عمليّات تنظيم الدّولة الدوليّة بعد مقتل البغداديّ، أين ولماذا؟

تشرين الثاني/نوفمبر 2019


كثرت التخمينات حول تأثير مقتل البغداديّ في سير عمليَّات تنظيم الدولة وتماسُكِ بنيته، ومدى التراجع الذي قد يصيبه، إلا أنّ واقع الرصد اليوميّ لنشاط التنظيم يشير إلى ازدياد عمليّاته وتكثيف التنسيق بين خلاياه المنتشرة داخل سوريّة على نحو ملحوظ ، إضافةً إلى كثافتها الأساسيّة في العراق، فقد نفّذ التنظيم خلال 15 يومًا من مقتل البغداديّ 18عمليّة "مؤكّدة" فيه حيث تمركزت هذه العمليّات في كلٍّ من محافظة ديالى -بواقع 10 عمليّات عسكريّة-، تليها بغداد -بواقع 3 عمليّات-، أما كركوك ونينوى والأنبار فقد رُصدَ في كل واحدةٍ منها عمليّتان، أما في سوريّة فقد نفّذ التنظيم 48 عمليّة مؤكدة في كلٍّ من دير الزور- 25 عمليّة-، والرقة -8 عمليّات-، وحمص- 1 عمليّة واحدة-، والحسكة -10 عمليّات-، وريف حلب- 2 عمليّتان-، وأخيرًا درعا- 2 عمليّتان-

ينبغي مع رصد هذه العمليّات التنبُّه إلى أنّه بالتوازي مع العمليّات الداخليّة للجغرافية الأولى لانطلاق "الخلافة" نلحظ ازدياد عمليّات التنظيم من الناحية الدوليّة، فثمّة وجود لعمليّاته في نيجيريا بشكل شبه يوميّ تقريبًا -10 عمليات-، أما في مصر فقد نفّذ 11 عمليّة في سيناء ضد الجيش المصري، وهاجم بواقع  7 عمليّات في أفغانستان حركة طالبان و3عمليّات ضد الحكومة الأفغانيّة، أما في جمهورية إفريقية الوسطى فقد نفّذ عمليّة واحدة، وقام في الكونغو الديمقراطية بـ 3 عمليات، إضافة إلى عمليَّات نوعيّة في كلٍّ من مالي راح ضحيتها قرابة 70 جنديًّا أحدهم فرنسي الجنسيّة وكذلك في بوركينا فاسو التي راح ضحيتها قرابة 50 مدنيًّا من عمّال مناجم الذهب المتعاقدين مع شركة كنديّة-، إضافة إلى عمليتين في الفلبّين وعمليّتين مثيرتين للانتباه في طاجيكستان.  

إنّ نظرةً -محلّلة- إلى هذه العمليّات تشير إلى تركيز التنظيم على توزيع هجماته بعناية في مناطق الصراع في العالم، ممّا يُحوّلهُ من تنظيمٍ ذي سلطة مستقرّة في أرض مركزيّة إلى شبكةٍ من التنظيمات الفعّالة بقيادةٍ عامّة تضع إستراتيجيتها الصلبة من الشرق الأوسط، بالتوازي مع التنسيق المستمر بينها وبين القيادات الخاصّة في البلاد المختلفة التي تتابع تنفيذ الرؤية الاستراتيجيّة لقيادة التنظيم.

يثير الانتباه ههنا قدرة التنظيم على افتتاح تشكيلات وإحداث محاور متعددة بجوار الدول التي ينتشر فيها، وذلك بهدف منافسة التنظيمات الداخلية كما في حالة طالبان والتنظيمات المبايعة للقاعدة غرب إفريقيّة إضافة إلى إقلاق الأمن العالمي جرّاء محاولاته بناء مواقع استقرار جديدة في أقاليم معيّنة كآسيا الوسطى[1] التي تطلّ على طُرُق التجارة العالميّةفي مبادرة الطريق والحزام، ويشير إلى ذلك هجومان أخيران له في طاجيكستان على نقاط أمنيّة قريبة من الحدود الأفغانية والأوزبكيّة الطاجيكيّة، إضافة إلى آثار استهدافه الأماكن الحيويّة ومنابع الثروات المختلفة في إفريقيّة -بحسب ما أظهرت عمليات التنظيم فيها على سبيل الخصوص-، مما يجعل من عمليّاته خطرًا عابرًا للقارّات يستنفر العالم لمواجهته.

