Published using Google Docs
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
Updated automatically every 5 minutes

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية

قال الشيخ رضي الله عنه : (إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الانساني ) لكونه بمرتبة روحه جامعا بجميع الأسماء الإلهية وبمرتبة جسمه بجميع المراتب الكونية ( ولهذا ) أي ولأجل أنه أكمل موجود ( بدىء به الأمر ) أي أمر النبوة من حيث روحه وختم من حيث جسده العنصري .

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان نبيا وآدم بين الماء والطين ) فنبوته أزلي ونبوة غيره من الأنبياء عليهم السلام حادثة فهم نبيون حين البعثة ( ثم كان ) النبي ( بنشأته العنصرية خاتم النبيين ) كما أنه عليه السلام بنشأته الروحانية أول النبيين فبه بدئ أمر النبوة وختم ( وأول الأفراد ) أي وأول ما يوجد من الفردية ( الثلاثة ) خبر لقوله وأول وهي الأحدية الذاتية والأحدية الصفاتية والحقيقة المحمدية ( وما زاد على هذه ) الفردية ( الأولية من الأفراد فإنه عنها ) أي صادر عن هذه الفردية الأولية .

 

قال رضي الله عنه :  ( فكان عليه السلام أدل دليل على ربه فإنه أوتي بجوامع الكلم التي هي مسميات أسماء آدم ) ومسميات أسماء آدم هي الحقائق التي تدل كل واحد منها على ربه فإذا أوتي الرسول بجوامعها كان دالا على ربه أدل دليل فكان الرسول من حيث نشأته الروحية مشتملا على الفردية الثلاثة الأولية ( فأشبه الدليل ) المنتج للمعاني (في تثليثه والدليل دليل لنفسه) على ربه لحديث النبي عليه السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

فكل نفس دليل لنفسه على ربه ولا يدل نفس شخص لنفس شخص آخر على رب ذلك الآخر لذلك قال النبي عليه السلام من عرف نفسه ولم يقل من عرف نفسا فظهر أن اللام في قوله والدليل للاستغراق أي كل واحد من أفراد الدليل دليل لنفسه على ربه لا للعهد كما زعم بعض الشارحين.

 

قال رضي الله عنه :  ( ولما كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى ) قوله ( بما ) يتعلق بتعطي أي تعطي الفردية الأولى بالذي ( هو مثلث النشأة ) قوله ( لذلك ) يتعلق بقوله ( قال ) وهو جواب لما أي قال الرسول

قال الشيخ رضي الله عنه : ( في ) باب ( المحبة التي هي أصل الوجود حبب إليّ من دنياكم ثلاث بما ) أي قال ذلك القول أو حبب إليه ثلاث بسبب الذي وجد ( فيه ) أي في وجود محمد عليه السلام ( من التثليث ) بيان لما ( ثم ذكر النساء والطيب وجعلت قرة عينه في الصلاة فابتدأ بذكر النساء وأخر الصلاة وذلك ) أي بيان سبب تقديم النساء في الذكر على الطيب والصلاة ( لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ) لذلك ابتدأ بذكرها ثم رجع إلى بيان قوله والدليل دليل لنفسه فقال : ( ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك ) أي لأجل أن معرفة الرب نتيجة عن معرفة الإنسان بنفسه .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال عليه السلام : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول فإنه سائع فيه ) فإن حقيقة النفس لا تدرك بكنهها كما أشار إليه النبي عليه السلام ما عرفناك حق معرفتك ( وإن شئت قلت بثبوت المعرفة ) وهو بحسب كمالاتها لا بحسب حقيقتها ( فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك فأنت ) عالم بعدم علمك نفسك وربك ( والثاني أن تعرفها فتعرف ربك فكان محمد عليه السلام أوضح دليل ) لنفسه ( على ربه ) وإنما كان أوضح دليل ( فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه ) ومحمد عليه السلام لما كان عبارة عن مجموع حقائق ما في العالم كان أوضح دليل فإن دلالة الكل أوضح لكونها دلالة مطابقة كاملة في الدلالة من دلالة الجزء

وأشار إليه بقوله رضي الله عنه  :( فافهم فإنما حبب إليه النساء فحن ) أي فمال ( إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئية فأبان ) أي أظهر الرسول عليه السلام ( بذلك ) القول أو بحنينه إلى النساء ( عن الأمر في نفسه ) قوله ( من جانب الحق ) يتعلق بالأمر ( في قوله ) أي في قول الحق ( في هذه النشأة العنصرية وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فحن الحق إلينا حنين الكل إلى جزئه فحن إليه حنين الجزء إلى كله والفرع إلى أصله فأبان رسول اللّه هذا المعنى بحنينه النساء في قوله حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء فإن الأمر كذلك بين اللّه وبين عباده .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم وصف ) الحق ( نفسه بشدة الشوق إلى لقائه ) يضاف إلى الفاعل ، وترك ذكر المفعول أي يشتاق الحق للقاء نفسه إلى من يشتاق إليه ( فقال للمشتاقين ) لأجل اشتياقهم إليه ( يا داود أني أشدّ شوقا إليهم ، يعني للمشتاقين إليه وهو ) أي اللقاء الذي يشتاق الحق أشدّ اشتياق ( لقاء خاص ) بالموت الطبيعي ( فإنه قال في حديث الرجال أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت فلا بد من الشوق لمن هذه صفته ) أي لا بد لمن لم ير ربه إلا بالموت من شوق إلى هذا اللقاء الخاص وإن كره سبب هذا اللقاء عنده وهو الموت فكان الحق أشدّ شوقا إلى هذا اللقاء الخاص وإن كره سببه عنده كما في حديث التردد ( فشوق الحق ) ثابت ( لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم ) بالشهود المطلق الأزلي ( فيجب أن يروه ) بالرؤية الخاصة بموت العبد فإن رؤيتك نفسك في نفسك لا كرؤيتك في المرآة فإنها رؤية خاصة لا تكون بدون المرآة .

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويأبى المقام ) الدنيوي ( ذلك ) اللقاء فلا بد من الخروج من هذا المقام بالموت الطبيعي لحصول اللقاء فأشبه قوله أني أشدّ شوقا إليهم ( قوله حتى نعلم مع كونه عالما ) بجميع الأشياء بعلمه الأزلي وهو علم خاص حاصل له بصور المظاهر ( فهو ) أي الحق ( يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت ) الطبيعي وإنما قيدنا الموت الطبيعي فإن الموت الإرادي وإن كان سببا لمشاهدة الرب لكنه ليس سببا لهذا اللقاء الخاص وتعميم الموت بالارادي وغيره في هذا المقام كما قال البعض لا يجوز لأن الحق لا يشتاق إلا للمقرّبين الذين يموتون بالموت الإرادي ، كما قال فاشتاق الحق لهؤلاء المقرّبين فلقاء الموت الطبيعي غير لقاء الموت الإرادي ( فيبل ) الحق ( بها ) أي بتلك الصفة التي هي الرؤية الخاصة بالموت ( شوقهم إليه ) وينجيهم بماء الوصال عن عذاب نار الشوق نار الفراق ( كما قال تعالى في حديث التردد وهو ) أي حديث التردد ( من هذا الباب ) وهو باب الشوق إليهم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره ) من كره يكره ( مساءته ) أي وأنا أكره ما يكرهه المؤمن من الموت فإن المحب هو الذي يكره ما يكرهه محبوبه ( ولا بد له من لقائي ) فلا بد له من الموت ( فبشره ) أي بشر الحق العبد المؤمن بلقائه بقوله ولا بد من لقائي ( وما قال له ) أي ولم يقل للعبد المؤمن ( ولا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت ولما كان لا يلقي ) من لقي أي لما كان لا يلاقي المؤمن ( الحق إلا بعد الموت كما قال عليه السلام : « إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت لذلك » ) يتعلق بقوله ( قال تعالى ) وهو جواب لما ( ولا بد له من لقائي فاشتياق الحق ) إلى لقاء عبده ( لوجود هذه النسبة ) الحاصلة له من موت العبد وكذلك اشتياق العبد إلى لقاء ربه إنما يكون لوجود هذه النسبة الحاصلة له من موته وأشار إلى الشوق عن لسان الحق تعالى بقوله

