فتح الإسلام
صورة غلاف الطبعة الأولى لهذا الكتاب
ترجمة صفحة الغلاف للطبعة الأولى
(تعريب بيتين إلهاميين بالأردو)
لماذا ترتابون في الإيمان بهذا المسيح وقد بيّن الله ذاتُه مُماثلتَه للمسيح الأول
فأنتم أيضًا تخاطبون الطبيب الماهر بهذا، حتى إنكم تسمّون الجميلَ مسيحًا
الحمد لله والمنة على أن مجدد العصر ومسيح الزمان ميرزا غلام أحمد، زعيم قاديان، قد ألفَّ كتابًا بعنوان:
فتح الإسلام
الجزء الأول
وبشرى بتجلّي الله الخاص، والدعوة إلى سبل اتّباعه وطرق تأييده،
نُشر في جمادى الأولى 1308 الهجرية بهدف هداية العامةِ والتبليغ والدعوة وإتماما للحجة بأمر من الله وإذنه
تحت إشراف شيخ نور أحمد صاحب مطبعة "رياض الهند" بأمرتسار
الإعلان
لقد طُبِعَ من هذا الكتاب - فتح الإسلام - 700 نسخة، وقد كُرِّست لوجه الله 300 نسخة منها للواعظين المسلمين والقراء الفقراء وعلماء المسيحية والهندوسية. أما النسخ الـ 400 المتبقية فثمن كل نسخة منها هو نصف روبية - إضافة إلى نفقات البريد - للذين يقدرون على دفع الثمن. ومن كان ممن يحق لهم أن يحصلوا عليها مجانا؛ أي كان من حزب الوُعّاظ أو من الفقراء أو غيرهم فعليه أن يرسل طابعا بريديا ثمنه مليمان فيرسَلُ له الكتاب.
الـمـعـلـن
العبد المتواضع مرزا غلام أحمد عفا الله عنه، من قاديان
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي
البشرى بفتح الإسلام وتجلِّي الله الخاص والدعوة إلى سبل اتّباعه وطرق تأييده
ربِّ انفخ روح بركةٍ في كلامي هذا واجعلْ أفئدةً من الناس تهوي إليه
أيها القراء الكرام، عافاكم الله في الدنيا والدين، أردت اليوم بعد مدة طويلة أن أوجه أنظاركم إلى موضوع مهم؛ أي المهمة الربّانية التي كلَّفني بها الله تعالى لنصرة الإسلام. وبهذا المقال أريد أن أوضح لكم بقدْرِ ما وهبني الله تعالى من قُدْرَةٍ على الخطاب، عظمةَ هذه الجماعة وضرورةَ دعمِ هذه المهمة، لأؤدي ما يتوجب عليّ من حق التبليغ.
لا أهتم في بيان هذا الموضوع كيفية تأثيره في القلوب، بل ما أهدف إليه هو أن أؤدي ما يتحتّم علي أداؤه، وأن أبلِّغ حق التبليغ رسالة كُلِّفت بإبلاغها كدَينٍ واجبِ التسديد، سواء أسمعها الناس بآذان الرضا أو رأوها بعين الكراهية والإعراض، وسواء أظنوا بي ظنا حسنا أو سيئا. وأفوِّض أمري إلى الله، واللهُ بصير بالعباد.
وأكتب فيما يلي موضوعا وعدتُ به من قبل:
يا طلاب الحق ومحبي الإسلام الصادقين، فليتضح لكم أن هذا الزمن الذي نعيش فيه زمن مظلم وقد وقع فساد كبير في الأمور الإيمانية والعملية كلها على حد سواء، وإن عاصفة الضلال الشديدة تهبّ من كل حدب وصوب. وما يُسمَّى إيمانًا قد حل محلّه بضع كلمات تُلفظ باللسان فقط. والأمور التي تُسمّى أعمالا صالحة اعتُبرت مصداقها بضع التقاليد والإسراف وأعمال الرياء. وأُهمل البِرّ الحقيقي إهمالا تامًا. إن الفلسفة والمذهب الطبيعي في هذا العصر أيضا يعارضان الصلاح الروحاني بشدة، وإن أهواءهما تترك على أهلهما تأثيرا سيئا جدا وتدفعهم إلى الظلام، وتُنَشِّطُ الموادَ السامة وتوقظ الشيطان الراقد. إن الملمِّين بهذه العلوم يسيئون الاعتقاد بالأمور الدينية في معظم الأحيان ويحتقرون ويزدرون المبادئ التي سنَّها الله تعالى وطُرق الصوم والصلاة وغيرها من العبادات. لا عظمة لله في قلوبهم بل معظمهم يصطبغون بصبغة الإلحاد، والدهريةُ مستوليةٌ عليهم، وهم أعداء الدين مع كونهم أولاد المسلمين. والذين يدرسون في الكليات لا يكادون يتفرغون من تحصيل العلوم الضرورية في معظم الأحيان إلا ويكونون قد تبرّأوا من الدين ومواساته.
لقد ذكرتُ فرعا واحدا فقط وهو مُثقَل بثمار الضلال في العصر الراهن. ولكن هناك مئات الفروع الأخرى لا تقلُّ عنه أهمية. لقد لوحظ بشكل عام أن الأمانة والإخلاص قد ارتفعا من الدنيا وكأنهما فُقدا تمامًا. لقد تجاوزت المكائد والخديعة من أجل كسب الدنيا حدودها، وإن أكثر الناس شرًّا اعتُبر أذكاهم. إن أنواع الضلال والخيانة والعمل الحرام والخديعة والكذب والتحايل الكبير كالثعالب والمكائد المبنية على الأطماع والوقاحة في انتشار مستمر. لا تزال الضغائن والفجور في الخصومات دون رحمة تتفاقم يوما إثر يوم. إن عاصفة العواطف البهيمية والسَّبُعيّة ثائرة. وكلما تقدّم الناس في العلوم والقوانين السارية المفعول تضاءلت فيهم الخصال الطبيعية مثل حسن السيرة والحياء وخشية الله والأمانة.
إن تعليم المسيحيين أيضا يعِدّ أنواع سُرادِقاتٍ لنسف الصدق والحق. ويبذل المسيحيون كل ما في وسعهم من جهود مضنية بافتراء الكذب وحياكة المكائد الدقيقة وأنواع الزيف للقضاء على الإسلام ولا يتوانون عن ذلك في أية مناسبةٍ. ويختلقون طرقا جديدة للإغواء ويبتكرون أساليب متجددة للإضلال. ويسيئون إلى ذلك الإنسان الكامل الذي هو فخر كل مقدس وتاج كل مقرَّب وسيد الرسل الأطهار جميعا، ويقدّمون بخبثهم صورة الإسلام وهادي الإسلام بصورة مشوهةٍ للغاية في التمثيليات. وينشرون بواسطة المسرحيات تهمًا وافتراءات كاذبة ويستخدمون لهذا الغرض كل وقاحة بُغية القضاء على شرف الإسلام والنبي الأكرم .
أيها المسلمون اسمعوا وعوا! لقد استخدمت الأمة المسيحية الأقاويل الملتوية الملفقة لوضع حد للتأثيرات الطاهرة للإسلام، ولجأت في سبيل ذلك إلى أخبث الحيل التي حاولت نشرها جاهدةً ببذل أموال طائلة، حتى أنفدت لهذا الغرض الوسائل المخجلة التي نرى من الأنسب تنْزيه مقالتنا عن ذكرها. وإنها مكائد أنصار التثليث الساحرة، وما لم يُظهر الله إزاءها يد القدرة التي تملك قوة معجزة، وما لم يُحطِّم هذا السحر بتلك المعجزة القوية، لا يُتصور البتة أن ينجوَ الغافلون السذّج من سحر الإفرنج هذا. ودحضًا لهذا السحر، قد أرى الله تعالى للمسلمين الصادقين في هذا العصر معجزة أن أقام عبده هذا مقابل خصوم الإسلام، وقد شرّفه بوحيه وكلامه وبركاته الخاصة. وأعطاه حظا أوفر من المعارف الدقيقة المؤدية إلى سبيله. كما أعطاه أيضا كثيرا من التحف السماوية، والخوارق العالية والمعارف والدقائق الروحانية، ليكسر هذا الحجرُ السماويُّ وَثَنَ الشمع الذي أعده سحر الإفرنج.
فيا أيها المسلمون، إن بعثتي معجزة من الله تعالى لدحض ظلمات السحر. ألم يكن ضروريا أن تظهر في الدنيا مقابل السحرِ المعجزةُ؟ أكان عجبا ومستحيلا في أعينكم أن يبدي الله تعالى مقابل الحيل الماكرة، التي بلغت مبلغ السحر، لمعان الحق الذي له تأثير المعجزة.
أيها العاقلون، لا تتعجبوا من أن الله تعالى أنزل في وقت الضرورة وأيام الظلام الحالك من السماء نورا وأرسل في الدنيا عبدا؛ وذلك للمصلحة العامة بهدف إعلاء كلمة الإسلام ونشر نور خير الأنام وتأييد المسلمين ولإصلاح حالتهم الباطنية. بل كان العجب لو بقي الله - حامي الإسلام الذي وعد أنه سيحفظ تعليم القرآن دائما ولن يتركه يفتر أو يفقد رونقه ونوره - صامتا مع انتشار هذا الظلام والفساد الداخلي والخارجي دون أن يذكر وعده الذي أكّد عليه في كلامه المقدس.
أكرر وأقول: إنها لمدعاةٌ للاستغراب لو بطلت نبوءة النبي الأكرم الواضحة والبينة التي قال فيها إن الله تعالى سيبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد دينه[1]. فتحقُّق هذه النبوءة ليس مدعاةً للاستغراب، بل هو مدعاة لشكر الله تعالى آلاف المرات، وفرصة لتقوية الإيمان واليقين أن الله تعالى بفضله ورحمته أوفى بوعده ولم يسمح أن يقع أدنى خلل في نبوءة رسوله. ولم يكتفِ بتحقيق تلك النبوءة فقط بل فتح باب آلاف النبوءات والخوارق على مصراعيه في المستقبل أيضا. فاشكروا الله إن كنتم مؤمنين واسجدوا له شاكرين على أنكم شهدتم الزمن الذي طالما انتظره آباؤكم وارتحلت أرواح لا تُحصى وهي بانتظاره. والأمر الآن في يدكم وسواء قدّرتموه أم لم تقدِّروه، وسواء استفدتم منه أم أبيتم.
لأبيِّنَنَّ تكرارًا، وليس لي أن أمتنع عن البيان، أنني قد أُرسلتُ في الوقت المناسبِ لإصلاح الخلق لكي يقام الدين في القلوب مجددا. لقد أُرسلتُ كما أُرسل من السماء بعد عبده كليمِ الله شخصٌ رُفعت روحُه إلى السماء بعد معاناة شديدة في عهد حُكمِ هيرودس. فحين جاء - لمعاقبة فراعنة الآخرِين - كليمُ الله الثاني الذي هو الأول في الحقيقة وسيد الأنبياء، وورد في حقه: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا[2]؛ أُعطي هذا الرسول أيضا - الذي كان مثيلا للكليم الأول من حيث المهمة وأفضل منه من حيث المكانة - وعدًا بمثيلٍ للمسيح. فقد نـزل مثيل المسيح هذا من السماء حائزا على قوة وطبيعةٍ وصفات تماثِلُ صفات المسيح بن مريم، في زمن يماثلُ زمن المسيح بن مريم، وعلى فترةٍ تماثل الفترة بين المسيح بن مريم والكليم الأول؛ أي في القرن الرابع عشر. وكان نزوله نزولا روحانيا كما ينـزل الكمَّل، بعد الصعود، لإصلاح خلق الله. وقد نزل في زمن يشبه من كل ناحية زمن نزول المسيح بن مريم لكي تكون في ذلك آية للذين يفقهون[3]. فعلى كل واحد ألا يستعجل في إنكاره لكيلا يُعَدَّ من الذين يحاربون الله. إن أهل الدنيا الثابتين على أفكار مظلمة وتصورات قديمةٍ لن يقبلوه ولكن الوقت قريب حين يظهر لهم خطؤهم. "جاء نذير في الدنيا، فأنكروه أهلها وما قبلوه، ولكن الله يقبله، ويُظهر صدقه بصولٍ قويٍّ شديدٍ صول بعد صولٍ." هذا ليس كلام إنسان بل هو إلهام من الله وكلام الرب الجليل. وإنني على يقين أن أيام هذه الصولات قريبة. ولكنها لن تكون بالسيف أو السنان، ولن تكون هناك حاجة للسيوف والبنادق بل ستنـزل نصرة الله بالأسلحة الروحانية وتكون هناك حرب ضروس ضد اليهود. وما أدراكم من هؤلاء اليهود؟ هم أناس ماديون في هذا الزمن حذوا حذو اليهود مجتمعين. وسيقطعهم سيف الله السماوي جزأين، وستُمحى صفات اليهود؛ وكل دجال وحيد العين لا يملك عينا روحانية ويخفي الحق، سيُقتل بسيف الحجة الدامغة. سينتصر الحق وسيُشرق للإسلام يومٌ نضِر ومُشرقٌ كما أشرق في الماضي. وستطلع تلك الشمس بكمال تام كما طلعت من قبل. ومن المتحتم أن تمنع السماء طلوعها ما لم يدمِ قلوبنا الإجهاد، وما لم نتخلّ عن كافة أنواع راحتنا لأجل طلوعها، وما لم نقبل كل ذلة لعزة الإسلام. إن إحياء الإسلام يتطلب منّا فدية! وما أدراكم ما تلك الفدية؟ إنها موتنا في هذا السبيل. وبهذا الموت قد أُنيطتْ حياة الإسلام وحياة المسلمين، وعليه يتوقف تَجلّي الإله الحيّ. وهذا ما يسمى بتعبير آخر الإسلامُ. يريد اللهُ تعالى الآن إحياء هذا الإسلام، ولتحقيق هذا الأمر، كان لا بد من أن يؤسس الله تعالى من عنده مشروعا عظيما فعّالا من كل النواحي. وهذا بالضبط ما فعله الله الحكيم القادر، وذلك من خلال بَعْثِ هذا العبد المتواضع لإصلاح الجنس البشري. ولجذب الدنيا إلى الحق والصدق قسّم أمر تأييد الحق ونشر الإسلام على عدة فروع.
فمن جملة تلك الفروع سلسلة التأليف والكتابة التي وُكِّل إليّ الاهتمام بها. وقد عُلِّمت من المعارف والدقائق ما لا يتأتّى بقدرة الإنسان بل يُعثَر عليها بقدرة الله وحده، وهي ليست من تكلُّفات الإنسان بل حُلّت المعضلات بتعليمٍ من روح القدس.
والفرع الثاني لهذا المشروع يشمل سلسلة نشر الإعلانات التي بدأتُ بها بأمر من الله تعالى إتماما للحجة، وقد نُشر إلى الآن أكثر من عشرين ألف إعلان لإتمام حجة الإسلام على الأمم الأخرى. وستظل تُنشر باستمرار على حسب مقتضى الحاجات المستقبلية.
الفرع الثالث لهذا المشروع يشمل القادمين والمغادرين الذين يسافرون بحثا عن الحق ولأهداف مختلفة أخرى، ويأتون بُغية لقائي بتحريض نياتهم بعد تلقيهم الخبر عن هذا القدر السماوي. وهذا الفرع أيضا في نمو مستمر. يقلُّ عدد الوافدين في بعض الأيام ثم يزداد زيادة هائلة في أيام أخرى. فالضيوف الذين جاءوا في السنوات السبع الماضية قد يصل عددهم إلى ستين ألفا أو يزيدون. ويعلمُ اللهُ وحده كم أفدتُ روحانيًا سليمي الطبائع بخطاباتي وحللتُ معضلاتهم وخلّصتُهم من ضعفهم. ولكن مما لا شك فيه أن الخطابات التي ألقيتُها شفهيا ولا أزال ألقيها ردا على أسئلة السائلين، أو ما ألقيه بحسب مقتضى الحال هو في بعض الحالات أنفع وأبلغ تأثيرا وأسرع نفوذا في القلوب من التأليفات. ولذلك قد ظلَّ جميع الأنبياء يتوجّهون إلى هذا الأسلوب دائما. وبالإضافة إلى الكلام الإلهي المحرَّر كتابةً بوجه خاص والمنشور كانت محادثات الأنبياء كلُّها تنتشر بواسطة الخطابات التي ألقوها بحسب مقتضى الحال.
كان الأسلوب المتَّبع عند الأنبياء أنهم كانوا يخطبون كخطيب حكيم في مختلف المجالس والاجتماعات وفق مقتضى الضرورة مدفوعين بقوة "الروح"، وليس كمثل المتكلمين المعاصرين الذين لا يهدفون من وراء خطاباتهم إلا إظهار علو كعبهم في العلوم، أو يهدفون إلى استدراج البسطاء من الناس بواسطة منطقهم الزائف وحججهم السفسطائية فيجعلوهم حطب جهنم أكثر من أنفسهم. بل كان الأنبياء يتكلمون دائما بكل بساطة ويصبُّون في قلوب الآخرين ما يتدفق من قلوبهم. إن كلماتهم القدسية كانت في محلها دائما وعند الضرورة تماما، ما كانوا يُسمعون مخاطَبيهم شيئا كقصص وحكايات، بل كانوا يجدونهم مرضى ومصابين بآفات روحانية مختلفة فيصفون لهم علاجا، أو كانوا يدحضون أوهامهم بحجج قاطعة. كان كلامهم يتسم بقلة الكلمات وكثرة المعاني. وكذلك أتّبع أنا المبدأ نفسه، وأترك باب الخطاب مفتوحا دائما على حسب حاجات القادمين والمغادرين ونظرا إلى أسقامهم[4].
إن استهداف السيئة بسهام النصائح ضروري لوضع حدٍ لها، وكون الأخلاق الفاسدة مِثل عضو انخلعَ من مكانه ثم أعيد إلى مكانه المعهود؛ أمور لا يُتصوَّر علاجها كما هو حقه إلا إذا كان المريض ماثلا أمام المعالج ولا يمكن بطريقة أخرى قط، لذا أرسل الله تعالى آلاف الأنبياء والرسل وأمر الناس بالاستفادة من صحبتهم ليجدوا في كل زمان أسوة يشهدونها بأم عينهم، ويروا الأنبياء تجسيدا حقيقيا لكلام الله تعالى فيحاولوا الاقتداء بهم. لو لم تكن صحبة الصادقين من واجبات الدين لأنزل الله كلامه بطريقة أخرى دون واسطة الرسل والأنبياء، أو لحصَر أمر النبوة في بداية الزمن فقط، وقطع سلسلة النبوة والرسالة والوحي في المستقبل للأبد. ولكن حكمة الله البالغة ما أرادت ذلك قط بل ظل هؤلاء المقدسون يأتون إلى الدنيا دائما عند الضرورة كأسوة بعد تلقي الوحي من الله تعالى كلما حصل الفتور في حب الله وعبادته وتقوى الناس وطهارتهم وغيرها من الأمور الواجبة. وهاتان القضيتان متلازمتان؛ أي إذا كان الله تعالى مهتما دائما بإصلاح الخلائق فلا بد أيضا من أن يأتي دائما أناس وهبهم الله تعالى بصيرة بفضله الخاص وثبّت أقدامهم على سبل مرضاته. فمن الأمور الضرورية والمسلَّم بها دون أدنى شك أن هذه المهمة العظيمة لإصلاح الخلائق لا يمكن أن تُنجز بمجرد التباهي الفارغ لذا لا بد من الخطو على سبيلٍ ظلَّ أنبياء الله الأطهار يخطونها منذ القِدم.
ولقد روّج الإسلام منذ بداية عهده لهذا الطريق المؤثر بكل شدة وقوة بحيث لا يوجد له نظير في الأديان الأخرى قط. هل لأحد أن يُري في أي مكان آخر وجود جماعة كبيرة تجاوز عددها عشرة آلاف شخص كانوا موجودين دائما على عتبات النبي بحسن الاعتقاد والتواضع والإخلاص والفناء التام بُغية الوصول إلى الحق وتعلُّم الصدق؟ لا شك أن موسى أيضا أُعطي جماعة ولكنها كانت عنيدة ومتمردة وبعيدة عن الصحبة الروحانية وقدم الصدق. وهذا ما يعرفه جيدًا كل من قرأ التوراة وألقى نظرة على الكتاب المقدس وتاريخ اليهود. أما جماعة النبي فكانت متحلية في سبيل رسولهم الأكرم بالاتحاد والوحدة الروحانية حتى أصبحوا من حيث الأخوة الإسلامية كعضو واحد حقا. ولقد ترسّخت أنوار النبوة في سلوكياتهم وحياتهم اليومية وفي ظاهرهم وباطنهم حتى صاروا جميعا صورة عاكسة للنبي . فهذه معجزة عظيمة للتغير الباطني الذي بسببه وصلوا إلى درجة الكمال في عبادة الله بعدما كانوا يقومون بعبادة الأوثان الفاحشة. وأصبح الغارقون في الدنيا كل حين وآن على علاقة قوية بالحِبِّ الحقيقي حتى أراقوا في سبيله دماءهم كالماء. الحق أن كل هذا كان نتيجة عيشهم بإخلاص في صحبة نبي صادق وكامل. لذلك فقد بُعثت أنا العبد المتواضع لمواصلة هذه المهمة، وأودّ أن أوسِّع دائرة المقيمين في الصحبة أكثر من ذي قبل. ليقيم في الصحبة ليل نهار أولئك الذين يتمنون أن يزدادوا إيمانا وحبا ويقينا لكي تُكشَف عليهم أنوار كُشفت علي. وأن يُعطَوا ذوقا أُعطِيته أنا لكي ينتشر نور الإسلام في الدنيا عامة، وتُمحى من جبين المسلمين وصمة الحقارة والذلة. ولقد أرسلني الله تعالى بهذه البشرى فقال لي ما تعريبه: "تَبَخْتَرْ فإن وقتك قد أتى، وإنّ قدم المحمديّين وَقَعَتْ على المنارة العليا".
والفرع الرابع لهذا المشروع هو المكاتيب التي تُبعث إلى الباحثين عن الحق أو المعارضين. فقد وصلتني في المدة المذكورة آنفا أكثر من تسعين ألف رسالة، وقد رُدّ عليها إلا بضع منها باعتبارها عابثة وغير ضرورية. ولا تزال هذه السلسلة مستمرة. ويصل عدد الرسائل من 300 إلى 700 رسالة تقريبا شهريا ورودًا وصدورا.
والفرع الخامس لهذا المشروع الذي أقامه الله تعالى بوحيه وإلهامه الخاص هو سلسلة المريدين والبيعة. فقال لي عند إقامة هذه الجماعة إن طوفان الضلال ثائر في الأرض، فاصنعِ الفلك في وقت هذا الطوفان، ومن ركبه فقد نجا من الغرق، ومن أنكر فله الموتُ. وقال أيضا بأن من وضعَ يده في يدك فما وضعها في يدك بل في يد الله. وبشّرني ربي: إني متوفيك ورافعك إليّ. وسيكون لك المتّبعون والمحبون الصادقون إلى يوم القيامة ويكونون غالبين على المنكرين دائما.
هذا هو المشروع ذو الخمسة فروع الذي أقامه الله تعالى بيده. قد يعتبر شخص ذو نظرة سطحية بأن فرع التأليف وحده ضروري والفروع الأخرى غير ضرورية وعابثة ولكن أقول بأنها كلها ضرورية في نظر الله. ولا يمكن أن يتأتّى الإصلاح الذي أراده الله إلا باستخدام جميع الأساليب الخمسة المذكورة آنفا. ومع أن هذا الأمر متروك إلى نصرة الله تعالى البحتة وفضله المحض وهو وحده كفيل بإنجاحه، وإن وعوده المبشِّرة مدعاة للاطمئنان، ولكنني أوجِّه المسلمين إلى المناصرة، بأمره ، كما ظل أنبياء الله جميعا الذين خلوا يوجِّهون إليها عند مواجهة المشاكل. وأقول للغرض نفسه إنه من الواضح تماما ضرورة مساعدة المسلمين جميعا لسريان هذه الفروع الخمسة على أحسن وجه. فأمعنوا النظر في سلسلة التأليف وحدها، تُدركوا مدى حاجتنا إلى موارد مالية إن أخذنا مسئولية هذه الخدمة وحدها على عاتقنا من أجل نشر الدعوة كما هو حقها، لأنه إذا كان تكميل النشر والإشاعة هو غايتنا فلا بد أن يكون هدفنا هو وصول مؤلفاتنا الدينية المليئة بجواهر التحقيق والتدقيق التي تجذب طلاب الحق إلى الصراط المستقيم بسرعة وكثرة إلى الناس الذين أوشكوا على الموت متأثرين بتعاليم سيئة والمصابين بأمراض فتاكة. وأيضا يجب أن يكون نصب أعيننا دائما أن تنتشر كتبنا دون أدنى توقف وتكون في يد كل طالب حق في البلاد التي صارت حالتها الراهنة في خطر كبير بسبب سمّ الضلال القاتل. ولكن من الواضح أنه لا يمكن تحقيق هذه البُغية بوجه أكمل وأتم لو اعتمدنا على انتشار كتبنا عن طريق البيع فقط. وإن نشر الكتب عن طريق البيع فقط وإقحام الدين في الدنيا نتيجة شوائب النفس أسلوب سخيف ومجلبة للاعتراضات؛ ونتيجة لذلك لا نستطيع أن ننشر كتبنا في الدنيا سريعا ولا يمكننا أن نوصلها إلى الناس بكثرة. صحيح تماما أنه لو وزّعنا مئة ألف كتاب مجانا مثلا لاستطعنا أن نوصل جميع الكتب إلى بلاد نائية أيضا في غضون عشرين يوما ولاستطعنا أن ننشرها في كل فرقة وفي كل مكان ولأوصلناها إلى كل طالب حق وباحث عن الصدق. أما في حالة بيعها فقد لا نتمكن من إنجاز هذه المهمة العظيمة حتى في عشرين عاما. ففي حالة البيع سنضطر للاحتفاظ بالكتب في الصناديق وننتظر أن يأتي المشتري أو أن يرسلَ رسالة بهذا الصدد. ومن الممكن أن نرحل من هذه الدنيا في هذا الانتظار الطويل وتبقى الكتب في الصناديق. فلما كانت دائرة البيع ضيقة جدا وتشكِّل عائقا كبيرا في سبيل تحقيق الهدف وتؤخر عمل بضعة أعوام إلى مئات الأعوام، ولم يتنبه إلى الآن شخص ثري رحيب الصدر عالي الهمة من بين المسلمين إلى هذا الأمر حتى يشتري نُسخا كثيرة من تأليفاتنا الجديدة، ويوزّعها مجانا لوجه الله، ولا توجد في المسلمين - مثل المسيحيين - مؤسسة تساعد لإنجاز هذه المهمة[5]، ولا يمكن الاعتماد على الحياة حتى ننتظر إلى مدة طويلة آملين طول العمر؛ فقد قررت وجعلت لزاما أن يوزَّع أكبر عدد ممكن من كتبي مجانا لكي تنتشر هذه الكتب المليئة بنور الصدق والحق في الدنيا سريعا وبوجه عام. ولكن ليس بوسعي أن أحمل هذا العبء الثقيل وحدي، ولما كانت هناك بالإضافة إلى ذلك نفقات كبيرة للفروع الأخرى أيضا متزامنة مع نفقات هذا الفرع، توقفتْ عملية التأليف والطباعة بعد وصولها إلى نقطة معينة وما زالت متوقفة إلى يومنا هذا. إن الله تعالى ينظر إلى كافة فروع هذه المهمة بنظرة واحدة ويريد إكمالها وإقامتها كلها على قدم المساواة. ولكن النفقات التي تقتضيها الفروع الخمسة تستدعي انتباها خاصا ومواساة خاصة من قِبل المخلصين. ولكن لو فصّلتُ حقيقة تلك النفقات الدينية لطال المقال كثيرا.
فيا أيها الإخوة، انظروا فقط على سبيل المثال إلى سلسلة الضيوف القادمين والمغادرين، فترَوا أن قرابة ستين ألف ضيف أو أكثر جاءوا في السنوات الست التي مضت. ويمكنكم تقدير النقود التي قد أُنفقت على خدمة هؤلاء الضيوف الأكارم وضيافتهم، إلى جانب ما دعت إليه الضرورة من معداتِ راحتهم في الشتاء والصيف. ومن كان يملك بُعد النظر سيستغرب لا محالة ويتساءل: كيف أُنجزت مقتضيات الضيافة لهذا العدد الهائل من الضيوف وسُدَّت حاجاتهم بين حين وآخر؟ وعلى أيّ أساس يمكن أن تجري هذه العملية الجبارة في المستقبل؟ كذلك طُبع عشرون ألف إعلان بالأردية والإنجليزية، ثم أرسل منها بالبريد المسجل إلى أكثر من 12 ألفا من زعماء المعارضين. ولم نترك في الهند قسيسا إلا وقد أرسلناها إليه بالبريد المسجل. بل قد أُتِمَّت الحجة بإرسالها بالبريد المسجل إلى أوروبا وأميركا أيضا. ألا يدعو إمعان النظر في هذه النفقات إلى الاستغراب من كيفية تحمُّلنا كل هذه المصاريف مع ضيق ذات اليد والبضاعة المزجاة! إنها نفقات كبيرة، ولو نظرنا إلى النفقات التي نتحملها كل شهر لإرسال الرسائل فقط لتبيَّن أنها أيضا مبالغ كبيرة، ولا نرى إلى الآن سبيلا لمساعدة مالية حتى تستمر هذه النفقات. وإضافة إلى ذلك إن نظري يتوجهُ إلى السماء بخصوص الذين ينخرطون في سلسلة البيعة ويبغون المكوث عندي طالبين الحق كأصحاب الصفّة. وإنني أعلم أن الله القدير الذي أُسِّس هذا المشروع بحسب مشيئته سيفتح حتما طريقا لاستمرار هذه الفروع الخمسة، غير أنني أرى من الضرورة أن أطلع القوم على الأمر بغية أداء حق التبليغ.
لقد تناهى إلى مسامعي أن بعضا من عديمي العلم نشروا تهمة أني جمعتُ من الناس ما يقارب ثلاثة آلاف روبية ثمنًا لكتاب "البراهين الأحمدية"، بالإضافة إلى بعض التبرعات، ولكن الكتاب لم يُطبع بعد بالتمام والكمال. فأوضح لهم جوابا على ذلك أن النقود التي جُمعت من الناس ليست ثلاثة آلاف فقط بل كانت هناك نقود أخرى أيضا وهي تقارب عشرة آلاف ولكنها ما كانت تبرعا لنشر الكتاب وما دُفعت ثمنا له. بل دفعها بعض من طالبي الدعاء كهدية فقط، أو قدّمها لي بعض الأحبة مدفوعين بالحب الذي يكنّونه لي. فظلت تلك النقود كلها تُبذَل لسد حاجات تطرأ بين حين وآخر في هذا المشروع. ولما كانت الحكمة الإلهية قد أخّرت عملية تأليف الكتب فلم توفَّر الأموالُ بل أُنفقت في الفروع الهامة الأخرى التي كانت فعّالةً بأمر من الله. وكانت الحكمة وراء التأخير في تأليف الكتب أن تُكشَف على المؤلف بعض الدقائق والحقائق كاملةً في أثناء فترة الانقطاع، ولكي يُخرج المعارضون أيضا كل ما في جعبتهم. أما الآن فقد توجهت مشيئة الله مجددا إلى إكمال بقية التأليفات فوجّهني إلى تحرير هذا المقال. وأنا الآن بحاجة ماسة إلى إكمال طباعة المؤلفات. فقد بقي أن يُطبع جزء كبير من البراهين الأحمدية. وإذا طُبع فسوف أرسله إلى البائعين وغيرهم الذين زُوِّدوا بالأجزاء الأولى لوجه الله ووعدتهم بتزويدهم بالبقية أيضا. كذلك أنوي تأليف كتيبات أخرى مثل "أشعة القرآن" و"سراج منير" و"تجديد الدين" و"أربعين في علامات المقربين" وشيء من تفسير القرآن. وفي قلبي حماس شديد أن تصدر في الردِّ على المسيحية وغيرها من الأديان الباطلة مجلةٌ شهرية مقابل جرائدهم. ولا عائق في الشروع بكل هذه الأعمال بصورة مستمرة سوى توفير الأموال والمساعدة المالية. فلو تيسّرت لنا مطبعة وناسخ بشكل دائم وتسنّتْ أيضا كافة أوجه النفقات الضرورية، أيْ إذا تيسّرت لنا بين حين وآخر نفقات الأوراق والطباعة ورواتب الناسخين لتسنّى نمو هذا الفرع من الفروع الخمسة المذكورة وازدهاره على أحسن وجه.
يا بلاد الهند! أليس فيك غنيّ واحد ذو همة عالية يستطيع أن يتحمل نفقات هذا الفرع على الأقل إن لم يستطع أكثر من ذلك؟ لو أن خمسة من المؤمنين من ذوي السَّعة قدَّروا أهمية هذا الوقت، لكان بإمكانهم أن يأخذوا على عاتقهم مسئولية هذه الفروع الخمسة.
يا ربِّ، أيقِظْ بنفسك قلوب هؤلاء الناس. لم يُصِبْ أهل الإسلام إفلاس إلى هذا الحد، بل إن هو إلا بخلهم. والذين لا يملكون سَعةً كاملةً فبإمكانهم أن يساهموا في دعم هذا المشروع بدفعهم مبلغا معينا قدر استطاعتهم كل شهر قاطعين على أنفسهم ميثاقا غليظًا. إن الكسل والفتور وسوء الظن لا ينفع الدين بشيء قط. إن سوء الظن يخرِّب البيوت ويفرِّق بين القلوب.
انظروا إلى الذين شهدوا زمن الأنبياء كيف قدموا تضحيات عظيمة في سبيل نشر الدين. فكما قدم الغني جُلّ ماله المحبب إليه في سبيل الدين كذلك قدّم الفقير المتسول كيسه المرغوب فيه المليء بالفتات. ثم استمرو يفعلون ذلك حتى أتى موعد فتح من الله. إن كون المرء مسلما ليس بأمر هَيْنٍ، وإن حيازة لقب "مؤمن" ليس بأمر ليِّن.
فيا أيها الناس: إذا كانت فيكم روح الصدق التي يُعطاها المؤمنون لا تنظروا إلى دعوتي هذه نظرة عابرة، واسعَوا جاهدين لتحوزوا البرِّ فإن الله يراكم في السماء، فما هو جوابكم بعد سماع هذه الدعوة؟
ويا أيها المسلمون الذين هم آثار باقية للمؤمنين أولي العزم، ويا ذرية الصالحين، لا تسرعوا في الإنكار وسوء الظن واخشوا وباء مهيبا ينتشر في ما حولكم وقد وقع في شراكه كثير من الناس. ترون كم تُبذل من الجهود للقضاء على الإسلام، أليس واجبا عليكم أن تسعوا أنتم أيضا للدفاع عنه؟ الإسلام ليس من عند الإنسان حتى يُقضى عليه بمساعٍ إنسانية. ولكن الأسف على عاقدي العزمِ على استئصاله. ثم الأسف على الذين لديهم كل شيء لنسائهم وأولادهم وإشباع ملذات نفوسهم، وليس في جيوبهم لمصلحة الإسلام من شيء!
ويل لكم أيها الكسالى، إنكم لا تملكون أدنى قوة لإعلاء كلمة الإسلام وإظهار أنوار الدين، ولكن ألا تستطيعون أيضا أن تقبلوا شاكرين مشروعا أسسه الله لإظهار بريق الإسلام؟ لقد صار الإسلام في هذه الأيام كسراج أوصِدَ في صندوق، أو كينبوع ماءٍ زلال غطاه العشب والكلأ. إن الإسلام في حالة انحطاط، لا يُرى وجهه الأغر، ولا يلاحَظ قدُّه الرشيق. كان من واجب المسلمين أن يبذلوا كل ما في وسعهم لإراءة وجهه الأغرّ، ويُهرقوا في هذا السبيل دماءهم كالماء دع عنك أموالهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك. إنهم لجهلهم البالغ غايته واقعون في خطأ ويقولون: ألا تكفي التأليفات السابقة؟ ولكنهم لا يدرون أن هناك حاجة للدفاع بأساليب جديدة لدرْء المفاسد التي تظهر بأساليب متجددة. أَلم تكن الكتب السابقة موجودة قبل الأنبياء والرسل والمصلحين الذين جاؤوا في كل زمن عند انتشار الظلام؟
فيا أيها الإخوة، لا بد من نزول النور من السماء عند انتشار الظلام. لقد بيّنت في هذا المقال أن الله تعالى يقول في سورة القدر بل يبشر المؤمنين أن كلامه ونبيَّه قد أُنزلا من السماء في ليلة القدر. وكل مجدد ومصلح يأتي من الله إنما ينـزل في ليلة القدر. وما أدراكم ما ليلة القدر؟ ليلة القدر اسم آخر لزمن مظلم بلغ فيه الظلام منتهاه. فيقتضي ذلك الزمن بالطبع أن ينـزل فيه نور لدحْرِ ذلك الظلام. فقد سمِّي هذا الزمان ليلة القدر على سبيل المجاز. إنه ليس ليلا على وجه الحقيقة بل هو زمنٌ يشبه الليل لظلمته. عندما يمضي - على وفاة نبي أو نائبه الروحاني - ألف شهر الذي ينذر باقتراب عمر المرء من نهايته ويُهدد بوداع حواسه يسدل هذا الليل أستاره. عندها تُبذر سرًّا بأمر من السماء بذرة مجيء مصلح أو مصلحين كثيرين فيُعَدّون في الخفاء ليظهروا على رأس قرن جديد. فإلى هذا الأمر يشير الله جلّ شأنه في قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي أن الذي يرى نور ليلة القدر هذه ويتشرّف بصحبة مصلح الوقت خيرٌ من عجوز بلغَ ثمانين حولا ولم يشهدَ هذا الوقت المنير. وإذا وجد من هذا الوقت ساعة واحدة كانت أفضل من ألف شهر مضت قبلها. ولكن ما هو وجه الأفضلية؟ لأن في تلك الليلة تنـزل من السماء ملائكة الله وروح القدس مع ذلك المصلح بإذن الرب الجليل. ولا تنـزل عبثا بل تنـزل على القلوب المهيأة وتفتح عليها سبل السلام. فتظل عاكفة على فتح السبل كلها ورفع الحجب كلها حتى تزول ظلمة الغفلة وينبلج صبح الهداية.
فيا أيها المسلمون اقرأوا هذه الآيات بتمعن وانظروا كيف يصِفُ الله هذا الزمن الذي يُنـزِل فيه مصلحا إلى الدنيا عند الضرورة. أفلا تقدّرون هذا الزمن؟ وهل ستنظرون إلى قول الله تعالى باستهزاء؟
فيا أيها الأثرياء من المسلمين، ها إني أبلّغكم أن عليكم أن تنصروا هذا المشروع - الهادف إلى الإصلاح الذي أسسه الله تعالى - بكل قلبكم وبكل تركيزكم وإخلاصكم. وعليكم أن تؤدوا حق خدمته سريعا بالنظر في كل جانب من جوانبه بالتقدير والاحترام. والذي يريد أن يدفع شيئا بقدر استطاعته شهريا فليدفعه من تلقاء نفسه بانتظام معتبرا إياه حقا واجبا عليه ودَينًا ملزَما على نفسه. وينبغي أن يَعُدّ هذه الفريضةَ نذرا خالصا لله ولا يتأخّر ولا يتكاسل في ذلك. أما الذي يريد أن يدفع دفعة واحدة مساعدةً منه فله أن يفعل ذلك، وليكن معلوما أن الهدف الحقيقي الذي يضمن سريان هذه السلسلة بلا انقطاع هو أن يقطع المخلصون الصادقون للدِّيْنِ على أنفسهم وعدا جازما بإرسال مبلغ معين شهريا وبأقساط شهرية يسيرة حسب استطاعتهم يدفعونها إن لم يطرأ مانع مفاجئ. أما من وفّقه الله جلّ شأنه وشرح صدره فله أن يدفع حسب سعته وقدرته دفعة واحدة أيضا بالإضافة إلى التبرع الشهري.
يا أعزّتي، ويا أحبّائي، ويا أيتها الأغصان الخضراء من شجرة كياني، الذين دخلتم جماعتي برحمة الله، وتضحّون في هذا السبيل بحياتكم وراحتكم ومالكم، إني أعلم أنكم تعتبرون تنفيذ أوامري مدعاة لسعادتكم، ولن تقصّروا في ذلك ما استطعتم، ولكني لا أريد أن أفرض عليكم من نفسي شيئا، كي لا تكون خدماتكم نتيجةً لأوامري لكم، بل برغبتكم الحُرّة.
من هو صديقي، ومن هو حِبِّي؟ إنما هو ذلك الذي يعرفني حقًا. ولكن من يعرفني حقا؟ إنما هو ذلك الذي يؤمن بأنني مرسَل، ويقبلني كما يُقبَل المرسَلون.