أشارت عدة أجهزة استخبارات[2] إضافة إلى وسائل إعلام غربية وأوربية متخصصة بمتابعة أخبار التنظيم، إلى سعي التنظيم للانتشار الشبكيّ وذلك كما في هجوميه على طاجيكستان -على سبيل المثال- حيث أثار ذلك تخوُّفا روسيًّا من توسّع التنظيم في الدول المستقلّة عن الاتحاد السوفييتيّ[3]، مما يثير لها المتاعب والمخاوف الأمنية خاصة تجاه خطوط إمداد الطاقة نحو أوروبا والشرق الأوسط، إضافة إلى التأثيرات الداخليّة المحتملة لعودة عناصر وأطفال التنظيم إلى كلٍّ من طاجيكستان والدول المحيطة بها كـ أوزبكستان وقيرغيزيا[4] -التي تحكمها ديكتاتوريات تقمع نشاط الحركة الإسلاميّة والنشاط الديمقراطي في آن معًافيها- وممّا يثير المخاوف المؤرّقة في هذه الدول احتمالات عودة عناصر التنظيم من مناطق الصراع في العراق وسورية إلى موطنهم في دول آسيا الوسطى[5]، حيث كان لهؤلاء –كمقاتلي الطاجيك على سبيل المثال- في عمليّات تنظيم الدولة قوّة بارزةٌ وتأثير مهمٌّ في معاركه[6]، كما كان وزيرا الحرب في التنظيم من "الشيشان" و"طاجيكستان" حيث قاد هذين المنصبين أبو عمر الشيشاني قبيل مقتله ثم الضابط المنشق عن وحدات الشرطة الطاجيكية الخاصة "غول مراد حليموف" الذي خرج من بلده والتحق بتنظيم الدولة[7] ويشاع أنه قُتِل في قصف روسيٍّ[8].

أشارت بعض القنوات المؤيدة لتنظيم الدولة عن محاولته التقرب من الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية، إضافة إلى محاولة التنظيم عقد تقارب مع حزب النهضة الإسلاميّة الطاجيكي، إلا أنه يجب التنبّه إلى أنّ هذين الأخيرين لا يدينان بأفكار التنظيم بالتوازي مع امتلاكهما علاقات قوية مع تنظيم القاعدة، وبالرغم من ذلك فإنّ انتشار هذه الشائعات يشير إلى نية جديّة للتنظيم للتوسّع نحو آسيا الوسطى المتّصلة بشمال غرب الصين -إقليم تركستان الشرقية أو شينغيانغ ذي الأغلبية الإسلاميّة المضطهدة-، مما يدفع إلى الاعتقاد بوجود خطط حقيقيّة للتنظيم تتعلّق بالتجنيد في تلك المناطق والتمدد إليها عبر تأسيس فروع أو خلايا محلّيّة له فيها.

في هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن وجود تنظيم الدولة في تخوم المناطق المرتبطة بمبادرة طريق الحرير الجديد وحزامه الذي تسعى الصين لتحقيقه سيخدم بشكلٍ أو بآخر الحكومة الأمريكيّة حيث سيسهم حضورها في الإقليم تحت مسمى مواجهة تهديدات التنظيم الإرهابية بمواجهة التمدّد الصينيّ وضبط إيقاع التعامل معه على مساحة جغرافيّة واحدة، أو أن تعمل الولايات المتحدة على دعم التنظيم عبر قنوات خلفيّة لتجبر الصين على الانشغال بمواجهته  ومتابعته في أحد أهم النقاط التي ينطلق منها حلمها الإمبراطوريّ الجديد  ممّا يُحقّق للولايات المّتحدة متسعًا من التناقضات التي يمكن لها استخدامها كورقة ضغطٍ على الصين ومصالحها التجاريّة في المنطقة.  