قال الشيخ رضي الله عنه : ( شعر :

يحن الحبيب إلى رؤيتي وإني إليه ) أي إلى الحبيب ( أشدّ حنينا ) فإن كل واحد من الحق والعبد كان محبا ومحبوبا فالحق محب للعبد ومحبوب له وكذلك العبد ( وتهفوا ) أي تضطرب ( النفوس ) في طلب رؤيتي ( ويأبى القضاء ) والتقدير الإلهي عن حصول مرادهم قبل وقت الأجل وقد حكم القضاء وقدّر التقدير لكل نفس أجلها في وقته لا يتقدم ولا يتأخر فإذا كان ذلك ( فأشكو ) على صيغة المتكلم ( الأنين ) أي فأشكو من الأزمنة والأنين إلى أن جاء آن الأجل ( ويشكو ) الحبيب ( الأنينا ) ليكون الأنين حائلة بيني وبين حبيبي ( فلما أبان ) أي فلما أظهر الحق ( أنه ) أي أن الشأن ( نفخ ) الحق ( من روحه ) في هذه النشأة العنصرية ( فما اشتاق إلا لنفسه ) المتعينة بالتعين الخلقية ( ألا تراه ) أي الإنسان كيف ( خلقه ) اللّه ( على صورته ) وإنما خلقه على صورته ( لأنه ) حاصل ( من روحه ) المنفوخة في النشأة العنصرية ( ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا حدث عن نفخه فيه ) أي عن نفخ الحق في جسده ( اشتعال ) كاشتعال الشمعة ( بما ) أي بسبب الذي كان ( في جسده ) أي في جسد آدم ( من الرطوبة ) بيان لما وهي كالدهن للسراج ( فكان روح الإنسان نارا ) مشتعلا بالحرارة الغريزية ( لأجل نشأته العنصرية ) التي فيها الرطوبة ( ولهذا ) أي ولأجل كون روح الإنسان ( لأجل نشأته ) نارا

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما كلم اللّه ) أي ما تجلى اللّه ( موسى إلا في صورة النار وجعل حاجته فيها ) أي في صورة النار ( فلو كانت نشأته ) أي نشأة الإنسان ( طبيعية ) لا عنصرية ( لكان روحه نورا ) فظهر أن الروح يتبع في الظهور للنشأة فكان في النشأة الطبيعية نورا كما في الملائكة التي فوق السماوات وفي العنصرية نارا كما في الإنسان ( وكنى ) الحق ( عنه ) أي عن الروح ( بالنفخ يشير إلى أنه ) حاصل ( من نفس الرحمن فإنه ) أي فإن الشأن قوله ( بهذا النفس الذي هو النفخة ) يتعلق بقوله ( ظهر عينه ) أي حصل عين الإنسان أو عين الروح في الخارج قوله ( وباستعداد المنفوخ فيه ) وهو النشأة العنصرية يتعلق بقوله ( كان الاشتعال نارا لا نورا فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا ) وهو الروح الذي كان به الإنسان إنسانا فإذا ظهر الإنسان بالروح وظهر الروح بنفس الحق بطن النفس واستتر في الروح الانساني ( ثم اشتق له شخصا على صورته سماه امرأة فظهرت بصورته فحن ) آدم ( إليها حنين الشيء إلى نفسه وحنت المرآة إليه حنين الشيء إلى وطنه ) وأصله ( فحبب إليه النساء ) بذلك الحب

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن اللّه أحب من خلقه على صورته واسجد له ملائكته النوريين على ) أي مع ( عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية ) والمراد بها الملائكة السماوية فإن الملائكة التي فوق السماوات وهم الملائكة العالون لم يسجدهم اللّه لآدم وقد يقال للملائكة السماوية طبيعيون كما يقال عنصريون إذ ما في العالم شيء إلا وهو صورة من صور الطبيعية فبهذا الاعتبار كل شيء طبيعي فهم الملائكة العنصريون الطبيعيون النوريين فكانوا عالين عن الإنسان بحسب نشأتهم النورية وإن كانوا عنصريين.

قال الشيخ رضي الله عنه :( فمن هناك ) أي فمن مقام حب اللّه أو مقام الحنين من الطرفين ( وقعت المناسبة ) أي الارتباط بين الرب والعبد ( والصورة ) أي والحال أن الصورة ( أعظم مناسبة وأجلها وأكملها فإنها ) أي فإن الصورة الانسانية ( زوّجت ) من التزويج ( أي شفعت وجود الحق كما كانت المرأة شفعت بوجود الرجل فصيرته ) أي فصيرت المرأة الرجل ( زوجا ) فجعل الصورة الانسانية الصورة الإلهية زوجا والمقصود إثبات حب اللّه إلى الإنسان المخلوق على صورته وهو الإنسان الكامل وهو المسمى بالقولي والروح المحمدي وأقل ما انشعب منه أرواح الأنبياء وما أمر الحق الملائكة إلا أن يسجد لمن كان على صفة الحق وأما جسد آدم وهو قبله الملائكة كقبلتنا هذه إذ ليس هو مخلوقا على صفة الحق.

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فظهرت الثلاث حق ورجل وامرأة فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه فحبب إليه ربه النساء ) التي على صورته ( كما أحب اللّه من هو على صورته فما وقع الحب ) أي حب الرجل في الحقيقة ( إلا لمن تكوّن ) من التكوين ( عنه ) وهو المرأة ( وقد كان حبه ) أي حب الرجل ( لمن تكوّن ) الرجل ( منه وهو الحق فلهذا ) أي فلأجل أن حب الرجل لا يكون إلا لمن تكوّن الرجل منه ( قال ) الرسول عليه السلام ( حبب إليّ ولم يقل أحببت من نفسه ) أي لم يسند الحب إلى نفسه بل أسنده إلى ربه فكان حب الرسول للنساء عين حب الحق لمن خلقه على صورته ( لتعلق حبه بربه الذي هو ) أي الرسول ( على صورته ) أي على صورة ربه ( حتى في محبته لامرأته ) يتعلق حبه بربه ( فإنه ) أي فإن الشأن ( أحبها ) أي أحب الرسول امرأته ( بحب اللّه إياه تخلقا إلهيا ) فكيف كان لا بد من محبة الرجل المرأة فأحب الرجل المرأة

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما أحب المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ) أي الجماع بالنكاح ( ولهذا ) أي ولأجل كون الجماع أعظم وصلة ( تعم الشهوة أجزاءه ) أي أجزاء الرجل ( كلها ) والمرأة كذلك ( ولذلك ) أي لأجل عموم الشهوة إلى أجزائه كلها ( أمر الاغتسال منه ) أي من الجماع ( فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها ) أي في المرأة ( عند حصول الشهوة فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد ) العبد ( أنه يلتذ بغيره ) أي بغير الحق أي نسي الحق في حالة التذاذه ويعتقد أن من يتلذذ به غير الحق مطلقا فتنجس برجس الغفلة التي تحصل بالتوجه والاشتغال بمن اتصف بالحدوث والإمكان واتسم باسم الغير فلا يمكن رجوع العبد إلى الحق بما كسب من الجماع ( فطهره ) أي فطهر الحق ذلك العبد بعد الجماع ( بالغسل ليرجع ) العبد ( بالنظر إليه ) أي إلى الحق.