الدنيا لن تقبلني لأني لست منها، ولكن الذين وُهبتْ فطرتُهم نصيبًا من ذلك العالَم هم يقبلونني، وسوف يقبلونني. والذي يهجرني إنما يهجر مَن بعثني، والذي يوطد الصِلة بي إنما يوطدها بالذي جئتُ من عنده. إن في يدي سراجًا، فمَن أتاني نال من هذا النور نصيبًا، ولكن الذي يفرّ عني من جراء الشك وسوء الظن فسوف يُلقَى في الظلمات. أنا الحصن الحصين لهذا العصر، مَن تحصَّن بي فقد وقى نفسه من اللصوص وقُطَّاع الطريق والوحوش الضارية. وأما الذي يفضّل البقاء بعيدًا عن أسواري، فسيواجه الموت من كلّ طرف وصوب فلن تسلَم حتى جثّته. مَن الذي يَدخل حصني؟ هو من يَهجُر الرّذيلة ويَختار الفضيلة، ويَتخلّى عن الاعوجاج، ويَسلك مسلك الصدق والسداد، ويُحرّر نفسَه مِن عبودية الشيطان، ويَصير عبدًا مطيعًا لله تعالى. كلّ من يَفعل ذلك فهو مني وأنا منه. ولكن لن يقدر على ذلك إلا الذي يضعه الله تعالى تحت ظل نَفْسِ المزكِّي، فيضع قدمَه في جحيمِ نفسِ هذا العبد، فتبرُد كأنها لم تكنْ فيها نارٌ قط. ثم يُحرِز هذا العبد تقدمًا إثر تقدم حتى تَسكن روحُ الله تعالى فيه ويستوي رب العالمين على قلبه بتجلٍّ خاص، فتحترق بَشَريّتُه القديمة ويُوهَبُ إنسانيةً جديدة طاهرة، كما يَصير اللهُ تعالى له إلـهًا جديدًا ويؤسِّس معه صِلةً جديدة وخاصة، فينال في هذا العالم نفسه جميعَ الأسباب الطيبة لحياة الجنة.
لا أستطيع الامتناع هنا عن شكر الله والقول إنه تعالى بفضله ورحمته لم يتركني وحيدا وإن الذين هم على علاقة الأخوة بي والداخلين في هذه الجماعة التي أسسها الله تعالى بيده؛ متصبغون بصغبة مذهلة من الحب والإخلاص. لم أكسب هذه الأرواح المليئة بالصدق بجهدي بل وهبنيها الله تعالى بفضله الخاص.
أولا وقبل كل شيء أجد في قلبي حماسا لذكر أخي في الله الذي اسمه "نور الدين" وهو كمثل نورِ إخلاصه. إنني دائما أنظر متعجبًا إلى بعض خدماته الدينية التي يقوم بها لإعلاء كلمة الإسلام ببذل ماله الطيب، وأتمنى لو أتمكن أنا أيضا من أداء هذه الخدمات. عندما أتصور حماسا أُشرِبَه قلبُه لتأييد الدين تتماثل أمام عيني قدرة الله، وأستغرب كيف يجذب إليه عباده. إن أخي هذا على أتم الاستعداد دائما لطاعة الله ورسوله بكل ماله وقوته وبكل ما أُعطي من الأسباب. إنني أعلم يقينا بناء على تجربتي، وليس نتيجة حسن الظن فقط، أنه لن يقصّر في بذل النفس والجاه في سبيلي دع عنك المال. ولو سمحتُ له لضحّى بكل شيء في هذا السبيل وأدّى حق البقاء الدائم في الصحبة المادية كما هو بالصحبةِ الروحانية.
أنقل هنا بضعة أسطر من بعض رسائله كنموذج للقراء الكرام ليعرفوا مدى تقدّم أخي الحبيب المولوي الحكيم نور الدين البهيروي، الطبيب في ولاية جامون، في مدارج الحب والإخلاص. وفيما يلي تلك الأسطر:
"مولانا ومرشدنا وإمامنا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيدي، أدعو الله تعالى أن أكون حاضرا في جنابكم دائما، وأن أنال من إمام الزمان جميع الأهداف التي من أجلها بُعث مجددًا. لو سمحتم لي لاستقلت من الوظيفة وبقيت على عتباتكم ليلَ نهارَ. أو إذا أمرتموني تركتُ هذه العلائق لأتجول في الدنيا وأدعو الناس إلى الدين الحق وأبذل نفسي في هذا السبيل. إني لك الفداء، كل ما أملكه ليس لي بل هو لك كله.
يا سيدي ومرشدي، أقول بكامل الصدق إنه لو بُذل جلُّ مالي في سبيل نشر الدين لفزتُ بمرامي. إذا كان مبتاعو نسخٍ من كتاب البراهين الأحمدية والمسددون لثمنها سلفًا قلقون لتوقف طباعة "البراهين الأحمدية" فاسمحوا لي بأداء خدمة بسيطة بأن أعيد إليهم مالهم كله من جيبي الخاص.
سيدي ومرشدي، يقول هذا العبد الفقير النادم إنه لو قُبل ذلك لكان مدعاة لسعادتي. إنني أنوي أن أُكلَّف بتحمُّل كل مصاريف طباعة "البراهين الأحمدية"، وأن تُبذل النقود الواردة ثمنًا للكتاب لسد حاجاتكم. إن لي معكم نسبة فاروقية، وإنني على أتم الاستعداد لبذل كل غال ورخيص وطارف وتليد في هذا السبيل. ادعُ لي من فضلك ليكون موتي موت الصديقين."
إنَّ صِدْقَ المولوي الممدوح وعزمه ومواساته وتضحيته كما يَترشّحُ من مقاله يتجلّى أكثر من خلال خدماته العفيفة. وهو يودّ مدفوعا بعاطفة الحب والإخلاص الكامل أن يضحّي في هذا السبيل بكل شيء حتى أسباب معيشة أهله الأساسية. إن روحه تدفعه - لحبِّه وإخلاصه المفرطَين - للتقدم أكثر من استطاعته، فهو عاكف على الخدمة في كل حين وآن[6]. ولكن من الظلم الكبير أن يُلقى على مخلص مثله كل الأعباء التي تفوق طاقته ولا يمكن أن تحملها إلا جماعة. لا شك أن المولوي المحترم سيقبل التخلي عن جميع عقاراته لأداء هذه الخدمة، وسيقبل أيضا أن يقول مثل النبي أيوب: "لقد جئت وحدي وسأغادر وحدي". ولكن هذا الواجب مشترك بين القوم كله. فمن واجب الجميع أن يتنبّهوا إلى حسن عاقبتهم في هذا العصر الخطير والمليء بالفتن الذي يهزّ بشدة وبصدمات قوية علاقة الإيمان الدقيقة التي يجب أن تكون بين الله وعبده. وعليهم أن يتوجّهوا - باذلين أحبّ ما عندهم من أموال ومسخِّرين أوقاتهم للخدمة - إلى الأعمال الصالحة التي هي مدار النجاة. وأن يخافوا قانون الله الـمُحكَم، الذي لا مبدِّل له الوارد في كلامه العزيز: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[7].
أرى من المناسب أن أذكر هنا بعض الإخوة الآخرين أيضا من هذه الجماعة الإلهية وتربطهم بي من الأعماق علاقة حب حميمةٌ. فمن جملتهم أخي في الله شيخ محمد حسين المراد آبادي الذي حضر إلى قاديان قادما من مدينة "مراد آباد" وينسخ هذا المقال لوجه الله فقط. إني أرى صدره صافيا كالمرآة. إنه يكنّ لي لوجه الله إخلاصا وحبا بالغَين الغاية. إن قلبه زاخر بحب الله وهو يتحلّى بصفات عجيبة. وأراه سراجا منيرا لمدينة "مراد آباد" وآمل أن ينتقل يوما ما نور الحب والإخلاص الذي يوجد فيه إلى الآخرين أيضا. مع أن شيخ محمد حسين قليل البضاعة ولكنه سخي القلب ومنشرح الصدر، ويظل عاكفا على خدمتي بكل وسيلة ممكنه. ولقد أُشربتْ كلُّ ذرة من كيانه بحسن الاعتقاد وامتلأت حبًّا قويا.
ومن جملتهم أخي في الله حكيم فضل دين البهيروي. الحق أن الكلمات تعجز عن بيان الحب والإخلاص وحسن العقيدة والعلاقة الباطنية التي يكنُّها لي. إنه ناصح أمين لي، ويكنّ مواساة قلبية وكان يتحلّى بفهم سليم في فهم الناس. لقد ذكرت لكثير من الناس رغبتي في كتابة هذا الإعلان بعد أن وجّهني الله تعالى إلى ذلك وأعطاني آمالا بإلهاماته الخاصة، ولكن لم يوافقني الرأي أحد. أما أخي العزيز هذا فقد دفعني من تلقاء نفسه إلى كتابته دون أن أذكر له رغبتي في ذلك، وقدم من عنده مئة روبية لنشره. إني أستغرب لفراسته الإيمانية، فقد وافقتْ إرادته إرادةَ الله تعالى. إنه يقوم بالخدمة خفية دائما، وقد دفع سرًّا عدة مئات من الروبيات ابتغاء مرضاة الله فقط، فجزاه الله خيرا.
ومن جملتهم أخي الحبيب الذي أحزن قلبنا كثيرا بفراقه، وهو المرحوم والمغفور له ميرزا أعظم بيك زعيم منطقة "بتياله" الذي انتقل من هذه الدار الفانية في الثاني من ربيع الثاني عام 1308 من الهجرة، إنا لله وإنا إليه راجعون. العين تدمع والقلب يحزن وإنا بفراقه لمحزونون. من أين آتي بكلمات يمكن أن تؤدي حق بيان الحب في الله الذي كان يكنّه المرحوم لي ومدى فنائه فيَّ، ولبيان مرتبة حبه. الحزن الذي أصابني بفراقه المفاجئ قلّما أجد نظيره في حياتي الخالية. إنه فرَطٌ لنا، إنه سلفنا الذي فارقنا أمام أعيننا فجأة. لن أنسى حزن فراقه ما دمت حيًّا. "في قلبي لوعةٌ وإن كَفْكَفْتُ دمعَ العين بكُمِّ ثوبي لسال على صدري"[8]
إن طبعي يكتئب بذكر فراقه، ويضيق الصدر بغلبة القلق، ويحزن القلب وتسيل الدموع من العيون تلقائيا. كان وجوده زاخرا بالحب. كان المرحوم شجاعا جدا في إظهار الحب بحماس، وكان قد نذر حياته كلها في هذا السبيل. لا أظن أنه كان يرى شيئا آخر حتى في الحُلم. ومع أنه كان قليل البضاعة جدا لكن المال في عينيه كان أقل قَدْرًا من التراب في سبيل الخدمات الدينية التي كان يقوم بها في وقتها. كان يملك في أسرار المعرفة فهما سليما للغاية. إن اليقين المليء بالحب الذي كان يتحلى به بشأني كان بمنـزلة معجزة قدرة الله التامة. كانت رؤيته تُفرح الطبائع كما تُفرح المرءَ رؤيةُ الحديقة المثمرة والمزهرة. لقد ترك ابنَه الصغير وذويه في ضعف وإفلاس شديد وقلة حيلةٍ ظاهريا. يارب، يا ربّنا القادر القدير كنْ لهم كفيلا ووليا. وألهِم قلوب محبيَّ أن يؤدوا حق الخدمة لذوي أخيهم المخلص الذين صاروا بلا مال ولا حيلة.
"يا ربّ، يا كفيل قلوبٍ مكتئبة، يا ملاذَ العاجزين ويا غافر المذنبين اغفر لعبدك لطفا منك، وانظر إلى ذويه برحمة وتحنن"[9]
لقد ذكرت هنا بعض الإخوة على سبيل المثال، غير أن هناك إخوة آخرين أيضا يتحلون بالصفات والميزات نفسها وسأذكرهم في كتاب منفصل في المستقبل بإذن الله. لقد طال الموضوع فأكتفي بهذا القدر.
أرى من المناسب أن أذكر هنا بأنه لا يستحق جميعُ من يبايعونني أن أُظهر فيهم رأيا مشجعا في الوقت الحالي بل بعضهم يبدون مثل الأغصان اليابسة التي سيقطعها ربي الذي هو كفيلي ويرميها كالحطب. فمنهم الذين تحلَّوا في البداية بالحرقة والإخلاص، ثم أصابهم الانقباض الشديد ولم يعد فيهم حماس الإخلاص والنور والحبّ كالمريدين. بل لم تبق فيهم إلا المكائد مثل بلعام باعور. وقد صاروا مثل الأسنان النَخِرة التي لا تصلح إلا لأنْ تُقلع وتُرمى تحت الأقدام. فقد وهنوا واستكانوا، وحجبتهم الدنيا الدنيئة تحت شراك تزويرها.
فأقول صدقا وحقا إنهم سيُقطَعون قريبا إلا الذي تتداركه يد فضل الله مجددا. وهناك كثيرون آخرون سلّمهم الله تعالى لي للأبد، وهم أغصان خضراء لشجرة وجودي، وسأتناول ذكرهم في وقت آخر بإذن الله.
هنا أريد أن أزيل وسوسة تنتاب بعض ذوي الميسرة ممن يعدُّون أنفسهم أسخياء جدا وفانين في سبيل الدين ولكنهم منحرفون تماما عن بذل أموالهم في محلها. ويقولون: لو وجدنا زمن صادق ومؤيَّد من الله أُرسل منه لتأييد الدين لخضعنا نصرةً له لدرجة التضحية بأنفسنا، ولكن ماذا نفعل إذ نجد الزيف والخديعة مُستشريًا في كل مكان؟
فليكن واضحا لكم أيها الناس أن شخصا قد أُرسل لتأييد الدين ولكنكم لم تعرفوه، وهو بين ظهرانيكم، وإنه أنا الذي أكلِّمكم. ولكن على عيونكم أغشية غليظة. إذا كنتم طلاب الحق فمن السهل جدا اختبار شخص يدّعي مكالمة الله. فتعالوا إليه وامكثوا في صحبته أسبوعين أو ثلاثة أسابيع فتروا، إذا شاء الله، بأم أعينكم أمطار البركات وأنوار وحي الحق نازلةً عليه. فمن جدّ وجد ومن طرق الباب فُتح له. ولكن لو أغمضتم عيونكم واختفيتم في حجرة مظلمة وقلتم: أين الشمس؟ فإن شكواكم عبث. فيا قليل الفهم، افتح باب غرفتك أولا، وارفع الغشاوة عن عينيك حتى تتراءى لك الشمس وتنوِّرك أيضا بضوئها!
يقول البعض إن في تأسيس المؤسسات وفتح المدارس كفاية لتأييد الدين. ولكنهم لا يدركون ما هو الدين، وما هي الأهداف المتوخاة لوجودنا، وكيف وبأية طريقة يمكننا نيل تلك الأهداف؟
عليهم أن يعرفوا أن الغاية المتوخاة لهذه الحياة هي إنشاء العلاقة الصادقة واليقينية مع الله التي تخلِّص من العلاقات النفسانية وتوصل إلى ينبوع النجاة. فباختصار، إن سبل اليقين الكامل لا تُفتح بمكائد الإنسان وخططه الزائفة قط. وإن فلسفةً اختلقتها يدُ الإنسان لا تجدي في هذا المجال نفعًا. بل الله تعالى ينـزِّل هذا النور من السماء دائما بواسطة عباده الخواص عند انتشار الظلام. والذي ينـزل من السماء هو الذي يأخذ الآخرين إليها.
فيا أيها المدفونون في هوة الظلام، ويا أسرى براثن الشكوك والشبهات، ويا عباد الأهواء النفسانية، لا تعتزوا بإسلام ليس إلا اسما وتقليدا فقط. ولا تظنوا أن رفاهيتكم وبحبوحتكم الحقيقية ونجاحكم النهائي يكمن في المكايد التي تستخدمها المؤسسات والمدارس الحالية. إن هذه الأمور مفيدة مبدئيا وقد تكون الخطوة الأولى إلى التقدم، ولكنها بعيدة كل البعد عن الغاية المنشودة. قد ينتج عن هذه المكايد دهاء ذهني أو طبيعةٌ متفننة أو حدةٌ في الذهن وتمرسٌ على المنطق الجاف، أو قد ينال أحدٌ بسببها لقب "العالم" أو "الفاضل"، وقد تساعد أحدا على نيل المرام بعد التحصيل العلمي لمدة طويلة؛ ولكن كمايقول المثل الفارسي: "إلى أن يُجلَب الترياقُ من العراق، يهلك لديغُ الحية".
فاستيقظوا واحذروا لكيلا تتعثّروا، ولئلا يواجهكم السفر الأخير وأنتم في حالة الإلحاد وعدم الإيمان. اعلموا يقينا أنه لا يمكن أن يكون جلّ مدار آمال الفلاح في العقبى على تحصيل العلوم التقليدية بل هناك حاجة لنـزول النور السماوي الذي يزيل شوائب الشكوك والشبهات ويُخمِد نار الأهواء والأطماع، ويجذب إلى حب الله الصادق والعشق الحقيقي والطاعة الصادقة. لو سألتم ضمائركم لتلقيتم الرد أنكم لم تحظوا بعدُ بالاطمئنان الحقيقي الذي يُحدث تغييرا روحانيا دفعة واحدة. فمن المؤسف حقا أنكم تجدون في أنفسكم حماسا كبيرا للأمور التقليدية والعلوم التقليدية ولا تجدون عشر معشار هذا الحماس للجماعة السماوية. إن معظم أوقات حياتكم مكرّسة لأمور لا تمتّ للدين بصلة أصلا، وإذا كانت هناك صلة فهي أدنى بكثير وبعيدة عن الهدف الحقيقي كل البُعد. لو كنتم متحلين بحواس وعقل يصيب الهدف تماما لما هدأتم ما لم تصيبوا ذلك الهدف.
أيها الناس، قد خُلقتم لمعرفة إلهكم الصادق وخالقكم الحقيقي ومعبودكم الحق وحبه وطاعته. فما لم يتجلَّ فيكم هذا الأمر الذي هو الغاية المنشودة مِن خلقكم فأنتم بعيدون كل البُعد عن النجاة الحقيقية. لو أنصفتم لشهدتم على حالتكم الباطنية أن وثنا ضخما لعبادة الدنيا بدلا من عبادة الله ماثل أمام قلوبكم دائما، وتسجدون له آلاف المرات في كل ثانية. وإن أوقاتكم الثمينة مشغولة في قيل الدنيا وقالها لدرجة لا تجدون فرصة لرفع العين إلى جانب آخر مطلقا.
هل تدبرتم مرة بمآل هذا الكيان المادي؟ أين العدل وأين الأمانة فيكم؟ أين فيكم ذلك الصدق وخشية الله والإخلاص والتواضع الذي يدعوكم القرآن إليه؟ لم تفكروا مرة حتى في السنوات الخالية أيضا أن لكم إلها. لا يخطر ببالكم قط ما حقوقه عليكم. الحق أنكم ما بقيتم على صلة أو آصرة بذلك القيوم الحقيقي، بل يتعذر عليكم حتى التفوه باسمه.
قد تخاصمونني في هذا وتقولون إن الأمر ليس كذلك قط، ولكن قانون الله في الطبيعة يجرِّمكم إذ يبيِّن لكم أنه لا توجد فيكم أمارات المؤمنين. إنكم غارقون في أفكار ومشاغل دنيوية وتدّعون الفطنة وصواب الرأي فيها بكل قوة ولكن فطنتكم ومعرفتكم وبُعد نظركم يقتصر على الدنيا فقط، ولا ترون بفطنتكم هذه شيئا من العالَم الآخر الذي خُلقتْ أرواحكم للاستقرار فيه للأبد. قد اطمأننتم بالحياة الدنيا كما يطمئن أحد بشيء يبقى إلى الأبد. لا تذكرون ولا مرة واحدة في الحياة العالَم الآخر الذي أفراحه دائمة وجديرة بالاطمئنان. أيّة شقاوةٍ هذه أنكم غافلون تماما وأغمضتم عيونكم عن أمر مهم وتركضون ليل نهار بكل قوتكم طمعا في أمور آنيّة ومؤقتة! تعرفون جيدا أن الوقت آتٍ عليكم حتما وسيُقضى على حياتكم وكافة أمانيكم دُفعة واحدة، وإنها لشقاوة عجيبة أنكم لا تزالون تهدرون أوقاتكم في طلب الدنيا وحدها وأنتم تعلمون. وإن طلبكم الدنيا لا يقتصر على الوسائل المشروعة فقط بل اعتبرتم جميع الأمور غير المشروعة أيضا بدءًا من الكذب والخديعة إلى القتل بغير حق حلالا. ثم تقولون مع كل هذه الجرائم المخجلة المنتشرة فيكم إنكم لستم بحاجة إلى النور السماوي والسلسلة السماوية بل تعادونهما أيما معاداة. قد استخففتم كثيرا بجماعة الله السماوية لدرجة تذكرها ألسنتكم بكلمات ملؤها الكراهية وتهجو رعونةً وعبوسا. تقولون مرارا: كيف نتيقَّن أن هذه الجماعة من الله؟ لقد أجبت على ذلك قبل قليل بأن الشجرة تُعرف بثمارها، وبضوئه يُعرَفُ السراجُ. لقد أبلغتُكم الدعوة، والخيار الآن لكم سواء أقبلتموها أم لم تقبلوها، وسواء أتذكَّرتم كلامي أم محوتموه من لوح ذهنكم وجعلتموه نسيا منسيا.
"أحبتي، لا يُقَدَّر المرء في حياته، فسوف تذكرون كلامي بحسرةٍ من بعدي".[10]
الخاتمة؛ وهي في رثاء الفُرقة في الإسلام
ترجمة قصيدة فارسية:
من الأنسب أن تدمع كل عين دما على تشتت حالة الإسلام وقحط المسلمين.
الإسلام معرّض للإعصار المهيب والخطير للغاية، وحدث فساد كبير في العالم بسبب الكفر والعناد.
إذ إن المحروم من كل خير وحسنة بدأ يعيبُ خير الرسل.
والذي هو أسيرٌ ومسجون في سجن الخبث يتجاسر على الطعن في سيد الأطهار.
إن خبيثا وسيء الباطن يُطلق السهام على ذلك المعصوم، فحري بالسماء أن تمطر الأحجار على الأرض.
لقد صار الإسلام ضعيفا كالتراب أمام أعينكم، فما عذركم عند الله يا حزب الأثرياء؟
الكفر ثائر في كل حدب وصوب مثل جيوش "يزيد" وصار الدين مريضا وعديم الحيلة مثل زين العابدين.
الأغنياء منشغلون في الاستمتاع وملذات العيش، وجالسون مع أوثان النساء الحِسان يستمتعون.
وأما المشايخ فيتخاصمون فيما بينهم بسبب ثوائر نفوسهم، والزهاد غافلون تماما عن حاجات الدين.
وقد نحا كل شخص منحى خاصا به وأصبح كل شخص باتجاه من أجل نفسه الدنيئة، لذلك صار جانب الدين قفرا وحملَ عليه كل عدو من مرصده مع غيدٍ حِسان.
فأيها المسلمون، هل هذه هي علامات المسلمين؟ أو ربما خلت قلوبكم من ذكر موت الذين خلَوا من قبل.
هل قصر الدنيا متين جدا في نظركم، أو قد طارت فكرة الموت من ذهنكم.
يا أيها الغافلون إن موعد الموت قد دنا فتنبّهوا إليه، إلى ما ستُدار الكؤوس؟
أيها العاقل لا تجعل نفسك أسير الدنيا وإلا تعرضتَ لمصائب كبيرة بعد الموت.
لا تربط قلبك إلا بذلك الحبيب الذي جماله دائم لا يزول، لكي تنال السعادة الدائمة من الله خير المحسنين.
العاقل مَنْ يصير في سبيله كالمجنون، والذكي مَنْ يعشق وجه ذلك الحبيب الحَسِيْن.
إن جام عشقه أزلي وهو ماء الحياة، فمن شربه ما مات بعد ذلك أبدا.
يا أخي لا تربط قلبك بثروة الدنيا الدنيئة، فكل قطرة من هذا "العسل" ممزوجة بالسم القاتل.
واسْعَ جاهدا من أجل الدين بالنفس والنفيس ما استطعتَ، حتى تنال خلعة الرضا من رب العرش
أَثْبِتْ بعملك أن في إيمانك نورا، فما دمت ربطّت قلبك بيوسف فاخترْ طريقا يؤدي إلى كنعان.
واذكرْ حين كان هذا الدين مرجعا لأهل الأديان كلهم، وحين حرّر عالَـمًا من قبضة الشيطان اللعين.
كان قد أحاط الأرض كلها بظِلّ علمه وسعته، وكانت قدمه في السماء بسبب عزته وشوكته.
أما الآن فقد أتى زمان يكذِّب فيه كل غبي هذا الدين المتين حمقًا وغباوةً.
لقد خرج من الدين مئات الألوف من الجهلاء، وصاروا صيدا لمئات الألوف من المخادعين المكّارين.
لقد أصاب المسلمين انحطاط وذلة لأنه لا غيرة للدين في إراداتهم.
لا يتحركون غيرةً ولا كحركة الجنين ولو ارتد عالَـمٌ عن دين المصطفى.
إنهم غارقون في فكر الدنيا الدنيئة، وإن أموالهم كلها تُهدَر على النساء والبنين.
يترأسون كل مجلس فيه الفسق والفجور، وإنهم أبرز الناس في كل حلقة تُرتكب فيها المعاصي.
إنهم مدمنون على الخمور وبعيدون عن أزقة الهدى، ينفرون من أهل الدين ويصحبون شاربي الخمور.
لقد أعرض عنهم ذلك الحبيب حين لم يجد فيهم صدقا ووفاء كالمخلصين، وكان مخلصا لهم من قبل.
لقد ولّى زمن ازدهارهم وثروتهم، وقد جاءت الآن أيام نحوستهم بسبب أعمالهم.
قد حصل من قبلُ التقدم لاهتمامهم بالدين، وإن عاود ذلك فبالطريق نفسه يحصل.
يا ربِّ، متى سيعود وقت نصرتك، ومتى سنرى تلك الأيام والأعوام المباركة مرة أخرى؟
إن كثرة أعداء الدين وقلة أنصاره همّان قد أذابا قلبي.
تعال يا ربِّ سريعا وأنزلْ علينا أمطار نصرتك، وإلا فارفعني يا ربِّ من هذه الدار المُستعرة.
يا ربِّ أَشرِقْ علينا نورا من مطلع الرحمة، وأنِرْ عيون الضالين بآيات بيِّنات.
ما دمتَ قد رزقتَني الصدق في الحرقة، فلا أخال أنك ستُميتُني خائبا في هذه الحالة.
إن مهمة الصادقين لا تبقى غير مكتملة مطلقا، فأكمامهم تخفي يد الله تعالى.
إعلان عام لإعلام المعترضين
أنوي أن أجمع في كتاب - بتسلسل رقمي - جميع الاعتراضات التي يوجهها أصحابُ الأديان المختلفة وأصحاب الآراء المتباينة إلى الإسلام أو تعليم القرآن الكريم أو ضد سيدنا ومولانا رسول الله ، وأيضا مطاعنهم في أموري الشخصية وما تكنّه قلوبهم من الشبهات والوساوس عن إلهاماتي وادّعاءاتي المبنية على الإلهامات؛ ثم أرد على كل اعتراض وسؤال حسب الترتيب المذكور. فأوجّه هذا الإعلان مخاطبا جميع المسيحيين والهندوس والآريين واليهود والمجوس والملاحدة والبراهمة وعلماء الطبيعة والفلاسفة والمسلمين الذين يخالفوننا الرأي، وأقول: كل مَن كان لديه اعتراض على الإسلام أو القرآن الكريم أو على سيدنا ومولانا ومقتدانا خير الرسل أو لديه اعتراض عليّ أو على المنصب الذي وهبنيه الله أو عن إلهاماتي، فمن واجبه إذا كان باحثا عن الحق فعلا، أن يكتب اعتراضه بخط واضح ويرسله إليّ حتى تُجمع الاعتراضات كلها معًا وتُنشر في مجلة حسب ترتيبها الرقمي، ثم يُردّ عليها بالتفصيل واحدا بعد الآخر.
والسلام على من اتبع الهدى
الـــمــــعــــــلـــــــــن
ميرزا غلام أحمد من قاديان، محافظة غورداسبور (البنجاب)
10 جمادى الثانية 1308 للهجرة
الإعلان
لقد أُلِّف كتيِّبان آخران مع هذا الكتيب، وهما في الحقيقة جزءان لهذا الكُتيب. وعنوان هذا الكتيب: فتح الإسلام، وعنوان الثاني: توضيح المرام، وعنوان الثالث: إزالة الأوهام.
الـمـعـلـن
ميرزا غلام أحمد من قاديان
صورة غلاف الطبعة الأولى لهذا الكتاب
ترجمة صفحة الغلاف للطبعة الأولى
الجزء الثاني من كتيب "فتح الإسلام"، من سلسلة تأليفات مجدد العصر ومسيح الزمان ميرزا غلام أحمد زعيم قاديان، وعنوانه:
توضيح المرام
(تعريب بيتين إلهاميين بالأردو)
لماذا ترتابون في الإيمان بهذا المسيح وقد بيّن الله ذاتُه مُماثلتَه للمسيح الأول
فأنتم أيضًا تخاطبون الطبيب الماهر بهذا، حتى إنكم تسمّون الجميلَ مسيحًا
******************************
طُبع تحت إشراف شيخ نور أحمد صاحب مطبعة "رياض الهند"
الإعـــــــــلان
بعد هذا الكتيب، وخلال بضعة أيام؛ سيكون جاهزًا بمشيئة الله
كتيب آخر للطبع وعنوانه: "إزالة الأوهام"
وهو الجزء الثالث لكتيب "فتح الإسلام".
الـمـعـلـن
ميرزا غلام أحمد عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والسلام على عباده الذين اصطفى
بعثة المسيح الثانية إلى الدنيا
يعتقد المسلمون والمسيحيون بشيء من الاختلاف أن المسيح بن مريم قد رُفع إلى السماء بجسده المادي، وسينـزل من السماء في وقت من الأوقات. ولقد سبق أن بيّنتُ خطأ هذا الاعتقاد في هذا الكتيب، وبيّنت أيضا أن المراد من النـزول ليس نزول المسيح بن مريم في الحقيقة، بل قد أُنبئ على سبيل المجاز والاستعارة بمجيء مثيل المسيح وأنا مصداقه وفق إعلام من الله وإلهامه.
وإنني أعلم يقينا أن أقلاما كثيرة ستتحرك في المعارضة بعد نشر عقيدتي هذه التي ثُبِّتُّ عليها ببيِّنات الإلهام، وستقوم في العوام ضجة كبيرة ملؤها الاستغراب والإنكار. كنت أنوي بالفعل أن أتجنّب الإسهاب في هذا الموضوع، وأن أُقدِّم لدحض الاعتراضات حين ظهورها أدلةً مفصلة بحسب أفكار المعترضين في حينها. ولكني أرى في هذه الفكرة عيبا؛ وهو أن التقصير في الكتابة من جانبي قد يقود عامة الناس أيضا - دع عنك خواص المسلمين أيْ بعض مشايخهم - إلى النهوض لرفض كلامي دون مبرر، وذلك لقصور فهمهم الذي صار جزءًا لا يتجزء منهم نتيجة حالتهم المتردية، وأيضا بسبب تأثُّرهم بفكرة بالية، ولتحيُّزهم إلى إثبات صدق دعواهم. وإن ادّعاءهم مقابلي سيشكِّل عليهم حجابا غليظا يتعذر بل يستحيل عليهم الخروج منه والتراجُع عن رأيهم بعد ترويجه، لأن ما يلاحَظ دائما هو أنه عندما يعلن شيخٌ ما رأيه على الملأ ويعدُّه قرارا نهائيا؛ فإنه يرى التراجع عنه أسوأ من الموت. لذا أردت لوجه الله، ورحمةً بهم - قبل أن يتورطوا في بلاء التعنُّت والتعصُّب بمواجهتهم لي - أن أُفهِّمهم بوضوح وبأدلة قاطعة؛ بما يطمَئن به العاقل والعادل والباحث عن الحق. وإذا مسّت الحاجة لتحرير شيء فيما بعد، فقد يكون للبسطاء والبليدين للغاية فقط الذين ليس لديهم أدنى إلمام بالاستعارات والمصطلحات والتأويلات الدقيقة المستخدمة في الكتب السماوية، بل لم يمسّوها، وهم تحت النفي الوارد في: لَّا يَمَسُّهُ.
أولا أريد القول بغية التوضيح: إن هناك نبيَّين اثنينِ يُظَنُّ أنهما صعدا إلى السماء بالجسد المادي بناء على ما ورد في الكتاب المقدس والأحاديث الشريفة وكتب الآثار. أحدهما هو يوحنا الذي يسمَّى إيليا وإدريس أيضا، والثاني هو المسيح ابن مريم الذي يُسمَّى أيضا عيسى ويسوع. تقول بعض الأسفار في العهدَين القديم والجديد عن هذين النبيَّينِ إنهما رُفعا إلى السماء وسينـزلان إلى الأرض في عصر من العصور، وسترونهما نازلَين من السماء. وإن كلمات مشابهة نوعا ما لما ورد في هذين الكتابينِ؛ موجودةٌ في الأحاديث النبوية الشريفة أيضا. ولقد صدر القرار في الإنجيل في نزول إدريس - الذي أُطلق عليه في الكتاب المقدس اسم يوحنا وإيليا أيضا- من السماء؛ بأنه قد تحقق بولادة يحيى بن زكريا. فقد قال عنه المسيح بكلمات واضحة: "وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ". إذن، فقد صدر القرار في محكمة نبيٍّ في قضيةِ صاعدٍ إلى السماء ونازلٍ منها في وقت من الأوقات - أي قضية يوحنا - وتبيَّنت حقيقة النـزول الثاني وكيفيته. فلا بد أن يكون للمسيحيين كلهم اعتقاد متفَق عليه، بحسب ما ورد في الإنجيل، أن إيليا الذي كان يُنتظر نزوله من السماء؛ قد نزل منها في زمن المسيح إذ وُلد في بيت زكريا ولدٌ اسمه يحيى، بالطبيعة والصفات نفسها. أما اليهود فما زالوا ينتظرون نزوله ويقولون إنه سينـزل من السماء حقيقةً. فأولا؛ سينـزل على منارات بيت المقدس، ثم يقوم اليهودُ مجتمعين بإنزاله من هناك بواسطة السلَّم. وعندما يقدَّم أمام اليهود تفسيرٌ قاله المسيح عن نزول يوحنا؛ يستشيطون غضبا من فورهم ويشرعون في التفوه بكلمات نابية بحق المسيح وبحق يحيى عليهما السلام أيضا، ويَعُدّون كلامه إلحادا.
على أية حال، لقد ظهرت حقيقة كلمة "النـزول" القابلة للتفسير، من خلال بيان المسيح ، وبُتّ في قضية نزول يوحنا من السماء وتبيّنتْ حقيقة نزوله. أما المسيح فلا يزال الناس يؤكدون على نزوله المادي بكل شدة وحماس ويقولون إنه سينـزل من السماء في صحبة الملائكة لابسا لباسا فاخرا[11] وحُلّة مَلكية من أقمشة ثمينة جدا. ولكن لم تتفق هاتان الأمتان على مكان نزوله، هل سينـزل في مكة المعظمة أو في كنيسة في لندن أو في كنيسة ملكية في موسكو؟
لو لم يتعصب المسيحيون لتقليد الأفكار القديمة لاستطاعوا أن يفهموا بسهولة أكثر من المسلمين أنه يجب أن يكون نزول المسيح حسب الشرح الذي بيّنه بجلاء تام كلام المسيح نفسه، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يُحمَل أمران صنوان على معنيين متناقضينِ. وحريّ بأهل الرأي السديد أن يتدبروا في أنه إذا كان التفسير الذي قام به المسيح لنـزول يوحنا من السماء صحيحا فعلا، أفلا ينبغي أن يُطبَّق التفسير نفسه على قضية نزول المسيح التي تشبه تماما القضية التي سبقتها؟ فما دام المسيح قد أماطَ اللثام عن حقيقة سرٍّ مكنون، وقانونُ الطبيعة أيضا يقتضي الأمر نفسه ويؤكد على المبدأ نفسه؛ فهل يُعقلُ في هذه الحال أن نترك صراطا مستقيما ونحفر من عند أنفسنا طريقا معوجا ومحط اعتراض؟ هل لضمير أهل العلم والإيمان - الذي يدعمه بيان المسيح بكل قوة - أن يتجه اتجاهًا آخر؟ ولقد سبق أن نشر المسيحيون قبل عشرة أعوام في الجرائد الإنجليزية نبوءتهم أن المسيح سينـزل من السماء في غضون ثلاثة أعوام. أما الآن وقد أظهر الله تعالى آيةً تأييدا للصادق؛ يتحتم عليهم أن يكونوا أول المؤمنين حتى لا يُعَدُّوا مكذِّبي نبوءتهم بأنفسهم.
المسيحيون يعتقدون أيضا أن المسيح دخل الجنة بعد الرفع. ففي إنجيل لوقا يُطمئن المسيحُ لصًّا ويقول: "إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ"[12]. ومن معتقدات المسيحيين المتفق عليها أنه لن يُخرَج أحدٌ من الجنة بعد أن يدخلها، مهما تدنّت درجته. وهذا ما يعتقد به المسلمون أيضا؛ إذ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ[13]، أيْ أن الذين يدخلون الجنة لن يُخرَجوا منها، علما أن القرآن الكريم لا يصرح بدخول المسيحِ الجنةَ، ولكن وفاته مذكورة في ثلاثة أماكن فيه[14]. والحق أن وفاة العباد الأطهار ودخولهم الجنة في حكم واحد، لأنهم يدخلون الجنة فورا حسب مفهوم الآية: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ[15] ووَادْخُلِيْ جَنَّتِيْ[16]. والآن يجب على المسلمين والمسيحيين أن يفكروا جيدا؛ هل يمكن أن يُخرج عبد مقرَّب عند الله مثل المسيح من الجنة بعد أن يدخلها؟ ألا يستلزم ذلك إخلاف وعد الله الوارد في جميع كتبه المقدسة بالتواتر والصراحة بأن الذين يدخلون الجنة لا يُخرجون منها. ألا يُحدث نقضُ هذا الوعد الكبير والقاطع زلزالا شديدا في كافة وعود الله تعالى؟
اعلموا يقينا أنكم باعتقادكم هذا لا تجلبون مصيبة كبيرة لا مبرر لها للمسيح فقط، بل تحطّون أيضا من شأن الله، وترتكبون إساءة شديدة في حقه تعالى بسبب هذه الأفكار العبثية. عليكم أن تنظروا إلى هذا الأمر بعين التدبر والإمعان، فالحقائق الدينية العظيمة تفلتُ من أيديكم نتيجة معتقد سخيف مع أن سبيل الاستعارة والمجاز مفتوح أمامكم للتخلص منه. والحق أن هذا الاعتقاد فاسد وتصحبه آلاف التعقيدات والمثالب، ويتيح للمعارضين فرصةً للاستهزاء والسخرية. لقد ذكرت من قبل أيضا أن كفار مكة طلبوا من سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء المعجزة نفسها؛ أن يصعد إلى السماء أمام أعينهم وينـزل منها بين ظهرانيهم، ولكنهم تلقوا ردًّا: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي أي أن الله تعالى أعظم وأسمى شأنا من أن يُري في دار الابتلاء هذه مثل هذه الخوارق البينة ويضيع الحكمة من الإيمان بالغيب.
أقول: إن الأمر الذي لم يُعتبَر جائزا للنبي الذي كان أفضل الأنبياء، بل عُدَّ خارج سنة الله، كيف يجوز للمسيح ؟ فمن الإساءة الشديدة أن نستبعد كمالا بحق النبي ثم نقبل إمكانية الكمال نفسه بحق المسيح . هل يسع مسلما أن يرتكب إساءة كهذه؟ كلا، ثم كلا.
والجدير بالذكر أيضا أن الفكرة المذكورة آنفا التي راجت بين المسلمين منذ فترة، لا يوجد لها أثر في كتبنا بصورة صحيحة، بل هي ناتجة عن فهم خاطئ لأحاديث النبي ، ثم أضيفت إليها هوامش كثيرة وزُيِّنت بالموضوعات التي لا أصل لها، وقد أُهملت جميع الأمور التي من شأنها أن تهدي إلى الغاية المنشودة. وفي ذلك حديث صريح وواضح قد أورده الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه روايةً عن أبي هريرة نصه: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم".
لقد بيّن النبي في هذا الحديث الشريف بوضوح أنه يجب ألا تفهموا من كلمة ابن مريم أن عيسى بن مريم نفسه سينـزل في الحقيقة، بل قد ذُكر هذا الاسم على سبيل الاستعارة. والحقيقة أن إمامكم سيُبعث منكم ومن قومكم حاملا صفات ابن مريم. إن أصحاب الأفكار البالية يستنتجون من هذا الحديث أنه حين ينـزل المسيح عيسى من السماء سينـزل مستقيلا من نبوتهِ، ولن تكون له أدنى علاقة مع الإنجيل، بل سينضم إلى الأمة المحمدية ويعمل بالقرآن الكريم، وسيصلي خمس صلوات وسيُدعَى مسلما، ولكنهم لا يوضِّحون لماذا سيواجه هذا الانحطاط؟
على أية حال، لقد قبل إخواننا المسلمون أن ابن مريم سيأتي عندئذ مسلمًا، ويُظهر كونه من الأمة المحمدية، ولن يذكر مطلقا نبوته التي كان مشرَّفا بها من قبل. هذه في الحقيقة هي الطامة الكبرى التي واجهها إخواننا نتيجة حمل الاستعارة على الظاهر، فاضطروا لحرمان نبيٍّ من نبوته. ولو قبلوا المعنى الصريح الذي يتبيَّن بكل وضوح من كلام النبي الطاهر ، وصّرح به سابقا المسيح عن النبي يوحنا؛ لتخَلَّصوا من هذه المشاكل العويصة كلها، ولما احتاجوا لإخراج روح المسيح من الجنة، ولما اضطروا لعزل نبي مقدس من منصب النبوة، ولما ارتكبوا انتقادًا مبطَّنًا في حق النبي ، ولما اضطروا للاعتراف بنسخ أحكام القرآن.
