. ""

.