 

 قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيمن فني فيه ) أي في المرأة فكانت الطهارة لأجل المشاهدة الرجل الحق في المرأة ( إذ لا يكون إلا ذلك ) النظر والشهود أي نظر الرجل إلى الحق في المرأة فلا بد للرجل أن ينظر إلى الحق في المرأة ( فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهوده ) أي كان شهود الرجل الحق في المرأة شهوده الحق .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( في منفعل ) متضمنا مشاهدة فاعل وهو مشاهدة المؤثر من الأثر فكانت المرأة كالمرآة القابلة لأثر الرائي ( وإذا شاهده ) أي الحق ( في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل ) متضمنا منفعل وهو مشاهدة الأثر من المؤثر كمن شاهد الرائي من حيث ظهور صورة عنه في المرآة ( وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه ) وهو المرأة ( كان شهوده ) أي الحق ( في منفعل عن الحق بلا واسطة فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل ) من شهوده في نفسه بلا استحضار المرأة ( لأنه ) أي لأن الشأن ( يشاهد ) الرجل ( الحق ) في المرأة ( من حيث هو ) أي من حيث أن اللّه ( هو فاعل ومنفعل ) وهذا القسم نتيجة للقسمين الأوّلين لأن كل واحد منهما لا يكون إلا باستحضار صورة ما تكوّن عنه وهو المرأة فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر بل كل واحد منهما متضمن للآخر بخلاف القسم الثالث فإنه لا يشاهد الحق فيه إلا من حيث هو منفعل خاصة ولذلك لم يقيد القسمين الأوّلين بقوله خاصة بناء على الظاهر إذ في الصورتين كان أحدهما ظاهرا والآخر متضمنا في أحدهما لذلك أظهر في النتيجة فقال من حيث هو فاعل فهو تصرف الرجل فيها كتصرف الحق فيه وهو جهة الفاعلية ، وأما شهوده من حيث هو ومنفعل فهو كونها تحت تصرفه ومحل الانفعال.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و ) يشاهد الحق ( من نفسه ) من غير استحضار المرأة ( من حيث هو منفعل خاصة فلهذا ) أي فلأجل هذا المذكور ( أحب ) الرسول ( النساء لكمال شهود الحق فيهن إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا ) فهي أكمل المواد لمشاهدة الحق ( فإن اللّه بالذات غني عن العالمين ) فلا يمكن شهوده من هذا الوجه ( وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلا في مادة فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله ) .

ثم رجع إلى أصل المسألة وأعاد ليثبت عليها الأحكام فقال ( وأعظم الوصلة النكاح ) أي الجماع الحلال وهو إما بالنكاح أو بالملك إذ الجماع بدونهما لا روح له فلا يشاهد فيه الحق أبدا لذلك حرّم الزنا في جميع الأديان فكنى عن الجماع الحلال بالنكاح ( وهو ) أي النكاح ( نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه ) أي ليكون خليفة في الملك كما قال :"إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " [ البقرة : 30 ] ،

( فيرى فيه ) أي فيمن خلقه ( صورته بل ) يرى ( نفسه ) فإن المتعين بكل تعين هي الطبيعة التي هي مظهر الذات الإلهية ( فسوّاه وعدّله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ) أي عينه من جهة حقيقته وباطنته لا من جهة إمكانه وحدوثه وخلقه فإنه قال عليه السلام : « أوّل ما خلق اللّه روحي » .

 

"" أضاف الجامع :

 ورد الحديث : واستدل بحديث جابر المروي في "المواهب اللدنية" حيث قال: "قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلق الله قبل الأشياء فقال: يا جابر! إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيت شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة, ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار ثم قسم الرابع أربعة ... أورده الصنعاني في الحديث التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير.

وأطال في "قصد السبيل" بيان ذلك، وأن نوره - صلى الله عليه وسلم - أصل الأشياء كلها.

* وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قام فينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، حفظ ذلك من حفظه, ونسيه من نسيه. أخرجه البخاري. أورده الصنعاني التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير.

 

حديث : (أول ما خلق اللهُ نورُ نبِيكِ يا جابر - الحديث) رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله بلفظ قال قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء.

قال: يا جابر، أن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقُدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جِنِّيٌ ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حَمَلَة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله - الحديث، كذا في المواهب، وقال فيها أيضا واختُلِف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لِما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء. كشف الخفاء ومزيل الإلباس العجلوني ""

 

فإنه باعتبار إضافته إلى الرسول خلق وحادث وباعتبار نسبته إلى الحق حق وقديم فكان نسبة الروح إلى الحق نسبة الصفات الإلهية إليه لذلك قال ( فظاهره ) أي ظاهر من خلقه على صورته ( خلق ) أي متصف بصفة الخلقية من الإمكان والحدوث ولوازمها ( وباطنه ) الذي هو الروح ( حق ) أي ثابت محقق لا يفنى بخراب البدن موصوف ببعض الصفات الإلهية من القدم والربوبية والتدبير ( ولهذا ) أي ولأجل كون باطنه حقا ( وصفه ) أي وصف الحق الروح ( بالتدبير لهذا الهيكل ) المحسوس ( فإنه تعالى به يدبر الأمر ) فوصفه بما وصف نفسه به ( من السماء وهو العلو إلى الأرض وهو أسفل السافلين لأنها ) أي الأرض ( أسفل الأركان كلها ) فدبر اللّه تعالى أمر الوجود من الروح الانساني وهو السماء إلى الأرض وهي الهيكل الانساني أو دبر اللّه الأمر من الرجل وهو السماء إلى الأرض وهي المرأة .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وسماهن ) أي سمى الحق والرسول من تأخر في الوجود عن الرجل ( بالنساء ) لتأخرهن عن الرجال ( وهو جمع لا واحد له من لفظه ولذلك ) أي ولأجل تأخرهن عن الرجال ( قال عليه السلام : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء » ولم يقل المرأة فراعى ) رسول اللّه عليه السلام ( تأخرهن في الوجود عنه ) أي عن الرجل ( فإن النساء هي التأخير قوله تعالىإِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِوالبيع بنسيئة يقول بتأخير فلذلك ) أي فلأجل كون وجود معنى التأخير في وجودهن ( ذكر النساء فما أحبهن ) أي فإذا راعى مرتبتهن في الوجود حيث قال النساء علم أنه ما أحبهن ( إلا بالمرتبة وإنهن محل الانفعال ) بخلاف ما إذا قال المرأة فإنها لا تفيد ما أفاد به النساء لجواز أن يحبهن لقضاء الشهوة لعدم وجود ما روعي في النساء ( فهن له ) أي النساء للرجل ( كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية وهمة في عالم الأرواح النورية وترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج وكل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه ) فالأمر واحد وهو فتح الحق الصور في الطبيعة الكلية بالتوجه الإرادي والمراتب كثيرة .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن أحب النساء على هذا الحد ) أي على المرتبة ( فهو ) أي حبه ( حب إلهي ) يشاهد ربه في هذه المرآة الأكمل ( ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعة خاصة نقصه ) أي نقص هذا المحب عن مشاهدة الحق في النساء ( علم هذه الشهوة فكان ) هذا الحب ( صورة بلا روح عنده ) أي عند المحب ( وإن كانت تلك الصورة ) أي صورة الشهوة الطبيعية ( في نفس الأمر ذات روح ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت بمجرد الالتذاذ لكن لا يدري لمن التذاذه ) ومن استفهام ( فجهل ) هذا الرجل من نفسه ( ما يجهل الغير منه ) والمراد بالغير من أحبهن بحب إلهي فإنه يعلم أن التذاذ هذا الرجل لمن وما في قوله ما يجهل للنفي والضمير في منه راجع إلى الرجل الجاهل من نفسه.