لعل العذر الأخير لدى إخواننا هو: كيف يمكننا تطبيق بعض الكلمات التي وردت في الأحاديث الصحيحة كعلامات للمسيح ؟ فقد ورد على سبيل المثال أن المسيح بعد نزوله سيكسر الصليب ويضع الجزية ويقتل الخنـزير، وسيأتي عند رواج صفات اليهود والنصارى السيئة بين المسلمين.
أقول: ليس المراد من كسر الصليبِ القتالُ الظاهريُّ، بل المراد هو كسر الديانة الصليبية روحانيا وإثبات بطلانها. والمراد من وضع الجزية واضح بيّن؛ ففي ذلك إشارة إلى أن القلوب في تلك الأيام تنجذب إلى الصدق والحق تلقائيا دون الحاجة لأي قتال. وستهُبُّ الرياح تلقائيا فيدخل الناس في الإسلام أفواجا.
إذن، عندما يُفتح باب الدخول في الإسلام على مصراعيه وينضم إليه عالَـمٌ بأسره، فممن ستُوخَذ الجزية؟ ولكن لن يحدث كل ذلك دفعة واحدة، غير أنه قد وُضع أساسه من الآن.
والمراد من قتل الخنـزير هو قتل مَن لديهم صفات الخنازير، وسيُغلَبون يومئذ بالحجة والبرهان، وسيقتلهم سيف الأدلة البيِّنة، وليس أن يخرج نبي مقدس إلى الفلوات ويتصيَّد فيها الخنازير.
فيا قومي الأعزاء، إنها استعارات كلها. والذين رزقهم الله فهما سليما من عنده سيفهمونها بكل سهولة، بل يفهمونها بذوقهم. إن مَثل حمل كلماتٍ فصيحة وبليغة على الحقيقة؛ كمَثل رسمِ حبيب وسيم بصورة الشيطان. الحق أن البلاغة كلها مبنية على الاستعارات الدقيقة، ولذلك فقد استخدم كلام الله الذي هو أبلغ الكلِم، هذا الأسلوب البليغ من الاستعارات بكثرة بحيث لا يوجد نظير هذا الأسلوب الدقيق في أي كلام آخر. إن حمل الاستعارات البليغة المستخدمة في القرآن الكريم على الحقيقة دائما، ليس إلا تشويها لهذا الكلام المبني على نظام معجز؛ فهذا الأسلوب لا يؤدي فقط إلى قلبِ الهدف الحقيقي من كلام الله البليغ رأسا على عقب، بل يقضي أيضا على البلاغة العظيمة الكامنة فيه. إن الأساليب المليحة والممتعة للتفسير هي تلك التي تراعي عظمةَ بلاغة المتكلم وأفكارَه الروحانية السامية أيضا، وليس أن يختلق المفسر من عنده معانيَ رديئة ومُقرفة للغاية وغير مناسبة تدخل في حُكم الهجو المليح، أو أن يَحصر كلام الله تعالى المقدس الذي يشمل الدقائق الطاهرة والدقيقة على بعض الكلمات البسيطة. لا أفهم لماذا تُفضَّل المعاني الغليظة والمقرفة والكريهة على الأسرار الدقيقة واللطيفة التي لا بد من وجودها في كلام الله تعالى؟ ولماذا لا تُعطَى الأهمية اللائقة للمعاني اللطيفة التي تطابق حكمة الله وعظمة كلامه؟ ولا أدري لماذا مُلئت رءوس علمائنا بتمرد غير مبرَّر وكأنهم لا يريدون أن يقربوا الحكمة الإلهية؟
لا شك أن الذين قاموا بأبحاث مضنية في هذا المجال لن يستنكروا بياني هذا بل سيستمتعون به، وسيطّلعون على حقيقة جديدة، وسيبيّنونها للقوم بكل شدة وحماس، ويفيدون الناس فائدة روحانية. أما الذين حصروا أفكارهم وعقولهم على نظرة سطحية فقط؛ فهم لا يستطيعون أن ينفعوا الإسلام بوجودهم بشيءٍ إلا أن يُثقلوا كفة اعتراضاتهم دون مبرر، ويثيروا ضجة من فراغ.
والآن أريد أن أبين أن هادينا ومولانا خاتَم المرسلين لم يكتف في بيان العلامات الفارقة بين المسيح الأول والمسيح الثاني بالقول بأن المسيح الثاني سيكون مسلما وسيعمل وفق شريعة القرآن الكريم، ويكون ملتزما بالصوم والصلاة وغيرهما من أوامر القرآن مثل بقية المسلمين، ويكون إماما لهم ولن يأتي بدين جديد ولن يدّعي نبوة جديدة؛ بل بيّن أيضا الفرق بين ملامح المسيح الأول والمسيح الثاني. فملامح المسيح الأول التي رآها النبي ليلة المعراج هي التالية: "فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْر." (صحيح البخاري، كتاب الأنبياء). وفي الكتاب نفسه ورد عن النبي أنه بيّن ملامح المسيح الثاني بأن شعره ليس جعدا بل قال: "رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعَرِ."
يجب أن نفكر الآن: ألا تؤكد هذه العلامات المميِّزة التي بيّنها النبي للمسيح الأول والمسيح الثاني بما فيه الكفاية على أنهما شخصان مختلفان؟ وأن تسميتهما باسم واحد استعارة لطيفة قد استُخدمت نظرا إلى المماثلة في طبيعتهما وصفاتهما الروحانية؟ والمعلوم أن شخصين صالحينِ يمكن أن يستحقا اسما واحدا للتشابه بين صفاتهما الباطنية، وكذلك يمكن أن يطلق اسمٌ واحد على شخصين سيئين بناء على اشتراكهما بالتساوي في صفة شرٍّ واحدة. المسلمون الذين يسمون أولادهم بأسماء: "أحمد" أو "موسى" أو "عيسى" أو "سليمان" أو "داود" وغيرها من الأسماء يفعلون ذلك تفاؤلا، ويهدفون من وراء ذلك أن يُنشِئ أولادُهم أيضا في أنفسهم ملامح هؤلاء المقدسين الروحانية وصفاتهم بصورة أتم وأكمل وكأنهم نسخة منتسخة منهم.
إن طُرح هنا اعتراض: أنه يجب أن يكون مثيل المسيح الناصري أيضا نبيا؛ لأن المسيح كان نبيا. فالجواب الأول على هذا الاعتراض هو أن سيدنا ومولانا لم يشترِط نبوة المسيح الآتي، بل قال صراحة إنه سيكون مسلما وملتزما بشريعة القرآن الكريم مثل بقية المسلمين، ولن يفعل شيئا أكثر من ذلك لإظهار إسلامه وكونه إمامَ المسلمين.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنني دون أدنى شكٍ قد جئت من الله تعالى، محدَّثا في هذه الأمة، والمحدَّث أيضا يكون نبيا من وجهٍ. ومع أن نبوته ليست تامة، لكن فيه جزء من النبوة لأنه يحظى بشرف مكالمة الله تعالى. وتُكشف عليه أمور غيبية، ويُنـزَّه وحيُه من تدخّل الشيطان مثل وحي بقية الرسل والأنبياء. ويُكشف عليه لبُّ الشريعة، ويأتي مأمورا مثل الأنبياء تماما. ويكون واجبا عليه مثل الأنبياء أن يُعلِن عن نفسه، وإن منكره يستوجب نوعا من العقاب؛ ولا معنى للنبوة إلا أن تتحقق فيها الأمور المذكورة آنفًا.
ولو قُدِّم عذرٌ أن باب النبوة مسدود، وأن الوحي الذي ينـزل على الأنبياء قد انقطع؛ لقلت: لم يُغلَق باب النبوة من كل الوجوه ولم ينقطع الوحي أيضا من كل نوع؛ بل إن باب الوحي والنبوة الجزئية مفتوح للأبد على هذه الأمة المرحومة. ولكن يجب الانتباه جيدا إلى أن النبوة التي بابها مفتوح إلى الأبد ليست نبوة تامة، بل كما قلت قبل قليل: إنها نبوة جزئية وتسمى بتعبير آخر "المحدَّثية" التي تُنال بالاقتداء بالإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع كمالات النبوة التامة؛ أي سيدنا ومولانا محمد المصطفى .
"فاعلم أرشدك الله أن النبي محدَّث والمحدَّث نبيٌّ؛ باعتبار المحدَّثية نوعا من أنواع النبوة[17]. وقد قال رسول الله : لم يبق من النبوة إلا المبشرات، أي لم يبق من أنواع النبوة إلا نوع واحد؛ وهي المبشرات من أقسام الرؤيا الصادقة والمكاشفات الصحيحة والوحي الذي ينـزل على خواص الأولياء، والنورُ الذي يتجلى على قلوب قوم موجَع. فانظر أيها الناقد البصير، أَيُفهَم من هذا سد باب النبوة على وجه كلّي؟ بل الحديث يدلّ على أن النبوة التامة الحاملة لوحي الشريعة قد انقطعت، ولكن النبوة التي ليس فيها إلا المبشرات فهي باقية إلى يوم القيامة، لا انقطاع لها أبدا. وقد علمتَ وقرأتَ في كتب الحديث أن الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءا من النبوة، أي من النبوة التامة. فلما كان للرؤيا نصيبا من هذه المرتبة، فكيف الكلام الذي يوحى من الله تعالى إلى قلوب المحدَّثين. فاعلم، أيدك الله، أن حاصل كلامنا أن أبواب النبوة الجزئية مفتوحة أبدا. وليس في هذا النوع إلا المبشرات أو المنذرات من الأمور المغيّبة أو اللطائف القرآنية والعلوم اللدنِّية. وأما النبوة التي هي تامة كاملة جامعة لجميع كمالات الوحي؛ فقد آمنا بانقطاعها من يوم نزل فيه: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[18]."
إذا طُرح سؤال: ما هي تلك الصفة والقوة الروحانية التي تشكِّل قاسما مشتركا بيني وبين المسيح بن مريم؟
فجوابه: إنها صفة جامعة أُودعتْ قوانا الروحانية بوجه خاص؛ جانب منها ينـزل إلى الأسفل وجانبها الثاني يصعد إلى الأعلى. والمراد من الجانب السفلي هو الحرقة والمواساة العظيمة لخلق الله التي توطد الصلة وتقوي العلاقة بين الداعي إلى الله وتلاميذه المتحمسين، فتنشر القوةَ النورانية - الموجودة في النفس الطيبة للداعي إلى الله - إلى جميع الأغصان الخضراء. والمراد من الجانب العلوي هو ذلك الحب العظيم والمرتبط بالإيمان القوي الذي يتولد في قلب العبد بمشيئة الله تعالى، ثم يجذب إلى نفسه حبَّ الرب القدير. وباجتماع هذين الحبَّينِ- واللذينِ هما في حُكم الذكر والأنثى- تتولد صلةٌ قوية بين الخالق والمخلوق، وكما تشتعل النار في الحطب، يشتعل حب المخلوق، بنار حب الله تعالى؛ وبذلك يتولّد شيء ثالث يسمّى روح القدس. والإنسان الذي يصل إلى هذه المرتبة؛ فإنه يُعتبر قد وُلد ولادةً روحانية حين يخلق الله تعالى فيه- بإرادته الخاصة- حبا من هذا النوع.
ليس في غير محله القولُ على سبيل الاستعارة، عن الحب الذي بلغَ هذا المبلغ، إن الروح المفعمة بحب الله تعالى تتسبب، بمشيئة الله ، في ولادة جديدة لروح الإنسان المليئة بالحب للمخلوق. ولهذا السبب تكون لهذه الروح المفعمة بالحب علاقة البنوة على سبيل الاستعارة مع روح الله التي تنفخ المحبة. ولأن روح القدس تتولد في قلب الإنسان نتيجة التقائهما؛ فيمكن القول بأنها بمنـزلة الابن لكليهما، وهذا هو الثالوث المقدس الذي لا بد منه في هذه الدرجة من الحب، وقد اتخذته الطبائع الخبيثة شركًا، واعتبروا مجرد ذرةٍ هالكة الذات، باطلة الحقيقة؛ شريكا لله الأعلى.
أما إذا طُرح هنا سؤال: إذا كانت هذه المرتبة مسَلَّم بها لي وللمسيح الناصري ؛ فأي مرتبةٍ بقيت لسيدنا ومولانا سيد الكل وأفضل الرسل خاتَم النبيين محمد المصطفى ؟ فليتضح في الجواب أنها المرتبة الأعلى والأسمى التي خُتمت على تلك الذات المقدسة الكاملة الصفات؛ ولا يسع أحد أن يدرك كيفيتها، دع عنك أن ينالها أحد سواه .
"سوى الرب الرحيم؛ من يستطيع استيعاب عظمة أحمد ، فقد محى نفسه حتى سقطت "الميم" من وسط اسمه
لقد فني في رفيقه الأعلى حتى صار وجوده كله صورة للرب الرحيم
إن شذى ذلك الحبيب الأزلي يفوح من وجهه الكريم، وإن ذاته مَظهرٌ لذات الله القديم
لا أرى كقلب أحمد من عرشٍ عظيم، وإن نسبوني إلى الإلحاد والضلال
الحمد والشكر أنني على عكس أهل الدنيا، أشري مئات الآلام طمعا في ذلك النبع من النعيم
بفضل الله تعالى ولطف تلك الذات المقدسة؛ أعادي الفرعونيين حبًّا بهذا الكليم
لو ظهرتْ عليَّ مرتبتُه ومكانته العظيمة لذكرتها حتما لو وجدتُ شخصا سليم الفطرة في هذا السبيل
في سبيل عشق محمد نفسي وروحي الفداء، تلك منيتي وهذا دعائي وعزمُ قلبي الصميمُ." [19]
لمعرفة المرتبة العظيمة للنبي لا بد من القول إن مراتب القرب والحب منقسمة إلى ثلاثة مراتب من حيث درجاتها الروحانية:
الدرجة الأولى والأدنى - وهي أيضا كبيرة في الحقيقة - هي أن تُسخِّن نارُ حب الله لوحَ قلب الإنسان، وقد تسخِّنه لدرجة أنه يمكن أن تصدر من المتأثَّر بعض الأعمال الخاصة بالنار، ومع ذلك يمكن أن تبقى فيه نقطة الضعف فلا ينشأ فيه بريقُ النار. فالحرارة التي تتولد في الروح بعد نزول جذوة حب الله على الحب البالغ هذا المبلغ؛ تسمّى السكينة والاطمئنان أحيانا، أو الملاك أحيانا أخرى.
المرتبة الثانية للحب هي تلك التي بيَّنتها آنفا، أي حين يجتمع كِلا النوعين من الحب، وتُسخِّن نارُ حبِّ الله لوحَ قلب الإنسان بحيث يتولد فيه نوع من البريق على غرار النار. ولكن لا ترافق هذا البريقَ قوةٌ على الاشتعال أو الالتهاب، وإنما هو بريق محض؛ ويسمى روح القدس.
المرتبة الثالثة للحب أن تقع الجذوة المشتعلة لحب الله على فتيل حب الإنسان القابل للاشتعال وتُشعله، فيستولي حبُّ الله على كيان الإنسان وكلِّ ذرة من ذراته، ويجعله مظهرا أتم وأكمل له . وفي هذه الحالة لا تَهَبُ نارُ حب الله لوحَ قلب الإنسان بريقا فحسب، بل يشتعل وجوده كله على إثر هذا البريق، وتنوِّر ألسنةُ النار ولهيبُها الجوَّ المحيطَ بها كوضح النهار دون أن يبقى للظلام أي أثر، بل ويصبح الوجود كله نارا تماما مع جميع صفاتها الكاملة. وهذه الحالة التي تتولد بصورة النار المشتعلة نتيجة وصال النوعين من الحب تسمى "الروح الأمين"، لأنها توفر الأمن من كل ظلمة، وهي بريئة من كل شائبة، وتسمى "شديد القوى" أيضا، لأن تلك القوة العظيمة هي الوحي الذي لا يُتصور وحيٌ أقوى منه، وتسمَّى "الأفق الأعلى" أيضا. ذلك لأنه التجلي الأعظم لوحي الله تعالى الذي يسمى باسم: "رأى ما رأى" لأن تقدير هذه الحالة يفوق تصور المخلوقات وأفكارهم جميعا. وهذه الحالة قد حظي بها شخص واحد في الدنيا، أي الإنسان الكامل الذي اكتملت عليه سلسلة البشرية كلها، وبلغت حلقة القدرات البشرية فيه أوج كمالها. والحق أنه هو النقطة الأخيرة في الجانب الأعلى لسلسلة خلق الله، والمنتهى لكافة مراتب الارتقاء. إن حكمة الله تعالى بدأت سلسلة الخلق من الأدنى والأسفل على الإطلاق، وأوصلتها إلى النقطة الأعلى على الإطلاق، والتي تسمَّى بتعبير آخر "محمدًا "، الذي حُمِّد كثيرا؛ أي هو مظهر الكمالات التامة. فكما حظي ذلك النبي بالمكانة الأعلى والأرفع فطرةً، كذلك وُهبت له المرتبة الأعلى والأرفع خارجيا من حيث الوحي أيضا، وحظي بالمرتبة الأعلى والأرفع من الحب أيضا. هذه هي المرتبة العليا التي لم يصلها المسيح ولا أستطيع أنا الوصول إليها، وتسمى: مقام الجمع ومقام الوحدة التامة. إن الأنبياء السابقين الذين بشروا بمجيء النبي قد فعلوا ذلك بناء على هذه العلامة، وأشاروا إلى هذه المرتبة. فكما يمكن- على سبيل الاستعارة- إطلاق مقام البنوة على مرتبتي أنا ومرتبة المسيح ، كذلك إن مرتبة النبي هي من العلو والرفعة بحيث أنّ الأنبياء السابقون قد ذكروا - على سبيل الاستعارة - ظهور صاحب هذه المرتبة على أنه ظهور الله، وعَدُّوا مجيئه مجيء الله. وفي هذا ضرب المسيح مثَل الكرّامين؛ وهو أن صاحب الكَرْم أرسل في البداية عبيده ليأخذوا الثمار، أي أرسل مقرَّبيه الحائزين على المرتبة الأولى عنده، والمراد منهم هو جميع الصلحاء الذين كانوا في زمن المسيح وفي قرنه ولكنهم أتوا قبله بقليل. وعندما رفض الكرّامون إعطاء الثمار، أرسل صاحبُ الكَرْم ابنَه إليهم مؤكِّدا، لكي يعطوه الثمار كونه ابنا له. والمراد من ذلك الابن هو المسيح نفسه الذي يحتل المرتبة الثانية من القرب والحب. ولكن الكرّامين لم يعطوه أيضا الثمار بل قتلوه في زعمهم. ثم يقول المسيح إن صاحب الكَرْم سيأتي الآن بنفسه، أي سيأتي الله تعالى بنفسه ليهلك الكَرَّامين ويعطي الكَرْم لكرّامين يسلِّمون الثمار في حينها.
المراد من مجيء الله هنا هو مجيء النبي الذي يحتل المرتبة الثالثة من القرب والحب[20]. إنها مراتبٌ روحانية كلها، وقد ذُكرت على سبيل الاستعارة بكلمات مناسبة حسب مقتضى الحال. وليس المراد هنا البنوةُ الحقيقية ولا الألوهية الحقيقة.
ليس في غير محله القول هنا بأن ما فسرتُ به "روح القدس" أو "الروح الأمين" وغيرها؛ لا يناقض معتقدات المسلمين عن الملائكة بشيء، لأن الباحثين المسلمين لا يعتقدون قط أن الملائكة ينـزلون إلى الأرض بوجودهم الظاهري مشيا على الأقدام مثل الناس، إذ إن هذه الفكرة باطلة بالبداهة، لأنه لو كان ضروريا أن ينـزل الملائكة إلى الأرض بوجودٍ ظاهريٍّ لإنجاز مهماتهم الموكولة إليهم، لاستحال عليهم إنجازها على الإطلاق. فمثلا: إن ملاك الموت - الذي يقبض في ثانية واحدة أرواح آلاف الناس الساكنين على بُعد آلاف الأميال عن بعضهم بعضا في مختلف البلاد والأمصار - لو اضطر للذهاب مشيا على الأقدام إلى بلدِ كل واحد ودخول مدينته ثم بيته لقبض الأرواح متكبدا كل هذه المشقة؛ لما كفَتْه عدة شهور أيضا دع عنك الثواني. ثم هل يُعقل أن يتحرك أحد على غرار الإنسان ويكمل جولته في العالم كله في لمح البصر أو أقل من ذلك؟ كلا، بل الملائكة لا يتنحّون قيد شعرة عن مقاماتهم التي حددها الله لهم في القرآن الكريم بقوله: وَمَا مِنَّا إِلاّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (الصافات: 165-166)
فكما أن الشمس تبقى في مدارها ولكن حرّها وضوءها ينتشران على الأرض ويفيدان كل شيء على وجه البسيطة بحسب خواصهما، كذلك تكون الكيانات السماوية؛ سواء أسميناها النفوس الفلكية حسب تصور اليونانيين أو أرواح الكواكب بحسب مصطلح "أفستا" و"الفيدا"، أو سميناها "ملائكة الله" بكل بساطة على غرار الموحِّدين[21]. والحق أن هذا المخلوق الغريب مستقر في مكانه وعاكف على إيصال كل شيء في الأرض إلى كماله المطلوب بحكمة الله الكاملة، فيقوم بالخدمات الظاهرية والباطنية أيضا. كما أن للشمس والقمر والكواكب الأخرى تأثيرا في أجسامنا وقوانا الظاهرية، كذلك تؤثر الملائكة في قلوبنا وأذهاننا وكافة قوانا الروحانية تأثيرات مختلفة بحسب مواهبنا. كل ما يملك قدرة على التحول إلى شيء ذي بال، سواء أكان ترابا أو قطرة ماء في المحار أو النطفة التي تُقذف في الرحم؛ تتحول بتربية ملائكة الله الروحانية إلى لَعْلٍ أو ألماسٍ أو ياقوتٍ أو لؤلؤة لامعةٍ من الجواهر الثمينة، أو يصبح إنسانا صاحب ذهن وقلب ذي صفات عظيمة.
"الأفستا" الذي يعتبره المجوس كتابا موحَى به، يدَّعي أنه أوحي به في العصور الغابرة السحيقة وسبق "الفيدا" ببلايين السنين، ويقال إن تاريخ الفيدا يعود إلى مليار و 196 مليون عاما، أما الأفستا فيدّعي بكونه أقدم من ثلاثة تريليون عاما. ولقد كتبنا هذا متوخين الحذر الشديد بينما يدّعي "الأفستا" أن تاريخه لا يعود إلى ثلاثة تريليون عاما بل ثلاث مئة تريلون عاما. إن هذا الكتاب لا يعتبر هذه الكيانات الروحانية التي تتعلق بالكواكب والسماوات ملائكةً فقط، بل يؤكد على عبادتها أيضا. كذلك إن الفيدا أيضا لا يعتبر هذه الكيانات الروحانية وسائط وخداما فقط، بل يُبرزها ويمدحها في عدة أماكن ويحضّ على طلب الدعاء منها. ومن الممكن أن تكون بعض التعاليم المحتوية على الكفر قد أضيفت بالتحريف إلى تلك الكتب وأُلحقت بها كما في الفيدا.
وإضافة إلى ذلك هناك تعاليم أخرى كثيرة من هذا القبيل لا مبرر لها. ومما ورد فيها أنه ليس لهذا الكون خالق وأن كل شيء أزلي وخالق نفسه من حيث مادته وروحه. وهناك تعليمٌ بأنه لا يستطيع أحد في وقت من الأوقات التخلص من دوامة التناسخ النحسة مطلقًا، وتعليمٌ بأن المرأة المتزوجة تستطيع أن تضاجع شخصا آخر بُغية الحصول على الذكور من الأولاد في حالة عدم وجودهم لديها. وتعليمٌ بأن كبار المقدسين أيضا لا يستطيعون نيل النجاة الأبدية وإن كانوا كبار علماء الفيدا الذين نزلت عليهم الفيدات الأربعة، ولا يستحقون أن يُذكروا بالاحترام، بل يمكن أن يتحولوا، أو بالأحرى أنهم قد تحوّلوا، إلى أشياء أخرى كالدواب، بعد مرورهم المتكرر بدوامة التناسخ. ويزعم المعتقدون بالتناسخ أن الإنسان، وإن كان يحتل مرتبة أعلى من علماء الفيدات أو أنبيائها؛ يمكن له بل من الضروري حسب قانون الطبيعة أن يتولد ولادة جديدة في حين من الأحيان بصورة حشرة سخيفة أو دابة مقرفة أو خلق حقير آخر.
هذه كلها تعاليم باطلة اختلقتها أفكار الإنسان السخيفة. والذين أجازوا هذه الأمور الوقيحة والانحرافات البعيدة عن العز والشرف لكبارهم ومرشديهم؛ أجازوا أيضا دعاء أرواح الكواكب وعبادتها كعبادة الله. أما القرآن الذي يفتح سبل التوحيد والتحضر بكل معنى الكلمة لم يسمح قط أن يُعبد مع الله خلقٌ آخر، أو أن يكون إيمان المرء بقدرات الله على الربوبية ناقصا، أو أن لا يعتبره مبدأً ومصدرًا لكل شيء، أو أن يُدخل الإنسان بعض الأمور الوقحة في أساليب عيشه.
أعود إلى ذكر الملائكة وأقول إن القرآن الكريم قد تناول ذكرهم بأسلوب سلس وواضح بحيث لا يسع الإنسان إلا قبوله. والتعمق في القرآن الكريم يبين أن هناك حاجة ماسة إلى الوسائط لتربية جميع كائنات الأرض ظاهريًا وباطنيًا. ويتبين بصراحة تامة من بعض الإشارات الواردة في القرآن الكريم أن بعض الأرواح الطيبة التي تسمّى ملائكة، لها علاقات مختلفة مع طبقات السماء؛ فبعضهم يتحكمون في الرياح بحكم تأثيرهم الخاص بها، وبعضهم يتحكمون في الأمطار، وبعضهم يُلقون على الأرض تأثيرات أخرى.
فلا بد أن تكون لتلك الأرواح الطيبة علاقة - بحكم علاقتها مع النور - مع الأجرام المضيئة والنورانية التي في السماء. ولكن يجب ألا تُعتبَر تلك العلاقة كما لكل كائن حي على وجه الأرض روحٌ. بل إن لتلك النفوس الطيبة - بسبب نورها وضيائها الروحاني - علاقة مجهولة الكنه مع الأجرام المضيئة. وإن طبيعة تلك العلاقة هي أنه لو افترضنا انفصال تلك النفوس الطيبة عن النجوم لوقع الخلل في جميع قواها. والمعلوم أن جميع الأجرام مسخَّرَة لأعمالها بالقوة الكامنة بيد تلك النفوس. كما أن الله تعالى كالروح للعالَم كله (ليس المراد هنا التشبيه الكامل) كذلك إن هذه النفوس النورانية بمنـزلة الروح للكواكب. وإذا حدث الانفصال بينها، فلا بد من حدوث فساد كبير في كيفية وجودها أصلا. لم يختلف أحد إلى يومنا هذا في أن كل النجوم والكواكب في السماء تعمل دائما على تربية كائنات الأرض وتكميلها.
وإنها حقيقة ثابتة ومتحققة تماما أن الكواكب السماوية تؤثر ليل نهار في كافة النباتات والجمادات والحيوانات، حتى إن الفلاح الغافل والساذج أيضا يوقن أن لضوء القمر على الأقل تأثيرا حتميا في إنعاش الفواكه وزيادة نموّها، وأن لحرارة الشمس تأثيرا في نضجها وحلاوة مذاقها، وأن لبعض الرياح تأثيرا حتميا في كثرة الثمار. فما دامت سلسلة الكون الظاهرية تتربى وتتأثر بتأثيرات تلك الأشياء؛ فأي شك في أن تؤثر النفوس النورانية بإذن ربها في السلسلة الباطنية أيضا، التي لها علاقة قوية مع الأجرام المضيئة كعلاقة الروح بالجسد.
ليكن معلوما أيضا أنه قد يبدو من سوء الأدب ظاهريا الاعتبار أن هناك واسطة بين الله وأنبيائه الأطهار لإفاضة أنوار الوحي، ولكن يمكن أن يُفهم جيدا بشيء من التدبر أن ذلك ليس سوء أدبٍ قط، بل هو مطابق تماما لقانون الطبيعة العام المشهود والملحوظ بكل وضوح في كل شيء في الدنيا. فإننا نرى أن الأنبياء عليهم السلام؛ أيضا محتاجون لهذه الوسائط من حيث أجسامهم المادية وقواهم الظاهرية. وإن عيون الأنبياء أيضا، مهما كانت نورانية ومباركة، لكن ليس بمقدورها أن ترى شيئا - كما عيون عامة الناس - بغير واسطة ضوء الشمس أو ما يقوم مقامه، ولا يستطيعون أن يسمعوا شيئا بغير واسطة الهواء. لذا لا بد من القبول أيضا أن روحانية الأنبياء تتأثر حتما، بل تتأثر أكثر من غيرهم بالنفوس النورانية التي في الكواكب، لأنه كلما كان الاستعداد لاستقبال التأثير أصفى وأكمل؛ كان التأثير أصفى وأكمل. ويتبين من القرآن الكريم أيضا أن للكواكب والنجوم روحا حسب قوالبها، ويمكن تسميتها بنفوس الكواكب أيضا. وكما توجد في الكواكب والنجوم، بحسب قوالبها الظاهرية، خواص مختلفة تؤثر في كل شيء في الأرض حسب الكفاءة، كذلك في نفوسها النورانية أيضا خواص مختلفة الأنواع والأقسام تؤثر بإذن الله الحكيم العليم في بواطن كائنات الأرض. وهذه النفوس النورانية تظهر على العباد الكُمّل متجسدةً بأجساد وتُرَى متمثلةً في صورة بشر.
وليكن معلوما أيضا أن هذا الكلام ليس من قبيل الخطاب البحت، بل يشمل حقيقة لا بد لطالب الحق والحكمة من قبولها؛ لأننا قد قبلنا أن الأجرام السماوية تربي الأجسام الأرضية حتما، وكلما أمعنّا النظر في الأجسام الأرضية من حيث الاستقراء نرى أمارات هذه التربية في كل شيء بالبداهة، سواء كان من النباتات أو الجمادات أو من الحيوانات. فنحن مضطرون للقبول بناء على التجربة الصريحة أن لهذه النفوس النورانية علاقة بتقدم سلسلة الكمالات الروحانية وتنوير القلب والذهن. وبسبب هذه العلاقة؛ جعلت الشريعة الغراء واسطة الملائكة بين الله ورسله - على سبيل الاستعارة- ضرورية. وقد عُدّ الإيمان بها من واجبات الدين. والذين لم يفهموا هذه الحقيقة لجهلهم البغيض مثل الآريين والبراهمو؛ اعترضوا، للؤمهم غير المبرر وبغضهم الذي مُلئت به قلوبهم، على تعليم القرآن الكريم قائلين بأنه يعُدُّ واسطة الملائكة بين الله ورسله ضرورية. ولكنهم لم يفهموا حقيقة أن قانون الله تعالى عن التربية الجاري على وجه الأرض؛ مبني على المبدأ نفسه. ألم يكن كبار علماء الهندوس الذين نزلت عليهم الفيدات الأربعة - بحسب قول الهندوس- محتاجين إلى تأثيرات الأجرام السماوية لسلامة قواهم الجسدية؟ هل كانوا قادرين على الرؤية بعيونهم وحدها دون الحاجة إلى ضوء الشمس؟ أو هل كانوا قادرين على سماع صوتٍ بغير وجود الهواء؟ لا شك أن الجواب بالبداهة هو: كلا، بل كانوا حتمًا محتاجين جدا إلى تأثير الأجرام السماوية. ثم متى وأين أنكرت فيدات الهندوس الملائكة؟ بل الحق أنها بالغت كثيرا في الاعتراف بهذه الوسائط وتقديرها، حتى اعتبرت مرتبتها تضاهئ مكانة الله تعالى. فانظروا إلى "ريغ فيدا" مثلا؛ لتعرفوا كم جاء فيه التأكيد على عبادة الأجرام السماوية، وكيف سُوِّدت أوراقٌ كثيرة في مدحها والثناء عليها، وكيف قُدّمت لها بالتضرع والابتهال الأدعيةُ التي ما استُجيبت. ولكن شريعة القرآن لم تفعل ذلك، بل ذكرت النفوس النورانية، المرتبطة بالأجرام السماوية ارتباط الروح بالجسم، باسم الملائكة أو الجِنة. ولم تعتبر الملائكة النورانيين - الذين لهم مكانة خاصة في الكواكب والنجوم - واسطة بينه وبين رسله لدرجة اعتبار الملائكة قادرين ومخوَّلين، بل بيّن قدراتهم مقابله كالميت في يد الحيّ؛ يستخدمه الحي كما يشاء. لذا فقد أُطلق في بعض الأماكن من القرآن الكريم على كل ذرة من الأجسام أيضا اسم الملائكة؛ لأن كل تلك الذرات تسمع لربها الكريم وتفعل ما تؤمَر. فمثلا إن المواد التي تُحدث التغييرات في جسم الإنسان باتجاه الصحة أو العِلَّة، فإن كل ذرة من تلك المواد تتقدم أو تتأخر بحسب مشيئة الله.
والآن يجب التدبر جيدا: هل الإيمانُ بالوسائط المذكورة في القرآن الكريم يستلزم أي نوع من الشرك؟ أو هل يقع أيّ خلل في قدرة الله وعظمته؟ بل الحق أنها أسرار المعرفة ودقائق الحكمة التي تلاحَظ في كل صفحة من صفحات قانون الطبيعة، وبدون هذا النظام لا تثبت قدرة الله الكاملة، ولا يمكن أن تعمل الألوهية على ما يرام. وكيف يمكن أن يجري الكون كله بحسب مشيئة الله ما لم تُظهر كل ذرة انقيادها التام له كالملائكة؟ هل لأحد أن يوضّح لي ذلك؟ وإذا كان النظام الروحاني لملائكة السماء يعيب شيئا في قدرة الله تعالى، فكيف لا يَطْعَنُ في قدرة الله الكاملة ذلك الإيمانُ بنظام الملائكة المادي الذي يشبه النظام الروحاني تماما؟ بل الحق أن معارضينا بمن فيهم الآريا وغيرهم قد أثاروا - لقلة بصيرتهم - اعتراضات لا أصل لها من الصحة، وإن أساسها موجود في معتقداتهم مع عقائد إشراكية كثيرة. فقد عدُّوا - لفقدان بصيرتهم - الحق الصراح باطلا بغير حق. كما يقول بيت- بالفارسية- ما تعريبه:
لتُفقأ عينٌ سيئة الرؤية؛ إذ لا عمل لها إلا البحث عن العيوب
فليكن معلوما أيضا أن مرتبة الملائكة بحسب الشرع الإسلامي ليست أعلى من خواصّ البشر، بل إن الخواصّ من البشر أفضل من خواصّ الملائكة. وكونهم الوسائط في النظام المادي أو النظام الروحي لا يدل على أفضليتهم، بل هم مسخَّرون للخدمة كالخَدَم حسب القرآن الكريم. إذ يقول جلّ شأنه: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ[22]. أي لقد سخّر الله تعالى الشمس والقمر لخدمتكم. فمثلا إذا كان ساعي البريد، المكلَّف من قِبل الـمَلِك، يوصل رسائله إلى إقليم أو وزير، فهل يثبت من ذلك أن ساعي البريد الذي كان واسطةً بين الملك والوزير أفضل من الوزير نفسه؟ فاعلموا أن هذا هو حال الوسائط الذين يبلِّغون مشيئة الله إلى الأرض ويعكفون على تنفيذها. لقد قال الله تعالى بكل صراحة في عدة مواضع من القرآن الكريم بأن كل ما خُلق في السماء من الأشياء فإنها قد خُلقت لفائدة الإنسان فقط. والإنسان أعلى وأرفع مرتبة من كل شيء، فقد سُخِّر كل شيء لخدمته كما يقول تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا[23]، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[24]. أي سخر لكم الشمس والقمر اللذَينِ لا يبقيان على حالة واحدة من حيث الكيفية والخواص؛ فمثلا الصفات التي تتحلى بها الشمس في أشهر الربيع لا تتحلى بها في الخريف قط. فمن هذا المنطلق تكون الشمس والقمر في حركة ظاهريةٍ مستمرة، وبحركتهما يحل فصل الربيع حينا ويحل فصل الخريف في حين آخر. وفي فترة تظهر لهما صفات وخواص معينة ثم تظهر في فترة أخرى على عكس ذلك تماما.
ثم يقول تعالى في آية أخرى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[25]. أي خلقنا الإنسان على أعلى درجة من الاعتدال، وهو الأحسن والأفضل اعتدالا من جميع المخلوقات. وقال أيضا: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[26]. أي عرضنا هذه الأمانة - وهي عشق الله وحبه وطاعته الكاملة حتى بعد المرور من الابتلاء - على ملائكة السماء جميعا، وعلى كافة مخلوقات الأرض، وعلى الجبال، أي على الكائنات الضخمة والقوية ظاهريا، ولكن كل هذه المخلوقات رفضت حمل هذه الأمانة، وخافت حملها نظرًا لعظمتها. ولكن الإنسان حملها لأنه كان يتحلى بصفتين اثنتينِ: أولاهما أنه كان جاهزا ليظلم نفسه في سبيل الله. والصفة الثانية أنه كان قادرا على أن يبلغ في حب الله مبلغا ينسى فيه نفسه تماما. وقال تعالى في موضع آخر: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ[27]. أي أنه تعالى يقول للملائكة: إذا خلقتُ هذا الإنسان بكمال الاعتدال ونفخت فيه من روحي؛ فقعوا له ساجدين؛ أي انصرفوا إلى خدمته بكل تواضع واخدموه كأنكم تسجدون له... ليكن معلوما أن أمر السجدة لا يتعلق بالزمن الذي خُلق فيه آدمُ، بل هذا أَمرٌ منفصلٌ أُمِر به الملائكة بأنه كلما وصل إنسانٌ مرتبة الإنسانية الحقيقية وحظي بالتسوية الإنسانية، وسكنته روح الله تعالى؛ فاسجدوا لذلك الإنسان الكامل. أي انزِلوا عليه بالأنوار السماوية وصلّوا عليه. فهذه إشارة إلى السُّنة القديمة التي يُعامل بها الله تعالى عباده الأصفياء دائما. فكلما يحرز أحدٌ تسوية روحانية في عصر من العصور وتسكنه روح الله تعالى - أي يفني نفسه وينال مرتبة البقاء بالله - يبدأ نزول الملائكة عليه بوجه خاص. مع أن الملائكة يُسخَّرون لنصرته وخدمته في المرحلة الابتدائية من سلوك ذلك الإنسان أيضا، ولكن هذا النـزول يكون أتم وأكمل حتى يدخلَ في حُكم السجود. ولقد بيّن الله تعالى باستخدام كلمة السجود أن الملائكة ليسوا أفضل من الإنسان الكامل، بل يسجدون للإنسان الكامل تعظيما وتبجيلا له مثل الخدَم في بلاط الـمَلِك.
كذلك بيّن الله تعالى علوّ مرتبة الإنسان مقارنة مع جميع كائنات الأرض والسماء بإشارات واستعارات دقيقة في سورة الشمس بقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا.[28].....أي أنه أقسم بنفس الإنسان، وبالذي وهب له كافة الكمالات المتفرقة للاعتدال الكامل والاستقامةِ الكاملةِ، ولم يحرمه من أي كمال، بل جمع فيه جميع أنواع الكمالات المذكورة تحت قائمة الأقسام المذكورة آنفًا بحيث تجمع نفس الإنسان الكامل في ذاتها كمال الشمس وضوءها، وتتحلى نفسه بصفات القمر أيضا، لأنه قادر على اكتساب الفيض من غيره، ويستطيع أيضا أن يحرز نورا باطنيا باستمداده من نور آخر. وفيه صفات النهار المشرق أيضا؛ فكما أن العمَّال والأُجراء يستطيعون أن ينجزوا أعمالهم على خير ما يرام في ضوء النهار، كذلك ينجز طلاب الحق والسالكون على سبل "السلوك" مهماتهم الدينية متأسين بأسوة الإنسان الكامل بسهولة ويُسر. إذن إن ذلك الإنسان الكامل قادر على أن يُظهر نفسه بجلاء كامل كالنهار، ويجمع في شخصه صفات النهار كافةً[29].
إن للإنسان الكامل مماثلة نوعا ما مع الليلة الحالكة أيضا لأنه مع كونه محظوظا بالانقطاع التام والتبتّل البالغ غايته، يميل أحيانا بسبب الحكمة الإلهية إلى أهواء نفسه المظلمة. أي أن حقوق النفس التي فُرضت على الإنسان كالأكل والشرب والنوم وأداء حقوق الزوجة أو الالتفات إلى الأولاد؛ تبدو في الظاهر منافيةً وضدًّا للنورانية، ومع ذلك يؤدي الإنسان الكامل كل هذه الحقوق ويقبل لنفسه هذا الظلام لفترة وجيزة. ولكن ليس لأنه ميّال إلى الظلام في الحقيقة، بل لأن الله العليم الحكيم يوجّهه إلى ذلك لكي يستريح قليلا من التعب والمشقة الروحانية؛ فيستعدّ لتجشّم مجاهدات شاقة كقول شاعر فارسي ما معناه:
"إن عين الصياد الماهر هي كعين الصقر، فإنها تبقى مفتوحة دائما وإن أغلقها أحيانا"
فعلى غرار ذلك حين يستمتع الكمَّلُ من الحظوظ النفسانية إلى حد ما بعد بلوغ الكآبة والحرقة غايتهما وعند غلبة الهم والغم، يتقوى جسمهم الضعيف من جديد لصحبة الروح، ويعبر مراحل نورانية عظيمة على إثر بقائه في الحُجُب لفترة وجيزة.