يقودنا هذا للقول: إنّ مقتل البغداديّ لم يكن سوى نصرٍ رمزيٍّ للاستخبارات والعمليّات العسكريّة الأمريكيّة، حيث كان المعوّل على نتائج مقتله أن يتراجع التنظيم إلى الخلف ويوقف عمليّاته العسكريّة، أو أن تتفكّك هيكليّته بانشقاقات جماعات منه وانضمامها إلى غرمائه من التنظيمات المحليّة في أفغانستان وإفريقيّة، إلا أن الذي جرى كان على العكس من ذلك، حيث توالت إصدارات "المبايعة" من أغلب "الولايات" -بحسب تعبير التنظيم- للخليفة الجديد، إضافة إلى إقدام التنظيم على افتتاح -ما يبدو أنه - سلسلة من العمليّات في طاجيكستان -ذات الأهميّة الجغرافيّة الاستراتيجيّة- انطلاقًا من قواعد وجوده في ولايتي "ننجرهار" و "كُنُر" اللتان تشهدان عمليّات مستمرّة منه ضد حركة طالبان بدرجة أولى وضد الحكومة الأفغانية بدرجة أقل، ومن الملفت للنظر إصدار التنظيم بيعة المقاتلين الانغماسيين للخليفة الجديد قبيل انطلاقهم لتنفيذ العمليّة الأولى على النقطة الحدودية في طاجيكستان، ومعاهدتهم إياه على الموت وهو ما تحقّق عمليًّا، حيث لم ينجُ منهم أحد، إثر المعركة التي استمرت لساعات أسفرت عن مقتل 17 جنديًّا تقريبًا وانتهت بمحاصرة عناصر التنظيم وقتلهم.

يوازي هذا الانغماس الأوليُّ في وسط آسيا البدء بهجمات خاطفة ومتكررةٍ على كلٍّ من موزمبيق والكونغو الديمقراطية وبوركينا فاسو وبنين إضافة إلى تنفيذ هجماتٍ نوعيّة مستمرّة في مالي ونيجيريا، ممّا يشير إلى الاستراتيجية التوسّعية التي ينتهجها التنظيم عبر الانطلاق في المساحات الإفريقيّة الممتدّة من وسطها إلى غربها، وهذا يشكّل تطوُّرًا عمليًّا بَدَأَ العمل عليه قبيل مقتل البغداديّ بأشهر وازدادت وتيرته في الآونة الأخيرة.

هي استراتيجيّة تشتيتٍ وإشغالٍ في آنٍ معًا، تنطلق من سوريّة والعراق، إلى جوار الصين وروسيا، ثم جنوبًا نحو الهندِ في إقليم كيرالا ومنها إلى جنوب شرق آسيا في الفلبين، بالتوازي مع عمل فروعه الأخرى على التمدد الأمنيّ غربًا في كلٍّ من صحراء سيناء في مصر شمال إفريقيّة، ودول وسط القارة وغربها، حيث سيجبر كل هذا التمدّد -بالتوازي مع بناء الفاعليّة ضد الخصوم- الأجهزة الأمنيّة في دول العالم الكبرى والإقليميّة على تكثيف الجهود والمتابعة الأمنيّة للتنظيم وأنصاره خاصّة في ظلّ التوجّس والترقُّب المستمرّ من خطوات التنظيم الآتية، والتي -على الأغلب- لن تكون في خطورتها أقلّ مما قام به التنظيم فيما مضى.


[1] ينظر تصريح رئيس الاستخبارات الروسية حول هذه النقطة، عبر الرابط الآتي: https://bit.ly/2X51wnu 

[2] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/2X51wnu و: https://bit.ly/2K9Un0c 

[3] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/2OdPqor 

[4] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/2qFy4IM 

[5] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/2X38Ksl 

[6] ينظر الرابط الآتي: https://bit.ly/34Wiwzn 

[7] ينظر الرابط الآتي: https://cnn.it/32vfYqc 

[8] ينظر الرابط الاتي: https://arbne.ws/2Q7cVlr و: https://bit.ly/2NAbeLK