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما لم يسم هو ) أي ما دام لم يسم الغير هذا الرجل الجاهل ( بلسانه ) أي بلسان ذلك الرجل ( حتى يعلم ) يعني يعلم ذلك الرجل من نفسه ما هو وما تلذذه وما امرأته ولمن يلتذ إذا أخبره غيره الذي هو عالم بذلك فحينئذ يعلم من هو وما تلذذه ولمن ثبت التذاذه وما امرأته

قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما قال بعضهم شعر :

صح عند الناس أني عاشق  .... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن

كذلك هذا الجاهل أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون ) فيه الالتذاذ وهو المرأة ( ولكن غاب عنه روح المسألة ) وهي مشاهدة الحق في المرأة فاعلا ومنفعلا ( فلو علمها ) أي روح المسألة ( لعلم بمن ) موصول أو استفهام ( التذ ومن التذ وكان كاملا ) في رتب العلم باللّه لكونه مشاهدا للحق أعظم شهود ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته فتلك الدرجة التي تميز ) الحق ( بها ) أي بسبب تلك الدرجة ( عنه ) أي عن مخلوقه على صورته ( بها ) أي بسبب تلك الدرجة ( كان ) الحق ( غنيا عن العالمين وفاعلا أوّلا ) فكان غناؤه وفاعليته الأولية مسببا عن تلك الدرجة ( فإن الصورة ) المخلوقة على صورته ( فاعل ثان ) لأنه متصرف في العالم خلافة عن اللّه ( فما ) أي ليس ( له الأولية التي للحق ) فتميز الحق عنه بالمرتبة ( فتميزت الأعيان ) عن الحق ( بالمراتب ) وتميز بعضها عن بعض بحصة معينة

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف ) بلا نقص وزيادة متخلفا بتخلق إلهي ( فلهذا ) أي فلأجل إعطاء كل عارف وكل ذي حق حقه ( كان حب النساء لمحمد عليه السلام عن تحبب إلهي وإن اللّه أعطى كل شيء خلقه وهو عين حقه ) فاقتضى عين محمد عليه السلام حبهن فأعطى اللّه حقه فأحبهن فاقتضت أعيان النساء أن يحبهن الرجل فأعطى محمد عليه السلام حقهن مما أعطاه اللّه له فكل عارف أعطى كل ذي حق حقه وهذا معنى قوله ( فما أعطاه ) أي فما أعطى الحق الحب لمحمد عليه السلام ( إلا باستحقاق استحقه ) أي استحق محمد عليه السلام حبهن ( بمسماه أي بذات ذلك المستحق وإنما قدم ) الرسول في الحديث ( النساء لأنهن محل الانفعال كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها ) قوله ( بالصورة ) متعلق بقوله تقدمت ( وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني فإنه ) أي فإن الشأن ( فيه ) أي في النفس الرحماني ( انفتحت صور العالم ) لا في غيره ( أعلاه وأسفله ) ولا يغني بالطبيعة إلا هو فكانت الطبيعة عين النفس الرحماني في أن كل واحدة منهما محل لانفتاح صور العالم فقدمت الطبيعة على من وجد منها من صور العالم ( لسريان النفخة ) يتعلق بقوله انفتحت وهي قولهفَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي

( في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة ) فكانت الطبيعة والنفس الرحماني واحد لأن كل واحد منهما يسري في الأجسام بواسطة الهيولى الجسمية .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما سريانها ) أي سريان الطبيعة ( لوجود الأرواح النورية والأعراض فذلك سريان آخر ) فإن الطبيعة تسري في وجود الأرواح بالذات والنفس الرحماني يسري بواسطة سريان الطبيعة الجوهرية.

قال الشيخ رضي الله عنه :( ثم إنه عليه السلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير لأنه قصد ) الرسول ( التهمم بالنساء وقال ثلاث ولم يقل ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران إذ وفيها ) أي في الثلاث الواو للعطف والمعطوف عليه مقدر تقديره إذ فيها ذكر النساء وفيها ( ذكر الطيب وهو مذكر وعادة العرب أن يغلب التذكير على التأنيث فتقول الفواطم وزيد خرجوا ولا تقول خرجن فغلبوا التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كن جماعة وهو ) أي والحال أن الرسول ( عربي ) أفصح الفصحاء مع أنه خالف قاعدتهم في ذلك ( فراعى النبي عليه السلام المعنى الذي قصد ) الرسول ( به ) أي بهذا المعنى ( في التحبب إليه ) وهو قوله حبب إليّ ولم يقل أحببت من نفسه ( ما ) دام ( لم يكن يؤثر حبه ) أي حب الرسول فقوله ما لم يكن قيد لقوله فراعى أي فراعى هذا المعنى ما دام لم يكن حب الرسول إليهن مؤثرا بل هو متأثر بحبهن فيحبهن بحب اللّه فغلب التأنيث على التذكير رعاية لهذا المعنى.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعلمه اللّه ) من الحقائق والأسرار ( ما لم يكن يعلم ) فأخبرنا بلسانه الفصيح مما علمه اللّه فقال حبب إليّ ولم تقل أحببت لتعلق حبه بربه قال وثلاث ولم يقل ثلاثة لقصده التهمم بالنساء ( وكان فضل اللّه عليه ) أجرا ( عظيما فغلب التأنيث على التذكير بقوله ثلاث بغير هاء فما أعلمه عليه السلام بالحقائق وما أشدّ رعايته للحقوق ) فإن حق التأنيث في هذا المقام التغليب على التذكير فهو أعطى كل ذي حق حقه ( ثم إنه ) أي النبي عليه السلام

قال الشيخ رضي الله عنه : ( جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما التذكير فبدأ بالنساء وختم الصلاة وكلتاهما تأنيث والطيب بينهما كهو ) أي النبي عليه السلام أو كآدم ( في وجوده فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه فهو ) أي الرجل ( بين مؤنثين تأنيث ذات وتأنيث حقيقي كذلك النساء تأنيث حقيقي والصلاة تأنيث غير حقيقي والطيب مذكر بينهما كآدم بين الذات الموجودة هو ) أي آدم ( عنها وبين حوّاء الموجودة عنه وإن شئت قلت الصفة فمؤنثة أيضا وإن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضا فكن على أيّ مذهب شئت فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى أن أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم والعلة مؤنثة ) والمقصود إظهار كمال الرسول في الفصاحة والبلاغة كيف علم الحقائق وراعاها في كلامه الفصيح وعلمنا ما لم نكن نعلم مما علمه اللّه ما لم يكن يعلم ( وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء فلما في النساء من روائح التكوين ) فإنهن سبب لتكوين الأولاد ( فإنه أطيب الطيب عناق الحبيب كذا قالوا في المثل السائر ) .

ولما فرغ عن بيان حقائق كلامه شرع في بيان كماله في نفسه فقال ( ولما خلق ) رسول اللّه عليه السلام ( عبدا بالأصالة لم يرفع رأسه قط ) فعلا وقولا ( إلى السيادة بل لم يزل ساجدا واقفا ) أي ثابتا .