وإضافة إلى ذلك توجد في نفس الإنسان بعضٌ من صفات الليل الدقيقة الأخرى أيضا التي اكتشفها بدقة متناهية علم الفلك والنجومِ وعلومُ الطبيعة. كذلك لنفس الإنسان الكامل مماثلة بالسماء أيضا. فمثلا؛ إن فضاء السماء واسع جدا بحيث لا يملؤه شيء، كذلك إن نفسَ هؤلاء الأبرار أيضا تكون بالغةً من السعة غايتها. فمع تحصيلهم آلاف المعارف والحقائق يهتفون بأعلى صوتهم: "ما عرفناك". وكما أن الفضاء مليء بالنجوم اللامعة، كذلك أُودِع الإنسان الكامل قوىً منيرةً تتراءى متلألئةً تلألُؤ النجوم في السماء.
ولنفس الإنسان الكامل مماثلة تامة مع الأرض أيضا؛ فكما تتصف الأرض الجيدة الخصوبة بأنها لو بُذرت وحُرثت حرثا جيدا وسُقيت على ما يرام وأُكمِلت جميع مراحل الزراعة ومقتضياتها بالتمام؛ لأثمرت ألف مرة أكثر من أراض أخرى، ولكانت ثمارها ألطف وأحلى ومرغوبا فيها أكثر، ولكانت أعلى وأجود نوعيةً مقارنةً مع ثمار أراض أخرى. كذلك الحال بالنسبة إلى نفس الإنسان الكامل، أنه حين تُبذر الأوامرُ الإلهية تخرج منها نباتات أعماله الصالحة مع أنواع الخضرة العجيبة، وتحمل ثمارا غايةً في الجودة واللذة بحيث يندفع كلُّ من رآها للقول تلقائيا "سبحان الله، سبحان الله" بتذكُّره قدرة الله المقدسة. فالآية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا توحي بجلاء أن الإنسان الكامل بمنـزلة عالَم كامل معنًى وكيفا، ويجمع في شخصه كافة شؤون العالَم الكبير وصفاته وخواصه إجمالا. فقد ذكر الله جلّ شأنه خواص جميع الأشياء تلميحا بدءا من الشمس إلى الأرض التي هي مستقَرٌ لنا، أي ذكرها مقرونة بالقسم عدة مرات ثم ذكر نفس الإنسان الكامل ليُعلَم أن نفس الإنسان الكامل جامعة للكمالات المتفرقة التي ذُكرت بصورة منفصلة في الأشياء التي أقسم بها من قبلُ.
وإذا طُرح سؤال: لماذا أقسم الله تعالى بأشياء خلقها هو ولا أهمية لها ولا معنى مقابله؟
فجوابه أن من سنة الله تعالى الجارية في القرآن الكريم أنه تعالى يضرب لإثبات بعض الأمور النظرية وإحقاقها أمثلةً من الأمور التي تحمل في طياتها خصائص ثابتة وبينة ومكشوفة؛ كما ليس لأحد أن يشك في وجود الشمس وضوئها، أو في وجود القمر واستمداده النور من الشمس، كذلك فإن النهار المشرق أيضا واضح للجميع، كما يرى الجميعُ الليلَ، والفضاء أيضا جليّ للناس، وأما الأرض فهي مستقر للجميع أصلا فلا يشك أحد في وجودها. فإن هذه الأشياء واضحة الوجود ولها خصائص جليّة ولا مجال لأحد للاختلاف فيها، أما نفس الإنسان فهي خافية ونظريةٌ إذ هناك خلافات كثيرة حتى في وجودها. فهناك فِرق كثيرة لا تؤمن أن نفس الإنسان، أي روحه، شيء مستقل وقائم بحد ذاته ويبقى قائما إلى الأبد بعد فراقه الجسمَ. وإن بعض القائلين بوجود الروح وبقائها وقيامها أيضا لا يقدّرون قدراتها الباطنية حق قدرها، بل يقتصرون على فكرة أننا لم نأت إلى الدنيا إلا لنبذل حياتنا في الأكل والشرب والحظوظ النفسانية مثل الدواب، ولا يدرون ما في نفس الإنسان من القدرات والقوى العالية والسامية. ولو توجّه إلى كسب الكمالات لكان بإمكانه أن يحيط بالعالَم كله، في فترة وجيزة للغاية، بالكمالات المتفرقة وأنواع الفضائل إحاطةَ الدائرة. فقد أراد الله أن يقدم في هذه السورة المباركة نفس الإنسان ويثبت خصائصها الفاضلة التي لا نهاية لها. فأولًا بيّن - بُغية توجيه الأفكار - خصائص متفرقة للشمس والقمر وغيرهما من الأشياء، ثم أشار إلى نفس الإنسان وقال بأنها جامعة لتلك الكمالات المتفرقة كافة. فما دامت تلك الكمالات والخصائص العليا - التي توجد في الأجرام السماوية والأرضية بصورة متفرفة - موجودة في نفس الإنسان بتمامها وكمالها؛ فمن أسوأ أنواع الغباوة التوَّهم بأن هذا الوجود العظيم والجامع لجميع الكمالات المتفرقة ليس بشيء يمكن بقاؤه بعد الموت. أي ما دامت هذه الخصائص موجودة في الأشياء المشهودة والملحوظة والتي لا اعتراض لديكم في الاعتقاد بوجودها المستقل والدائم لدرجة أن الأعمى أيضا يشعر بضوء الشمس فيؤمن بوجودها، فماذا يبرر إذن اعتراضكم على بقاء نفس الإنسان بصورة مستقلة وبحد ذاتها وقد اجتمعت فيها جميع تلك الخصائص. فهل يمكن لمن ليس شيئا بحد ذاته أن يجمع في نفسه صفات وخصائص جميع الأشياء الثابتة الوجود؟
لقد آثر الله تعالى هنا أسلوب القسم، لأن القسم يقوم مقام الشهادة. ولهذا السبب يعتمد القضاة في الدنيا أيضا على القسم في غياب الشهود، ويعدلون قَسَمًا يُقسَم به مرة واحدة بشهادة شاهدَين على الأقل. فما دام القسم يُعدُّ بمنـزلة الشهادة عقلا وعُرفا وقانونا وشرعا، فقد عَدَّه الله تعالى هنا بمنـزلة الشاهد.
فالمراد من قول الله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا هو أن الشمس وضحاها تشهدان كشاهد عيانٍ على كون نفس الإنسان كيانًا ثابت الوجود وقائمًا بحد ذاته، وصفات الحرارة والضوء وغيرهما التي توجد في الشمس؛ موجودة ذاتها - بشيء من الزيادة - في نفس الإنسان أيضا. إن عجائب نور المكاشفات وحرارة التوجه والتفاني التي توجد في النفوس الكاملة أكثر بكثير من حرارة الشمس وضوئها. فما دامت الشمس ثابتة الوجود وموجودة بحد ذاتها، فكيف يستحيل أن يكون ثابت الوجود وموجودا بحد ذاته مَن كان مِثلَها -بل أعلى وأسمى منها- من حيث الصفات والخصائص؛ أي نفس الإنسان؟
كذلك المراد من قوله : وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا أن القمر بصفة استفاضته من الشمس واستمداده من ضوئها؛ شاهد عيان على أن نفس الإنسان ثابتة الوجود وموجودة بحد ذاتها. لأنه كما يكتسب القمر نورا من الشمس، كذلك يقتبس الإنسان المتحمس وطالب الحق من نور الإنسان الكامل باتّباعه، ويستفيد من أنوراه الباطنية، بل يستفيد أكثر من استفادة القمر؛ لأن القمر يغيب بعد استمداده النور، ولكن هذا الإنسان لا يهجر متبوعه قط. فما دام هذا التابع يشارك القمر بالتّمام في عملية استمداد النور ويملك بقية صفات القمر أيضا؛ فلماذا يُعتبر القمر ثابت الوجود وقائمًا بحد ذاته، ويُرفض تماما كون نفس الإنسان ثابتة الوجود وقائمةً بحد ذاتها؟
فعلى هذا النحو؛ جعل الله تعالى كل الأشياء التي ذكرها قبل القسم بنفس الإنسان شاهدة ناطقة بحسب خصائصها، وبذلك وجه الأنظار إلى أن نفس الإنسان موجودة فعلا. كذلك كلما أقسم الله تعالى في القرآن الكريم ببعض الأشياء، كان المراد من ذلك دائما تقديم الأمر البديهي شاهدا على الأسرار المخفية المماثلة لها.
قد يُطرَح هنا سؤال: إن خصائص الشهود، التي قدِّمت قَسَمًا على كون نفس الإنسان موجودة بحد ذاتها؛ غير موجودة في الإنسان بداهةً، فما الدليل على وجودها فيه؟ جوابًا على ذلك يقول الله تعالى - بعد أن أقسم بالنفس- دحضا لهذه الوسوسة: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[30]. أي لقد خلق الله نفس الإنسان وفتح لها سبيل الظلام والنور، وسبيل الخراب والازدهار. والذي يختار الظلمة والفجور (أي سبل السيئات) يوصَل إلى درجة الكمال في تلك السبل، وحتى يُشبه بالليل الحالك الظلام بشدة، ولا يستمتع في شيء إلا بالمعصية والسيئة والأفكار المظلمة، فيحب القُرناء من هذا القبيل وتُعجبه الأعمال من هذا النوع، ويتلقّى إلهامات سيئة لانسجامها مع طبعه السيئ؛ أي تتبادر إلى ذهنه الأفكار السيئة والمنكَرة دائما، ولا تنشأ في قلبه أفكارٌ حسنةٌ قط.
أما إذا اختار طريق النور والتقوى؛ فيتلقّى إلهامات تدعم ذلك النور. أي أن الله تعالى يبلّغ النور الموجود في قلبه كبذرةٍ إلى درجةَ الكمال بإلهاماته الخاصة. ويُزكي نار مكاشفاته المنيرة. عندها يرى هذا الإنسان نوره المنير ويتيقّن - بعد فحص صفة الإفاضة والاستفاضة الموجودة فيه - أن نور الشمس والقمر موجود في نفسه أيضا، وأنه أيضا محظوظ بانشراح الصدر وعلوّ الهمة، ويتأكد أنه كما مُلئت السماء الواسعة بالكواكب، كذلك مُلئ قلبه وذهنه برصيد القوى المنيرة التي تتلألأ تلألُؤَ النجوم. عندها لا يعود بحاجة إلى دليل خارجي لفهم هذا الأمر، بل يتدفق من داخله ينبوع الأدلة الكاملة دائما، ويسقي قلبه العطشان.
أما إذا طُرح سؤال: كيف يمكن مشاهدة هذه الخصائص في نفس الإنسان؟ فيقول الله تعالى ردًّا على ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[31]. أي مَن زكَّى نفسه وتخلّى عن الرذائل والأخلاق الذميمة تماما وسلّم نفسه لأوامر الله تعالى؛ نال مرامه، ووجد نفسه جامعة للكمالات المتفرقة مثل العالَم الصغير. ومن لم يُزَكِّ نفسه، بل دسَّها في تراب الأهواء السيئة؛ حُرم من نيل المرام.
فملخص الكلام أنه توجد في نفس الإنسان، دون أدنى شك، الكمالات التي توجد متفرقةً في العالم كله. وللتيقُّن بوجودها، هناك سبيل بسيط ومستقيم؛ وهو أن يتوجه الإنسان إلى تزكية نفسه حسب مشيئة قانون الله، لأنه في حالة التزكية لن تنكشف عليه حقيقة تلك الكمالات الكامنة كعلم اليقين فقط، بل كحق اليقين.
ثم يضرب الله مثَل قوم ثمود ويقول بأنهم كذّبوا نبيهم لتمرُّدٍ في جبِلَّتهم، وتقدَّم أشقاهم للتكذيب. فنصحهم نبيُّهم بألا يتعرضوا لناقة الله ومشربها، ولكنهم لم يسمعوا له وعقروا الناقة. فأورد الله عليهم الهلاك والدمار عقابا على جريمتهم وأرغمهم في التراب، ولم يعبأ بما سيحدث بعد موتهم بأراملهم وأيتامهم وأهلهم عديمي الحيلة.
فهذا مثَلٌ دقيق جدا ضربه الله تعالى هنا لتشبيه نفس الإنسان بناقة الله. والمراد منه أن نفس الإنسان أيضا قد خُلقت لتعمل عمل ناقة الله؛ ليركبها الله بتجليه الطاهر في حال فنائها في الله، كما يركب أحدكم ناقةً. فقد قال تعالى لأُسارى النفس، الذين يُعرضون عن الحق، إنذارا وتهديدا؛ إنكم أيضا تذودون، مثل قوم ثمود، ناقة الله عن سُقياها أي مشربها الذي هو عين ذكر الله ومعارفه التي عليها تتوقف حياة الناقة ولم توقفوا ذودها عن مشربها فحسب، بل تريدون عَقْرها أيضا حتى تعجز عن سلوك سبل الله. فإن كنتم تريدون أن تكونوا في مأمن فلا تقطعوا عنها ماء حياتها، ولا تعقروها بسهام أهوائكم الباطلة وفؤوسكم. ولو فعلتم ذلك وماتت الناقة - التي أُعطيتموها مطيةً لله- جريحةً؛ لاعتُبرتم شيئا لا جدوى منه كالحطب، ولقُطعتم وطُرحتم في النار. ثم لن يرحم الله ذويكم بعد موتكم، بل سيواجهون وبال معصيتكم وسيئاتكم. ولن تموتوا أنتم وحدكم عقوبةً على أعمالكم، بل تُلقون بأهليكم وأولادكم أيضا إلى التهلكة.
لقد تبين بوضوح من هذه الآيات البينات أن الله تعالى قد خلق الإنسان أفضل وأعلى من جميع المخلوقات، وأن كون الملائكة والكواكب وغيرها من الأشياء وسائط بين الله والإنسان، لا يدل على أفضليتها. وأنها لا ترفع من شأن الإنسان لكونها الوسائط، بل هي التي تنال العزة لكونها سُخِّرت لخدمة أشرف المخلوقات. إذن، فإنها خادمة كلها وليست مخدومة. نِعم ما قال الشاعر سعدي الشيرازي رحمه الله وتعريبه:
"إن السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك كلها مسخّرة لكي تكسب لقمة عيشك؛ فلا تأكلها ناكرا للجميل.
كل هذه الأشياء مسخّرة لخدمتك وطاعتك، وليس عدلا إن لم تطع أنت ربك."
والآن أعود إلى بقية كلامي وأقول إن ملائكة الله، كما قلت من قبل، ليسوا على مستوى واحد من حيث المرتبة والعظمة، وليسوا مكلَّفين بمهمة واحدة. بل كل ملاك مكلَّف بإنجاز مهمة مختلفة. فكل ما ترونه في الدنيا من تغيّرات وانقلابات، أو ما يحدث على صعيد الواقع بسبب القوة الكامنة، أو كلّما تصل الأرواح والأجسام إلى الدرجة المطلوبة من كمالها؛ كل ذلك يتم بعمل التأثيرات السماوية فيه. وفي بعض الأحيان يلقي ملاك واحد تأثيراته المختلفة في مواهب الناس وإمكانياتهم المتفاوتة. فمثلا؛ إن جبريل - وهو ملاك عظيم الشأن ومرتبط بكوكب شديد التألق في السماء - مكلَّفٌ بخدمات عديدة وفقًا لخدماتٍ أنيطت بالكوكب الذي يرتبط به جبريل. ومع أن هذا الملاك ينـزل على كل شخص يُشرَّف بوحي الله تعالى، (المراد من النـزول هنا هو من حيث إلقاء التأثير وليس بصورة ظاهرية) ولكن دائرة تأثيراته تنقسم إلى دوائر صغيرة أو كبيرة بحسب مواهب كل شخص وظروفه. إن أكبر وأوسع دائرة تأثير روحاني لجبريل ترتبط بوحي سيدنا خاتَم الأنبياء . لذلك إن المعارف والحقائق وكمالات الحكمة والبلاغة التي توجَد في القرآن الكريم بصورة أكمل وأتم، لا يحظى بهذه المرتبة العظيمة أي كتاب سواه.
ولا بد من التذكّر أيضا، كما أشرت إليه من قبل أيضا، أن تأثير الملاك على نفس الإنسان يكون على نوعين:
النوع الأول: هو التأثير الذي يقع بإذن الله على الجنين وهو في الرحم، ويختلف التأثير على اختلاف البذرة في الرحم.
النوع الثاني: هو التأثير الذي يقع بعد تكوين الوجود، ويعمل عمله لإيصال مواهبه الكامنة إلى درجة الكمال قدر الإمكان. وإذا كان النوع الثاني من التأثير يتعلق بنبي أو وليٍّ كاملٍ؛ سُمي وحيا. فعندما تُنشئ النفسُ المتحمسة علاقة الصداقة - نتيجة نور إيمانها ونور حبها الكامل - مع مبدأ الفيوض ويستولي على حبها حبُّ الله واهبُ الحياة؛ ينال الإنسان ما كان مقدرا له من التقدم إلى ذلك الحين. والحق أن ذلك يحدُث إظهارا للتأثير الكامن الذي تركه ملاك الله في الجنين حين كان في رحم أمه. ثم حين ينال الإنسان المرتبة المذكورة آنفا، نتيجة التأثير الملائكي الأول، يُلقي عليه الملاك نفسه تأثيره النوراني من جديد، ولكن ليس من عند نفسه، بل لكونه خادما وسيطا، فإنه يجذب فيض نور الله في نفسه ويوصله إلى الجانب الثاني؛ تماما مثل الأنبوب الذي يجذب الماء من جانب ويوصله إلى جانب آخر. عندما يطرح الإنسانُ نفسه قرب أنبوب روح القدس نتيجة اقتران الحُبَّينِ؛ ينـزل من ذلك الأنبوب فيضُ الوحي عليه دفعة واحدة. أو قولوا إن شئتم إن جبريل يلقي بأنواره على ذلك القلب المتحمس ويرسم فيه صورته المنعكسة. وعندها أيضًا تسمَّى تلك الصورة المنعكسة جبريل، مثلما سُمي الملاك المستقر في السماء جبريلَ. أو يمكن القول مثلا: إذا كان اسم ذلك الملاك "روح القدس" كذلك أيضًا تسمى تلك الصورة المنعكسة روحَ القدس. ولكن هذا لا يعني أن الملاك يقتحم داخل الإنسان، بل إن انعكاسه يظهر في مرآة قلب الإنسان. فمثلا لو واجهتم مرآة نقيّة؛ لارتسمت فيها صورة وجهكم المنعكسة فورا حسب ملامحكم. ولكن هذا لا يعني أن رأسكم فُصل من العنق ووُضع في المرآة، بل يبقى الرأس في مكانه وإنما يقع على المرآة انعكاسه فقط. ثم الانعكاس أيضا لا يكون هو هو دائما، بل يتوافق مع سعةِ مرآة القلب. فمثلا لو رأيتم وجهكم في مرآة صغيرة في فَصِّ الخاتم؛ فسيظهر فيها الوجه بكامله أيضا، غير أن كل عضو من أعضائه سيبدو أصغر كثيرا من وضعه الطبيعي. ولكن لو أردتم رؤية وجهكم في مرآة كبيرة تكفي لعكس ملامحكم كاملة؛ لظهرت ملامح الوجه وأعضاؤه كلها على وضعها الطبيعي. فهذا هو حال تأثيرات جبريل، فإنه يلقي تأثيراته على كل وليٍّ مهما تدنّت درجته، وقد ظلّ جبريل نفسه يلقي تأثيراته أيضا على قلب سيدنا خاتم الأنبياء . ولكن الفرق بين النوعين من الوحي كالفرق بين المرآة المقعَّرة والمرآة المحدَّبة[32]. أي أن جبريل كان هُوَ هُوَ في الظاهر، وتأثيراته هِيَ هِيَ ولكن الموهبة المستقبِلة في جميع الحالات لم تكن على مستوى واحد من السعة والصفاء.
ولقد أوردتُ هنا كلمة "الصفاء" للبيان أن الاختلافات في تأثير جبريل ليست كمِّـيَّةً فقط، بل كيفيَّةً أيضا. بمعنى أن صفاء القلب - الذي هو شرط للانعكاس- لا يكون على مستوى واحد لدى جميع الملهَمين، كما ترون أن كل المرايا أيضا ليست على مستوى واحد من الصفاء. فمنها ما هو مصقول جيدا وصافٍ جدا؛ فتظهر صورةُ الناظر فيها كاملة، ومنها ما هو ضبابيٌ ومغبَّرٌ؛ فلا تَظهر فيه الصورة بوضوح، بل تبدو مشوهة أحيانا؛ فإن ظهرت الشفتان ما شوهد الأنف، أو إن شوهد الأنف ما ظهرت العينان. والحال نفسه بالنسبة إلى مرايا القلوب؛ فكلما كان القلب صافيا كان الانعكاس فيه أصفى وأجلى، وكلما كان القلب مكدّرا ظهر فيه الانعكاس مكدرا. لقد حظي قلب النبي بصفاء أكمل وأصفى لم يحظ به قلب آخر قط.
هنا لا بد من البيان أيضا أن الله - الذي هو عِلّة العِلل، وبوجوده ترتبط سلسلة جميع الموجودات - حين يتحرك إراديًا لإحداث أمر ما، سواء بصفته المربي أو بصفته القاهر، يصبح التحرك إذا كان بصورة أتم وأكمل؛ شرطا لا غنى عنه لجميع المخلوقات. أما إذا كان تحركًا جزئيا؛ فيحدث التفاعل في بعض أجزاء العالَم بحسبه.
الحق أن مَثَل علاقة المخلوقات والعوالم مع الله كمثل علاقة الجسم مع الروح. فكما أن جميع أعضاء الجسم تتبع مشيئة الروح وتميل حيثما مالت؛ كذلك الحال بالنسبة إلى العلاقة بين الله وخلقه. لا أقول في حق الله كما قال صاحب كتاب "فصوص الحِكَم"[33]: "خلق الأشياءَ وهو عينها"، بل أقول: "خلق الأشياء وهو كعينها. هذا العالم كصرح ممرّد من قوارير، وماء الطاقة العظمى يجري تحتها ويفعل ما يريد. يخيّل في عيون قاصرة كأنها هو. يحسبون الشمس والقمر والنجوم مؤثرات بذاتها؛ ولا مؤثر إلا هو."
لقد كشف عليَّ الحكيمُ مُطلقُ الحكمةِ هذا السرّ المكنون؛ بأن هذا العالَم كله مع جميع أجزائه؛ ليس قائما بنفسه بل هو كأعضاء من أجل تنفيذ أفعال (الله)، علّة العِلل وإراداتِه، ويستمد القوة كل حين من ذلك الروح الأعظم. كما أن جميع قوى الجسم قائمة بسبب الروح فيه، كذلك إن بعض الأشياء في هذا العالَم - الذي هو بمنـزلة الأعضاء لذلك الروح الأعظم - إنما هي بمنـزلة نور وجهه وتفيد كالنور ظاهرًا أو باطنًا بحسب مشيئته . وبعض هذه الأشياء هي بمنـزلة يديه، وبعضها بمنـزلة قدمَيه، وبعضها بمنـزلة نَفَسِه .
باختصار، إن مكونات هذا العالم هي بمنـزلة الجسم بالنسبة إلى الله تعالى، وكل ما لهذا الجسم من رونق وبهاء ورشاقة وحياة؛ إنما هو بسبب ذلك الروح الأعظم الذي هو قيّومه. وكلما حدثت في ذلك القيوم حركة إرادية؛ نشأت الحركة في أعضاء هذا الجسم كلِّها أو بعضها حسبما يقتضيه ذلك القيوم.
لتصوير البيان المذكور أعلاه يمكننا أن نفترض على سبيل التخيّل أن قيّوم العالمين هو الوجود الأعظم الذي له أعضاء من أيدٍ وأرجل تخرج عن حدّ الإحصاء والطول والعرض، وأنّ لهذا الوجود الأعظم أذرعًا - كما تكون للأخطبوط - تصل إلى أنحاء صفحة الوجود كله وتعمل عمل الجاذبية، وهذه الأعضاء هي نفسها التي تسمى العالم. وكلما تحرَّك قيّوم العالم حركة جزئية أو كلية؛ فلا بد من أن تحدث حركة في أعضاء هذا العالم، وسوف ينفّذ جميع إراداته من خلال هذه الأعضاء وليس بطريق آخر. فهذا هو المثال الفريد سهل الفهم لهذا الأمر الروحاني. وأما ما قيل إن كل جزئية من المخلوقات تابعة لمشيئة الله وتُحقق أهدافه الخفية من خلال خدماتها الخفية، وتفنى في سبيل مرضاته بطاعته الكاملة؛ فإن هذه الطاعة ليست من قبيل الطاعة التي تأتي نتيجة السلطة والإكراه؛ بل الحق أن كل شيء يُجذَب إلى الله تعالى جذبًا مغناطيسيًا، ويبدو أن كل ذرة خاضعة له بطبعها خضوعَ الجوارح للجسم.
فالحق كل الحق أن العالَم كله بمنـزلة الجوارح لذلك الوجود الأعظم، ولهذا السبب يسمّى ذلك الوجود قيّومَ العالمين، لأنه قيّوم المخلوقات كلِّها ككون الروح قيُّوم الجسم. ولولا ذلك لفسد نظام العالَـم فسادا تاما.
إن كل مشيئة لذلك القيوم - سواء أكانت ظاهرة أم باطنة، دينية أم دنيوية- إنما تَظهر بواسطة المخلوقات، ولا تظهر مشيئة له على الأرض دون هذه الوسائط قط. هذه هي سنَّة الله الجارية دون تحويل أو تبديل منذ بدء الخليقة. ولكني استغرب استغرابًا ما بعده استغراب من عقول الذين يرون ضرورة بخار الماء كواسطة لنـزول المطر المادي الذي ينـزل على الأرض من السحاب، ويرون نزوله بمحض قدرة الله دون السحاب حاملِ الماء مستحيلا؛ ولكنهم يسخرون جهلا من توسط سحاب الملائكة - الواجب شرعًا - لنـزول غيث الإلهام الذي ينـزل على القلوب النقيّة، ويقولون: أليس الله بقادر على أن ينـزِل الإلهام بنفسه دون واسطة الملائكة؟ إنهم يعتقدون أن سماع صوت بغير واسطة الهواء ينافي قانون الطبيعة، ولكنهم غافلون عن قانون الطبيعة المتعلق بالهواء الذي يوصل صوت الله الروحاني إلى قلوب الملهَمين. إنهم يقبلون بالحاجةِ إلى ضوء الشمس لتبصر العيونُ المادية، ولكن لا يوقنون بحاجة العيون الروحانية للنور السماوي.
فلما عُلم بوضوح تام بأن قانون الله هو أن هذا العالَم مع جميع قواه الظاهرية والباطنية بمنـزلة جوارح الله القيوم، وأن كل شيء يعمل في الحقيقة عمل الجوارح حسب مقتضى الحال والظروف، وأن كل إرادة من إرادات الله تَظهر بواسطة تلك الجوارح ولا تظهر مشيئة بغير وساطتها قط؛ علينا أن نعلم أيضا على وجه اليقين أن علاقة جبريل- التي عُدَّت ضرورية ومقبولة في الإسلام - بنـزول وحي الله على القلوب الطاهرة مبنية على المبدأ الحق نفسه الذي ذكرناه قبل قليل.
وبيان ذلك أنه من الضروري حسب قانون الطبيعة المذكور آنفًا أن يعمل مخلوقٌ عمل الجارحة لإظهار إرادة الله في مجال إلقاء الوحي أو تزويد أحد بموهبة تلقي الوحي، وأن يعمل في مجال تنفيذ مشيئته في أمور تتعلق بالإلهام والروحانية كما ينفذها ماديًا. فهذه الجارحة نفسها تسمى بتعبير آخر "جبريل" الذي يتحرك بلا تأخير كجارحة تبَعًا لحركة ذلك الوجود الأعظم. أي عندما يتوجه الله تعالى بحبٍّ إلى قلب محبٍّ، يضطر جبريل - الذي علاقته بالله علاقة النَفَسِ بالهواء، وعلاقة العينِ بالنور - للتحرك بالاتجاه نفسه حسب المبدأ الذي ذكرناه قبل قليل. أو قولوا إن شئتم إنه يتحرك عفويا وتلقائيا على إثر حركة الله كما يتحرك الظل بصورة طبيعية بحركة الأصل.
فعندما يتحرك نور جبريل بجذبٍ من الله وحثٍّ منه ونفحاته النورانية؛ ترتسم صورته - التي يجب أن تسمَّى روح القدس - على قلب المحب الصادق فورا، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من حبه الصادق. عندها تعمل هذه القوة عملَ الآذان لسماع صوت الله ، وتنوب مناب العين لرؤية عجائبه، وتؤثّر على اللسان تأثير الحرارة المحرِّكة لجريان إلهاماته التي تحرّك اللسان بقوة متزايدة على خط الإلهام. وما لم تنشأ هذه القوة يبقى قلب الإنسان عَمِهًا ويبقى لسانُه مثل مقطورةٍ مفصولة عن القاطرة. وليكن معلوما أن هذه القوة التي تُسمَّى "روح القدس" لا تنشأ بمستوى واحد في كل قلب، وإنما يؤثر فيه هذا النور الملائكي لجبريل بقدر كمال حب الإنسان أو نقصه.
والجدير بالذكر أيضا أن قوة روح القدس التي تنشأ في قلب الإنسان باجتماع الحبَّينِ كانعكاسٍ لنور جبريل الملائكي؛ لا يُشتَرط لنشوئها أن يسمع الإنسان على الدوام كلام الله المقدس أو يرى الكشوف باستمرار، بل هي بمنـزلة أسباب فورية لتلقي الأنوار السماوية. أو قُل إن شئتَ بأنها نور روحاني من الله لتبصر بواسطتها عيونٌ روحانية، أو هي هواء روحاني لإيصال الصوت إلى آذان روحانية.
والواضح أنه ما لم يكن هناك شيء موجودا أصلا؛ فلا يمكن للضوء أن يُظهر وجوده. وما لم يتفوه المتكلِّم بكلام؛ لا يمكن للهواء أن يوصله إلى الآذان. كذلك فإن هذا الضوء أو الهواء ما هو إلا كمؤيّد سماوي للحواس الروحانية؛ ومَثلهما كمثل ضوء الشمس للعيون المادية، أو كمثل الهواء للآذان المادية. وعندما يريد الله تعالى إلقاء كلامه على قلبِ ملهَمٍ؛ ففور توجّهه للكلام - من أجل الإلقاء - ينشأ تيارٌ ضوئيٌّ أو هوائيٌّ في نور جبريل الملائكي، أو تنشأ موجةُ حرارة لتحريك لسان الملهَم. وبسبب هذا التموُّج أو الحرارة؛ يتراءى ذلك الكلام مكتوبا أمام عينَي الملهَم فورا، أو يتناهى صوته إلى أذنيه، أو تجري الكلمات الإلهامية على لسانه. إن الحواس الروحانية والنور الروحاني المعطيَين للمُلهم قبل الإلهام كمَلَكَةٍ؛ إنما أُعطيا لكي يُحرز قوةَ استقبال الإلهام قبل نزوله عليه، لأنه لو نزل الإلهام وقلبُ الملهَم محرومٌ من الحواس الروحانية أو لم يصل عينَ قلبه نورٌ من روح القدس، لما كانت عنده عيون طاهرة لمعرفة الإلهام الإلهي. فلهذه الضرورة يُعطَى الملهَم تلك الملَكَتَين. وسيدرك القرّاء مِن خلال هذا البحث أن جبريل مكلَّف في الوحي بثلاث مهمات:
أولا: عندما تُقذَف في الرحم نطفةٌ لتكوين الشخص الذي يريد الله أن يجعل فطرته قابلة لتلقي الإلهام بمقتضى رحمانيته دون أن يكون للإنسان يد في ذلك، يلقي عليه انعكاس نور جبريل الملائكي حال كونه نطفة. فتحرز فطرة ذلك الشخص مَلَكة تلقّي الإلهام بفضل الله البحت، فيُعطَى حواسا مناسبة للإلهام.
ثانيا: ومهمة جبريل الثانية هي أنه عندما يدخل حب الإنسان في ظل حب الله، تحدث حركةٌ في نور جبريل الملائكي نتيجة تحرِّك صفةِ الله المربّي، فينـزل ذلك النور على قلب المحب الصادق؛ أي ينعكس ذلك النور في قلب المحب الصادق عاكسًا صورة جبريل التي تعمل عمل الضوء أو الهواء أو الحرارة، وتبقى في الملهَم كموهبة لتلقي الإلهام. وإن جانبا منها يكون متغلغلا في نور جبريل، وجانبها الآخر يدخل قلب الملهَم، ويمكن تسمية هذا الجانب بتعبير آخر بـ "روح القدس" أو صورته.
ثالثا: ومهمة جبريل الثالثة هي أنه كلما ظهر من الله تعالى كلام؛ تنشَّطَ جبريل كالهواء وأبلغه إلى آذان القلوب، أو جعله أمام عينَي متلقيه بصورة ضوء لامع، أو أزكى الكلامَ بصورة حرارة تدفع اللسان وتُجريه وراء كلمات الإلهام.
هنا أريد أن أزيل وسوسة المتورطين في الشك والارتياب إذ يقولون: "ما وجه أفضلية إلهامات الأولياء والأنبياء وكشوفهم على غيرهم؟ فكما أن الأمور الغيبية تُكشَف على الأنبياء والأولياء فإنها أيضا تُكشَف أحيانا على غيرهم، بل إن بعض الفساق والفجار الطغاة البالغين الغاية أيضا يرون رؤى صادقة في بعض الأحيان. وأحيانا يروي بعضُ الأوغاد والأشرار العُتاة أيضا مكاشفاتهم وتتحقق أيضا. فما دام الأشرار والخبثاء والأوغاد والمعروفون بسوء طويتهم وتصرفاتهم الشنيعة أيضا يشاركون في هذه الظاهرة أولئك الذين يعُدُّون أنفسهم أنبياء أو يعتبرون أنفسهم محتلين مرتبة خاصة؛ فأي فضيلة بقيت للأولياء والأنبياء؟"
أقول جوابا على ذلك إن هذا السؤال صحيح تماما في حد ذاته، وإن جزءا من ستة وأربعين جزءا من نور جبريل الملائكي منتشر في العالم كله، ولا يخرج عن نطاقه فاسق أو فاجر أو طالح من الدرجة الأولى أيضا. بل أعتقد أيضا أنه قد ثبت بالتجربة أن الرؤيا الصادقة؛ قد تراها أحيانا امرأة فاسقة من فئة المومسات، هدرت شبابها كله في الرذيلة. والأغرب من ذلك أن امرأة مثلها؛ يمكن أن ترى في ليلة قضتها في شرب الخمر وممارسة الرذيلة حلما يتحقق. وليكن معلومًا أنه من المفروض أن يحدث هذا، لأن نور جبريل الملائكي يلقي بتأثيراته على العالم كله، مثل الشمس، بحسب إمكانيات المتلقِّين. وما من نفس بشرية في الدنيا تُركت في الظلام تماما. بل الحق أن شيئا من حب المستقر الأخير والمحبوب الحقيقي يوجد في كل شخص مهما كانت طبيعته دنيئة. ففي هذه الحالة كان ضروريا أن يقع تأثير جبريل إلى حد ما على جميع بني آدم حتى المجانين منهم، وهذا هو واقع الأمر، لأن أشباه المجانين، الذين يسميهم عامة الناس المجذوبين أيضا؛ يتأثرون بنور جبريل في بعض الأحيان نتيجة انقطاعهم عن الدنيا نوعا ما، فيقع شيء من ضوء هذا النور على عيونهم الباطنية فترى شيئا من تصرفات الله الخفية. ولكن هذا النوع من الأحلام والمكاشفات لا يحط من شأن النبوة أو الولاية ولا يقلل من عظمتهما ولا يُحدث التباسًا مريبًا ومحيرًا؛ لأن هناك فرقا بيّنا بين الفريقين يستطيع كل ذي عقل سليم أن يدركه بسهولة. وهو أن رؤى الخواص والعوام ومكاشفاتهم ليست سواسية مطلقا كيفًا وكمًّا واتصالا وانفصالا. إن عباد الله الخواص يحظون بهذه النعمة الغيبية على وجه خارق للعادة. أما الآخرون فمَثل مشاركتهم في نِعم يُعطاها الخواص كاعتبار المتسوِّل الذي يملك درهما واحدا شريك الملِك في كنوزه. ومن الواضح أن هذه المشاركة البسيطة التي لا تكاد تُذكر لا تحط من شأن الملك ولا ترفع من شأن المتسول شيئا.
وإذا تدبرتم أكثر لوجدتم أن مَثل هذه المشاركة كمَثل مشاركة اليراعةِ الشمسَ في الضوء، فهل لليراعة أن تنال من مجد الشمس شيئا بهذه المشاركة؟
فليكن معلوما أن كافة أنواع الفضيلة تتطلَّبُ أعلى درجات الكمال كيفًا وكمًّا، ولا يستوي شخصٌ بمعرفته كلمة واحدة مع عالم نِحريرٍ وفاضلٍ جِهْبِذ. ولا مَن نظَم شطرًا من بيت شعرٍ صدفةً؛ يعادل فحول الشعراء.
باختصار، لا تخلو حكمةٌ أو سلطةٌ من مشاركةٍ من هذا القبيل ولو بمثقال ذرة. فمثلا؛ إذا كان الـمَلِك يحكم الدنيا، فكذلك يحكم عامل بسيط أيضا زوجه وأولاده في كوخه.
أما القول: لماذا جعل الله تعالى الأبرار والأشقياء يشاركون في هذه الظاهرة، ولماذا أعطى الغافلين نصيبا من هذه النعمة الغيبية وإن كان رمزيًّا فقط؟ فالجواب هو أنه فعل ذلك إفحاما وإتماما للحجة؛ حتى تكون فئة المنكرين شهيدة على حالة الكمَّل. فحين يرى المنكرون في دائرة إمكانياتهم الضيقة نموذجا بسيطا لما يسمعونه من الكُمّل؛ فلا يسعهم أن يكذِّبوا ويستبعدوا كليًّا وبصدق القلب ظاهرة الإلهام بعد أن رأوا بأنفسهم نموذجا لها وإن كان بسيطا. وبذلك يكونون تحت مؤاخذة الله لما يجدون في أنفسهم من نموذج بسيط لهذه الميزة الروحانية، ولسوف يؤاخَذون إن أنكروها.
يعتقد الآريون في العصر الراهن أن الله تعالى قد طوى صفحةَ الإلهام إلى الأبد بعد إنزاله الفيدات الأربعة. ولكن قانون الله الجاري يخطّئهم إذ يرون بأم أعينهم أن سلسلة الانكشافات الغيبية ما زالت جارية، وأن أكثرهم فسقا وفجورا أيضا قد يرون منامات صادقة في بعض الأحيان. من الواضح أن الله لم يحرم الفساق والفجار والعاكفين على الدنيا أيضا في هذا الزمن من فيضه الروحاني، بل ينـزِل عليهم في بعض الأحيان رذاذ فيضه مع افتقارهم إلى انسجام طبائعهم الكامل مع هذه الظاهرة؛ ومن هنا يمكن أن ندرك ما يمكن أن ينـزِّله على عباده الصالحين الذين يمشون تحت ظل مشيئته وينسجمون معه انسجاما أكمل وأتم. والسر الآخر في ذلك أن يدرك كل شخص - مهما كان فاسقا وفاجرا وكافرا وسفاكا، وبعد التدبر في هذه المشاركة الرمزية - أن الله تعالى لم يخلقه ليهلكه، بل أودعه قوة على التقدم، ونـمّاها له كبذرة بحيث يستطيع أن يتقدم في هذا المجال، ولِيعلمَ أنه ليس محروما فطريا من مائدة أنعُم الله. ولكنه لو سلك سبيل الضلال باختياره هو، ولم يستفد من نورٍ أُودعَ فيه وحرم نفسه منه، وتنحّى قصدا عن الطرق الطبيعية المؤدية إلى النجاة؛ فهذا شأنه هو، ولَسوف يلقى وباله.
الــتذكيـر
لقد كتبنا في كتيب "فتح الإسلام" عن مهمة ربَّانية كلَّفني بها الله ، وذكرنا خمسة فروع لها، ووجَّهنا أنظار المخلصين للدين والمواسين للإسلام إلى ضرورة نصرة المهمة. فعلى إخوتنا المخلصين والمتحمسين أن يهتموا بهذا الأمر بسرعة حتى تبدأ جميع الأمور المذكورة على أحسن وجه.
الراقم
ميرزا غلام أحمد، من قاديان محافظة غورداسبور
الإعلان لعلماء الإسلام
كلّ ما كتبته حول موضوع مثيل المسيح فهو موجود متفرقًا في ثلاثة كتيبات هي: فتح الإسلام وتوضيح المرام وإزالة الأوهام. فمن الأنسب ألا يتسرع أحد في إظهار رأي معاد ما لم يقرأ هذه الكتيبات بالتأمل.
والسلام على من اتبع الهدى
الراقم
العبد المتواضع، ميرزا غلام أحمد
صورة غلاف الطبعة الأولى لهذا الكتاب
ترجمة صفحة الغلاف للطبعة الأولى
"جاء في الدنيا نذير، فأنكروه أهلها وما قبلوه، ولكن الله يقبله ويُظهر صدقه بصولٍ قوي شديد، صول بعد صول"
الجزء الأول
إزالة الأوهام
فيه بأس شديد ومنافع للناس
بحمد الله ومنته قد طُبع في شهر ذي الحجة المبارك عام 1308هـ هذا الكتاب الجامع لمعارف القرآن والشارح لأسرار الكلام الرباني من تأليف المرسل الرباني والمبعوث الرحماني سيدنا الميرزا غلام أحمد القادياني
بإشراف وسعي شيخ نور أحمد صاحب مطبعة "رياض الهند"
بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم
تعالوا إلى الحكم السماوي أيها المرتابون!
يا أيها الكرام، ويا أيها المشايخ، ويا نخبة القوم؛ فتح الله عيونكم، لا تتجاوزوا الحدود مغتاظين غاضبين، واقرأوا الجزأين السابقين من كتابي هذا بتأمل، ففيهما نورٌ وهدى. اتقوا الله وكفُّوا ألسنتكم عن التكفير. يعلم الله أني مسلم. "آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فاتقوا الله ولا تقولوا لستَ مسلما. واتقوا الملك الذي إليه ترجعون."
وإن كنتم في ريب بعد قراءة هذا الكتاب أيضا فتعالوا واختبروا مَن كان الله معه.
يا من تخالفونني الرأي من المشايخ والمتصوفة وأصحاب الزوايا، الذين تكذِّبونني وتكفِّرونني؛ لقد أُكِّد لي أنه لو أردتم أن تبارزوني مجتمعين أو فُرادى في الآيات السماوية التي تحالف أولياء الرحمن، لأخجلكم الله وفضحكم، وسترون أنه معي. هل منكم من أحد يخرج إلى الميدان للاختبار؟ ويُعلن في الجرائد إعلانا عاما، ويقارن بين علاقته بالله وعلاقة الله بي من حيث القبول في حضرته؟ واعلموا جيدا أن الله ناصر الصادقين، وسينصر الذي يعرف أنه صادق. توقّفوا عن التجاسر فإنه قريب. أتخاصمونه؟ هل لأحد حقًّا أن يعلو بالقفز مستكبرا؟ هل ستقطعون الصدق بحدة ألسنتكم فقط؟ اتقوا الله الذي غضبه فوق كل أنواع الغضب. إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى[34]
الناصح
العبد المتواضع، غلام أحمد من لدهيانه، حارة إقبال غنج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والسلام على قومٍ موجَعٍ سيما على إمام الأصفياء وسيد الأنبياء محمد المصطفى وآله وأصحابه أجمعين. اللهم ارزقنا أنوار اتباعه وأعطنا ضوءه بجميع أنواعه برحمتك عليه وأشياعه.
الرد على أن المسيح ابن مريم
أحيا الأموات وأبرأ الأكمه وفتح آذان الصُمِّ،
وماذا أرى مثيلُ المسيح من هذه المعجزات؟
أولا، يكفي في هذا المقام جوابًا أن المسيح الذي ينتظره المسلمون لم يرِدْ في حقه في الأحاديث قط أن الأموات سيحيون على يده، بل جاء فيها أن أحياءً سيموتون بنَفَسه. وإضافة إلى ذلك لقد أرسلني الله تعالى ليُحيا الأمواتُ الروحانيون، ولتُفتح آذان الصُمِّ وليُشفى المجذومون وليُخرجَ الراقدون في القبور من قبورهم. وبالإضافة إلى ذلك هناك وجه آخر للمماثلة أنه كما قدّم المسيحُ ابن مريم ملخّص التوراة الصحيحَ ومغزاها الحقيقي، كذلك أمرتُ أنا أيضا أن أنجزَ المهمة نفسها بتقديم تعليم القرآن الكريم الحقيقي لإفهام الغافلين. لقد جاء المسيح لكي يوضّح أحكام التوراة بدقة، كذلك أُرسلتُ أنا أيضا لأبيِّن أحكام القرآن الكريم بوضوح تام. والفرق الوحيد هو أن ذلك المسيح فقد أُعطِيه موسى، أما هذا المسيح فقد أُعطِيه مثيل موسى، فهذه المماثلة متحققة تماما.
وأقول صدقا وحقا إن الذين أُحْيُوا على يد المسيح ابن مريم قد ماتوا، ولكن الذي سيشرب من يدي الكأس التي أُعطِيتها لن يموت. إذا استطاع أحد غيري أن يأتي بمثل الكلام المحيي الذي أتكلم به أنا، والحكمة التي تخرج من فمي، فاعلموا أني ما جئتُ من الله. وأما إذا كان العثور على هذه الحكمة والمعرفة التي هي في حكم ماء الحياة للقلوب الميتة مستحيلا، فليس لديكم عذرٌ لجريمة إنكاركم ينبوعها الذي فُجّر في السماء، ولا يسع أحدا على الأرض أن يوصده، فلا تتسرعوا للمواجهة ولا تُلقوا بأنفسكم تحت مغبّة حُجّة قول الله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[35]. لا تتجاوزوا الحدود في سوء الظن حتى لا تؤاخَذوا بما تفوَّهتْ به أفواهكم، فتقولوا في موقف أليم: مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ[36].
"ليس من العقل والحكمة في شيء أن يتسرع المرء في المعارضة والإنكار نتيجة أهواء النفس.
إن الصبر أمرٌ لا مندوحة منه لطالب الحق، وإن البذرة تحمل في الدنيا أثمارا بحسب خاصيتها الخفية.
إن الإنسان هنا بحاجة إلى شيء من نور الفِراسة، حتى يُظهر صدقَه بنفسه أيضا.
إن نور الصادقين الباطني لا يبقى خافيا، بل إن ذلك النور يُظهر الأنوار على جبين رجل الله.
من شرب كأس الوصال من يد أحد، فإن جبينه يُظهر سعادة ناجمة عن وصال الحبيب دائما."[37]
أيها المسلمون، إن كنتم تؤمنون بالله تعالى ورسوله المقدس بصدق القلب، وتنتظرون نصرة الله، فأيقِنوا أنه قد آن أوان النصرة، وأن هذا الأمر ليس من صنع الإنسان، وليس كيد إنسان. كلا، بل هو انبلاج ذلك الصبح الصادق الذي بُشّر به في الصحف المطهرة من قبل. لقد ذَكَركم الله في أحرج الأوقات وأشدها. كنتم على وشك الوقوع في هوة الهلاك فأدركتْكم يد رحمة الله بسرعة، فاشكروا له وتَهلّلوا فرحًا وغبطة، فقد عاد يوم حياتكم من جديد. لا يريد الله أبدًا أن يخرّب بستانا سُقي بدماء الصادقين، ولا يريد إطلاقا أن يصبح الإسلام أيضا مثل أديان أمم أخرى؛ مجموعة قصص بالية لا بركة فيها. إنه يرسل من عنده نورا عند غلبة الظلام الكاملة. ألا تنتظرون طلوع القمر بعد ليلة ليلاء؟ ألا تحكمون بعد ليلة السلخ - التي هي ليلة الظلام الأخيرة- أن الهلال طالعٌ غدا؟
الأسف كل الأسف أنكم تفهمون ناموس الطبيعة الظاهري جيدا، ولكنكم غافلون كليًّا عن ناموس الطبيعة الروحاني الذي يماثله أيما مماثلة!
يا أيها المشايخ المغرضون، ويا أيها الزهاد الجافون؛ عليكم الأسف كل الأسف، فإنكم لا تريدون أن تُفتح أبواب السماء، بل تحبون أن تبقى موصدة لتظلّوا متربعين على عرش المشيخة. حاسبوا أنفسكم وافحصوا بواطنكم، هل حياتكم منـزَّهة عن شوائب الدنيا؟ أليس على قلوبكم صدأ وأنتم بسببه في الظلام جالسون؟ هل أنتم أقل من الكَتَبَة والفَرِّيسيِّين في زمن المسيح الذين عكفوا على إشباع أهواء النفس ليلَ نهارَ؟ أليس صحيحا أنكم بأنفسكم تهيئون لمثيل المسيح نوعا من أدلة المماثلة بالمسيح الناصري، لتتم عليكم حجة الله تماما؟
أقول صدقا وحقا، لأنْ يؤمنَ الكافر أسهل من أن تؤمنوا أنتم. سيأتي أناس كثيرون من الشرق ومن الغرب وسينالون نصيبًا من هذه المائدة السماوية، ولكنكم ستموتون في حالة الصدأ هذه. ليتكم تفكرتم وتدبرتم شيئا!
أما ما يُطلَب من المعجزات مقابل معجزاتٍ في حياة المسيح الأول لتحقيق المماثلة، فقد شرحت هذا الأمر من قبل وقلتُ بأن الإحياء المادي ليس بشيء، وإنما قد جئت للإحياء الروحي وهذا سيتحقق حتما. وإضافة إلى ذلك لو رأينا أعمال المسيح الحقيقية بتجريدها من الحواشي التي لُفِّقت بمحض الافتراء أو بسوء الفهم لما وُجدت فيها أعجوبة. ولا أظن أنه يقع على خوارق أي نبي آخر ونبوءاته ما يقع على نبوءاته من اعتراضات وشكوك. ألا تزيل قصة البِركة[38] رونق معجزات المسيح نهائيا؟ أما نبوءاته فهي أسوأ منها حالا.
ما أهمية النبوءات التي تقول بأن الزلازل ستحدث وتكثر الوفيات وتندلع الحروب وتكون المجاعات؟ ومما يؤسف له أكثر هو أنه لم يتحقق من نبوءات المسيح بقدر ما ثبت بطلانه. لقد تنبأ المسيح بتسليم يهوذا الإسخريوطي عرشا من اثني عشر عرشا من الجنة ولكنه بقي محروما منه. ولم يُعطَ بطرس عرشا فقط بل أعطاه مفاتيح ملكوت السماء أيضا وكان مخوّلا لفتح أبواب الجنة لأحد أو إغلاقها، ولكن كلام بطرس الأخير الذي ودّع به المسيحَ كان بأنه لعنه قدامه وقال حالفا: أنا لا أعرف هذا الرجل. وإضافة إلى ذلك هناك نبوءات كثيرة أخرى من هذا القبيل لم تتحقق. ولكن هذا ليس مدعاة للاعتراض لأنه من الممكن أن يصدر من نبي خطأ في أمور تتعلق بالإخبار والكشوف. فنرى أن بعضا من نبوءات موسى أيضا لم تتحقق كما تصورها موسى في نفسه. إن غاية ما يمكن قوله في هذا الباب هو إنه قد ثبت بطلان نبوءات المسيح أكثر من غيره. ولكن الخطأ لم يكن في مضمون الإلهام، بل في الفهم والاجتهاد. كان المسيح بشرا على أية حال، والبشر يخطئ ويصيب في رأيه، لذا فقد وقعت مثل هذه الأخطاء في الاجتهاد.
والأغرب من ذلك في هذا المقام أن المسيح رفض إراءة المعجزات نهائيا وقال بأنه لن يُري معجزة، ولكن عامة الناس مع ذلك ينسبون إليه كَوْمَ معجزات، دون أن يدركوا أنه رفض ذلك بوضوح تام. فمثلا حين قُدّم المسيح أمام "هيرودس" فرح برؤيته كثيرا لأنه كان يتوقع أن يرى منه كرامةً، فألحّ على المسيح كثيرا بهذا الصدد ولكنه لم يجبه بشيء، فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ. (انظروا إنجيل لوقا: الأصحاح 23)
يجب التأمل هنا أنه لو كان المسيح قادرا على إراءة المعجزات الاقتدارية كما يعتقد المسيحيون، لأظهر حتما معجزةً لهيرودس الذي كان حَسَن الاعتقاد به وكان حاكم بلاده، ولكنه لم يستطع أن يُريه شيئا. وقد حدث أيضا مرةً أن طلب الكَتَبة والفرِّيسيُّون - الذين كانوا يحظون بمكانة مرموقة في حكومة قيصر - من المسيح معجزة، فخاطبهم بكلمات قاسية ملؤها الحدة والغضب فقال: "جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً[39]، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ." (إِنْجِيلُ مَتَّى 12: 39)
أما ما أشار إليه المسيح في آية يونس النبي، فقد أراد من ذلك أن النبي يونس لم يمت في بطن الحوت، بل بقي حيا وخرج من بطنه حيا، كذلك لن يموت هو أيضا على الصليب ولن يدخل القبر ميتا.
نحن ومن يطعن فينا
إن بعض الناس أحصوا عيوبي المزعومة في شخصي طاعنين. ولما لا يخلو البشر من الأخطاء، فإن قول المسيح : "لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ"، صحيح تماما، ولكن مادامت المطاعن من هذا القبيل تؤثر سلبا على مهامنا الدينية وتمنع طلاب الحق من الإقبال، لذا سأرد فيما يلي على بعضها بالإيجاز.
الطعن الأول الموجَّه إلي هو أني استخدمت في كتبي كلمات قاسية بحق الخصوم فاستشاطوا غضبا ونشروا كتبا مسيئة ومليئة بالشتائم في حق الله جلّ شأنه ورسوله الكريم ، وقد ورد في القرآن الكريم بصراحة تامة ألا تسبوا آلهة المعاندين فيسبوا الله عَدْوا بغير علم، بينما ورد في تأليفاتي الشتائم والسباب خلافا لما أُمرنا به.
أما الجواب: فليتضح أن المعترض لم يذكر في طعنه الكلمات التي استخدمتُها في كتبي وتُعدُّ سبابا وشتائم حسب زعمه.
أقول صدقا وحقا إنني لم أستخدم أية كلمة، بحسب علمي، تُعَدُ شتيمةً. ومن الخديعة الكبيرة أن كثيرا من الناس يعتبرون السب وبيان الواقع شيئا واحدا، ولا يفرِّقون بين الأمرين. بل يعتبرون كل كلام يحتوي على بيان الأمر الواقع ويكون في محله تماما؛ شتائم، لكونه محتويا على شيء من المرارة التي تستلزم قول الحق أحيانا. بينما السباب والشتائم هو ما كان خلاف الواقع، وقد قيل كذبا وللإيذاء المحض. وإن جاز حَـمْل كل كلام قاسٍ وجارحٍ محمل الشتيمة بناء على مرارته وقسوته وإيذائه، فلا بد من الاعتراف أن القرآن كله مليئ بالشتائم، لأن كلمات الاستنكار والاحتقار واللعن والطعن التي استُخدمت في القرآن الكريم في حق الأوثان ليست مما تفرح لسماعه قلوبُ عبدة الأوثان على الإطلاق، بل مما لا شك فيه أن قلوبهم قد ثارت غضبا لسماعها. ألا يُعَدُّ قول الله تعالى وهو يخاطب كفار مكة: إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ[40] شتيمة بحسب مبدأ اختلقه المعترض من عنده؟ أَوَلا يدخل اعتبار الله تعالى الكفارَ شرَّ البرية، واعتبارهم أسوأ من أرذل المخلوقات وأنجسها، في السباب والشتائم بحسب زعم المعترض؟ ألم يقل الله تعالى في القرآن الكريم: وَاغْلُظْ عَلَيْهم[41]؟ ألم يرد في صفات المؤمنين أنهم: أشِدِّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ[42]؟ هل إطلاق المسيح على الكَتَبَة والفرِّيسيِّين المحترمين من اليهودِ كلمة الكلاب والخنازير، وتسميته ملكِ "الجليل" هيرودس "الثعلب"، وتشبيهه الكَتَبَة والفرِّيسيِّين المحترمين بالزانية، وذكرُه زعماء اليهود - الذين كانوا يحتلون مرتبة مرموقة في حكومة قيصر ويجلسون باحترام في بلاطه على الكراسي - بكلمات سيئة ونابية وجارحة للقلوب جدا وتنافي الأدب واللياقة، واعتباره إياهم جيلا شريرا وفاسقا وأولاد الحرام، وعديمي الإيمان، والجهال، والمرائين، والشياطين، وأهل جهنم، وأولاد الأفاعي وأشرار؛ ليس بشتائم فاحشة وقذرة بحسب رأي المعترض؟
يتبين من هنا أن المعترض لم يوجّه اعتراضه إليّ وإلى كتبي، بل الحق أنه اعترض على جميع كتب الله وكافة الرسل بقلب يحترق بغضا وعنادا. وإن هذا الهجوم موجّه إلى الإنجيل أكثر من غيره لأن كلام المسيح أكثر قسوة وشدة من كلام جميع الأنبياء. ويتبين من الإنجيل أن اليهود رفعوا الحجارة أكثر من مرة ليرموا بها المسيحَ بسبب قسوة كلامه. وقد لُطم وجهه أيضا بسبب إساءته لرئيس الكهنة. فكما قال المسيح إني لم آت للصلح، بل لأُعمِل السيف، فقد أعملَ سيف اللسان لدرجةٍ لا توجد في كلام أي نبي كلمات قاسية ولاذعة مثلما توجد في الإنجيل. وكم تجشم المسيح من المعاناة نتيجة جريان سيف اللسان! كذلك سمَّى يحيى كبارَ اليهود وكَتَبَتَهم بأولاد الأفاعي، مما أدى إلى قطع عنقه نتيجة مكائدهم ووقاحتهم. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان كل هؤلاء الأطهار سيئي الأدب إلى أبعد الحدود؟ ألم يشمُّوا حتى رائحة الأدب والتحضر الراهن؟
لقد سبق أن ردّ على هذا السؤال سيدُنا ومولانا خاتم المرسلين سيد الأولين والآخرين فداه أبي وأمي؛ وهو أنه حين نزلت الآيات التي جاء فيها أن المشركين نجس، وشر البرية، وسفهاء، وذرية الشيطان، وأنهم وآلهتهم وقود النار وحصب جهنم، فطلب أبو طالب النبيَّ وقال: يا ابن أخي، قد استشاط قومك غضبا نتيجة شتائمك وكادوا يهلكونك وإيايَ، فقد سفَّهتَ عقلاءهم، وأطلقتَ على كِرامهم شرَّ البرية، واعتبرتَ آلهتهم - الجديرة بالاحترام عندهم - حصبَ جهنم ووقودَ النار، واعتبرتهم جميعا وعلى العموم رجسا ونجسا وذرية الشيطان. فأقول نصحا لك بأن تكف لسانك وتتوقَّف عن السباب وإلا فأنا لا أقدر على مواجهة القوم. فقال النبي في الجواب: أيا عمّاه، إن ذلك ليس سبًّا بل هو بيان الواقع، وذكرُ حقيقة الأمر وفي محله تماما. وهذا هو الأمر الذي أُرسلتُ من أجله، فإذا كان في هذا السبيل موتي فأنا أقبله بكل سرور، فإن حياتي فداء هذا السبيل، فلن أتوقَّف عن قول الحق مخافة الموت. ويا عمِّ، إذا كنتَ تخشى ضعفك وقلة حيلتك ومعاناتك فأَقِلْنِي ذمتي، فوالله لستُ محتاجا إليك، ولكنني لن أحيد عن تبليغ أمر الله قيد شعرة. إن أحكام ربي أحبّ إليّ من نفسي. والله لو قُتلت في هذا السبيل لتمنّيت أن أُحيا ثم أُقْتَل ثم أُحيا ثم أُقتَل ثم أُحيا وأظل أُحيا وأموت في هذا السبيل. إن هذا ليس مقام خوف بل إن غاية متعتي تكمن في تحمُّل المعاناة في سبيله . كان النبي يقول ذلك والرقة المفعمة بالصدق والنور يعلوان وجهه الكريم. حين أنهى كلامه سالت عينا أبي طالب دموعا عفويا لِما رأى من نور الصدق والحق، وقال: كنت أجهل حالتك السامية هذه! إنك في شأن غريب وحالة عجيبة! فاذهب وانصرف إلى عملك، وسأنصرك ما استطعتُ وما دمتُ حيا[43].
فملخص الكلام أن ما ردّ به النبي بلسانه على أبي طالب، فيه كفاية لإفحام كل معترض، لأن السباب شيء وبيان الواقع - مهما كان مُرًّا وقاسيا - شيء آخر. ومن واجب كل باحث وصادق أن يبلّغ القول الحق كاملا إلى المعاند الضال، وإن احتدم بسماعه الحقَ فهذا شأنه.
إنني لأستغرب استغرابًا ما بعده استغراب لموقف المشايخ الذين يقدّمون آية وَلاَ تَسُبُّواْ.. في هذا المقام، ولا أفهم ما علاقة هذه الآية بموقفنا ومقصدنا؟ لقد جاء المنعُ في الآية من كيل الشتائم فقط، ولم يُمنع من بيان الحق. وإن اعتبر معاندُ الحق الجاهلُ قول الحق سبَّةً نظرا إلى مرارته وقسوته ثم شرعَ في كيل الشتائم مشتعلا، فهل يجوز في هذه الحالة أن نوصد باب الأمر بالمعروف؟ ألم يقم الكفار بكيل شتائم مثلها من قبل؟ إن النبي لم يكتف باستخدام كلمات قاسية وحدها في تأييد الحق، بل كسر أيضا بيده أوثانا كانت تحتل منصب الألوهية في نظر الوثنيين.
متى أجاز الإسلام المداهنة، وأين ورد مثل هذا الأمر في القرآن الكريم؟ بل يقول الله جل شأنه بصراحة متناهية منعًا للمداهنة بأن الذين يداهنون آباءهم وأمهاتهم في حالة كفرهم، فإنهم أيضا كفار مثلهم. كذلك يقول على لسان كفار مكة: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[44]. أيْ أن الكفار يحبون أن تلين لهم مُـخفيًا الحقَ، فيوافقونك الرأي في دينك، ولكن الله لا يحب ذلك.
فالآية التي قدّمها المعترض لا تدل إلا على أنه ما مسَّ فهم القرآن الكريم، ولا يدرك أنه لو اعُتبرت الآية متعلقة بقسوة الكلام من كل الوجوه، لوجب أن يُوصَد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإضافة إلى ذلك لا بد من الاعتراف، والحالة هذه، أن كلام الله يجمع في طياته أمرين متناقضينِ، أي لا بد من التسليم أنه منع من أيِّ نوع من الكلام القاسي أولا وأكّد على بعثِ الفرحة في قلوب الكفار بكل مناسبة، ثم قام بنفسه بما يناقض قوله وكال للمنكرين كافة أنواع السباب، بل أمر أيضا بذلك.
فليكن معلوما أن المشايخ الذين يظنون أن الله تعالى يمنع من الإتيان بكلام قاس أيًّا كان نوعه وعلى نحو عام، فإن ذلك يعود إلى قصور فهمهم، وإلا فالكلمات القاسية والضرورية لإظهار الحق والمصحوبة بالأدلة على صدقها، فإن بيانها للمعارض بكل وضوح ليس جائزا فحسب، بل من الواجبات، حتى لا يصيب المرءَ بلاءُ المداهنة. إن عباد الله الأصفياء ما خافوا قط لعنة لاعن أو لومة لائم في سبيل التبليغ بكلمات قاسية. ألا تعلمون إلى أيّ مدى تعاظمت الضغينة عند المشركين في زمن النبي ؟ والسبب الوحيد وراءها كان تلك الكلمات القاسية التي عدّها هؤلاء الأغبياء سبابا، وبسببها وصل الأمر من اللسان إلى السِّنان، وإلا؛ لم يكن الناس كذلك في بداية الأمر، بل كانوا يقولون عن النبي لحُسنِ اعتقادهم به: "عشق محمدٌ ربَّه". كما لا يستخدم الهندوس في هذه الأيام أيضا كلمات غير لائقة بحق أصحاب الزوايا وأمثالهم، بل يقدّمون لهم الهدايا والتحف.
لقد مسّتني الحاجة هنا للبيان بكل أسف وقلب حزين أن الاعتراض المذكور الذي وُجِّه إليّ ما أُثير من قبل عامة الناس فقط، بل قد سمعتُ أن بعض المشايخ هم الدافع الحقيقي وراءه. فلا يسعني أن أظن أنهم يجهلون ما جاء في القرآن الكريم والكتب السابقة، إذ لا مجال لهذا الظن[45]. ولكني أعلم أن التحضُّر الزائف - وهو بعيد كل البُعد عن الغيرة الإيمانية - في بلاد أوروبا في العصر الحاضر يضغط على قلوب مشايخنا أيضا إلى حد ما. وقد ذُرِيَ الغبار نوعا ما في أعينهم أيضا نتيجة هبوب العاصفة العاتية، فلضعفهم الطبيعي قبلوا التنازلَ. لهذا السبب يشددون على أفكار لا يوجد لها أصل في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الصحيحة، غير أنها موجودة في كتب الأخلاق في أوروبا دون شك. لقد تقدمت أوروبا في هذه الأخلاق لدرجة أنه باتَ من غير المناسب قط، أن تكسِر امرأة شابة قلب غير المحرم. ولكن هل يوافق القرآن الكريم الأخلاق الأوروبية هذه؟ ألا يعتبر أناسا مثلهم ديّوثين؟ إنني أنبِّه هؤلاء المشايخ لوجه الله إلى أنهم قد ابتعدوا عن الحق ومعرفته نتيجة طعنهم على هذا النحو وترسيخ أفكار كهذه في قلوبهم. وإذا كانوا عقدوا العزم على محاربتي فليقولوا ما يحلو لهم بمنطقهم الجاف، ولكن إذا تأملوا خاشين الله، فإن هذا الأمر ليس بالذي يمكن أن يبقى خافيا عليهم. يجب على سليم الفطرة ألا يدَع سبل الصدق تفلت من يده. بل لو صدر خطأ منه هو، وجرت كلمة الحق على لسان أدنى الناس مرتبة، فينبغي عليه أن يقبل كلام ذلك الشخص البسيط شاكرا له ومعترفا بخطئه، ولا يدّعي: أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ وإلا فإن استكباره سوف يحرمه من الرشد حتما، بل إن إيمان شخص مثله يكون في خطر.
وهناك حكمة أخرى في استخدام الكلمات القاسية، ألا وهي أن القلوب الراقدة تفيق بسببها، وإضافة إلى ذلك يوجَّه بها التحذير إلى الذين يحبون المداهنة. فمثلا؛ في الهندوس قوم معتادون على التعايش كالأصدقاء - إن لم يتعرَّض لهم الآخرون - على مدى الحياة، فيوافقون الرأي في الأمور الدينية على سبيل المداهنة، بل يشرعون في كيل المديح والثناء على نبينا الأكرم والأولياء المسلمين، مع أن قلوبهم تكون مسودة للغاية وبعيدة كل البعد عن الحق. فإن بيان الحق أمامهم بكل مرارة وقسوة يسفر عن نتائج خيّرة، بحيث تزول مداهنتهم في الحال، فيعلنون كفرهم وضغينتهم جهرا وبكلمات صريحة. وكأن مرضهم الكامن يظهر للعيان. فهذا التحريض الذي يُنشئ حماسا كبيرا في الطبائع قد يكون مدعاة للاعتراض الشديد عند قليلي الفهم، ولكن الفطين يفهم بسهولة أنها الخطوة الأولى للتوجُّه إلى طريق الحق. الحق أنه ما دامت أعراض المرض خافية، فلا يمكن علاجها، أما لو ظهرت الأعراض وبرزت للعيان، لكان علاجها ممكنا. الكلمات القاسية التي استعملها الأنبياء كان السبب وراءها هو التنبيه فقط لكي ينشأ الحماس في خلق الله فيستيقظوا من رقود الغفلة نتيجة هذه الهزة، ويتدبروا ويتمعّنوا في الدين، ويتحركوا في هذا السبيل وإن كانت الحركة سلبية، وأن يقيموا صلة مع أهل الحق نوعا ما وإن كانت علاقة عداوة. فإلى هذا الأمر يشير الله تعالى في الآية الكريمة حيث يقول: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا.
اعلموا يقينا أن الذين عكفوا على تصفُّح الكتب الدينية نتيجة التحذيرات القاسية والزاجرة وبدأوا يخطون في هذا السبيل بخطى حثيثة وبحماس - وإن كان ذلك في العداوة حاليا - هم الذين سيدخلون الإسلام بصدق القلب يوما من الأيام. إن أسلوب الهندوس السابق كان يبعثنا على اليأس حين كانوا يفضّلون في قرارة قلوبهم ألا يخوضوا في أي نقاش مع المسلمين، بل قرروا أن يقضوا الوقت وهم يوافقون المسلمين الرأي. أما الآن فقد وقعوا تحت أسلحتنا الحادة ببروزهم في الميدان، وصاروا لنا كصيد قريب يمكن القضاء عليه بضربة قاضية واحدة. يجب ألا نخاف تمردهم الذي هو كتمرد الغزلان، لأنهم ليسوا أعداء في الحقيقة، بل هم صيدنا. الوقت قريب حين تنظرون هنا وهناك فلن تجدوا هندوسيا مثقفًا. فلا تقلقوا لحماسهم ولا تضطربوا، فإنهم يجهّزون أنفسهم سرّا لقبول الإسلام، وقد وصلوا إلى أروقته.
أقول، والحقَ أقول؛ إن الذين ترونهم اليوم مفعَمين بحماس معادٍ، لن تروهم كذلك بعد مدة وجيزة. الآريون الذين خطَوا خطوة إلى المناظرات بتحريض منا، فإنهم بخطوتهم هذه قد فتحوا لقومهم طريقا إلى الإسلام مهما كان أسلوبهم قاسيا، ومهما نشروا كتبا مليئة بالسباب والكلمات النابية في الوقت الحالي. الحق أن تحريضنا لهم، لم ولن يسفر عن نتيجة سيئة. وإن تحريضنا هذا يبدو غير مرضٍ في عيون قصيري النظر حاليا، ولكنكم سترون قريبا كيف تستقطب هذه التحريضات يوما من الأيام أصحاب القلوب القاسية الشديدة القسوة. إن هذا الرأي ليس مبنيا على سوء الظن أو الشك، بل هو أمر يقيني وقاطع. ولكن الأسف على الذين لا يقدرون على التمييز بين الخير والشر، ويهبّون للاعتراض متسرعين. لقد منعنا الله تعالى من المداهنة بصراحة تامة، ولكن لم يمنعنا من قول الحق خشية مرارته وقسوته. فتدبروا أيها العلماء المستعجلون، ألا تقرأون الفرقان؟ ما لكم كيف تحكمون؟
إن صديقي المخلص المولوي عبد الكريم السيالكوتي - وهو شاب مثقف بثقافة حديثة ومصطبغ بصبغة تربية حديثة، ويتحلّى بأفكار لطيفة، وقد تركتْ تربية محبي الصادق وأخي في الله المولوي الحكيم نور الدين، بصفته مربّيا ومعلِّمًا، تأثيرا طيبًا جدا، بل خارقا للعادة في قلبه - حين جاء إلى قاديان مؤخرا لزيارتي، قال بأنه ينوي أن ينشر كتيّبا في موضوع التحضُّر الحقيقي. وذلك لأنه يعلم جيدا أن سبيل التحضر الحقيقي هو ذلك الذي سلكه الأنبياء عليهم السلام دائما، وما اعتُبر استخدام الكلام القاسي بين حين وآخر في هذا السبيل حرامًا، بل عُدّ بمنـزلة الدواء المر الذي لا مندوحة منه. بل إن استخدام الكلمات القاسية في محلها وبحسب مقتضى الحال والحكمة، واجب على كل مبلّغ وواعظ. ولو تساهَل الواعظ وتكاسَل في استخدامها لكان ذلك مؤشرا إلى أن خوف غير الله - الأمر الذي يُدخِل في الشرك - مستولٍ على قلبه، وأن حالته الإيمانية ضعيفة كضعف حشرة الأرض.
فأدعو لهذا الصديق أن يؤيده الله بروح القدس في إرادته في تأليف الكتاب المذكور، وأفضّل أن يكون عنوان كتابه: "التحضّر" كما أشار. لقد وجد صديقي هذا في قلبه حماسا لهذا الموضوع على إثر اعتراض أثاره أحد المشايخ الذي قابله في لاهور صدفة في طريقه إلى قاديان، ووجّه إليّ اعتراضًا في هذا الموضوع.
فيا ربي القادر على كل شيء، مع أنه من سُنَّتك القديمة أنك ترزق الفهم والفِراسة للصغار والأمّيّين، وتلقي على أعين حكماء الدنيا وفلاسفتها المزعومين وقلوبِـهم أغشية حالكة وغليظة، ولكنني ألتمس في حضرتك بمنتهى الإلحاح والتضرع أنِ اجذِبْ إليّ جماعةً منهم أيضا، كما جذبتَ بعضهم مسبقا. وارزُقهم أيضا عيونا وآذانا وأعطِهم قلوبا حتى يروا ويسمعوا ويفقهوا ويقدّروا نعمتك التي أنزلتَها في وقت مناسب، فيتوجّهوا للحصول عليها. إنك على ذلك إذا شئتَ قدير، لأنه لا شيء مستحيل أمامك، آمين، ثم آمين.
الطعن الثاني الموجّه إليّ هو أنني ادّعيتُ كوني المسيح الموعود نتيجة الإصابة بالجنون والـمَلَنْخُوليا[46].
وجوابه: ليس لي أن أسخط لقول أحد عني مجنونا أو تسميته إيّايَ مخبولا، بل إنني سعيد لأن هذا ما سمّى به الجهلاءُ دائما كلَّ نبي ورسول في عصره. وهذا ما لقّب به المصلحين الربانيين قومُهم منذ القِدم. وإضافة إلى ذلك سُررتُ أيضا على أنه قد تحققت اليوم نبوءة نُشرت في "البراهين الأحمدية" جاء فيها أن الناس سيسمّونك مجنونا. ولكن ما يدعو للاستغراب هو؛ أيّة علامة توجد في إعلاني تدل على الجنون؟ وما الذي يخالف العقل في هذا الكلام، مما دفع المعترضين ليشكّوا في إصابتي بالجنون؟ أترك الحكم في ذلك لضمائر المعارضين وعقولهم، وأضع أمامهم كلامي وما حكاه معارضونا ليقرروا أيّ الحزبين مجنون وأيّ الكلامَين أشبه بكلام المجانين عند العقل السليم، وأيهما يعُدّ كلامه مقبولًا.
إن المراد من قولي في المسيح الموعود الذي يُنتظَر نزوله من السماء ومجيئه إلى الدنيا ثانية - كما كشف الله عليّ بفضله ورحمته - هو أنه لم يرد في القرآن الكريم ذكر مجيئه إلى الدنيا ثانية قط، بل القرآن الكريم يرحِّله من الدنيا إلى الأبد. غير أنه قد أُنبِئ عن مجيئِه إلى الدنيا ثانيةً في بعض الأحاديث التي هي مليئة بالاستعارات. والواضح من سياق الأحاديث وسباقها أنه ليس المراد فيها قط مجيء المسيح ابن مريم نفسه حقيقةً، بل هي استعارة لطيفة ودقيقة، والمراد منها أنه سيأتي في زمن يماثل زمن المسيح ابن مريم تماما لإصلاح الخلق شخصٌ يماثل المسيح ابن مريم طبيعةً وكفاءةً ومنصبًا. فكما جدّد المسيح ابن مريم دينَ موسى وكشف على اليهود من جديد مغزى التوراة التي نسوها، كذلك سيجدّد المسيح الثاني دين مثيل موسى - أي سيدنا خاتَم الأنبياء - وسيكون هذا المسيح الذي أُعطيه مثيل موسى، مثيلا للمسيح الذي أُعطيه موسى من حيث سوانح حياته والنتائج الأخرى التي تترتب على قومه في حالة طاعتهم أو عصيانهم له. فالأمر الذي كشفه الله عليّ الآن هو أنني أنا ذلك المسيح الموعود.
يدّعي عامة المسلمين بناء على أفكار قديمة مترسخة في قلوبهم أن المسيح ابن مريم سينـزل من السماء حقيقةً، متكئا على كتفَيْ ملَكَينِ، وسينـزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشقَ، ويقول البعض إنه سينـزل على المنارة، ثم يُنـزله المسلمون منها بواسطة السُلَّم، ومن هناك سينصرف الـمَلكانِ، وسينـزل لابسا لباسا فاخرا ولن ينـزل عاريا، ثم يقابل المهديَّ ويتجاذب معه أطراف الحديث، وسيكون عمره كما كان من قبل أيْ 32 أو 33 عاما على الرغم من مرور كل هذه المدة، ولن يؤثر في عمره مرور الشهور والسنوات الطويلة، ولن يطول شعره أو أظفاره أكثر مما كانا عليه قبل صعوده إلى السماء، ولن يتغيّر في جسمه شيء. أما بعد نزوله إلى الأرض فتبدأ سلسلة التغيّرات في جسمه. ولن يقوم بالحرب والقتال من أي نوع، بل سيملك نَفَسُه تأثيرا يميتُ الكفار على مدى بصره، أي إن نَفَسَه سيكون قادرا على إماتة الأحياء، كما كان قادرا على إحياء الموتى من قبل.
ثم يقدّم المشايخ قولا آخر مناقضا لذلك متناسين كلامهم الأول ويقولون بأنه سيبدأ بالحروب والقتال، وسيُقتَل الدجال الأعور على يده. وسيُقتل اليهود أيضا بأمره. فمن ناحية يقرّون أن المسيح الموعود هو المسيح ابن مريم نبي الله نفسه الذي نزل عليه الإنجيل ونزل عليه جبريل من قبل، وهو أحد رسل الله الكرام. ومن ناحية أخرى يقولون إنه لن يذكر نبوته أدنى ذكر بعد نزوله من السماء، بل سيأتي معزولا عن منصب النبوة، وينضم إلى أمة نبينا الأكرم ويلتزم بشريعة القرآن كبقية المسلمين، ويصلِّي وراء غيره كما يصليّ عامة المسلمين. ويقول البعض إنه سيكون حنفي المذهب ويقتدي بالإمام الأعظم، ولكنهم لم يصرِّحوا إلى الآن أيًّا من فروع هذا المذهب يتّبعه، أي هل سيكون قادريا أو جشتيًّا أو سُهرورديًّا أو نقشبنديا مثل المجدد السرهندي.
باختصار، إنهم قد ذكروا النبوة كعنوان عريض أولا، ثم حَطُّوا من درجته بأسلوب لا يمكن لشخص سليم القوى العقلية أن يفعله أبدا. ثم ذكروا أعماله الأخرى حاملين الاستعارات محمل الحقيقة وقالوا بأنه سيكسر الصليب ويقتل الخنـزير حقيقة.
من الغريب حقا، ولا أفهم ماذا سيستفيد من كسر الصليب؟ فمثلا لو كسر مليونا أو مليونين من الصلبان، ألا يستطيع المسيحيون المشغوفون بعبادة الصليب أن يصنعوا صلبانا أخرى؟ أما القول الثاني (أي قتله الخنـزير)، فهو أيضا يبعث على الاستغراب إذا حُمل محمل الحرفية. هل سيكون العمل الأنسب للمسيح بعد نزوله من السماء أن يبدأ بصيد الخنازير مصحوبا بكلاب كثيرة؟ إذا كان ذلك صحيحا ففي ذلك بشرى للسيخ والفئات الاجتماعية الدنيا الأخرى التي تحب صيد الخنازير. ولربما لن يستفيد المسيحيون من قتل الخنازير كثيرا لأنهم بالغون في اصطيادها الغايةَ مسبقا. وبالفعل هناك ألف محلّ في لندن لبيع لحم الخنـزير. ولقد علمنا من مصادر موثوق بها بأن الأمر لا يقتصر على ألف محل فقط، بل تُرسل كل يوم لحوم 25 ألف خنـزير إلى قرى مجاورة لمدينة لندن.
السؤال المطروح الآن هو: أهذا ما يجب أن يكون عليه شأن نبي الله؛ بأن يأتي لإصلاح خلق الله، ثم يضيع أوقاته الغالية في اصطياد حيوان مقرف؛ ألا وهو الخنـزير؟ مع أن مجرد لمس الخنـزير معصية كبيرة حسب التوراة. وأقول أيضا بأن اصطياد الخنـزير في حد ذاته شغل العابثين. أما إذا كان المسيح مولعا بالصيد فقط وراغبا في هذا العمل ليل نهارَ؛ أفلا توجد في الدنيا دواب طيبة مثل الغزلان والحُمُر الأهلية والأرانب حتى يضطر ليلطِّخ يدَيه بدم دابة نجسة؟
لقد قدّمت الصورة الكاملة التي رسمها قومنا لسوانح المسيح التي يمر بها بعد نزوله من السماء. وللعقلاء أن يتأملوا في مدى تناقضها مع قوانين الطبيعة، ومدى اجتماع النقيضين فيها، ومدى بُعدها عن شأن النبوة.