قال الشيخ رضي الله عنه :( مع كونه منفعلا ) ولم يتجاوز إلى كونه فاعلا ( حتى كوّن اللّه عنه ما كوّن ) كما قال خلقتك من نوري وخلقت الأشياء من نورك ( فأعطاه ) أي أعطى اللّه النبي ( رتبة الفاعلية ) يتصرف بأمر اللّه خلافة عنه ( في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة ) وهي عالم الأرواح المدبرة بنفوسهم في الوجود الشهادي فإن فيها روائح الطيبة الوجودية فعالم الأنفاس بمنزلة النساء في الشهادة فأعطاه رتبة الفاعلية في النساء فكما وجد في النساء روائح التكوين كذلك وجد في عالم الأنفاس روائح الوجود إذ ما يحصل الوجود الشهادي إلا بعالم الأنفاس ( فحبب إليه الطيب ) كما حبب إليه ما فيه الطيب وهو عالم الأنفاس والنساء فالطيب هو الرائحة الطيبة فكانت عرضا متأخرا الوجود عن الجوهر قائما به قوله فحبب إليه يجوز أن يكون معلوما ومجهولا ( فلذلك ) أي فلأجل كون الطيب متأخرا بالوجود عما يقوم به ( جعله ) أي جعل رسول اللّه عليه السلام الطيب ( بعد النساء فراعى ) رسول اللّه عليه السلام في هذا الترتيب ( الدرجات التي للحق في قوله "رَفِيعُ الدَّرَجاتِ") فأول الدرجات العقل الأول وهو آدم الحقيقي والثاني النفس الكلية وهي حوّاء فالعقل الأول مذكر بين المؤنثين ذات الحق والنفس الكلية فراعى النبي عليه السلام هذه الدرجات الإلهية بجعل المذكر بين المؤنثين

فكان رسول اللّه رفيع الدرجات الثلاث بإضافة حبهن إليه في قوله : حبب إليّ وكذلك رفيع جميع الدرجات من الجواهر المجردة والأجسام ( ذو العرش لاستوائه ) أي لاستواء النبي العرش ( باسم الرحمن ) فإن العرش مخلوق من العقل الأول الذي هو روح محمد عليه السلام فكان محمد عليه السلام ذا العرش فإن الدرجات كما تنسب إلى الحق تنسب إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم تبعا لا أصالة فإذا استوى الرحمن على العرش ( فلا يبقى فيمن حوى ) أي أحاط واشتمل

قال الشيخ رضي الله عنه : ( عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية الرحمانية وهو ) أي المعنى المذكور معنى ( قوله تعالى ":وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" والعرش وسع كل شيء والمستوي ) أي الحاكم والمستولى عليه ( الرحمن ) فكان العرش مظهر الرحمن يظهر منه فيض الرحمن على ما تحته من الموجودات ( فبحقيقته ) أي بحقيقة اسم الرحمن ( يكون سريان الرحمة في العالم كما قد بيناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكيّ وقد جعل الحق الطيب في هذا الالتحام النكاحي ) أي نكاح الشهادي الواقع بين الرجل والمرأة ( في براءة عائشة رضي اللّه عنها فقال :الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) [ النور : 26 ] ،

من الافتراء في حقهن فإن عائشة رضي اللّه عنها وباقي أزواجه أطيب الطيبات كما أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم أطيب الطيبين ( فجعل روائحهم ) أي فجعل الحق روائح الطيبين وهي أقوالهم لأن الطيب من يتكلم كلمة طيبة أي صادقة والخبيث من يتكلم كلمة خبيثة وهي كلمة كاذبة طيبة أي صادقة وإنما جعل أقوالهم روائح ( لأن القول نفس هو ) أي النفس ( عين الرائحة فيخرج النفس بالطيب والخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق ) أي يخرج النفس من الطيب طيبا ومن الخبيث خبيثا ( فمن حيث هو إلهي بالأصالة كلمة طيب فهو) أي النطق أو القول كله .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( طيب ومن حيث ما يحمد ويذم ) النفس ( فهو ) أي القول ( طيب وخبيث وقال في خبث الثوم هي شجرة أكره ريحها ولم يقل أكرهها فالعين لا تكره وإنما يكره ما يظهر منها والكراهة لذلك ) أي لما ظهر منها وهي الرائحة التي هي العرض القائم بها ( إما عرفا أو بعدم ملاءمة طبع أو غرض أو شرع أو نقص عن كمال مطلوب وما ثمة ) أي وليس في كراهة العين سبب ( غير ما ذكرناه ولما انقسم الأمر إلى الطيب والخبيث كما قررناه حبب إليه ) أي إلى محمد عليه السلام ( الطيب دون الخبيث ووصف ) النبي عليه السلام ( الملائكة بأنها تتأذى بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفين فإنه ) أي الإنسان ( مخلوق من صلصال من حمأ مسنون أي متغير الريح فتكرهه الملائكة بالذات ) لعدم ملاءمة طبعهم فيكره عين الإنسان لهم لما ظهر منه من تغير الريح فيتضرر مزاج الملائكة دون غيرهم

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد وهي من الروائح الطيبة فليس الورد عند الجعل بريح طيبة ) كما أن رائحة النكهة التي حصلت من الصوم يتضرر الإنسان بها وهي عند اللّه أطيب من المسك ( ومن كان ) من الناس ( على مثل هذا المزاج ) أي الجعل ( معنى ) بأن يكون قلبه مائلا إلى الباطل ( وصورة ) بأن يفعل القبائح ( أضرّ به الحق ) وهو ريح طيبة ( إذا سمعه وسرّ بالباطل ) وهو ريح خبيثة فكان محمد عليه السلام عند هذه الطائفة كالورد عند الجعل ( وهو ) أي المذكور ( قوله تعالى :"وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ")[ العنكبوت : 52 ] ، ووصفهم بالخسران .

 

فقال رضي الله عنه  : ("أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ . الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ "فإنه ) أي الشأن ( من لم يدرك الطيب من الخبيث ) كالملائكة التي نازعت في آدم فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ولم يدركوا أن آدم طيب مدرج في الخبيث ، ( فلا ادراك له فما حبب إلى رسول اللّه عليه السلام إلا الطيب من كل شيء وما ثمة ) أي وليس في الحقيقة أي بالنسبة إلى مقام الجمع لا بالنسبة إلى المظاهر ( إلا هو ) أي الطيب ( وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شيء لا يعرف الخبيث أم لا ، قلنا : هذا لا يكون فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه وهو الحق فوجدناه يكره ويحب وليس الخبيث إلا ما يكره ولا الطيب إلا ما يحب ) مبنيان للمفعول هذا باعتبار المظاهر فإن اللّه يحب ويكره بها وأما باعتبار الجمعي الاتحادي فيحب كل شيء وإلا لما أجاد ما يكرهه في المظاهر فظهر أن ما يكرهه في المظاهر يحبه في مقامه الجمعي .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( والعالم على صورة الحق والإنسان على الصورتين ) صورة الحق وصورة العالم فقد سبق تفصيله ( فلا يكون ثمة ) أي في العالم ( مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد ) الطيب والخبيث ( من كل شيء بل ثمة مزاج يدرك الطيب من الخبيث مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير الذوق فيشغله ) أي فيشغل هذا المزاج ( إدراك الطيب منه ) أي من الخبيث ( عن الإحساس ) أي عن إحساس ذلك المزاج ( خبثه ) أي خبث ذلك الخبيث ( هذا قد يكون ) أي هذا المزاج قد يوجد ( وأما رفع الخبيث من العالم أي من الكون فإنه لا يصح ) لاختلاف الطبائع ( ورحمة اللّه ) موجودة ( في الخبيث والطيب والخبيث عند نفسه طيب والطيب عنده ) أي عند الخبيث .