هنا يجدر بالذكر أيضا أن هذا الكوم من الغث والسمين لا يوجد في الصحيحينِ. لم يذكر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، لا إشارة ولا تلميحا أن المسيح الآتي هو المسيح الأول نفسه حقيقةً، بل نقل عن النبي حديثينِ يحكمانِ أن المسيح الثاني يختلف عن المسيح الأول، لأن مضمون الحديث هو أنه سينـزل فيكم ابن مريم، ثم يبيّن بوضوح أن إمامكم سيكون منكم. فينبغي التأمل في هذه الكلمات جيدا؛ حيث يقول النبي في شرح كلمة "ابن مريم" إن إمامكم منكم وسيولَد فيكم. أي قد شرح الأمرَ من خلال الكلمات التالية - درءا للوسوسة التي كان بالإمكان أن تتطرق إلى الأذهان بسبب كلمة "ابن مريم" - فقال بصراحة تامة بألا تظنوه ابن مريم الحقيقي، بل هو إمامكم منكم. والحديث الثاني الذي يبُتُّ في الموضوع هو أنه قد بيّن أن ملامح المسيح الثاني مختلفةٌ عن المسيح الأول، وهي تطابق ملامحي أنا تماما. فيجب التأمل الآن، أليس في التناقض البيّن بين ملامح المسيحينِ دلالة واضحة وقوية على أن المسيح الثاني غير المسيح الأول؟
والأمر الآخر الجدير بالانتباه هو أن المشايخ مصرون على أنه يجب حَمْل الحديث عن نزول ابن مريم على ظاهره، ولكن حين نسأل العقلاء منهم عن معنى الحديث الذي جاء فيه أن ابن مريم سيكسر الصليب بعد نزوله، ويقتل الخنـزير، فنجدهم يحملون كلمة "ابن مريم" على حرفيتها بالنسبة للنـزول، أما بالنسبة لكسر الصليب وقتل الخنـزير، فيوافقوننا الرأي بصوت خافت ويعتبرونهما مجازا واستعارةً. فإن تصرُّفهم هذا يُدينهم، وعليهم تتم الحجة، لأنهم يستنبطون من كلمتين من بين الكلمات الثلاثة - أيْ نزول ابن مريم، وكسره الصليبَ، وقتله الخنـزيرَ - معنى آخر على سبيل الاستعارة؛ فلماذا لا يُراد من الكلمة الثالثة، أي نزول المسيح، شخصٌ آخر على سبيل الاستعارة؟
هنا أسألهم: هل التمسكُ بهذه الأفكار - التي هي مجموعة تناقضات - هو التعقل والفطنة، أم التمسك بتلك المعارف الأقرب إلى الفهم والعقل التي كشفها الله تعالى عليّ؟
وإضافة إلى ذلك هناك اعتراضات عقلية كثيرة وقوية جدا تقع على تلك الأفكار البالية ولا سبيل للخلاص منها.
فمن جملة تلك الاعتراضات أنه لا يثبت من القرآن الكريم قط أن المسيح قد رُفع إلى السماء بجسده المادي، بل قد ورد في عدة آيات ذكر وفاته بكل صراحة. وقد ورد في إحدى الآيات إقرار المسيح نفسه بموته؛ وذلك في قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[47]. فلما ثبتت وفاته تبيَّن من ذلك أن جسمه قد دُفن في الأرض مثل بقية الناس الذين يموتون، لأن القرآن الكريم يقول بكل صراحة إن روحه هي التي رُفعت إلى السماء وليس جسده. لهذا السبب فقط أقرّ المسيح بموته بكل جلاء في الآية المذكورة. فلو كان قد رُفع إلى السماء حيا بجسده المادي، لما ذكر موتَه قط، ولما قال بأني ارتحلت من هذه الدنيا بالموت. فمن الظاهر أنه ما دامت روحه وحدها قد رُفعت إلى السماء، فمن أين سيأتي الجسم معها عند النـزول؟
ومن جملة الاعتراضات أن الفلسفة القديمة والحديثة تقول باستحالة وصول الإنسان إلى كرة الزمهرير بجسمه المادي. وقد أثبتت البحوث الحديثة في مجال العلوم الطبيعية أن الهواء على قمم بعض الجبال مضرٌّ بالصحة، لدرجة استحالة الحياة عليها تماما، وبذلك فإن وصول الجسم المادي إلى سطح القمر أو إلى الشمس، هي فكرة لاغية تماما[48].
ومن جملة تلك الاعتراضات أن القائلين بوجوده المادي في السماوات؛ يعترفون بحركتها أيضا في الوقت نفسه، ويقولون بأن حركتها دائرية. ولو افترضنا جدلا أن المسيح صعد إلى السماء بجسده المادي، لكان واضحا أنه لا يمكن أن يكون اتجاهه إلى الأعلى دائما، بل سيكون متجها إلى الأعلى أحيانا وإلى الأسفل أحيانا أخرى ليصل إلى تحت الأرض. وفي هذه الحالة لا يمكن الجزم أنه سينـزل من فوق حتما. أليس ممكنا أن يخرج من تحت - صاعدًا إلى الأرض - والحالة هذه؟ لأنه ليس مستقرا في مكان واحد، بل يمكن أن يصبح فوق السماء ويمسي تحت الأرض. فأي إساءة أكبر من أن نجوِّز له هذه المصيبة الكبرى؟
ومن جملة تلك الاعتراضات أنه لو قبلنا جدلا أن المسيح صعد إلى السماء بجسده المادي، فلا بد لنا من الإقرار أيضا أن يخضع جسده في السماء لتأثير الدهر كما تتأثر أجساد بقية الناس والدواب. وبمرور الوقت سيأتي عليه الموت لا محالة يوما من الأيام. ففي هذه الحالة لا بد من الإقرار أن المسيح أولا وقبل كل شيء قد مات على الأرض بعد أن قضى فترة حياته، ودُفن في مقبرة ما في أحد الأماكن المكتشَفة اليوم على كوكب الأرض. ولكن لو قبلنا جدلا كونه حيا في السماء، فلا شك أنه قد أصبح شيخا فانيا بعد مرور كل هذه المدة الطويلة، ولن يكون قادرا على أداء أية خدمة دينية. وإن مجيئه إلى الدنيا، والحالة هذه عديم الجدوى تماما، ولا هدف من ورائه إلا تحمّل المعاناة دون مبرر.
بيان العلامات التي بيّنها المسيح
على سبيل الاستعارة عن مجيئه
وتفسير سورة الزَّلزَلة
لقد بيّن المسيح علامة مجيئه الثاني بأن تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوق عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا... مَتَى رَأَيْتُمْ هذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ، إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ. وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ." (إِنْجِيلُ مَتَّى 24: 29-39)
أيْ كما كان الناس يعيشون في أمن وسلام قبل أن يصنع نوحٌ الفُلك، ولم تحلّ بهم آفة سماوية أو أرضية، كذلك سيأتي ابن آدم (أي المسيح) أيضا في زمن أمن الناس وبحبوحتهم ولن تحلَّ بهم حادثة سماوية قبل مجيئه، بل يكونون مشغولين في أمورهم كالمعتاد في أمن وسلام.
لا بد أن يكون القراء قد اطلعوا على تناقض ظاهري في كلام المسيح المذكور آنفا، لأنه قد أكّد على أن تُظلم الشمسُ قبل مجيئه وألا يعطي القمر ضوءه وأن تسقط نجوم السماء على الأرض. فلو حُملت هذه العلامات على الظاهر لكان المعنى بديهي البطلان، لأنه إذا أظلمت الشمس وغاب ضوء القمر فأنّى للدنيا أن تعيش في سلام كما في زمن نوح؟ ولكن دعْ عنك هذا أيضا، إذ قد تعيش الدنيا ببعض الصعوبة في هذه الحالة، ولكن إذا سقطت النجوم على الأرض، فهل يمكن أن يبقى أحد من سكان الأرض على قيد الحياة؟ بل الحق أنه لو سقط نجم واحد من السماء على الأرض لكان في ذلك كفاية لهلاك الدنيا كلها، إذ ما من نجم أقل من كرة الأرض طولا وعرضا. فيمكن لنجم واحد أن يغطي جميع سكان الأرض بعد سقوطه عليها، فما بالك لو سقطت جميع النجوم دون أن يتضرر بها شخص واحد، بل يعيشون في أمن ووئام مثل زمن نوح قبل نزول المسيح، فيُبصرونه نازلا من السماء على سحاب السَّماء بقوة ومَجدٍ كثير.
فيا طلاب الحق، اعلموا يقينا أن هذا الكلام يحتوي على استعارات لا تُحمل محمل الحقيقة قط. كل ما يهدف إليه المسيح هو أنه سيكون ذلك الوقت وقت الظلام على الدين، ويكون ظلام الضلال عندئذ منتشرا بحيث لن يفتح الناس عيونهم بضوء الشمس أيضا، والذي يراد منه النبي وشريعته وكتابه، لأن شمس الشريعة تكون قد أظلمت حسب زعمهم نتيجة حُجُبٍ تحجب نفوسهم. ولن يعطي القمر ضوءه، أي لن ينفع وجود الأولياء أيضا، لأنه لن يبقى في قلوبهم حب رجال الله، بسبب انتشار الإلحاد في كل حدب وصوب. وستسقط النجوم من السماء، أي سيموت علماء الحق. وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع، أي لن تقدر السماء على أن ترفع أحدا إلى الأعلى، بل سينجذب الناس إلى الأرض يوما فيوما، أي تستولي على الناس أهواء النفس الأمارة. لن تكون عندها حروب ولن يحدث خلل في أمن عامة الناس وعافيتهم، بل سيعيشون في أمن ووئام مثل زمن نوح - في ظل حكومة آمنة[49]- فينـزل فيه المسيح الموعود.
ليكن معلوما أن زمن نوح كان زمن أمن وسلام عميم، من حيث المبادئ الاجتماعية. كان الناس يقضون حياتهم الطويلة في رفاهية وبحبوحة وأمن وسلام. ولهذا السبب أصبحوا غافلين إلى أقصى الحدود. لا نعرف فيما إذا كانت سلطنة شخصية قد سادت آنذاك، أو كانت البحبوحة والرفاهية منتشرتين إلى هذا الحد لعامة الناس في ظل حكومة ديمقراطية متفق عليها.
على أية حال، إن الناس الذين عاشوا في ذلك الزمن يشبّهون كثيرا بالذين يعيشون في ظل عطوفة الحكومة البريطانية من حيث راحة البال والأمن والعافية. إن أسباب الأمن والسلام والرفاهية التي هيأتها هذه الحكومة للرعية يتعذر إحصاؤها، وكأنها قد جعلت حياتهم نموذجا للجنة. ولكن بسبب العيش في غاية الراحة والأمن والرفاهية البالغة ذروتها، تطرقت إلى قلوب الناس آفةٌ بأنْ صارت الحياة الدنيوية حلوة المذاق في أعينهم، بل يزداد حبها في القلوب يوما بعد يوم. حيثما أجَلْنا النظر رأينا رغبة وحيدةً ثائرة عند الناس، وهي أن ينالوا مرامًا كذا، ويحققوا هدفًا كذا. وبسبب انتشار الأمن يزداد كل شيء دنيوي قدرا؛ فمثلا إن الأراضي المزروعة التي ما كان أحد يقتنيها ولو بالمجّان في عهد السيخ، تُباع الآن بمئات آلاف الروبيات. ولقد اتسعت سبل الأرباح لدرجة كسْبِ الناس اليوم من بيع الزُبالة والعظام، بما لم يكونوا ينالونه ببيع أفضل أنواع الغلال في الأزمنة الخالية. ولا يقتصر الأمر على هذه الأنواع من الراحة، بل لو تأملتم في الموضوع لرأيتم أنه قد وُجدت اليوم أسباب الراحة في كافة مجالات الحياة وأمور الحِلّ والترحال التي لم يحلم بها الناس في الأزمنة الغابرة. لو شبّهنا عصر هذه الحكومة المباركة بعصر الأمن السائد في زمن نوح ، لوجدناه أشبه ما يكون به دون أدنى شك.
والآن، ما دام قد ثبت أن المسيح الصادق ما وعد قط بمجيئه في زمن الحروب والقتال والجَور والجفاء الذي لا يقدر الإنسان على العيش فيه بأمن وسلام، والذي يُبطش فيه بالصالحين ويُسلَّمون إلى المحاكم ويُقتَلون، بل قال المسيح بكلمات صريحة بأن الـمُسحاء الكذبة سيظهرون في المسيحيين واليهود في تلك الأزمنة المليئة بالفتن كما ظهر في أزمنة سبقتها كثيرون ادّعوا كونهم المسيح. لذلك أكّد المسيح أن مجيئه لن يكون في تلك الأزمنة الأولى قط، ولن يأتي في أيام الضجة والضجيج والجور والجفاء والحروب، بل سيأتي في أيام الأمن والوئام، غير أن الإلحاد سيكون منتشرا في تلك الأيام نتيجة الأمن والسلام البالغَينِ الغايةَ، ويكون حب الله قد غاب من القلوب تماما كما حدث في زمن نوح . فهذه علامة مميزة قدمها المسيح كعلامة على مجيئه، فاقبلوها إن شئتم.
هنا لا بد من تحليل سؤال آخر، وهو: ما هي المهمة المتميِّزة والعظيمة التي سيأتي المسيح لإنجازها؟ فإذا ظُنّ أنه سيأتي لقتل الدجال فهي فكرة واهية وبالية، لأن قتل كافر ليست بمهمة كبيرة تقتضي مجيء نبي بوجه خاص، لاسيما وقد قيل بأنه لو لم يقتل المسيحُ الدجالَ، لانصهر وانتهى أمره تلقائيا. بل الحق أنه قد تقرر مجيء المسيح من عند الله ليُتم حجة صدق الإسلام على الأمم كلها، وتتم حجة الله على أمم العالم كلها. هذا ما أُشير إليه حين قيل بأن الكفار يموتون بنَفَس المسيح، أي أنهم يُهلَكون بالأدلة البيّنة والبراهين القاطعة.
ومهمة المسيح الأخرى هي أن ينـزّه الإسلام عن الأخطاء والإضافات، ويقدّم لخلق الله تعليمه المفعَم بالحياة والصدق.
ومهمته الثالثة هي أن يهب نور الإيمان للقلوب المهيأة في أقوام العالَم كله، ويميز المنافقين من المخلصين. فقد كلّفني الله تعالى بهذه المهمات الثلاث. والحق أنه مقدَّر منذ البداية أن المسيح سيكون مجدد عصره، وسيوفقه الله تعالى لخدمات التجديد من الدرجة الأولى. فهذه هي الأمور الثلاثة التي أراد الله تعالى أن تتم بواسطة هذا العبد المتواضع، ولسوف يُتِمّنَّ الله مشيئته ولينصرنَّ عبده.
وإن قيل إن الأحاديث تبين بكل وضوح أن المسيح ابن مريم سينـزل من السماء عند المنارة شرقي دمشق متكئا على ملَكَين، فكيف يمكننا نبذُ هذا الكلام الواضح الصريح؟!
فجوابه أن النـزول من السماء لا يدل على نزول جسد مادي من السماء حقيقةً، بل لا توجد في الأحاديث الصحيحة كلمة "السماء" مطلقًا. ثم إن كلمة النـزول كلمة شائعة، فيقال "نزَل" لشخصٍ يسافر من مكانٍ ويحل بمكان آخر؛ ويقال أيضا: "نزَل الجيش أو الركبُ بمكان كذا". فهل يُفهَم من ذلك أن الجيش أو الركب نزل من السماء؟ ولقد قال الله تعالى في القرآن الكريم صراحةً بأنه قد أنزل الرسول ، بل قال تعالى في موضع آخر: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ. فظهر جليًا أن النـزول من السماء ليس على الشكل والأسلوب الذي يظنه الناس. فالقول إن المراد من كلمة "دمشق" هي دمشق نفسها - مع وجود الاستعارات التي تملأ الأحاديثَ عموما، كما تزخر بها مكاشفات النبي ورؤاه - ليس إلا ادّعاء دون دليل، والتزام بما لا يلزم[50].
جدير بالانتباه أيضا أن أنباء الله تُخفي بعض الأمور وتُظهر بعضها الآخر، ومن النادر جدا أن تُظهر جميع الأمور من كل الوجوه، لأن الله تعالى يريد أن يبتلي الناس من بعض الوجوه، وتكون معظم الأنباء مصداقا للآية: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [51]. لذا فإن المتشبثين بظواهر الأمور يتعرضون للابتلاء وينخدعون عند ظهورها. فالذين يريدون أن تتحقق كل كلمة من كلمات النبوءة حرفا حرفا بصورة ظاهرية كما فهموها - وهذا لا يحدث مطلقًا - هم الذين ينكرون النبوءات في معظم الحالات ويحرمون من غايتها المتوخاة. فمثلا قد جاء في بعض الأنباء الواردة في الكتاب المقدس بحق المسيح أنه سيكون مَلِكا، ولكن بما أنه ظهر كالفقراء والمساكين، فلم يؤمن به اليهود. والسبب الوحيد في هذا الرفض والإنكار كان حمل الكلمات على ظاهرها؛ إذ حملوا كلمة "الـمَلك" على ظاهرها. كذلك وردت في توراةِ موسى نبوءة عن سيدنا ومولانا محمد أنه سيُبعث في بني إسرائيل ومن إخوتهم، فظن اليهود أن المراد من هذه النبوءة أنه سيُبعَث من بني إسرائيل، في حين كان المراد من إخوة بني إسرائيل؛ هم بنو إسماعيل. كان الله تعالى قادرا على أن يقول "بني إسماعيل" مباشرة بدلا من قوله " إخوة بني إسرائيل" حتى ينجو ملايين الناس من الهلاك، ولكنه لم يفعل ذلك لأنه أراد أن يمتحن الصادقين والكاذبين بهذه المسألة. فلهذا السبب تُذكَر كثير من الأمور على سبيل الاستعارة والمجاز، فينقسم الناس إلى حزبين نظرا إليها؛ حزب يتبع ظواهر الأمور فقط وينكر الاستعارات كلَّها ويريد أن يرى تحقق النبوءات بصورتها الظاهرية، فيُحرَم هذا الحزب في معظم الأحيان من قبول الحقيقة الحقة في حينها، بل يصل أمرهم إلى بُغضٍ وعداوة وضغينة شديدة. فجميع الأنبياء الذين جاءوا إلى الدنيا - ووردت عنهم أنباء في الكتب السابقة - قد عارضهم وأنكرهم بشدةٍ أولئك الذين أرادوا أن يروا تحقق الأنباء بحرفيتها الظاهرة. فمثلا؛ فيما يتعلق بنـزول النبي إيليا ومجيئه الثاني إلى الدنيا لهداية خلق الله؛ ورد في الكتاب المقدس أن النبي إيليا الذي رُفع إلى السماء، سيأتي بنفسه إلى الدنيا ثانيةً. واليهود متمسكون بكل شدة بظاهر الكلمات، مع أنه قد شهد نبي عظيم أي المسيح بكل وضوح بأن إيليا المنتظَر نزوله من السماء، هو مرشدكم يحيى بن زكريا. ولكن اليهود لم يقبلوا ما قاله ، بل سخطوا عليه كثيرا بناء على تلك الأمور، وظنوا أنه يريد أن يلوي عبارات التوراة باستمداده معاني أخرى منها، لأنهم كانوا يعقدون أملا قويا بناء على أفكارهم المادية - بل وما زالت الفكرة المزعومة نفسها مترسخة في قلوبهم - أن إيليا بنفسه سينـزل من السماء بين ظهراني جماعة من اليهود، وستُنـزِله الملائكةُ على بناية شامخة في البيت المقدس سانديه بأيديهم من اليمين واليسار. ومن ثَمّ سينـزل إيليا بواسطة سلَّم، وسيقضي على معارضي اليهود قاطبة على وجه الأرض. وما دام قد ورد أيضا في كتبهم الإلهامية أنه لا بد من نزول إيليا من السماء قبل نزول المسيح، فلم يؤمنوا به بسبب هذه المعضلة؛ أي لأن إيليا لم ينـزل من السماء كما يزعمون. وقالوا له بصراحة؛ إنا منكروك، لأن المسيح الذي ننتظره لا بد أن ينـزل إيليا من السماء قبله ليمهّد الطريق له. فقال المسيح في الجواب بكل شدة وقوة: إن إيليا المزمع مجيئه، إنما هو "يحيى بن زكريا"؛ هذا الذي لم تعرفوه. ولكن اليهود لم يقبلوا قول المسيح قط، بل ظنوا أن هذا الشخص يُلحد في نبوءات التوراة ويحرفها، ويشوّه المعاني الظاهرية ويُلبسها مفهوما آخر بالشد والجذب بُغية تعظيم مرشده. فإن وبال تمسك اليهود بظواهر الأمور حرَمَهم من معرفة الحقيقة. فبسبب حملهم الاستعارات محمل الظاهر، كُتبت لهم اللعنات الأبدية، مع أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم معذورين، لأنهم كانوا ينظرون إلى ظاهر الكلمات التي وردت في الكتاب المقدس.
من المؤسف حقا أن إخواننا المسلمين أيضا واقعون في الدوامة نفسها، وقد ترسخت في أذهانهم أيضا - مثل اليهود - فكرة أنهم سيرون المسيح نازلًا من السماء حقيقةً، وسيرون بأم أعينهم أعجوبة نزوله من السماء لابسا لباسا أصفر، والملائكة عن يمينه ويساره، وسيتفرّج عليه الناس من أهل المدينة والقرى من بعيد كما يتفرج الناس على مهرجان كبير. وسيتهلل الصغار والكبار صارخين بأعلى صوتهم: ها هو نازل! ها هو قد جاء! حتى ينـزل على منارة شرقي دمشق، ثم سينـزِل من هناك بواسطة السُلَّم، ويسلِّم على الحضور ويسأل عن أحوالهم ويطمئن عليهم.
من اللافت حقا أن هؤلاء القوم لا يفكرون أن الدنيا دار الابتلاء، فلا تظهر فيها المعجزات بهذه الطريقة قط، وإلا لخرجت دعوة الإسلام عن حدود الإيمان بالغيب. لقد قلت من قبل إن كفار مكة أيضا طلبوا من سيدنا ومولانا أفضل الرسل معجزة من هذا النوع تماما، ولكن قيل لهم في الجواب بوضوح أن ذلك خارج عن سنن الله.
الأسف كل الأسف أن الناس من أمتنا قد تورّطوا في معضلات عويصة بحملهم الاستعارات على الحقيقة، ويواجهون صعابا تعذّر عليهم الخلاص منها، أما سبل الخلاص فلا يقبلونها. فمثلا، ورد في حديث في صحيح مسلم أن المسيح سينـزل من السماء بين مهرودتين، فما أعبثها وأسخفها من فكرة لو حُمل ذلك على الظاهر! إذ لا يُعقل السبب وراء لبسه لباسا أصفر بوجه خاص. ولكن لو اعتبرنا الكلام استعارة كشفية وفسرناها حسب مذاق المفسرين وتجاربهم، لكان التفسير المعقول هو أن المسيح سيكون معتل الصحة بعض الشيء عند ظهوره، ولن تكون صحته على ما يُرام، فهذا هو تفسير ارتداء اللباس الأصفر بحسب كتب تعبير الرؤى. ومن الواضح أن هذا التفسير هو الأنسب والأقرب إلى العقل والفهم لعالَـم الكشوف والرؤى، لأنه قد ورد في كتب تعبير الرؤى بوضوحٍ أنه إذا شوهد أحد في المنام (أو الكشف) مرتديا لباسا أصفر، فيجب تفسير المنام بأنه مريض أو على وشك الإصابة بمرض. ليت المفسرين والمحدثين فسّروا هذه العبارة بذوق علمي ومحقق، وقالوا: "إن المراد منه أنه عندما يظهر المسيح ويعلن كونه المسيح الموعود على الملأ، فلن تكون حالته الصحية على ما يرام، بل ستلازمه عِلّة جسدية وضعف بدني حتما، ويكون ذلك علامة على صدقه وكأنه لباس له"؛ عندها لكان هذا التفسير جميلا ودقيقا للغاية، ومبنيا على الصدق والحق. ولكن الأسف كل الأسف على أن المشايخ لم يفعلوا ذلك، بل إنهم، ولسذاجتهم وفكرهم البالي؛ لايزالون ينتظرون - مثل اليهود تماما - أن ينـزل المسيح من السماء لابسا في الحقيقة - حلّة صفراء ملوَّنة بلون الزعفران.
ليت المشايخ يروا مرة في المنام أنهم يلبسون لباسا أصفر ثم يمرضوا أيضا، عندها سيُعتبر كلامنا هذا جديرا بالتقدير في أعينهم. ولكن المشكلة أنه لا حظّ لهم في الروحانية مطلقا، فيصوغون كل شيء في قالب مادي مثل علماء اليهود. ولكن هناك حزب آخر وهبهم الله تعالى بصيرة وفراسة، فيريدون أن يفهموا الأمور السماوية وفق القانون السماوي، ويعتقدون بوجود الاستعارات والمجاز، ولكنهم قلة قليلة للأسف. والنوع الأكثر انتشارا في قومنا هم أولئك الذين يتهافتون على أفكار مادية ولا يدرون أن قانون الله تعالى الملحوظ في الطبيعة عموما والمتعلق بوحيه ومكاشفاته؛ يشهد بصراحة تامة على عكس زعمهم. يلاحَظ مئات المرات أن الإنسان يرى في الرؤيا شيئا، ويُراد منه شيء آخر؛ فمثلا يرى أحدهم في المنام ليلا أن شخصا معينا قد حضر، ولكن عندما ينبلج الصبح يحضر بدلا منه شخص آخر يشبهه.
يوجد في كلام الأنبياء كثير من الأمثال والاستعارات. فمثلا، قال النبي لأزواجه المطهرات، أمهات المؤمنين: أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي، أَطْوَلُكُنَّ يَدًا. فاستيقن أهل البيت جميعا أن المراد من طول الأيدي هو طولها الظاهري، حتى بدأت أزواج النبي يقسن طول أيديهن؛ ولكن عندما توفّيت السيدة زينب رضي الله عنها، فهِمنَ أن المراد من طول اليد كان صفة الإيثار والسخاء التي كانت السيدة زينب تتحلى بهما أكثر من غيرها.
أما الفكرة أن المسيح ابن مريم سيأتي إلى الدنيا بصورة التناسخ، فلا فكرة أردأ وأسخف وأخجل منها. إن القائلين بالتناسخ يعتقدون بعودة مَن كانت تزكية نفسه في الدنيا ناقصة. ولكن الذين يرحلون من هذه الدنيا بعد عبورهم مراحل الكمال كلها يُدخَلون الجنة لمدة طويلة بحسب زعمهم.
إضافة إلى ذلك لقد وعد الله أهلَ الجنة، بحسب اعتقادنا، أنهم لن يُخرَجوا منها أبدا. فأستغرب جدا لماذا يريد المشايخ أن يُخرِجوا المسيحَ من الجنة؟ ثم إنهم بأنفسهم يقولون إن إدريس حين دخل الجنة بإذن من مَلك الموت، أراد ملك الموت بعد ذلك أن يخرجه منها مرةً، ولكن إدريس رفض ذلك وقرأ عليه آية: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ[52]. فأتساءل هنا: ألا يحق للمسيح أن يستفيد من هذه الآية؟ هل صارت هذه الآية بحكم المنسوخ في حقه؟ وإذا قيل بأنه سيُرسَل إلى الدنيا بعد الانحطاط في مرتبته لأن الناس ألّهوه بغير حق، قلتُ: هذا ليس خطؤه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[53]. وبالإضافة إلى ذلك هناك أمر آخر جدير بالتأمل: إن الفكرة بخروج المسيح ابن مريم من الجنة ومجيئه إلى الدنيا حقيقةً؛ تنافي تصريحات القرآن الكريم تماما. إن القرآن الكريم قد بيّن وفاة المسيح في ثلاث آيات بكل صراحة ويعذره من خطأ تأليه المسيحيين إياه، ويقول إن المسيح ليس مخطئا في ذلك، لأنه قد مات قبل زمن ضلالهم هذا.
إذن، فإن القرآن الكريم يقول بأن المسيح قد مات منذ مدة طويلة. أما إذا كانت الأحاديث أحب إلى المشايخ من القرآن، فيجب عليهم أن يستمدوا منها معنىً لا يستلزم تكذيب مضمون القرآن. كلما أفكر في الموضوع أتوصل إلى نتيجة حتمية، وهي أن المشايخ لم يتوجهوا قط إلى التوفيق بين الأحاديث والقرآن الكريم، بل حيثما ذهب وهْل أحدهم صدفة، صار يشدد عليه. أعلم يقينا أنه ليس سهلا على المشايخ أن يوفّقوا بين القرآن الكريم وأفكارهم التي تبنّوها بالتشبث بظاهر كلمات الأحاديث. بل كلما توجهوا إلى ذلك سيُدينهم نور قلبهم، أو قولوا إن شئتم؛ سيؤنبهم ضميرهم، وينبِّههم إلى أن الأفكار المادية المطبوعة في أذهانهم، لا توافق القرآن الكريم مطلقا، ولا تفتح سبيلا لتفسير تلك الآيات تفسيرا معقولا.
من الواضح تماما أنه إذا كان هناك حديث يتعارض - من حيث مفهومه - مع بيّنات القرآن الكريم، فالإيمان بالقرآن الكريم أَولى، لأن درجة الأحاديث لا تُقارن بدرجة القرآن الكريم قط. والاحتمالات التي من شأنها أن تُضعف الثقة بالأحاديث، لا يمكن أن يتطرّق إلى القرآن الكريم شيء منها. فلماذا لا نقدِّم في كل الأحوال القرآن الكريم الذي يتفق على صحته القوم كلهم وجُلُّهم، ولدينا أدلة قوية على كونه محفوظا مصونا منذ البداية. يجب على المشايخ أن يوفِّقوا توفيقا كاملا بين مضامين القرآن الكريم والحديث قبل أن يوجِّهوا إليّ اعتراضا بهذا الصدد، وعليهم أن يفهِّموني عقلا ومنطقا كيف ينـزل من السماء جسد المسيح الذي دُفن في الأرض بعد وفاته ودخوله الجنة حسب نصوص القرآن الكريم، فالقرآن الكريم نفسه يقول بوفاة المسيح بكل صراحة ووضوح؟ وليس القرآن وحده الذي يدحض أفكار المعترضين علينا، بل الأحاديث الصحيحة أيضا تنافيها أيما منافاة. ولنأخذ مثلا حديث صحيحِ البخاري: "إمامكم منكم". فلو لم يُؤوَّل هذا الحديث بتأويلات ركيكة، بل استُنتِج منه معنىً بحسب ظاهر كلماته؛ لكان واضحا جليا أن معناه الصريح هو أنه سيكون إمامكم، وسيأتي من بينكم، أي سيكون من المسلمين، ولن ينـزل من السماء المسيحُ - ابن مريم - نفسه، الذي نزل عليه الإنجيل وأُعطِي أمة منفصلة.
وجدير بالانتباه في هذا المقام أن الإمام محمد بن إسماعيل بعد أن أورد في صحيحه حديثَ "إمامكم منكم" سكت عن المسيح المنتظر. ومن هنا يتبيَّن أنه كان أيضا يتبنّى هذا المذهب، وما كان يعتقد قط أن المسيح ابن مريم سينـزل من السماء في الحقيقة، بل صرّح بمذهبه بصراحة تامة بإيراد عبارة "إمامكم منكم". كذلك أورد الإمام البخاري - في صحيحه - في حديث المعراج ذكر لقاء سيدنا ومولانا النبي في السماء بالأنبياء الآخرين، ولم يذكر قط وجود عيسى هنالك بالجسد المادي بوجه خاص، بل ذكر لقاءه بروح عيسى مثل لقائه بأرواح إبراهيم وموسى عليهم السلام دون أدنى فرق. بل كانت المحادثة بين روح موسى والنبي بصورة أكثر وضوحًا وجلاء. فلا يبقى مجال للشك بعد قراءة هذا الحديث في أنه إذا كان المسيح قد رُفع إلى السماء بجسده المادي، فلا بد أن يكون إبراهيم وموسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام أيضا قد رُفعوا إليها بأجسادهم المادية، لأن النبي رآهم ليلة المعراج في السماء على هيئة واحدة، ولم ير أية علامة خاصة في المسيح تدل على رفعه بالجسم المادي، ولم توجد تلك العلامة في غيره من الأنبياء. إن دارسي الأحاديث يعرفون جيدا أن لقاء النبي الأنبياء ليلة المعراج قد بيّن كونهم جميعا على حالة وهيئة واحدة، وأنه لم يذكر أية خصوصية للمسيح . ألا يقتضي هذا الأمر انتباها خاصا من قِبل المشايخ؟
وكذلك فالنقطة الدقيقة الأخرى التي نطَّلع عليها بالتدبر في سورة "القَدْر" هي أن الله تعالى قد قال في هذه السورة بجلاء وبكلمات صريحة بأنه كلما يأتي مصلح سماوي إلى الدنيا، ينـزِّل معه الملائكة، ويجذبون إلى الحق أناسا مهيَّئين له. وبهذا نستفيد فائدة جديدة من مضمون آيات سورة "القدر" وهي أنه إذا نشأت في قوى الناس - في زمن الضلال والغفلة الشديدة - حركة عفوية وخارقة للعادة للتحري والبحث في أمور الدين من تلقاء أنفسهم، لكانت هذه إشارة إلى أن مصلحا سماويا قد جاء، لأن نشوء هذه الحركة دون نزول روح القدس مستحيل. وإن تلك الحركة تكون على قسمين بحسب مواهب الطبائع واستعدادها؛ أي الحركة التامة والحركة الناقصة. إن الحركة التامة هي تلك التي تهب الروح نـزاهة، وتنشِّط العقل والفهم إلى حد كبير، وتوجههما إلى الحق. أما الحركة الناقصة فهي أن يتنشط العقل والفهم إلى حد ما بتحريض من روح القدس، ولكنهما لا يتوجهان إلى الحق بسبب عدم سلامة المواهب والاستعداد، بل تنطبق عليهما آية: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا[54]. أي أن الحركة في فهْم هذا الشخص وعقله تؤدي إلى تدهور حالته أكثر من ذي قبل، وذلك مثلما حدث في أزمنة جميع الأنبياء؛ إذ أنه كلما نزِّلت الملائكة، تنشأ مع نزولهم حركة عامة في الطبائع بوجه عام، وبتحريض باطني من الملائكة. فيُجذَب أبناء الصدق إلى هؤلاء الصادقين، أما الذين هم ذرية الشيطان فهم أيضا يستفيقون من رقود الغفلة ويتوجهون أيضا إلى أمور الدين، ولكن لا يستطيعون التوجُّه إلى الحق بسبب النقصان في مواهبهم واستعدادهم.
إذًا، إن الملائكة الذين ينـزّلون مع المصلح الرباني يقع تأثيرهم في كل شخص، فيتأثر الصالحون بالتأثير الطيب، ويتأثر الطالحون بالتأثير السيئ؛ كما يقول بيت بالفارسية، تعريبه:
"لا خلاف في طبيعة المطر، ولكن بنـزوله تنبت في الحدائق الأزهار والورود، وفي الأراضي القاحلة الكلأ والعشب".
فالآية: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا تشير إلى ذلك التأثير ذي الأنواع المختلفة، كما قلت من قبل.
من الجدير بالاهتمام أيضا أن زمن نزول كل نبي يكون في زمن ليلة القدر، حيث ينـزل بأمر الله، هو والكتاب الذي يُعطاه، وتنـزّل الملائكة لنصرته أيضا. ولكن أعظم ليلة قدر هي تلك التي أُعطيها نبينا الأكرم . الحق أن زمن ليلة القدر هذه ممتد من زمن النبي إلى يوم القيامة. وكل حركة أو نشاط يحدث في قلوب الناس أو في قواهم العقلية منذ زمن النبي إلى يومنا هذا، إنما هو من تأثيرات ليلة القدر هذه. والفرق الوحيد هو أن الحركة في قوى سليمي الطبيعة تكون كاملة ومستقيمة، أما قوى الأشقياء العقلية فتتحرك بزيغٍ وبصورة غير مستقيمة. والزمن الذي يولَد فيه نائب رسول الله في الدنيا، تتنشط تلك الحركات بسرعة هائلة. بل تبدأ الحركة والنشاط في القوى الإنسانية سِرًّا إلى حد ما، وذلك منذ الزمن الذي يُخلق فيه ذلك النائب في رحم أمه، وتنشأ حركة في قوى الناس على قدر كفاءاتهم، ثم تتنشط هذه الحركة كثيرا عندما يُعطَى ذلك النائب صلاحيات النيابة.
فليلة القدر التي قُدِّرت عند نزول نائب رسول الله هي في الحقيقة فرعٌ، أو قولوا إن شئتم ظِلٌ لليلة القدر التي أُعطِيها النبي . ولقد أعلى اللهُ تعالى شأنَ ليلة القدر هذه كثيرا، إذ وردت بحقها الآية الكريمة: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ[55]. أي في زمن ليلة القدر هذه الذي سيمتد إلى يوم القيامة، ستُنشر في الدنيا أمور الحكمة والمعرفة كلُّها، وتُنشر أيضا أنواع علوم غريبة ومعارف نادرة وصناعات عجيبة على صحيفة العالم. وستُبرَز المؤهلات الكامنة في القوى البشرية بحسب الإمكانيات المختلفة لبسطتهم في العلم والعقل وبقدر كفاءاتهم للتقدم. ولكن كل ذلك سيظل مستمرًّا نتيجة الحركات القوية في الزمن الذي يولَد فيه في الدنيا نائب الرسول . والحق أن هذه الآية قد فُصِّلت في سورة "الزَّلزَلة" بمزيد من الشرح، لأنه بإنزال سورة القدر قبل سورة الزلزلة، أُشيرَ إلى أنه قد جرت سنة الله في أن كلام الله يُنـزّل في ليلة القدر دائما، وأن نزول نبيّ الله في الدنيا، يكون في ليلة القدر، وفيها أيضًا تنـزّل الملائكة، والتي بسببها ينشأ في الناس حماس للحسنات، فيظلوا عاكفين على جذب القلوب المتحمسة إلى الحق؛ بدءًا من ليلة الضلال الحالكة الظلام، وإلى انبلاج صبح الصدق والحق.
وبعد هذه السورة بيّن الله تعالى في سورة "البيِّنة" الغاية من ذلك، فقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ[56]. أي؛ ما كان هناك من سبيل لأهل الكتاب والمشركين للنجاة من البلايا القاسية التي كانوا يواجهونها، إلا السبيل الذي فتحه الله تعالى بنفسه؛ إذ أرسل رسولا عظيما، وأنزل معه ملائكة يُنشئون في القلوب حماسا شديدا، وأنزل كلاما عظيما أيضا. ثم يبشر الله في سورة الزلزلة بالزمن المقبل ويشير في قوله: إذا زُلزِلتْ إلى أنه حين ترون هذه العلامات، فاعلموا أن ليلة القدر هذه قد ظهرت مرة أخرى بكل قوة وشدة، وأن مصلحا ربانيا قد نزل من الله تعالى مع ملائكة ينشرون الهداية. كما يقول تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي أن علامة تلك الأيام الأخيرة - حين يأتي مصلح عظيم من الله، وتنـزّل الملائكة في الزمن الأخير - هي أن الأرض ستُزلزَل إلى أقصى حد ممكن، أي ستُحرَّك الطبائع والقلوب والأذهان إلى أقصى درجة ممكنة، وأن النشاطات العقلية والفكرية والسَبُعية والبهيمية ستتحرك بكل حماس. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا: أيْ أن قلوب الناس ستُظهِر للعيان مواهبها الخفية كلها. وستُظهر للعيان كل ما فيهم من خزائن العلوم والمعارف أو القوى والكفاءات العقلية والذهنية الخفية، فسيظهر للعيان جوهر القُوى الإنسانية كلها. وسيأتي من مَكْمَن القوة إلى حيِّز الفعل كل ما في الإنسان من المواهب والكفاءات أو العواطف المودَعة في طبيعته. وسيستبين كلُّ نوع من الدهاء الكامن في حواس الإنسان كالذكاء ودقَّة النظر المودعة في العقل البشري. وسيسيطر الناس على دفائن وكنوز جميع العلوم والمعارف التي كانت لا تزال خافية ومستورة، ويوصلون خططهم الفكرية والعقلية إلى منتهاها في كل مجال. وتتنشط جميع قوى الإنسان المتأصلة في فطرته بفعل مئات التحريكات. والملائكة الذين تم تنـزيلهم مع هذا البطل المصلح في ليلة القدر سوف يُلقون بتأثيرهم الخارق للعادة على كل شخص على قدر كفاءته؛ بمعنى أن الصالحين يتقدمون في أفكارهم الصالحة، أما الذين تقتصر نظرتهم على الدنيا فقط فسيأتون - بتحريض من هؤلاء الملائكة - بخوارقَ من حيث العقول الدنيوية والأمور الاجتماعية، لدرجةٍ تُحير المرء العارف أيضا، فيقول في نفسه: من أين لهم هذه القوى العقلية والفكرية؟ عندها تتكلم كل موهبة إنسانية بلسان حالها وتقول: إن هذه القدرات العليا ليست من عندي، وإنما هو وحي الله النازل على كل شخص على قدر كفاءته وحالته. أيْ سوف يبدو للعيان بكل وضوح أن ما تقوم به قلوب الناس وأذهانهم ليس من عند أنفسهم بل هو تحريض من الغيب يدفعهم إلى تلك الأعمال.