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( خبيث فما ثمة ) أي فما في الكون ( شيء طيب إلا وهو من وجه في حق مزاج ما خبيث وكذلك بالعكس وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة ) فقال ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وإنما جعلت الصلاة قرة عين المصلي ( لأنها مشاهدة ) أي سبب لمشاهدة العبد المصلي ربه ( وذلك ) أي بيان كون الصلاة مشاهدة ( لأنها مناجاة بين اللّه وبين عبده كما قال فاذكروني أذكركم وهي ) أي الصلاة

قال الشيخ رضي الله عنه : ( عبادة مقسومة بين اللّه وبين عبده بنصفين فنصفها للَّه ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصحيح عن اللّه تعالى أنه قال : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه تعالى : ذكرني عبدي يقول العبد :الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول اللّه حمدني عبدي يقول العبد :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه أثنى عليّ عبدي يقول العبد :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول اللّه مجدني عبدي فوّض إليّ عبدي فهذا النصف كله للَّه تعالى خالصا ثم يقول العبد :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ُيقول اللّه هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فأوقع الاشتراك في هذه الآية بقول العبد :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يقول اللّه فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل " فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأول له تعالى فعلم من هذا وجوب قراءة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بين اللّه وبين عبده ) . ذكره الترمذي في سننه والبيهقي في السّنن الكبرى.

 

فعلم منه أن الصلاة مناجاة بين اللّه وبين عبده ( ولما كانت مناجاة فهي ) أي الصلاة ( ذكر ) الحق ( ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسة الحق فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال : أنا جليس من ذكرني ومن جالس من ذكره وهو ) أي والحال أن من جالس من ذكره ( ذو بصر رأى جليسه فهذه ) الصلاة ( مشاهدة ورؤية فإن لم يكن ) ذلك الجليس ( ذا بصر لم يره ) أي لم ير جليسه .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فمن هنا يعلم المصلي رتبته هل يرى الحق هذه الرؤية في هذه الصلاة أم لا فإن لم يره فليعبده بالايمان كأنه يراه فيخيله في قبلته عند مناجاته ويلقي السمع لما يرد به عليه من الحق فإن كان إماما لعالمه الخاص به ) أي بالمصلي ( وللملائكة المصلين معه فإن كل مصل فهو إمام بلا شك فإن الملائكة تصلي خلف العبد إذا صلى وحده كما ورد في الخبر ) قوله : ( فقد حصل له رتبة الرسول عليه السلام في الصلاة ) جواب لقوله : فإن كان فإن الإمامة مرتبة بالرسول ( وهي ) أي الإمامة ( النيابة عن اللّه إذا قال ) الامام

قال الشيخ رضي الله عنه : ( سمع اللّه لمن حمده فيخبر نفسه ومن خلفه بأن اللّه قد سمعه فيقول الملائكة والحاضرون : ربنا لك الحمد فإن اللّه قال على لسان عبده : سمع اللّه لمن حمده فانظر علوّ رتبة الصلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها فمن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها ولا كان له فيها قرة عين لأنه لم ير من يناجيه فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها فما هو ممن ألقى اسمع ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه لم يسمع ولم ير فليس بمصلّ أصلا ولا هو ممنأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) فكانت الفردية الثلاثة في الصلاة مرتبة الحضور وهي أدنى مرتبة للصلاة ومرتبة السمع ومرتبة الرؤية فمن صلى الصلاة خارجة عن أحد هذه الثلاثة لم يكن مصليا ( وما ثمة ) أي وما في جنس العبادة أو في العالم ( عبادة تمنع ) أي تمنع العابد ( من التصرف في غيرها ما دامت ) أي مدة بقائها ودوامها

قال الشيخ رضي الله عنه :( سوى الصلاة وذكر اللّه فيها أكبر ما فيها لما تشتمل ) الصلاة ( عليه من أقوال وأفعال وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكية ) فلا يكون في الصلاة فعل أو قول خارج عن أقوال الصلاة وأفعالها ( كيف يكون لأن اللّه تعالى يقول :"إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ" لأنه ) أي لأن الشأن ( شرع للمصلي أن لا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها ويقال له مصل ولذكر اللّه أكبر يعني فيها ) أي في الصلاة ( أي الذكر الذي يكون من اللّه تعالى لعبده حين يجيبه في سؤاله والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها لأن الكبرياء للَّه تعالى ولذلك ) أي ولأجل أن ذكر اللّه فيها أكبر

قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال : واللّه يعلم ما تصنعون وقال : أو ألقى السمع وهو شهيد فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر اللّه إياه فيها ومن ذلك ) أي ومن اشتمال الصلاة الأمور العجيبة ( أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم ) أي من أعيان العلمية ( إلى الوجود ) العيني ( عمت ) جواب لما ( الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي وحركة أفقية وهي حال الركوع المصلي وحركة منكوسة وهي حال سجوده فحركة الإنسان مستقيمة وحركة الحيوان أفقية وحركات النبات منكوسة وليس للجماد حركة من ذاته فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره وأما قوله : وجعلت قرّة عيني في الصلاة ولم ينسب الجعل إلى نفسه ) كما لم ينسب الحب إلى نفسه .

قال الشيخ رضي الله عنه :( فإن تجلى الحق للمصلي إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلي ) وإنما كان تجلي الحق للمصلي من اللّه تعالى من لا المصلي ( فإنه لو لم يذكر ) الحق تعالى ( هذه الصفة عن نفسه ) بأن يقول للرسول عليه السلام : جعلت أنا قرّة عينك في الصلاة ولم يذكر الحق بلسان نبيه ( لأمره ) أي الرسول عليه السلام ( بالصلاة على غير تجل منه ) أي من الحق ( له ) أي للرسول .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما كان منه ) أي من الحق ( ذلك ) التجلي ( بطريق الامتنان ) لا بطريق كسب العبد ( كانت المشاهدة ) التي تحصل للنبي عليه السلام من التجلي الامتناني ( بطريق الامتنان ) من اللّه ( فقال ) لأجل ذلك ( وجعلت قرّة عيني في الصلاة ) على البناء للمفعول ( وليس ) قرة العين ( إلا مشاهدة المحبوب التي تقرّ بها ) بهذه المشاهدة ( عين المحب ) والقرّة مأخوذة ( من الاستقرار فيستقر العين عند رؤيته ) أي رؤية المحبوب في شيء في التجلي الصفاتي وفي غير شيء في التجلي الذاتي فإنه بلا واسطة شيء وإن كان لا يخلو عن صورة ما لكن هذه الصورة التي تقع فيها تجلي الذاتي ليست من الأمور الموجودة في الخارج وإنما قلنا لا يخلو عن صورة ما لأن مشاهدة الحق لا يمكن مجردة عن المراد ( فلا ينظر ) المحب ( معه ) أي مع المحبوب ( إلى شيء غيره ) أي غير المحبوب ( في شيء ) كما في التجلي الصفاتي أي موجود في الخارج .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي غير شيء ) كما في التجلي الذاتي أي معدوم في الخارج يعني لا يجمع بينهما في النظر في شيء والمقصود أن النظر في المحبوب لا يسع منه غيره لاستقرار العين عند مشاهدة محبوبه فالرؤية والنظر تنازعا في شيء وغير شيء فاعملنا النظر وقدّرنا مفعول الرؤية كما عرفت ( ولذلك ) أي ولأجل أن المحب لا ينظر مع محبوبه إلى شيء غيره ( نهى عن الالتفات في الصلاة فإن الالتفات ) في الصلاة إلى الغير ( شيء يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه ) أي فيحرم الشيطان العبد عن ( مشاهدة محبوبه بل لو كان ) الحق ( محبوب هذا الملتفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه ) وإنما قال بوجهه ولم يقبل بعينه مع أن الالتفات للعين لا للوجه إشارة إلى أن الوجه حيث ما التفت إليه البصر فمن التفت بوجهه في الصلاة إلى غير قبلته فقد حرم عليه مشاهدة ربه والالتفات بالوجه يعم وجه القلب ووجه الصوري.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة أم لا ) أي هل يصلي صلاته على هذا الوجه المذكور أم لا ( فإن الإنسان على نفسه بصيرة لو ألقى معاذيره فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ) والكذب كناية عن الصلاة التي يلتفت فيها إلى غير القبلة والصدق بخلافه ( لأن الشيء لا يجهل حاله فإن حاله له ذوقي ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ) بين اللّه وبين عباده ( فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له وأخبرنا ) في كلامه المجيد .