ففي ذلك اليوم تثور كل قوة، حتى إن قوى الناس الماديين أيضا تثور بتحريض من الملائكة - وإن لم تتجه إلى جادة الصواب بسبب النقصان في كفاءاتهم - ولكن يحدث فيها التموُّج على أية حال، وبسبب زوال الخمول والتحجُّر منها يكتشفون لمنهج عيشهم أساليب غريبة وأدوات ومعدات مختلفة. أما الصالحون فتتراءى في قواهم عينُ الإلهامات والمكاشفات لتتدفق بشكل خارق للعادة وبكل جلاء، وسيكون من النادر جدا أن تبطل رؤيا المؤمن. عندها تكتمل دائرة ظهور القوى الإنسانية، وكلّ ما أُودع في البشر من الأسرار سيظهر للعيان ويتجلّى بوضوح. وعندها تقوم ملائكة الله بجمع الصادقين كحزب واحد، بعدما كانوا يعيشون في مختلف أكناف العالم في خفاء. وكذلك يتراءى حزب أهل الدنيا من الناس أيضا بوضوح تام، ليرى كل حزب ثمرات مساعيه. عندها يصل الأمر إلى نهايته. هذه هي علامة ليلة القدر الأخيرة التي وُضع أساسها من الآن، والتي قد بعثني الله تعالى أولا لإكمالها، وقال لي مخاطبا ما نصه: "أنت أشد مناسبة بعيسى ابن مريم وأشبه الناس به خُلقا وخَلقا وزمانا." ولكن تأثيرات ليلة القدر هذه لن تتضاءل، بل تظل تعمل بصورة متواصلة ما لم يتحقق كلُّ ما قدّره الله تعالى في السماء.
والزمن الذي حدده عيسى في الإنجيل لنـزوله، إنما هو زمن الأمن والوئام، مثل زمن نوح . والحق أن سورة الزلزلة التي فسّرتُها قبل قليل تشهد على الموضوع نفسه كضرورة لازمة، لأن زمن انتشار العلوم والمعارف وتقدُّم عقول الناس لا بد أن يكون في زمن الأمن التام في الحقيقة، إذ من المستحيل تماما أن يحصل التقدم في الأمور العقلية والعملية في زمن الحروب والمفاسد، وفي زمن الأخطار على الأرواح. بل الحق أن هذه الأمور لا تخطر بالبال إلا إذا كان الإنسان يحظى بالأمن كاملا.
أما ما فسّر به المشايخ المعاصرون سورة الزلزلة بأن الأرض ستُزلزَل في آخر الأيام، وبذلك ستُقلب الأرض رأسا على عقب، وتُخرِج على السطح كل ما فيها من الأشياء، ويسأل الناسُ - أي الكفارُ - الأرضَ: ما بكِ؟ فتتكلم الأرض يومها وتحدِّث أخبارها، فإن هذا التفسير خاطئ تماما، وينافي أسلوب القرآن الكريم. فلو أمعنّا النظر في القرآن الكريم في هذا المقام لتبين لنا بصراحة متناهية أن هاتين السورتين، أيْ البيِّنة والزلزلة تتعلقان بسورة القدر، وتتحدثان عن أحوال ليلة القدر، والظروف السائدة فيها إلى نهاية الدهور والعصور.
وبالإضافة إلى ذلك؛ فكيف لكل عقل سليم أن يدرك أنه إذا انقلبت الأرض رأسا على عقب نتيجة الزلزال المهيب، بأن الكفار سيعيشون ليستفسروا الأرض عن أحوالها؟ هل يمكن أن تنقلب الأرض رأسا على عقب تماما ومع ذلك يبقى الناس أحياء؟ بل المراد هنا هو أهل الأرض، وهذا أسلوب شائع في القرآن الكريم؛ إذ أنه يراد من الأرض، قلوب أهلها وقواهم الباطنية. وذلك مثل قوله جل شأنه: اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا[57]، وقوله أيضا: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا[58]. كذلك هناك عشرات الأمثلة في القرآن الكريم بهذا الصدد لا تخفى على القراء الكرام.
كما إن ظهور الوُعّاظ الروحانيين وتنـزيل الملائكة معهم يكون نموذجا للقيامة الروحانية، إذ يؤدي ذلك إلى الحركة والنشاط في الأموات الروحانيين. والمقبورون يخرجون من أجداثهم، وينال الصالحون والطالحون جزاءهم جزاءً وفاقا. فإذا اعتبرنا سورة الزلزلة من علامات القيامة، فلا شك أن وقتا مثله يكون قيامة روحانية نوعا ما، إذ يأتي عباد الله المؤيَّدون متمثلين في قيامة فعلية، ويمكن أن يسمَّى وجودهم قيامةً فعلا، فبمجيئهم يبدأ الأموات الروحانيون بالعودة إلى الحياة، فيمثِّل وجودهم القيامة حقا. ومما لا شك فيه أيضا أنه عندما يأتي الزمن الذي تُظهر جميع القوى البشرية كمالها للعيان، وتترقّى العقول والأفكار البشرية قدر الإمكان، وتظهر كافة الحقائق الخفية التي كان إظهارها مقدرا منذ البداية؛ عندها تكتمل دائرة العالم، وتُطوى صفحته دفعة واحدة.
كل شيء فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
ديــــــنــنــا
"إننا من عشاق الفرقان وعشاق نبينا، بهذا الاعتقاد أتينا إلى الدنيا وبه سنـرحل منها"[59]
إن ملخص ديننا ولبه هو "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". إن اعتقادنا الذي نتمسك به في هذه الحياة الدنيا، وبه سوف نرحل من عالم الفناء هذا بفضل الله وتوفيقه؛ هو أن سيدنا ومولانا محمدا المصطفى هو خاتم النبيين وخير المرسلين الذي قد اكتمل الدينُ على يده، وتمت النعمة التي بواسطتها يستطيع الإنسان أن يصل إلى الله بسلوكه الصراط المستقيم. ونؤمن باليقين الكامل بأن القرآن الكريم كتاب سماوي، ولا يمكن أن تُزاد إلى شرائعه وحدوده وأحكامه وأوامره أية إضافة أو نقطة أو تُنقَص منها. ولا يمكن أن يكون وحي أو إلهام من الله من شأنه أن يغيِّر في أحكام الفرقان شيئا أو ينسخها. ومن اعتقد ذلك فهو خارج عندنا من جماعة المؤمنين وملحد وكافر. ونؤمن أيضا بأنه لا يمكن للإنسان أن يحرز أدنى درجة من الصراط المستقيم على الإطلاق دون اتباع نبينا دعْ عنك الحصولَ على أعلى مدارج الصراط المستقيم دون الاقتداء بإمام الرسل هذا. من المحال كليةً أن نحصل على أية درجة من الكمال والشرف، أو نحرز أي مقام من العزة والقربى، إلا باتباع صادق وكامل لنبينا الكريم ، بل كل ما نناله إنما هو بواسطته وعلى سبيل الظلية. ونؤمن أيضا بأننا إن أحرزنا أية كمالات، فإنها ليست إلا أظلالا مقابل كمالات الصادقين والكمَّل الذين أكملوا منازل السلوك بفضل نيلهم شرف صحبة النبي ؛ إذ أنهم قد حازوا بعض الفضائل الجزئية التي لا يمكن أن ننالها الآن بشكل من الأشكال.
فإننا نؤمن بكل ما ورد في القرآن الكريم الذي جاء به النبي من الله تعالى. ونوقن أن المحدَثات والبدعات كلها ضلالة صريحة، وطريقا يوصل إلى جهنم. ولكن من المؤسف حقا أن في أمتنا أناسا كثيرين يُدخلون بعضَ الحقائق والمعارف القرآنية ودقائق الآثار النبوية أيضا - التي تنكشف في وقتها عن طريق الكشف والإلهام بجلاء أكثر - في قائمة المحدَثات والبدعات، مع أن معارف القرآن والحديث المكنونة تظل تُكشف على أهل الكشف باستمرار، ويقبلها علماء الوقت دائما. أما معظم المشايخ في هذا العصر فأمرهم غريب عجيب؛ إذ لو فَسّرَ الإلهامُ - الذي لم تنقطع سلسلته قط - بعضَ المكاشفات النبوية المجملةِ والاستعاراتِ القرآنية المكنونة في وقت مناسبٍ، لنظروا إليها بالإنكار والاستهزاء؛ مع أنهم يقرؤون في الصحاح أحاديث تقول بأن للقرآن ظَهرا وبطنا، وأن عجائبه لن تنتهي إلى يوم القيامة، ويقرّون بأفواههم دائما أن معظم المحدّثين الكبار كانوا يعتقدون أن كشوف الأولياء وإلهاماتهم تقوم مقام الحديث الصحيح.
لقد نشرتُ في كُتيِّبيّ "فتح الإسلام" و"توضيح المرام" بناء على الكشف والإلهام أن المراد من المسيح الموعود هو أنا العبد الضعيف، ثم سمعت أن بعضا من المشايخ قد استشاطوا غضبا واعتبروا بياني هذا من البدعات التي تخرج عن نطاق الإجماع وتخالف العقيدة المتفق عليها، ولكنهم مخطئون في ذلك خطأ كبيرا.
أولا وقبل كل شيء؛ يجب أن يكون معلوما أن عقيدة نزول المسيح ليست جزءا من إيماننا، كما إنها ليست ركنا من أركان ديننا، بل هي نبوءة من بين مئات النبوءات التي لا علاقة لها بجوهر الإسلام وحقيقته. لم يكن الإسلام ناقصا خلال الزمن الذي لم تُبيَّن فيه هذه النبوءة، ولم يكتمل الإسلام حين أُنبئ بها. ثم ليس ضروريا للأنباء أن تتحقق بصورتها الظاهرية حتما، بل تضم معظم الأنباء في طياتها بعض الأسرار الكامنة التي قد لا يفهمها حتى الأنبياء الذين ينـزل عليهم ذلك الوحي، دع عنك أن يفهمها غيرهم على وجه اليقين. فما دام سيدنا ومولانا بنفسه قد أقرّ أنه قد فهم بعض النبوءات بطريقة ما، ولكنها تحققت بطريقة أخرى، فأنّى للآخرين - وإن كانت الأمة بأسرها- أن يدّعوا بأنه لا يوجد في فهمهم خطأ؟ لقد فضّل السلف الصالح دائما أن يؤمنوا بالنبوءات إجمالا، ويتركوا تفاصيلها وكيفية تحققها إلى الله تعالى.
ولقد قلت من قبل أيضا إن الطريق الأسلم الذي يضمن سلامة الإيمان هو ألا يركّز الإنسانُ كثيرا على كلمات النبوءة الظاهرية وحدها، وألا يدّعي تعصبًا منه أنها ستتحقق بصورتها الظاهرية حتما لأنه لو لم يحدث ذلك في نهاية المطاف لضاع إيمانه - لا سمح الله - نتيجة تطرق الشكوك المتنوعة إلى صدق النبوءة. لا تثبت من النبي وصية قط تقول بأن تحملوا الأنباء محمل الظاهر دائما ولا تقبلوا استعارة أو تفسيرا لها مطلقا. فالجدير بالتدبر الآن أنه إذا كان احتمال وقوع الأنبياء أنفسهم في الخطأ في فهم النبوءات واردا، فما حقيقة الاتفاق أو الإجماع الأعمى للأمة إذن؟
إضافة إلى ذلك قلتُ مرارا بأن الأمة ما أجمعت على هذه النبوءة قط. والقرآن الكريم يصرح في آياته البينات بوفاة المسيح بصورة قاطعة ويرحِّله للأبد. أما صاحب صحيح البخاري فقد سكت بعد أن أورد في صحيحه: "إمامكم منكم"، أيْ قد ورد في صحيح البخاري في وصفِ المسيح أنه شخص منكم، ويكون إمامكم. صحيح أن حديث نزوله عند المنارة شرقي دمشق وارد في "صحيح مسلم"، ولكن ذلك لا يُثبت إجماع الأمة، بل يتعذر الإثبات أيضا أن الإمام "مسلم" كان يعتقد في الحقيقة أن المراد من دمشق هو مدينة دمشق المعروفة حقيقةً. ولو فرضنا ذلك جدلا لما ثبت منه إلا رأي شخص واحد فقط. ولكن لما كان من المستحيل أن يسلَم رأي أنبياء الله الأطهار أيضا من الخطأ في الاجتهاد بصدد الأنباء، فأنّى لرأي الإمام "مسلم" أن يُعتَبَر معصوما من الخطأ؟
أكرر وأقول: إن أفكار عامة المسلمين - بمن فيهم الأولياء أيضا - لا يمكن أن تسمَّى إجماعا. لقد قبل المسلمون الأنباء بصورتها الظاهرية ولكنهم لم يدّعوا - وليس لهم أن يدّعوا أصلا - أن الله ليس بقادر على أن تكون للنبوءة بعض التفاصيل الكامنة التي لم تُكشَف بعد. الحق أن مذهب الأنبياء جميعا كان أن يفوِّضوا حقيقة النبأ إلى علمِ الله الواسعِ. ولهذا السبب لم يُهمِل هؤلاء المقدسون الدعاءَ قط مع تلقيهم البشارات. لقد كان هناك وعد؛ بالفتح والانتصار في معركة بدر، ولكن سيدنا ومولانا مع ذلك، ظل يدعو؛ ظنا منه أنه قد تكون في النبأ أمور مكنونة أو مشروطة بشروط ما أُخبِر بها.
أما الادّعاء بأن جميع الصحابة وأهل البيت ظلوا يعتقدون تماما بما نعتقد به نحن، فهو لغو ولا دليل عليه. إن الله وحده أعلم بما في قلب كل شخص من الأفكار والآراء. فمتى سجل أحدٌ إفادات الناس جميعا؟ أو متى سمع أحد بياناتهم من أفواههم ونشرها؟ علمًا أن عدد الصحابة آنذاك كان يربو على عشرة آلاف صحابي، ولكن عدد رواة هذه النبوءة قد لا يربو على اثنين أو ثلاثة منهم على أكثر تقدير. وزدْ إلى ذلك أن روايتهم أيضا لا تثبت بوجه عام، لأن الإمام البخاري الذي هو ناقد بصير في فن الحديث؛ لم يعتبر جميع تلك الروايات مما يُعْتَدُّ به. ولا مجال للظن أن تلك الروايات المبنية على الغث والسمين لم تصل الإمامَ البخاري الذي كان يقوم بجهد جهيد بهذا الصدد. بل الأصح والأقرب إلى الفهم هو أن الإمام البخاري لم يعتدّ بها؛ إذ وجدها تعارِضُ ظاهريًا حديثَ: "إمامكم منكم". ولما كان هذا الحديث بالغا من الصحة الغاية، فلم ينقل في صحيحه الروايات التي كانت تعارضه من حيث المضمون، معتبرا إياها ساقطة عن مرتبة الثقة.
والآن، يمكن للقارئ اللبيب أن يدرك أنه لا يثبت إجماع خير القرون مطلقا على أن المسيح سينـزل في دمشق حتما، لأن الإمام البخاري - وهو إمام فن الحديث - لم يقبل هذا الحديث. أما ابن ماجه فقد خالف هذا الحديث أيضًا وأورد "بيت المقدس" بدلا من دمشق. وهكذا؛ فكل واحد يقول شيئا مختلفا عن غيره، فأين الإجماع؟
وإذا حدث الإجماع بالافتراض جدلا، فمع ذلك لا ضير فيه ولا غضاضة، لأن هؤلاء الأسلاف لم يدّعوا قط أنه ليس له أكثر من هذا المعنى، بل كانوا يُرجعون التفاصيل إلى الله على طريقة مسنونة.
لقد أثبتنا بكل جلاء أنه لو اعتُبرت هذه النبوءة مقتصرة على ظاهر كلماتها، لواجهتنا معضلات عويصة؛ إذ تثار مئات الاعتراضات قبل أن ينـزل المسيح من السماء. فما حاجتنا لمواجهة كل هذه المصاعب؟ وما حاجتنا أن ننـزل ابن مريم من السماء ونقبل عزله من النبوة، ونحقّره بأن يؤمَّ شخص آخر فيقتدي به المسيحُ، وأن يأخذ شخصٌ آخر من الناس بيعة الإمامة والخلافة بحضوره، فيراه المسكين بعين الحسرة دون أن يقدر حتى أن يذكر نبوته أدنى ذكر، لكونه أحدا من المسلمين؟ ثم كيف نتفوّه بكلمة تقرب الشرك، بل هي الشركُ بعينها، فنقول بأن الدجال الأعور سيحيي الأموات بقدرته وقوته مثل الله، وسيُري قدرات الألوهية بوضوح دون أن يتعرض له أحد ويقول: يا أيها الإلهُ الأعور أصلِح عينك أولا! هل يجيز التوحيد الذي علَّمنا إياه الإسلامُ مثلَ هذه القدرات لمخلوق؟ ألم يجعل الإسلامُ هذه الأفكار السخيفة تحت أقدامه؟
من الغريب حقا أن حمار الدجال أيضا - عند هؤلاء المسلمين - يملك جزءا من الألوهية! إذ يقولون إن الدجال هو الذي خلقَ الحمارَ. فما دام الدجال هو المحيي والمميت والخالق أيضا، فأي شك بقي في ألوهيته؟ وينعتون حماره بأنه سيجول في الشرق والغرب في يوم واحد. أما عندنا فيمكن أن يكون المراد من الدجال هم الأقوام المتقدمة، وأن يكون المراد من حماره القطارُ الذي ترونه يقطع آلاف الأميال في بلاد الشرق والغرب. ثم يجب التأمل أيضا في شأن المسيح، أَلَنْ يضحك علماء الطبيعة والفلاسفة على فكرة أنه لما كان الصعود إلى ثلاثين أو أربعين ألف قدم فوق الأرض مدعاة للهلاك، فكيف وصل المسيح إلى السماء بجسده المادي؟ أوَليست مدعاة لضحك المعارضين أن يقال إن الاختلاف بين ملامح المسيح الأول والثاني ناتج عن تغيّر في ملامحه بتقدُّمه في السن؟
هناك أمر آخر جدير بأن يتدبره المشايخ؛ وهو أن الأحاديث لا تذكر دجالا واحدا فقط، بل ورد فيها ذكر دجالين كثيرين. وبالتدبر في المثل الفارسي: "لكل دجال عيسى"، يُفهم بسهولة أنه يجب أن يكون المراد من "عيسى" هو مثيلُه. ويدعم كلامَنا الحديثُ الذي يضم نبوءة عن مثيل المصطفى الذي يسمّى "المهدي" بتعبير آخر. وذلك لأن الحديث يتضمن كلمات تدل بصراحة أن النبي يُنبئ في تلك النبوءة بمثيله إذ يقول بأن المهدي سيشبهني خُلقا وخَلقا، ويقول أيضا: يواطئ اسمُه اسمي، واسمُ أبيه اسمَ أبي. فملخص الحديث، أن ذلك الشخص سيكون مثيله . فمن هنا يستطيع كل فطين أن يفهم بسهولة أنه كما ذُكر في الحديث مثيل المصطفى ، كذلك ذُكر مثيل المسيح أيضا، ولا يعني ذلك أن يراد من المصطفى مثيله، أما المسيح فيأتي بنفسه؛ فتدبّر!
فمن الواضح أن الأدلة العقلية والنقلية والشرعية التي كتبناها تأييدا لعقيدتنا الإلهامية، تكفي لتحقيق مرامنا. حتى لو افترضنا جدلا أننا لم نتمكن من دحض الشبهات كليةً، فمع ذلك لا حرجَ علينا لأن الإلهام الإلهي والكشف الصحيح يؤيدنا، ففيهما كفاية لنا.
فمن واجب العالِم الملتزم أن يلزم الصمت بعد سماع مضمون "الإلهام" و"الكشف"، ويتوقف عن الدخول في القيل والقال. وإذا كان لدى الذين يخالفوننا الرأي بعض الأدلة من الأحاديث، فلا تقلّ عنها عددا الأدلة النقلية والشرعية التي معنا وتؤيدنا. إن القرآن الكريم معنا وليس معهم، وإن الأحاديث الواردة في صحيح البخاري تؤيدنا ولا تؤيدهم. كما إن الأدلة العقلية المأخوذة من تجارب الفلاسفة وعلماء الطبيعة معنا، وليس في يدهم شيء منها. وفوق كل ذلك إن الإلهام الرباني والكشف السماوي شاهد على بياننا، وليس عندهم ما يشهد على إصرارهم.
لا أرى في غير محله القول هنا بأن كافة المحدثين والصوفيين الذين تصبّغوا بصبغة المعرفة الكاملة والتفقه التام، يعتقدون بقناعة تامةٍ بحُجيّة الإلهام والكشف، وإن لم يعتقد به بعض المتكلمين والأصوليين المتمسكين بظواهر الأمور. ولقد بيّن ذلك صديقنا الشيخ أبو سعيد "محمد حسين" البطالوي بالإسهاب في مجلته "إشاعة السنة" رقم 11 مجلد 7.
وننقل فيما يلي لفائدة القراء، شيئا مما أورده الشيخ محمد حسين من كتاب "الميزان" للإمام عبد الوهاب الشعراني، و"الفتوحات المكية" للشيخ محيي الدين "ابن عربي"، ودعمه برأيه: يقول الإمام عبد الوهاب - في الصفحة 13 من كتابه "الميزان"- ما مفاده: إن صاحب الكشف يكون متساويا مع المجتهدين في مقام اليقين، وفي بعض الأحيان يسبق بعضهم لأنه يغترف من العين نفسها التي تخرج منها الشريعة. ثم يقول الإمام: إن صاحب الكشف لا يكون محتاجا إلى العلوم التي جُعلت ضرورية للمجتهدين للتدليل على صحة اجتهادهم، وإن قول صاحب الكشف يساوي آية أو حديثا عند بعض العلماء.
ثم يقول في الصفحة 33 ما مفاده: إن بعض الأحاديث تكون مختلَفا فيها عند المحدِّثين، ولكن أصحاب الكشف يُطلَعون على صحتها، كما أن الحديث "أصحابي كالنجوم" لا يخلو من النقد عند المحدثين، ولكنه صحيح عند أهل الكشف.
ثم يقول في الصفحة 34 ما معناه: ليس عندنا دليل من العقل أو النقل أو الشرع يدحض كلام أهل الكشف، لأن الشريعة نفسها تؤيد الكشف.
ثم يقول في الصفحة 48: معروف عن كثير من أولياء الله أنهم حضروا مجلس النبي في عالم الأرواح أو بصورة الكشف، وأن معاصريهم قبلوا إدّعاءهم هذا.
ثم عدّ الإمام الشعراني أسماء هؤلاء الناس بمن فيهم الإمام المحدث جلال الدين السيوطي، ثم قال: إني رأيت ورقة عليها توقيع جلال الدين السيوطي في يد جليسه الشيخ عبد القادر الشاذلي، وكانت موجَّهة إلى شخص طلب من الإمام أن يشفع له عند حاكم الوقت. فكتب الإمام في جوابه ما مفاده: إنني أحضر عند النبي لتصحيح أحاديث يعتبرها المحدثون ضعيفة. وقد حضرتُ عنده إلى الآن 75 مرة في اليقظة. ولولا خوفي أن ذهابي إلى الحاكم سيتسبب في انقطاع حضوري عنده لذهبتُ إلى الحصن وشفعتُ لك.
وما كتبه الشيخ محيي الدين ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" بهذا الصدد يتلخص في أن الأولياء يسألون النبي عن الأحكام في الكشف، وكلما احتاج أحدهم إلى حديث لأمر ما، يتشرّف بزيارة النبي ، ثم ينـزل جبريل فيسأله النبي عن الأمر الذي يريده الوليُّ ثم يخبر الوليَّ، أي ينكشف ذلك الأمر بصورة ظلية بنـزول جبريل.
ثم يقول الشيخ ابن عربي بأننا نطلب من النبي تصحيح الأحاديث بهذه الطريقة. فهناك أحاديث كثيرة صحيحة عند المحدِّثين ولكنها ليست صحيحة عندنا. وهناك أحاديث كثيرة أخرى موضوعة عندهم ولكن تثبت صحتها بقول النبي في الكشف. تم كلامه.
ولقد قال أيضا ابن عربي في "الفتوحات المكية" بأنه تُكشَف على أهل الذكر والخلوة علوم لدُنِيَّة لا ينالها أهل النظر والاستدلال، وأن هذه العلوم اللدنية والأسرار والمعارف، خاصة بالأنبياء والأولياء فقط. وقد نُقل عن الجُنَيد البغدادي أنه حاز هذه المرتبة بعد بقائه في تلك الحالة إلى ثلاثين عاما. ونُقل عن أبي يزيد البُسطامي أن علماء الظاهر يأخذون من الأموات، ونحن نأخذ من الحيّ؛ أيْ من الله تعالى. تم كلامه.
كذلك نقل الشيخ أبو سعيد "محمد حسين" البطالوي كلاما طويلا بهذا الصدد من رئيس المحدّثين "شاه ولي الله" قدّس الله سِرَّه، وأورد شهادات العلماء والزهاد الآخرين أيضا، ولكننا لا نستطيع أن ننقلها في هذا الكتاب كاملةً ولا حاجة لنا لنقلها أصلا، إذ إن عظمة الإلهام والكشف ومرتبتهما السامية ثابتة من القرآن الكريم.
إن الذي خرق السفينة وقتل الولَد البريء - كما ورد في القرآن الكريم - كان ملهَما فقط، ولم يكن نبيا. إن قضية الإلهامات والكشوف ما اعتُبرت في الإسلام ضعيفة حتى تنطفئ شعلتها النورانية بأفواه الناس. هذه الحقيقة وحدها تشكِّل آية عظيمة للإسلام ستُظهر عظمة الإسلام المنقطعة النظير إلى يوم القيامة. هذه هي البركات الخاصة التي لا توجد لدى أصحاب الأديان الأخرى. الحق أن المشايخ يكذِّبون أحاديث النبي بمعارضتهم هذا الإلهام. لقد ثبت من النبي قوله أنه لا بد من مجيء المجدد على رأس كل قرن. والآن فليقل لنا المشايخ - الذين يزعمون اتّباع الأحاديث ظاهريا - عدلا وإنصافا: من الذي ادّعى، بإلهام من الله، على رأس هذا القرن كونه مجددا؟
صحيح أن تجديد الدين عملية مستمرة دائما، ولكن مفهوم الحديث هو أن ذلك المجدد سيأتي من الله تعالى؛ أي مزوَّدا بالعلوم اللدنية والآيات السماوية. قولوا بالله عليكم، إذا لم يكن هذا العبد المتواضع على الحق، فأخبروني مَن أتى على رأس القرن الرابع عشر وادّعى مثلي؟ هل قام أحد مثلي أمام المعارضين كلهم، بالدعاوى المبنية على الوحي؟ تفكَّروا وتندَّموا واتقوا الله ولا تَغْلُوا.
وإذا كنت مخطئًا في دعوايَ بكوني المسيح الموعود، فاعملوا ما بوسعكم كي ينـزل من السماء مَن كان المسيح الموعود في رأيكم، وفي هذه الأيام، لأنني موجود الآن، ولكن الذي تنتظرونه ليس بموجود، ولا يمكن إبطال ادعائي إلا بأن ينـزل من السماء الآن مَن تنتظرونه ليثبت إجرامي. إن كنتم على الحق فادعوا الله تعالى مجتمعين أن يظهر المسيح ابن مريم نازلًا من السماء على وجه السرعة، وسوف يستجاب هذا الدعاء إن كنتم صادقين، لأن دعاء أهل الحق مقابل المبطلين مجاب. ولكن اعلموا جيدا أن دعاءكم هذا لن يستجاب أبدا، لأنكم على الخطأ. إن المسيح قد ظهر، ولكنكم لم تعرفوه. والآن لن يتحقق أبدًا أملكم هذا الذي ليس إلا ضربًا من الوهم. سينقرض هذا الزمن ولن يرى أحد منكم المسيح نازلًا من السماء. لقد حدد معظم المشايخ في القرن الثالث عشر أن موعد ظهوره هو القرن الرابع عشر، وبعضهم أوصوا أهل القرن الرابع عشر قائلين: إذا وجدتم زمنه بلّغوه سلامنا، ومنهم "شاه ولي الله" رئيس المحدثين.
وأخيرا أريد أن أقول بأني لا أنكر أن يظهر بعدي شخص آخر مثيلا للمسيح، لأن أمثال الأنبياء يأتون إلى الدنيا دائما، بل قد سبق أن أظهر الله تعالى عليّ في نبوءة قطعية ويقينية أن شخصا سيولَد من ذريتي، ويكون شبيها بالمسيح من عدة وجوه: فسينـزل من السماء ويمهد الطريق لأهل الأرض ويفك رقاب الأسارى وينجي المقيَّدين في سلاسل الشبهات، ولد صالح كريم ذكي مبارك. مَظهر الحق والعَلاء، كأن الله نزل من السماء. أما أنا فقد جئت باسم المسيح الموعود بحسب نبوءة معينة توجد في كتب الله المقدسة، والله أعلم وعلمُه أحكم.
[60]** "أقول وإن لم يستيقن الناس - كلما تحدثوا عن المسيح ونزوله - إن الله ألهمني أنني صفيُّه ومصداق ظهوره
أنا الموعود، وجئت وفق العلامات المذكورة في الأحاديث، فوا أسفا؛ ما فتحوا العيون ليعرفوني
أنا آدمي اللون، والفرق كما بيّنه سيدي بَيّنٌ في الشَعرِ
لا مجال للشك والريب في مقدمي، فقد ميّزني سيدي عن مسيحٍ أحمر اللون
لا تتعجب من ذكر المنارة الشرقية، لأن شمسي ستطلع من الشرق
أنا ذلك الذي جاء بحسب البشارات، فأين عيسى حتى يضع قدمه على منبري
والذي أدخله الله تعالى في جنّات الخلد[61]، أنّى يُخرجه منها خلافا لوعوده
لأن الكافر يعبد المسيح بغير حق، فقد جَعَلَتْني غيرةُ الله مثيلا له
اذهب واقرأ القرآن ليُكشف عليك[62] مكنون سرّي
يا ربي، أين العارف بأسرار كشوفي؟ حتى يأتيَ نورُ باطنه بخبر من النبي عني
إن تلك القِبلة أطلَّتْ بوجهها في القرن الرابع عشر بعد أن أزيلت الأوثان من الحرم
لقد تدفق لطفُ فيض ذلك الينبوع، فتصاعدت أصوات ذلك الحبيب من كل زقاق
خَف اللهَ يا أيها المعترض، واصبر حتى يُظهر الله نور نجمي
لِـمَ لا تدرس الأمر بحسن الظن، فلماذا تخرج من حدوده يا أخي؟
لماذا تَطْعَنُني بسكين لسانك؟ لم آتِ من تلقاء نفسي، بل الله أرسلني
أنا مأمور ولا خيار لي في ذلك، فاذهب واسأل ربي عن أمري، فهو الذي أرسلني
يا مَن تعدو إليّ حاملا مئات الفؤوس، إني غصن مثمر، فالبستانيَّ خَفِ
أبلِّغ دعوة السماء إلى الأرض، أين أذهب بها بعد سماعها إن لم أبلِّغها للآخرِ
يا قومي لا تضيقوا ذرعًا بكلامي، ولا تثوروا بادئ ذي بدء، وادرسوا قصتي إلى آخرها
لا أقول ذلك من تلقاء نفسي، بل هو مكتوب في لوح محفوظ، فامحُ إن استطعتَ ما قدّره ربي
إني في حيرة من أمري لحالة قومي، فيا رب ارحم، فإنني مضطرب بسبب هذا القلق
ليس لديهم عيون ولا آذان ولا نور قلبٍ، لم يبق لديهم إلا اللسان الذي لا يساوي درهما
لقد اتخذوا الإساءة إليّ عادة، وإني أسوأ عندهم من كل كذاب
فيا قلبي راعِهمْ رعاية خاصة فهم على الأقل يدّعون حبّ رسولي
يا من تُنكر دعوة الملائكة وترفض نداء الله، لا تبحث عن العيب بي، فأنت نفسك المُخطي
يا عزيزي؛ روحي تذوب حزنا على إيمانك، وإني في نظرك كافر، يا لعجبي
إذا كنت تريد أن تُكشف عليك حقيقة صدقي، فاطلب نور القلب من الله ذي الإكرام
أنا لا أفكر في تكفير أحد أبدا، فأنا سكران من كؤوس ألطاف حبيبي
أنَّى لِطَعْن الأعداء أن يؤثر بي، فأنا سكران من ذكرَى حبيبي
إنني أعيش بوحي من الله الذي هو معي، ودعْوته نَفَسُ حياتي
لقد نزلت في بيت حبيبي، فلا تسألني عن العالَم المظلم
لقد سرى عشقه في كل ذرة من وجودي، وإن حبه صار كشمس بازغة في سبيل حبي للدين
لو كُشف سرّ الحب بيني وبينه، لفدى أناس كثيرون بحياتهم وأرواحهم على عتباتي
إن أبناء الدنيا لا يدركون سرِّي، فقد أخفَيتُ نوري عن أعين الخفافيش
مهما اختاروا من سُبُلٍ تاركين سبيلي، فهو ليس مِمّا يذكَر، وشقيٌّ من يختار الشيء الحقير
في كل لحظة أشرب جام وصال حبيبي، وأواسي منكريّ مع أنهم لا يحبذون مواساتي
إن نسيم الجنة يهبّ على قلبي الحزين، وإن دخان موقدي ينشر شذًى من مئات الأنواع
إن ريح الحسّاد المنتنة لا تضرني شيئا، لأني معطَّر بمسك ذكر الله على الدوام
بسبب قربي من حبيبي بلغ شأني أن فُقْتُ كثيرا أفهام وعقول الأغيار
إن مقامي بفضل الحبيب أعلى وأبعد عن متناول الناس، وبيدي جام المعرفة بفضل ذلك الحبيب
استعداده للاستجابة ظاهرٌ عند الدعاء، فما سمعتْ تضرعاتي بهذا اللطف والانتباه حتى والدتي
في كل حدب وصوب أرى وجه ذلك الحبيب، مَن ذا الذي يمكن أن يخطر سواه ببالي
يا حسرة؛ ما عرفني القوم، وبعد رحيلي من هذه الدنيا سيعرفونني
قد أُدمي قلبي حزنا وألما من أجلهم، وأتمنى أن أقدم رأسي أيضا في هذا السبيل
كل ليلة تغزوني آلاف الآلام والأحزان من أجل قومي، فيا رب نجّني من هذا العصر المليء بالبلايا والشرور
يا رب اغسلْ كسلهم بماء عيني، فقد سالت اليوم عينيّ دموعا بسبب هذا الحزن المتزايد
تعالَ يا ربي لنجدتي، فقد سالت دموعي من أجلك، وليس لي أحد سواك، فاسمع تضرعي
إن ظلام الأحزان لا يكاد ينجلي، وقد لا ينتهي هذا الليل إلى يوم المحشر
لقد أُدمي قلبي حزنا على هذا القوم الناكر للجميل، الذي تكالب عليّ بتحريض من المشايخ الضالين
لولا سوء عِلمهم، ولولا عماية باطنهم، لصار العلماء والفقهاء كلهم خُدّاما لي
إن منطقي يؤثر حتى في الحجر، ولكن هؤلاء القوم محرومون من تأثير كلامي
إن العلم الحقيقي يصحبه نور الفراسة دائما، فلن أشتري العِلمَ المظلم حتى بملّيمٍ واحد
إن قومي لم يعرفوا اليوم مقامي، وسيذكرون عهدي الجميل باكين يوما من الأيام
يا قومِ ترقَّبوا الغيبَ بالصبر والجلَد حتى أرفع أكفَّ الضراعة والابتهال في حضرته
لا ضير إن لم تَقْدُروني أكثر من التراب، فإني في نظركم أحقر من الكلأ دع عنك التراب
إن فضل الله ولطفه يرفع قدْري، وإلا فأنا كمثل دودة، ولست بصدَفةٍ ولا جوهرة
لقد جذبتني يده من الأغيار إلى نفسه، والحق أنه لم يكن في بالي أحد سواه بالأصل
إني لنشوانٌ بعشق محمد من بعد حب الله جلّ جلاله
إن كان هذا هو الكفر فإني لكافرٌ، ربي شهيدٌ قد سباني جماله
كل ذرة من كياني ووجودي تتغنّى في عشقه، لقد مُلئتُ حزنا لحبيبي، ونسيتُ نهائيا نفسي
أنا سراج الصدق والحقِّ في حَرَمِ القُدسِ، وإن يده تعصمني من الريح الصرصر
إن السماء تشهد على صدقي كل حين وآن، وإن لم يؤمن بي أهل الدنيا فلا أبالي
والله إني كسفينة نوح من ربي، وشقيٌ من يبقى بعيدا عن مرْفَئِي
إن نارًا أحرقت الزمن الأخير، ووالله؛ إني نهر الكوثر لعلاجه
لستُ رسولا وما جئت بكتاب، بل أنا ملهَم من الله ومنذِر
يارب انظر إلى تضرعي وابتهالي بلطف وتفضُّلٍ، فدون يد رحمتك لا معين لي ولا نصير
نفسي وروحي فداء دين المصطفى، هذه أمنية قلبي، وليتها تتحقق"**
من هم أقرب الناس إليّ وإلى السعادة؟
أأولئك الذين آمنوا بي مسيحا موعودا أم المنكرون؟
من الواضح الجلي أن الذين آمنوا بي مسيحا موعودا هم معصومون مصونون من الخطر، ويستحقون أنواع الأجور والثواب والقوة الإيمانية، لأنهم:
أولا: أحسَنوا الظن بأخيهم ولم يعُدّوه مفتريا أو كذابا، ولم يدَعوا الشكوك الفاسدة بشأنه تتسرّب إلى قلوبهم، لذا فقد استحقوا ثوابا يناله المرء نتيجة حسن الظن بأخيه.
ثانيا: ما خافوا لومة لائم في سبيل قبول الحق، ولم تتغلب عليهم الأهواء النفسانية، فاستحقوا الأجر لأنهم اطلعوا على الدعوة إلى الحق، وقبلوها بعد أن سمعوا نداء منادٍ، وما حال في سبيلهم حائل.
ثالثا: بسبب إيمانهم بمصداق النبوءة نجوا من جميع الوساوس التي من شأنها أن تنتاب القلوب يوما من الأيام نتيجة الانتظار الطويل، أو تحرم صاحبها من الإيمان نتيجة اليأس. فلم يتخلص هؤلاء السعداء من هذه الأخطار فحسب، بل رأوا آية الله وشهدوا تحقُّق نبوءة نبيه في حياتهم، فتقدموا في الإيمان كثيرا، وغلبت صبغةُ المعرفة إيمانَهم السماعي، وتخلصوا من جميع أنواع الحيرة التي تنشأ في القلوب عادة عن نبوءات لا تكاد تتحقق.
رابعا: لقد آمنوا بمرسَل من الله واجتنبوا السخط والغضب الذي ينـزل على المنكرين الذين ليس في نصيبهم إلا التكذيب والإنكار.
خامسا: استحقوا فيوضا وبركات تُنـزّل على الذين يؤمنون بالذي يأتي من الله ، محسنين به الظن.
تلك هي الفوائد التي سينالها بإذن الله الكريم السعداء الذين آمنوا بي. أما الذين لا يقبلونني فهم محرومون من تلك السعادة بكل أنواعها. وباطلٌ ظنهم أن في القبول خطرُ الخسارةِ. لا أستطيع أن أفهم لأي سبب يمكن أن يواجهوا خسارة دينية. كانت الخسارة ممكنة لو أكرهتُهم على العمل بتعليم جديد ومناف للإسلام. فمثلا لو حرّمتُ حلالا أو حلَّلت حراما، أو غيَّرتُ شيئا في المعتقدات الإيمانية التي هي ضرورية للنجاة، أو أضفتُ أو أنقصت شيئا من الصيام والصلاة والحج والزكاة وغيرها من التكاليف الشرعية. أو إذا زدتُ شيئا في الصلوات وجعلتها عشرة بدل الخمسة، أو نقصتُها إلى صلاتين فقط، أو فرضتُ الصيام لشهرين بدلا من شهر واحد أو وجَّهت إلى صيام أقل من شهر؛ فلو فعلت شيئا من هذا القبيل لكانت هناك خسارة، بل الكفر والخسران فعلا. ولكن ما دمت أقول مرارا وتكرارا: يا أيها الإخوة، ما جئت بدين جديد أو تعليم جديد، بل أنا منكم ومسلم مثلكم، وليس لنا كتاب يمكن أن نعمل به أو نوجِّه إليه الآخرين غير القرآن الكريم. وليس لنا - أو نطلب ذلك من غيرنا - هادٍ أو مقتدًى نقتدي به سوى سيدنا خاتَم المرسلين أحمد العربي ، فأي خطر إذن يشكّل ادّعائي - المبنيِّ على إلهام من الله- على مسلم ملتزم؟
أما إذا كانت كشوفي وإلهاماتي غير صحيحة - وهو افتراضُ محالٍ - أو كنت مخطئا في فهم كلِّ ما أُؤمر به، فأيّ ضير على مَن يؤمن بي؟ هل آمن بشيء وقع بسببه خلل في دينه؟ فلو نـزل المسيح ابن مريم حقيقةً في حياتي، لقرَّت عيني وسعِدَ قلبي، ولآمنتْ به جماعتي قبل الآخرين، ونالوا أجر الإيمان بالقول الأول أيضا الذي خطَوا نحوه بصدق القلب وبخشية الله. وفي كل الأحوال ستكون لنا الصدارة دائما حتى في حالة الخطأ - إن افترضنا ذلك جدلا - ونكون قد نلنا الأجر ضِعفين، وينال معارضونا أجرا واحدا. وأما إذا كنت صادقا وكان خصومي مخطئين في عقد الآمال على المستقبل، فإن إيمانهم في خطر شديد، لأنهم لو رأوا المسيح ابن مريم في حياتهم، وبأم عينهم، نازلا - مع الملائكة - من السماء فعلا، بقوة ومجد كثير، لَسلِم إيمانهم، وإلا فلا سبيل لسلامة إيمانهم، لأنهم لو لم يجدوا شخصا نازلا من السماء إلى آخر لحظة من حياتهم، بل استعدوا بأنفسهم للارتحال إلى السماء، فمن الواضح أنهم سيرحلون مع أكوام من الشكوك والشبهات، وكم من وساوس ستنتاب قلوبهم حول نبوءة نبي صادق ؟ ومن الممكن أن تخالجهم وسوسة يضيع بها إيمانهم؛ لأن هذا الزمن، هو موعد نـزول المسيح حتما بحسب العلامات الواردة في الإنجيل والأحاديث. لذلك فإن كثيرا من أهل الكشوف والرؤى من السلف الصالح قد حددوا رأس القرن الرابع عشر كموعد لظهور المسيح. هذا هو رأي الشاه "ولي الله" المحدث الدهلوي، قدّس الله سِرَّه، وهذا ما كتبه المولوي "صديق حسن خان" أيضا في كتابه، وهذا ما ذهب إليه معظم المحدثين في الاستنتاج من حديث: "الآيات بعد المائتين."