قال الشيخ رضي الله عنه :( أنه يصلي علينا ) فإذا كان كذلك ( فالصلاة منا ومنه فإذا كان هو المصلي فإنما يصلي باسمه الآخر فيتأخر ) ظهور الحق بهذا الاعتبار ( عن وجود العبد ) أي لا يظهر هذه الصلاة منه إلا بعد وجود العبد كما يتأخر رحمته للمذنبين في اليوم الآخر عن شفاعة الشافعين ( وهو ) أي الحق المصلي علينا ( عين الحق الذي يخلقه العبد ) أي يتصوره ( في قلبه بنظره الفكري ) ويعتقد أن الحق في نفسه على تصوره قوله : بنظره يتعلق بقوله يخلقه وكذلك ( أو بتقليده وهو إله المعتقد ) بكسر القاف ( ويتنوع ) الحق ( بحسب ما قام بذلك المحل ) قوله : ( من الاستعداد ) بيان لما أي يتنوع بحسب الاستعداد فالحق بنفسه تعالى عن التنوع فالتنوع للاستعداد لا للحق ( كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللّه والعارف لون الماء لون إنائه ) فنزه الحق من كل قيد ( وهو جواب ساد ) أي محكم مطابق للواقع ( أخبر عن الأمر بما هو عليه فهذا ) أي الإله المتنوع بحسب الاعتقادات .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( هو اللّه الذي يصلي علينا ) وهذا بيان لنزول الحق في الصلاة فينا وهو بعينه نزول الحق في السماء الدنيا في الثلاث الأخير من الليل فوجود الحق أي ظهوره إلينا من حيث النزول يتأخر عن وجودنا ووجود السماء والليل فلا إشكال في مثل هذه الكلمات ( وإذا صلينا نحن له كان لنا الاسم الآخر فكنا فيه ) أي في تصليتنا الحق ( كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ) وهو الاسم الآخر يعني فكما إذا كان هو المصلي يتأخر عن وجودنا في ظهور بصور استعدادنا إذ المتنوع يتأخر عن ما به التنوع فإذا صلينا نحن له كنا بمنزلة الحق إذا صلى علينا ( فتكون عنده بحسب حالنا ) واعتقادنا ( فلا ينظر إلينا إلا بصورة ما جئناه بها ) .

قوله بصورة يتعلق بينظر قوله بها يتعلق بجئنا أي ينظر الحق إلينا بصورة ما جئنا الحق بهذه الصورة ما زائدة لتأكيد النظر بهذه الصورة وجاز لتأكيد عموم النكرة ( فإن المصلي هو المتأخر عن السابق في الحلية وقوله "كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ "أي ) علم ( رتبته في التأخر و ) علم رتبته ( في عبادته ربه و)  علم رتبته ( في تسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده ) الضمير المنصوب في يعطيه يرجع إلى الحق واستعداده فاعل يعطيه والضمير يرجع إلى كل ( فما من شيء إلا وهو يسبح بحمد ربه الحليم ) الذي لا يعجل بالعقوبة للمذنبين ( الغفور ) الذي يستر ذنوب العباد فكان لكل شيء تسبيحا خاصا لربه الخاص الحليم الغفور له ( ولذلك ) أي ولأجل أن لكل شيء تسبيحا ( لا نفقة ) أي لا نطلع ( تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحدا ) لامتناع إحاطتنا ما في العالم فردا فردا.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وثمة ) أي وفي مقام التسبيح ( مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها ) الضمير في قوله فيها يعود إلى المرتبة ( في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي بحمد ذلك الشيء فالضمير الذي في قوله بحمده يعود على الشيء أي بالثناء الذي يكون عليه ) أي يكون العبد على ذلك الثناء وفي قوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍيتعلق بالمقدّر أي الضمير كان في قولهوَإِنْ مِنْ شَيْءٍ( كما قلناه ) أي هذا المذكور ( في المعتقد ) بكسر القاف ( أنه إنما يثني على الإله الذي في معتقده وربط به نفسه وما كان من عمله ) أي من عمل العبد المعتقد ( فهو راجع إليه ) لا إلى الحق ( فما أثنى ) ذلك المعتقد ( إلا على نفسه فإنه من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شك فإن حسنها وعدم حسنها ) أي الصنعة ( راجع إلى صانعها وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه فهو ) أي ذلك الإله .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( صنعته ) أي صنعة الناظر ( فثناؤه ( أي ثناء الناظر ( على ما اعتقده ) أي اعتقد أنه إله ( ثناؤه على نفسه ) واللّه تعالى في حدّ ذاته منزه عن الثناء على هذا الحد وعن هذا الاعتقاد لكن اللّه تعالى يقبل ثناء عبده واعتقاده كرما ولطفا منه إذ لا وسعة لكل أحد أن ينظر الحق على إطلاقه ويثني عليه فكان ذلك المعتقد يعين الحق ويقيده على حسب اعتقاده ( ولهذا ) أي ولأجل تعيين الحق وحصره على ما اعتقده ( يذم معتقد غيره ولو أنصف ) ذلك المعتقد ( لم يكن له ذلك ) الذم لما أنه مثله أيضا فهو محمود عند صاحبه ( إلا ) استثناء منقطع ( أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل لا شك في ذلك ) أي في ثنائه على نفسه ولا يشعر أن ثناءه على نفسه وظن أنه يثني على اللّه تعالى

قال الشيخ رضي الله عنه : ( لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في ) حق ( اللّه ) تعالى ( إذ لو عرف ) ذلك العابد للمعبود الخاص ( ما قال الجنيد لون الماء لو إنائه ) وما مفعول عرف ( لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده وعرف اللّه في كل صورة و ) في ( كل معتقد ) فإذا لم يعرف اللّه في كل صورة.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو ظان ليس بعالم فلذلك قال تعالى : أنا عند ظن عبدي بي أي لا أظهر له إلا في صورة معتقده فإن شاء أطلق وإن شاء قيد ) إذ لا بد من القيد بالإطلاق أو بغيره ( فإله المعتقدات ) بكسر القاف ( تأخذه الحدود ) لتقيده بحسب استعداد المعتقد ( وهو الإله الذي وسعه قلب عبده فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء ) بحسب الحقيقة لا بحسب الأسماء والصفات ( وعين نفسه ) إذ لا شيء في مرتبة الإطلاق غيره ( والشيء لا يقال فيه ) أي في حقه ( يسع نفسه ولا لا يسعها ) فظهور الحق في قلب عبده غير ظهوره في مرتبة إطلاقه فالحق واحد حقيقي والتعدد بحسب الأسماء والصفات

ففي مرتبة يقال: الإله المطلق وفي مرتبة الإله المحدود وغير ذلك من المراتب فالأمر واحد ( فافهم "وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ").

خاتمة الكتاب

تمّ الكتاب بعون اللّه الملك الجليل

حمدا لمن اطلع شمس المعرفة في سماء قلوب كمل أوليائه ، وفجر منها ينابيع الحكمة ، فقاموا على قدم الخدمة ، شكرا لآلائه ، ومحى فضلا نقطة الغين فعاينوا وحدة وجوده ، وأثبت العين فتملوا بمشاهدة جماله وشهوده ، وحباهم حبه فهم مصونون صفاء طبعهم فاض يقينا ، راضون شذا شكرهم دام ينمو يمينا ، عارفون باللّه حقا مشاهدون الوحدة في الكثرة صدقا ، والصلاة والسلام على عين الوجود سر الجمع المفرد .

علة كل موجود سيدنا ومولانا محمد ، صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه ، وتابعيه وأنصاره وأحبابه ما لاح بارق ، وذر شارق ، وسلم تسليما كثيرا .

وأما بعد فإن من أجل مؤلفات سيدنا قطب الوجود ، حاتمي الأصل والعلم معدن الفضل والجود ، الامام الرباني الشيخ الأكبر ، الغوث الفرد الصمد أبي الكبريت الأحمر ، سيدي ومولاي ووسيلتي ومنتماي أبي عبد اللّه محمد محيي الدين بن عليّ بن العربي ، الحاتمي الطائي الأندلسي قدس اللّه سره وروحه ، ونور مرقده وضريحه كتابه الموسوم بفصوص الحكم ، بيد أنه كنز مغلق مطلسم ، جليّ العبارة خفيّ الإشارة ، قد انتدب الجم الغفير لفتح كنوزه ، وحل مشكلات رموزه .

وكان من جملة من أتى بالشرح المفيد ، وذكر ما ليس عليه مزيد ، بشر زمانه ، وجنيد عصره وأوانه ، العلامة الفاضل ، الفهامة الكامل ، الشيخ بالي أفندي عليه رحمة المعيد المبدي المكنى بخليفة الصوفية المتوفى 960 تسعمائة وستين كما نقله في كتاب كشف الظنون ، فلعمري أنه الشرح الكافي الكافل الوافي بحال ما فيه من المشاكل .

وقد كان طبع ذا الكتاب بعون اللّه الملك الوهاب في عصر حضرة سلطاننا الأعظم ، وخاقاننا الأفخم خليفة اللّه الأعظم على أفراد بني الإنسان ثاني الحميدين صرامة وجزما من ملوك آل عثمان من بسط على رعيته سحائب الأمن والأمان ، وأغدق عليهم سحائب الرأفة والإحسان ، فأصبحت الرعية ساكنة في ظل الأمان رافلة في ثوب العز والامتنان ،

المؤيد المظفر المعان المحفوف بعناية الملك الديان ، بدر الملة الاسلامية مجدّد مجد الدولة العثمانية المحفوظ بالقرآن والسبع المثاني ، مولانا السلطان ابن السلطان السلطان الغازي ( عبد المجيد ) خان الثاني خلد اللّه أيام خلافته ما تعاقب الشهور والسنون ، وأجرى أحكام سلطنته في أكناف الربع المسكون ، وحفظه وذريته وعائلته ومن يلوذ به ومملكته ، بالسبع من الست في الخمس من كل الآفات ، بجاه فاء الفتح وطاء الطمس وعناية أهل الإشارات منتدبا لطبعه من صفا طبعه فنما يمنه وسما نفعه ،

واعتنى بنشره مفرد دهره ، وغرة جبهة عصره رضيع ثدي المعارف سمير كل فاضل وعارف ، حاتمي زمانه ، وعين عيون أهل أوانه ، الساعي لنشر ما في الفخر يجدي ، صاحب العطوفة محمد سعدي بك أفندي ، وذلك رضاء لوجه اللّه وحبا بأوليائه .

ونفعا لعباد اللّه وأملا بولائه ، وصار تمام طبعه ، لداعي نشره ونفعه ، في دار السعادة العلية ، بالمطبعة العثمانية ، صانها عن الآفاق رب البرية ، وذلك في ابتداء عام تسع وثلاثمائة وألف ، من هجرة أشرف من حاز شرف الكمال وكمال الشرف ، ملتزما تصحيحه العبد الفقير ، المعترف بالذنب والتقصير ،

أحقر الورى خادم نعال العلماء محمد صادق نجل شيخ مشايخ الديار الشامية على الإطلاق وبدر بدور البلدة الدمشقية بالاتفاق ، الحاوي لمرتبتي المعقول والمنقول الحائز لفضيلتي الفروع والأصول ، المرحوم الشيخ سليم العطار عليه رحمة ربه الغفار ، راجيا من الإخوان المتصفين بالانصاف أوصاف أولى العرفان ، إصلاح ما وقع بطبعه من الخطأ والخلل ،

وأخذ اليد عند وقوع الزلل ، كان اللّه لي ولهم ، وبالإحسان وللمسلمين عاملني وعاملهم ، بحرمة سيد الأنام عليه وعلى آله الكرام ، أفضل الصلاة وأتم السلام ، ولما لاح بدر تمامه ، وفاح مسك طبعه وختامه ، أرخه الأديب ، الماجد اللبيب ، الألمعي البارع الأريب ، النجيب الكامل ، واللوذعي الذكي الفاضل ، عز تلو مصطفى رشدي أفندي ، الدمشقي حفظه المعيد المبدي .

أما بعد حمد اللّه ، والصلاة والسلام على رسول اللّه ، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه ، فيقول أفقر الورى ، وأحقر الفقراء الراجي عفو ربه الجليل ، مصطفى رشدي الدمشقي بن إسماعيل ، غفر اللّه له ، وبالإحسان وللمسلمين عامله .

لما تمّ طبع شرح الشيخ بالي على فصوص الشيخ الأكبر ، وأضاء سناء بدره العالي وصبح جماله أصفر ، ورقّ طبعة وراق ، وعمّ نفعه في سائر الآفاق أنشده لسان الحال :

قد جئت يا بالي  بعقد كمالي ...   للرشد يبدي بدره متلالي

شرح الفصوص لقد بدا من خدره  ... بشرى لنا نلنا المقام العالي

قل للأولى راموا الكمال ألا اسمعوا   ... وتدبروا يا قومي سرّ مقالي

إن رمتموا فهم الفصوص فأسرعوا   ... وتصفحوا صحفا بدت من بالي

ثم أعرب قلم البيان بأفصح لسان عن تاريخ التمام ، وشكر الإحسان .

فقال :

يا شرح بالي قد شرحت البال بل   ... أشفيت بلبالا تنغص بالشخوص

وأزلت عن عين البصيرة نقطة   ... فغدوت أرفل في ميادين النصوص

ودخلت روض الأنس دون رياضة   ... وبفلك فضلك بحر عرفان أغوص

فسبقت أقراني إلى نيل المنى   ... قل للمشاة ألا اركبوا ظهر القلوص

مذ راق منك الطبع قلت مؤرخا   ... الدرّ فاق بطبعه شرح الفصوص