وإذا قلتم بأن نزول المسيح الموعود عند المنارة في دمشق، هو اعتقاد أجمع عليه المسلمون جميعًا، فقد رددت عليه من قبل في هذا الكتاب نفسه بأنه لم يُعقد الإجماع على هذا الأمر قط. ثم أين ذُكر ذلك في القرآن الكريم؟ لم يرد فيه إلا ذِكرُ موته . ولقد ذكر صاحب صحيح البخاري وجود روح عيسى مع روح يحيى عليهما السلام في السماء الثانية، وأعرض عن ذكر نزوله في دمشق. أما ابن ماجه فقد ذكر نزوله في بيت المقدس. ولم يدّعِ ولا واحد منهم أنه ينبغي حمل كل هذه الكلمات والأسماء على ظاهرها، بل آمنوا بها كنبوءة. فعلى أي شيء تم الإجماع؟ إلا أن بعثة المسيح الموعود في نهاية القرن الثالث عشر تبدو عقيدة مُجمَع عليها. فإذا لم أكن أنا المسيح الموعود، فعليكم أن تنـزِلوا المسيح الموعود المزعوم من السماء. أنتم أولاد الصلحاء، فتربَّعوا في المساجد وتضرعوا لينـزل عيسى ابن مريم من السماء متكئا على أكتاف الملائكة لكي يثبت صدقكم، وإلا لماذا تسيئون الظن بغير حق؟ ولماذا تُلقون بأنفسكم تحت حجة الآية: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؟[63] فاتقوا اللهَ.
قبل بضعة أيام ركّزت اهتمامي على أنه هل من معاني الحديث: "الآيات بعد المائتين" أن المسيح الموعود سيظهر في أواخر القرن الثالث عشر؟ وهل هذا الحديث ينطبق عليّ أنا أيضا؟ فوُجِّهتُ في الكشف إلى الحساب العددي لحروف الاسم المذكور أدناه وقيل: انتبِه! هذا هو المسيح الذي كان ظهوره مقدَّرا عند اكتمال القرن الثالث عشر، وقد حددنا ذلك التاريخ في حساب حروف اسمه من قبل، والاسم هو: "غلام أحمد قادياني" وحساب حروفه - بحسب حساب الجمَّل - يساوي 1300 بالتمام. علمًا أنه ليس في هذه القرية شخص باسم "غلام أحمد" إلا أنا وحدي. بل قد أُلقي في رُوعي أنه لا يوجد حاليا في العالم كله شخص اسمه "غلام أحمد قادياني". ولقد جرت عادة الله معي أنه يكشف عليّ بعض الأسرار من خلال حساب الجمّل. ففي إحدى المرات ركّزتُ اهتمامي على موعد ولادة آدم، فأشير عليّ أن أتوجه إلى حساب سورة العصر إذ يتبين ذلك التاريخ منها.
وذات مرة أحببت أن أعرف بالإلهام تاريخ بناء المسجد المتصل ببيتي، فأُلهمتُ: "مبارك ومبارك وكل أمر مبارك يُجعل فيه".
وهذا المسجد يقع في الجانب الشرقي من القرية عند نهاية المجمع السكني، وهو الذي كتبتُ عنه في كتابي هذا بأن بيتي يقع عنده وتحت منارته الشرقية، وهذا ما يُفهَم من نبوءة سيدنا ومولانا النبي .
قبل بضعة أيام أخبرني الله تعالى عن موت شخص بحسب حساب الجمّل. ويتلخص هذا النبأ في كلمات: "كلبٌ يموت على كلب". أي أنه كلبٌ، وسيموت فيما يساويه حساب "كلب" وهو 52، أي أن عمره لن يتجاوز 52 عاما، وسيرتحل إلى دار البقاء عندما يدخل في عامه الثاني والخمسين.
على أية حال، أعود إلى صلب الموضوع وأقول: إن حزبنا سعيد الحظ إذ آمن بعبد مأمور أرسله الله ربُّ السماء والأرض، وما ضاقت قلوبهم من الإيمان، لأنهم كانوا سعداء واصطفاهم الله لنفسه. وقد وهبَتْهم رحمة ربهم قوة ما وهبتها لغيرهم، وشرح صدورهم ولم يشرح صدور غيرهم. فالذين أخذوا من ذلك نصيبهم سيُعطَون أكثر ويُزاد لهم. أما الذين لم يأخذوه فسيُسلَب منهم ما كان عندهم من قبل. لقد تمنّى كثير من الصادقين أن يشهدوا هذا الزمن، ولكنهم لم يُسعَدوا بذلك. ولكن الأسف كل الأسف أن هؤلاء القوم شهدوه ولم يقبلوا. بأي قوم أشبِّه حالتهم؟ فمثلهم كملكٍ أرسل حاكما إلى مدينة بحسب وعده ليميّز المطيعين الحقيقيين من العصاة، ولكي يحكُم في النـزاعات الدائرة بينهم. فجاء الحاكم في وقت الضرورة تماما، وبلَّغهم رسالة سيده العظيم، ودعا الناس جميعا إلى الصراط المستقيم وأظهر عليهم كونه حاكما. ولكنهم ارتابوا حتى في كونه موظفا حكوميا، فأراهم آيات خاصة بالموظفين وحدهم. ولكنهم لم يستيقنوا ولم يقبلوه، بل نظروا إليه نظرة احتقار وكراهيةٍ، واستكبروا استكبارا، ولم يقبلوه حَكَما عليهم بل أهانوه وبصقوا على وجهه وسعوا لضربه، وحقَّروه وأذلّوه إذلالًا وكذَّبوه مستخدمين لغة قاسية جدا. فعاد إلى مَلكه بعد أن تحمل على أيديهم ما كان مقدرا له من التعذيب والمعاناة. وظل الذين أساءوا إليه ينتظرون حاكما آخر، ولجهلهم تمسكوا بأفكار باطلة أن ذلك لم يكن حاكما، بل إن شخصًا آخر سيأتي وعلينا انتظاره. فظلوا ينتظرونه طول النهار ويترقبون مجيئه مشرئبِّين، وتذاكروا فيما بينهم وعْد الملك حتى أوشكت الشمس على الغروب، ولم يأت أحد. وأخيرا وقرب المساء؛ جاء عديد من رجال الشرطة محمّلين بأصفاد كثيرة، ففور قدومهم أحرقوا مدينة هؤلاء الأشرار، وبطشوا بهم جميعا، وصفَّدوا أيديهم، وسجلوا ضدهم في المحكمة الملكية قضيةً بجريمة عصيان الحُكم والتصدي للموظف الحكومي؛ فنالوا عقابا استحقوه.
فأقول صدقا وحقا: هكذا ستكون حال المنكرين الجائرين في هذا الزمن، وكل واحد سيؤاخذ بوبال قلمه ويده، فليسمع من كانت له أذن واعية.
التماس من علماء الهند
أيها الإخوة في الدين، وعلماء الشرع المتين، استمعوا إلى كلامي بانتباه خاص: إنّ ما ادّعيته كوني مثيل الموعود، الذي حسبه قليلو الفهم مسيحا موعودا، فما هو بأمر جديد سُمع مني اليوم فقط، بل هو إلهام قديم قد تلقيته من الله تعالى وسجلته في عدة أماكن في "البراهين الأحمدية" بكل صراحة، وقد مضت على نشره ما يربو على سبع سنين. ما ادّعيتُ قط أني المسيح ابن مريم، ومن اتهمني بذلك فهو مفترٍ وكذاب بحت. بل أنشر منذ سبعة أو ثمانية أعوام وبشكل متكرر أني مثيل المسيح، أيْ قد أودع اللهُ فطرتي أيضا بعضا من صفات عيسى الروحانية وعاداته وأخلاقه وما إلى ذلك، وأن لحياتي مماثلة كبيرة بحياة المسيح ابن مريم في أمور كثيرة أخرى قد صرَّحت بها في كتبي. وليس ذلك أمرا ابتدعته، فحسبت نفسي في تلك الكتب ذلك الموعود الذي ذُكر مجيئه مُجْملًا في القرآن الكريم وصراحة في الأحاديث، لأني قد كتبت من قبل في "البراهين الأحمدية" بصراحة تامة بأني مثيلٌ لذلك الموعود الذي ورد نبأ مجيئه الروحاني في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من قبل.
واللافت في الموضوع أن الشيخ أبا سعيد "محمد حسين" البطالوي كتب في مجلته "إشاعة السنة" رقم 6 مجلد 7 تقريظًا على "البراهين الأحمدية"، وبذلك صدّق تلك الإلهامات قلبا وروحا من حيث الإمكانية، وإن لم يصدّق من حيث الإيمان. ومع ذلك أسمع أن ثورة الإنكار تجيش في قلب الشيخ المحترم أيضا نظرا إلى شغب أناس آخرين وضجيجهم، وهذا أعجب العجائب. ولقد وردت الإلهامات المشار إليها في البراهين الأحمدية في الصفحات: 238، 239، 240، 447، 498، 505، 510،511، 513، 514، 556، 559، 560، 561. والعبارات الواردة فيها هي كما يلي:
"يا أحمد بارك الله فيك، ما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى. الرحمن علّم القرآن. لتنذر قوما ما أُنذر آباؤهم ولتستبين سبيلُ المجرمين. قل إني أُمرتُ وأنا أول المؤمنين. يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. لا مبدل لكلمات الله. إنا أنزلناه قريبا من القاديان، وبالحق أنزلناه وبالحق نزل. صدق الله ورسوله. وكان أمر الله مفعولا. وقالوا إن هو إلا إفك افترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. قل هو الله عجيب، يجتبي من يشاء من عباده. لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. سنلقي في قلوبهم الرعب. قل جاءكم نور من الله فلا تكفروا إن كنتم مؤمنين. والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. ويخوِّفونك من دونه أئمةُ الكفر. تبت يدا أبي لهب وتبّ، ما كان له أن يدخل فيها إلا خائفا. وما أصابك فمن الله. الفتنة ههنا. فاصبر كما صبر أولو العزم. ألا إنها فتنة من الله ليُحبَّ حبا جما. حبا من الله العزيز الأكرم. في الله أجرك. ويرضى عنك ربك. ويتم اسمك. وإن لم يعصمك الناس فيعصمك الله من عنده. وما كان الله ليتركك حتى يميز الخبيث من الطيب. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. رب اغفر وارحم من السماء. ربّ إني مغلوب فانتصر. إيلي إيلي لما سبقتني شبقتني. ربّ أرني كيف تحيي الموتى. رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. بشرى لك يا أحمدي، أنت مرادي ومعي. غرست كرامتك بيدي. أنت وجيه في حضرتي. اخترتك لنفسي، شأنك عجيب وأجرك قريب. الأرض والسماء معك كما هو معي. جريّ الله في حلل الأنبياء. لا تخف إنك أنت الأعلى. ينصرك الله في مواطن. إن يومي لَفصلٌ عظيمٌ. كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي. ألا إن حزب الله هم الغالبون."
... "لتستبين سبيلُ المجرمين"، أي ليمتاز الذين يختارون معيتك من الذين يهبُّون للمعارضة بغير بصيرة كاملة. "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق"... هذه النبوءة سُجلت من قبل في القرآن الكريم، وهي تشير إلى هذه الأيام. وترجمة بقية الإلهام هي: ليس لأحد أن يبدِّل الوعود التي وردت في كلام الله المقدس من قبل؛ أي لا يمكن أن تزول أبدا... "قل هو الله عجيب" أي إن شأنه عجيب، فأنتم لا تستطيعون أن تدركوا أسراره، فهو يصطفي من عباده من يشاء، وليس عنده شح العباد... "تبت يدا أبي لهب وتبّ" إنّ المراد من أبي لهب هم أولئك الذين يهبُّون لكتابة العبارات المعارضة بغير بصيرة كاملة، ولا يخافون النهي الوارد في قوله تعالى لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ولا ينتبهون إلى أهمية حسن الظن، ولا يردّون المتشابهات والأمور المتنازَع فيها إلى الله. ثم قال : عندما يقوم الناس بالمعارضة سيكون ذلك ابتلاء، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل... "إيلي إيلي لما سبقتني" هذه إشارة إلى المماثلة بيني وبين المسيح ، لأن هذا ما دعا به المسيح في وقت عصيب حلَّ به. ثم ذكر الله تعالى دعاءً إلهاميا على لساني أي: "رب أرني كيف تحيي الموتى" وهذه أيضا إشارة إلى المماثلة بيني وبين المسيح. هذه هي الإلهامات التي وردت في الصفحات المذكورة آنفا في "البراهين الأحمدية" وتدل صراحة وكناية إلى كوني مثيل الموعود.
صحيح أنه ما حُكِم في البراهين الأحمدية إلهامًا، بحقيقة نزول المسيح ابن مريم - الذي ينتظره الناس خارجًا من الجنة ونازلًا من السماء إلى الأرض- حقيقةً على أكتاف الملائكة. بل كل ما كتبتُه في البراهين الأحمدية عن المجيء الثاني للمسيح ابن مريم إلى الدنيا، فقد كتبته نظرا إلى الاعتقاد الشائع الذي تميل إليه أفكار إخواننا المسلمين في هذه الأيام. فبناء على هذا الاعتقاد الشائع كتبتُ في البراهين الأحمدية أني لست إلا مثيل الموعود وأن خلافتي إنما هي خلافة روحانية، وأنه حين يأتي المسيح ستقوم خلافته بكِلا الوجهين؛ الظاهرية والمادية أيضا. فهذا البيان الذي ورد في البراهين الأحمدية إنما هو بسبب الاتّباع العادي لآثار نبيه المروية، وهو واجب على الملهم قبل أن تُكشف عليه حقيقة الأمر؛ وذلك لأن الذين يتلقّون الإلهام من الله لا ينطقون دون الإنطاق، ولا يفهمون بغير الإفهام ولا يدّعون شيئا إلا إذا أُمِروا، ولا يسعهم الإقدام على شيء من عند أنفسهم. فلهذا السبب كان نبينا يفضِّل اتّباع سنن أهل الكتاب الدينية في أداء بعض العبادات ما لم ينـزل عليه الوحيُ، فكان يتركها على حالها إلى حين نزول الوحي وكشفِ حقيقتها. فمن هذا المنطلق لم أدخُلْ في "البراهين الأحمدية" في نقاش من تلقاء نفسي عن المسيح ابن مريم . أما الآن، وقد أظهر الله تعالى عليّ حقيقة الأمر؛ فصار واجبا عليّ أن أُعلنها إعلانا عاما. ولكنني أتأسف على مشايخ هذا العصر الذين شرعوا في كتابة الردود على كتاباتي قبل أن يقرأوها بإمعان.
يعرف المنصفون والمحققون جيدا أن بعض المشايخ المعاصرين قد اعتبروني معارضا لأفكارهم القديمة إلى حد كبير، ولكن التأمل الرصين يبرهن على أني لا أعارض أفكارهم بالقدر الذي أثاروا به ضجة، إذ ما ادّعيت إلا كوني مثيل المسيح، وكذلك ما ادّعيت أن فكرة المماثلة قد انقطعت من بعدي، بل من الممكن عندي أن يأتي في المستقبل حتى عشرة آلافٍ من أمثال المسيح مثلي. أما في هذا العصر فأنا مثيل المسيح فيه، ولا جدوى من انتظار مثيل آخر.
والواضح أيضا أن القول بإمكانية ظهور عديدٍ من أمثال المسيح ليس من بنات أفكاري فقط، بل يتبين ذلك من الأحاديث أيضا؛ لأنه قال إنه سيكون هناك نحو ثلاثين دجالا إلى نهاية الدنيا.
فمن الواضح أنه إذا كان ظهور ثلاثين دجالين ضروريا، فلا بد أن يكون هناك ثلاثون مسيحا أيضا بحكم المثل: "لكل دجال عيسى". فمن الممكن بحسب هذا القول، بل ممكن جدا؛ أن يأتي في زمن من الأزمان مسيح تنطبق عليه بعض كلمات الحديث الظاهرية أيضا، لأني ما جئت بحكومة دنيوية أو ملكوتها، بل جئت في حُلّة المسكنة والفقر. فما دام الحال على هذا المنوال، فأيّ إشكالية بقيت لدى المشايخ؛ إذ قد تتحقق أمنيتهم هذه أيضا في حين من الأحيان. غير أني لا أرى - كشفا وإلهاما وعقلا وفرقانا - تحقُّق أمنيتهم ليروا يوما من الأيام المسيح ابن مريم نازلا من السماء في الحقيقة. إذن، فإن إصرارهم على أنهم لن يؤمنوا ما لم يروا المسيح بأم أعينهم نازلا من السماء، تعنُّتٌ خطير. إن قولهم هذا يشبه قول الذين ذكرهم الله جلّ شأنه في القرآن الكريم أنهم ظلوا يقولون: حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً[64] فحُرموا من الإيمان.
والآن أقدم إلى المشايخ الأعزاء - نُصحا لله - الأحاديث من الصحيحين؛ التي يظنون أنها تُثبت بكل جلاء ادعاءهم بنـزول المسيح ابن مريم من السماء، ويركِّزون عليها كثيرا، ويقولون إنها تحكم في حقهم. فأنقل فيما يلي تلك الأحاديث:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْحَرْبَ"[65]. (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)
".... حَكَما عدلا": أي سيحكم بالعدل في كل أمر مختلف فيه بينكم، وسيميِّز بين أهل الحق والباطل. ولكونه حَكَما؛ سيكسر الصليب ويقتل الخنـزير ويحكم في القضايا الدائرة.
وقوله "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ[66]" (صحيح البخاري: كتاب الأنبياء).. أيْ ما أدراكم مَن ابن مريم؟ إنه إمامكم وسيكون منكم يا أمتي. ربما فهمتم ما يشير إليه الإمام البخاري بكلمة: "إمامكم منكم"، والعاقل تكفيه الإشارة.
والآن انتبهوا إلى حديث ورد في صحيح مسلم: عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ[67] قَالَ:ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ الدَّجَّالَ... فَقَالَ... إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فكل امرء[68] حَجِيجُ نَفْسِهِ.
وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ[69]. إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا. يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ. ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ.
... "إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ"، هذه العبارة تُضعِّف النبوءة التي تقول بأن الدجال سيخرج عند نزول المسيح ابن مريم حتما، بل يتبين منها أنه لم يحدَّد وقت معين لخروجه لذلك ظنّ النبي أن "ابن صيّاد" أيضا دجالا.
أين كان المسيح عندئذ؟ ثم قال : "كأني أُشبِّهه - في عالَم الكشف - بعبد العزّى بن قطن".
الشرح
لقد قال مُلّا علي القاري إن النبي رأى الدجال في الرؤيا أو الكشف، ولما كان ذلك العالَم عالَما مجازيا، لذا استخدم عند بيان ملامحه كلمةَ: "كأني" للدلالة على أن تلك الرؤية لم تكن رؤية حقيقية بل تحتاج إلى التفسير.
أقول: إن عددا كبيرا من الأحاديث الصحيحة واليقينية الواردة في الصحاح الستة تدل على أن كافة الأمور التي اطلع عليها النبي عن عيسى والدجال، كانت في الحقيقة مبنية على كشوفه ، وهي جديرة بتفسير مناسب حسب مقتضى الحال. ومنها الحديث المذكور في "صحيح مسلم" الذي وردت فيه كلمة "دمشق". أما ما قلت بأن تلك النبوءات كلها مبنية على كشوفه وبحاجة إلى تأويل وتفسير - مثل الرؤى الصالحة - مع مراعاة القرائن ؛ فتشهد عليه أقوال النبي المقدسةُ، فمنها الحديث التالي الوارد في الصحيحين: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ أَرَانِي لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ. (متفق عليه)
وفي رواية: قال في الدجال: رجل أحمر جسيم جعد الرأس أعور العين اليمنى أقرب الناس شبَهًا بابن قَطَن.
فالنظرة الشاملة على هذا الحديث توحي بجلاء أن ما أورده الإمام "مسلم" في الحديث عن دمشق قد جاء معظمه في الحديث المذكور آنفًا بإيجاز. وقد بيّن النبي في هذا الحديث بوضوح تام أن ذلك كان كشفًا أو رؤيا. فيتبين هنا قطعا ويقينا أن الحديث الذي أوردناه من قبل، ووردت فيه كلمة "دمشق"، مبني على رؤيا النبي كما أشار إلى ذلك في الحديث نفسه بكلمة "كأني". أما الحديث الذي يقول النبي فيه بكل وضوح وصراحة بأنه كان كشفًا أو رؤيا، فقد أورده الإمام البخاري ومسلم في صحِيحَيْهما. وهنا ذكر العلماء إشكالية أولا، ثم قدّموا لها ردًّا دقيقا جدا. وهذا الرد الجميل يؤيد موقفنا بكل قوة، حتى إنه بمنـزلة كلمة الفصل بيننا وبين معارضينا، وهو أن النبي يقول في الحديث المتفق عليه إنه رأى المسيح ابن مريم يطوف بالكعبة، ثم يقول إنه رأى المسيح الدجال أيضا يطوف بالكعبة. فهذا الكلام يستلزم أن يكون للمسيح ابن مريم والمسيحِ الدجال هدف واحد، وأن يكونا على الصراط المستقيم وتابعَينِ صادقَينِ للإسلام، بينما يتبيّن من أحاديث أخرى أن الدجال سيدّعي الألوهية. فما معنى طوافِه بالكعبة إذن؟
لقد ردّ العلماء على ذلك وقالوا إن حمل مثل هذه الكلمات على الظاهر خطأ كبير، بل جاء هذا الكلام بصورة كشوف ورؤى يجب تأويلها، كما تُؤوَّل الرؤى عادة. فتأويله أن الطواف لغةً هو الدوران حول شيء. ولا شك أنه كما سيطوف عيسى - عند نزوله - بمهمة نشر الدين ويسعى جاهدا لإنجازها، كذلك يطوف الدجال - عند خروجه - بمهمة عيثه الفساد ناويًا إكمال مهمته.
أين الآن المشايخ الذين يريدون أن يحملوا كلمات هذه الأحاديث على محمل الحقيقة، ويرون صرفَ معانيها عن ظواهر الكلمات كفرا وإلحادا؟ يجب أن يفكِّروا في أنفسهم ليروا أن السلف الصالح قد فسروا - عند استنتاجهم المعنى المراد من طواف الدجال - هذا الحديث بما ينافي الكلمات الظاهرية أيما منافاة، واعتبروه رؤيا. فإذا مسّت الحاجة لتفسير جزء من تلك الكشوف باعتبارها كشوفا، فلماذا لا تُفَسَّر أجزاؤها الأخرى مع وجود قرائن قوية على ذلك؟
ليكن معلوما أنه كما فسر العلماء طواف المسيحِ الدجالِ تفسيرا روحانيا معتبرين إياه أمرا كشفيا، كذلك وضّح سيدنا خاتم الأنبياء نفسُه في عدة أماكن بأنه لا يحمل أي كشف على الظاهر ما لم يُطلعه الله تعالى على معانيه القاطعة واليقينية.
خذوا مثلا حديثا ورد في صحيح البخاري: حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهَا: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يُمْضِهِ." (صحيح البخاري، كتاب المناقب)
إن قوله "فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يُمْضِهِ" يدل بصراحة تامة أنه ليس ضروريا أن تتحقق الرؤى والكشوف بصورتها الظاهرية دائما، بل يمكن أن تتحقق على ظاهرها أحيانا وعلى غير ظاهرها أحيانا أخرى. والمعلوم من الحديث المذكور آنفا أنه ما ارتاب النبي في صحة الرؤيا؛ لأن رؤيا النبي نوع من الوحي، وإنما تردد في طريقة تحققها، وقال ما معناه: الله أعلم فيما إذا كانت ستتحقق بصورتها الظاهرية، أم لها تفسير آخر. فيتبيّن من قول رسول الله بجلاء تام إمكانية حدوث الخطأ في تفسير وحي يتلقاه نبي في الكشف أو الرؤيا.
كذلك هناك حديث آخر يقول فيه النبي عن هذا النوع من الخطأ: عَنْ أَبِي مُوسَى عَن النَّبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ.
ففي هذا الحديث أيضا قال النبي بكل وضوح إنه يمكن أن يصدر من الأنبياء أيضا خطأ في تفسير الكشوف. وكذلك تبين من هذه الأحاديث بجلاء تام أن ما أنبأ به النبي من الأنباء عن المسيح ابن مريم والدجال كله مبني على ما رآه من كشوف. ولقد أشار أيضا في تلك الأحاديث بكل وضوح وصراحة تامة إلى أنه ينبغي عدم حمل هذه الكشوف على الظاهر، إذ أن لها تفاسير روحانية، وأن تلك الأمور كلها روحانية، وقد أُريتْ له متمثلة بأشكال مادية. ولكن من المؤسف حقا أن المشايخ المعاصرين لا يريدون أن يتأسوا بأسوة سيدنا ومولانا النبي ، بل يريدون حمل الاستعارات الكشفية على ظاهرها دون مبرر.
ليكن معلوما أن عالَم الكشف يضم في طياته أعاجيب كثيرة، ويُرى الإنسانُ تمثُّلات مختلفة الأنواع؛ ففي بعض الأحيان يرى الإنسان في عالَم الكشف أشياء متجسدة ولكنها تكون روحانية في حقيقتها، وأحيانا أخرى يرى شيئا على هيئة الإنسان ولكنه لا يكون إنسانا. كما رأى الصحابي "زُرارةُ" في المنام النعمانَ بن المنذر - الذي كان ملكا من ملوك العرب - في رفاهية وبحبوحة، ففسّر له منامه بأن المراد منه بلاد العرب التي عادت نحو زينتها ونضارتها مجدَّدا. وهذا دليل قوي على أن تفسير الأمور الكشفية قد يكون بعيدا عن الحقيقية كل البُعد.
وإن لي تجربة شخصية في هذا المجال، وأرى أن الأمور الروحانية تتجسد أحيانا في الرؤيا أو الكشف في أشياء ماديةٍ وتتراءى على هيئة إنسان. إنني لأذكر حين رأيت في المنام بعد يومين أو ثلاثة أيام من وفاة والدي غفر الله له - الذي كان زعيما معروفا وكان يحظى باحترام كبير في منطقته - امرأة جميلة لا أزال أذكر ملامحها، وقالت: اسمي "راني" وبالإشارة قالت لي أيضا: "أنا عِزّةُ هذا البيت وشوكته"،
وأضافت قائلةً: "كنت على وشك المغادرة ولكن بقيتُ هنا بسببك."
وفي الأيام نفسها رأيت رجلا وسيما فقلت له: ما أجملك! فأشار إليَّ تلميحًا: أنا حظك السعيد، وردًّا على قولي له: ما أعجب جمالك! قال: "نعم، أنا وسيم حقًّا". وقبل أيام قليلة أُريت شخصا مصابا بالسل وموشكا على الموت، وقال إن اسمي "دين محمد". وأُلقي في رُوعي أنه دينُ محمدٍ الذي ظهر لي متمثلا في شخص، فطمأنته بأنك سوف تُشفى على يدي. وهكذا تتراءى أحيانا الأعمال الصالحة أو الطالحة متجسدة في هيئة مادية. وإن رؤية الأعمال متجسدةً في القبور اعتقاد شائع بين المسلمين. فكان النبي يستنتج الخير أو الشر في تعبير الرؤى من أسماء أشخاص كانوا يظهرون فيها.
والآن أعود إلى بيان الحديث الذي وردت فيه كلمة: "دمشق"، وقد قال فيه النبي : فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ فإنّهَا جِوَارُكُم مِنْ فِتْنَتِه. ففي ذلك إشارة إلى أن على المرء أن يصمد قدر الإمكان مثل أصحاب الكهف، لأن تلك الآيات تتناول ذكر صمودهم واستقامتهم؛ حيث اختفوا في الكهف خوفا من مَلك غاشم مشرك. (فيا أحبائي، عليكم بقراءة هذه الآيات؛ فإن هناك دجالين كثيرين يواجهونكم)
ثم قال الرسول النبي الأمي، فداهُ أبي وأمي؛ إن الدجال سيخرج من الطريق الواقع بين الشام والعراق، وسيعيث الفساد يمينا ويسارا. (هذه أيضا استعارة؛ فالكشوف تتضمن الاستعارات والمجاز عادة). ثم قال : يا عباد الله عليكم بالصمود حينذاك كما صمد أصحاب الكهف. يقول الراوي: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وهناك رواية - في "شرح السنة"- عن "أسماء بنت يزيد" جاء فيها أنه يمكث أربعين شهرا. ولكن يجب ألا يُعتبَر ذلك اختلافا أو تناقضا في الروايات، بل ينبغي تفويض المراد من أربعين يوما أو أربعين عاما إلى الله.
تتابع الرواية وتقول: يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ. (هذه كلها استعارات ومجاز) قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ[70] أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ.
ليكن معلوما أن رسول الله قال ذلك على سبيل الإمكانية والاحتمال، بمعنى أنه ردّ على السائل بحمله أمرا كشفيا على الظاهر نظرا إلى سعة قدرة الله، فقد صرح في حديث عائشة رضي الله عنها الوارد في صحيح البخاري أن تفسير الكشوف يتحقق أحيانا بصورتها الظاهرية وأحيانا أخرى بصورة خفية. والحق أن هذا كان ولا يزال مذهب الأنبياء والأولياء جميعا إلى يومنا هذا. أما ما ردَّ به النبي على السائل عن الصلوات حين قال "اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ"، فكان على قدر فهم السائل ومنهج فكره وكفاءته، وبحسب مبدأ: "كلِّموا الناس على قدر عقولهم"، وإلا ما كان النبي يحصر أمرا كشفيا على معانيه الظاهرية ما لم يكشف الله تعالى عليه بوجه خاص، كما يتبين تحقق أسلوبه وسنته المقدسة في مئات الأحاديث النبوية.
ثم يقول الراوي: "قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ. فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ." (وهذه كلها استعارات فانتبهوا ولا تنخدعوا بها)
فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًى وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ. ثمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ (يبدو أن هذه إشارة إلى أنه لن يكون بحالة صحية جيدة عند نزوله) وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ.
ولقد ورد في حديث آخر في صحيح البخاري أن النبي رأى ابن مريم يطوف واضعا كفَّيه على رجلين، بدلا من الملكينِ. فمن هذا الحديث يتبين بجلاء أن المراد من الـمَلكينِ المذكورينِ في الحديث عن دمشق هما الرجُلانِ المذكورانِ في حديث آخر، والمراد من وضع اليدين على كتفَيهما هو أنهما سيكونان ناصرَينِ ومعينينِ للمسيح.
ثم يقول : إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ.
وقد ورد في رواية أخرى في صحيح البخاري، " يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ."
هذا الحديث أورده الإمام مسلم في صحيحه، ولكن قد تركه رئيس المحدِّثين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري معتبرا إياه ضعيفا. المحير في الموضوع أن أحوالَ الدجال وصفاتِه وظروفَ بعثته المذكورةَ في هذا الحديث تختلف جذريا وتتنافى أيما منافاة مع ما ورد في الأحاديث الأخرى بهذا الصدد، لأنه قد ورد في الصحيحينِ حديث آخر أيضا: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ . (متفق عليه).
وهناك حديث آخر أيضا: "عن نافع قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صيّاد." (رواه أبو داود، والبيهقي في كتابه البعث والنشور).
وقد جاء في حديث آخر ورد في "شرح السنة": "لم يزل رسول الله مشفقا أنه هو الدجال". أي كان النبي خائفا أن ابن صياد قد يكون دجالا، أي كان أغلب ظن النبي دائما أن ابن صياد هو الدجال.
الآن، وقد ثبت مما ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم بوجه خاص؛ أن ابن صياد هو الدجال المعهود، بل كان الصحابة يقولون حالفين بالله إنه هو الدجال المعهود، فأيّ شك بقي في أنه الدجال المعهود؟ أما ما آلت إليه حالة ابن صياد وكيف كانت عاقبته فيتبين ذلك من حديث ورد في صحيح مسلم كما يلي: "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ صَائِدٍ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ لِي: أَمَا قَدْ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ. أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ؟ قَالَ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَقَدْ وُلِدَ لِي. أَوَلَيْسَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ؟ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَقَدْ وُلِدْتُ بِالْمَدِينَةِ وَهَذَا أَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ[71].
هناك يجب أن يفكر المرء أنه من الغرابة بمكان أن بعضا من الصحابة يقولون حالفين بالله إن ابن صياد هو الدجال دون غيره، بينما قد ورد في الصحيحين برواية جابر أنه حين أقسم عمر على أن هذا الشخص هو الدجال المعهود في الحقيقة، لزم النبي الصمت، وبسكوته أظهر رأيه أن ابن صياد هو الدجال المعهود. ثم ورد في صحيح مسلم ذِكر إسلام ابن الصياد بكل وضوح وكونِه صاحب أولاد ودخولِه مكة والمدينة. وليس ذلك فحسب بل قد ورد أيضا في الأحاديث أنه مات في المدينة وصلّوا عليه صلاة الجنازة. والآن كل منصف يستطيع أن ينظر بعين الإنصاف، يرى أن الكتب التي جاء فيها ذكرُ خروج الدجال في الزمن الأخير وهلاكه على يد عيسى قد ورد فيها أيضا أنه كان قد خرج في زمن النبي ومات بعد إسلامه. علما أن إسلامه أيضا كان ضروريا بحسب نبوءة وردت في صحيحَي البخاري ومسلم عن النبي بصورة رؤياه إذ قد رآه في الرؤيا يطوف بالكعبة.
على أية حال، ما دام هذا قد ورد عن الدجال في بعض الأحاديث فكيف يمكن الاعتداد بالأحاديث الأخرى التي تتعارض معها؟ أما لو حكم العلماء بأنها موضوعة، وشطبوها من صحيحَي البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح، لكان لادعائهم شيء من الأهمية، وإلا فلا بد أن يُعتَبَر كِلا النوعين من الأحاديث ساقطا عن مرتبة الثقة عملا بالمبدأ: "إذا تعارضا تساقطا".
والأغرب من ذلك في هذا المقام أن الإمام مسلم يورد حديثا: "الدَّجَّالُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر، ولكن هذا الدجال قد أسلم بحسب حديث آخر ورد في صحيحه هو. وقد أورد الإمام مسلم حديثا أن النبي قال إن الدجال سيجول في الشرق والغرب "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ"، ولكن هذا الدجال لا يتمكن من المشي أسرع من "أبي سعيد" كما يُبرهَن من حديثٍ لأبي سعيدٍ أورده مسلم في صحيحه. كذلك لم ير أحدٌ ك ف ر، مكتوبا بين عينيه. ولو كان ذلك مكتوبا بين عينَي ابن صياد لما منع النبي عمرَ من قتله، ولما قال بأننا ما زلنا نشك في أمره. فإذا كان هو الدجال، فسيقتله صاحبه عيسى بن مريم، ولن نقدر نحن على قتله.
واللافت في الموضوع أنه إذا لم يكن "ك ف ر"، مكتوبا بين عينَي ابن صياد، فما السبب في اعتباره الدجال المعهود؟ وأما إذا كان ذلك مكتوبا فعلا فما السبب لعدم اعتباره الدجال المعهود؟ ولكن يتبين من الأحاديث الأخرى أنه قد اعتُبر الدجال المعهود بالتأكيد في نهاية المطاف، وقد قال الصحابة حالفين بالله بأنه لم يعد عندهم أيّ شك قط في كونه الدجال المعهود، كما ظنّ ذلك النبي أيضا.
ولكن الجدير بالتدبر أنه إذا كان الحديث الذي ورد فيه: الدَّجَّالُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر، صحيحا فلماذا ارتاب النبي بنفسه وشك في أمر ابن صياد في أوائل الأيام؟ ولماذا قال إنه من الممكن أن يكون هو الدجال المعهود أو غيره؟ فيُظَنُّ من هنا أن "ك ف ر" قد لا يكون مكتوبا بين عينَيه إلى ذلك الحين. إنني لأستغرب وأحتار بشدة؛ فإذا كان مقدَّرًا أن يخرج الدجال في الزمن الأخير في الحقيقة، أيْ في الزمن الذي قُدِّر فيه نزول المسيح ابن مريم فلماذا نشأت هذه الشكوك والشبهات قبل الأوان؟ والأغرب من ذلك أن ابن صياد لم يقم بأيّ عمل يمكن اعتباره من علامات الدجال المعهود؛ مثل أن تكون الجنة والنار معه، وتتبعه كنوز الأرض، ويُحيي الموتى، وينـزل المطر بأمره، ويُنبت الزروع، ويركب حمارًا طوله سبعون ذراعا.
إن المشكلة العويصة التي تواجهنا هنا هي أنه إذا اعتبرنا الأحاديث الواردة في صحيح البخاري ومسلم والتي تتحدث عن خروج الدجال في الزمن الأخير صحيحةً، فلا مندوحة لنا من اعتبار الأحاديث المذكورة آنفا موضوعةً، والعكس صحيح.
ولو لم ترد هذه الأحاديث المتعارضة والمتناقضة فيما بينها في الصحيحَينِ بل وردت في كتب الصحاح الأخرى غير الصحيحَين، فلربما اعتبرناها موضوعة مراعاة لأهمية الصحيحين مقارنة مع غيرهما، ولكن المعضلة أن الأحاديث من كِلا النوعين موجودة في الصحيحَينِ نفسيهما.
والحق أننا ندخل دوامة الحيرة بالنظر إلى الأحاديث من كِلا النوعين، ولا ندري أيهما نعتبره صحيحا وأيهما نعتبره موضوعا. عندها يوجهنا العقل الذي رَزَقَناه الله إلى حُكم سليم، وهو أن نصحِّح منها ما لا يقع عليه اعتراض عقلا أو شرعا.
فمن منطلق هذا الطريق للحكم؛ تبدو الأحاديث عن ابن صياد أقرب إلى الفهم، لأنه كان دجالا فعلا في أيامه الأولى، وكانت تظهر منه أمور عجيبة نتيجة علاقته مع بعض الشياطين، فيفتتن بها كثير من الناس. ولكن الله تعالى هداه بعد ذلك فأسلم وتخلى عن تصرفاته الشيطانية، وقام بطواف الكعبة أيضا كما رآه النبي . وليس في أمره شيء خارج عن قوانين الطبيعة والعقل، ولم يُبالَغ في وصفه إلى حد الشرك. ولكننا حين نلقي نظرة على الأحاديث الأخرى التي تُنبئ أن زمن خروج الدجال المعهود هو الزمن الأخير قرب نهاية الدنيا، نجدها مليئة بما لا يصح عقلًا ولا ينسجم - بحسب الشريعة - مع عقيدة التوحيد في الإسلام. لذا فقد اقتبسنا حديثا طويلا من صحيح مسلم عن خروج الدجال من النوع الثاني، فيمكن للقراء الكرام أن يدركوا من خلاله مدى مخالفة صفات الدجال المعهود المذكورة فيه وتعارضها مع العقل وشرع الإسلام. ومن الواضح الجليّ أننا إذا حملنا الحديث عن "دمشق" على ظاهر كلماته واعتبرناه صحيحا، وأنه وحيٌ من الله إلى رسوله، فلا بد من الإيمان بأن الدجال سيُعطَى نوعا من قوة الألوهية حقيقةً، وستطاوعه الأرض والسماء، ويحدث كل شيء بمجرد إرادته مثلما يحدث بإرادة الله تماما. فكلما أراد إنزال المطر نزل تلقائيا، ولو أمر السحاب أن يتوجه إلى بلد معين لامتثل لأمره فورا، وكذلك يتصاعد البخار من الأرض إلى السماء بأمره. وبأمره ستُنبت الأرضُ - مهما كانت قاحلة - نباتا أجود وأعلى نوعًا.
باختصار، سوف ينجز كل شيء بمجرد قوله: "كن فيكون" كما هو شأن الله، حيث يقول: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[72]. وسيكون قادرا على الإحياء والإماتة، وتتبعه الجنة والنار كما لو كانت السماوات والأرض في قبضته، وسينجز أعمال الألوهية إلى مدة تمتد إلى أربعين عاما أو أربعين يوما، وتصدر منه جميع الصلاحيات والمؤهلات الخاصة بالألوهية!!
هنا أتساءل: هل هذا المفهوم الذي يُستخلص من ظاهر كلمات الحديث ينسجم مع التوحيد الذي علّمنا إياه القرآن الكريم؟ ألا تحكم مئاتٌ من آيات القرآن الكريم للأبد أن الإنسان - هالك الذات وباطل الحقيقة - لا يمكن أن يُخوَّل بصلاحيات الألوهية؟ ألا يشكِّل هذا المفهوم - إذا حُمل على الظاهر - نقطة سوداء في جبين عقيدة التوحيد في القرآن؟ من الغريب حقا أن إخواننا الموحّدِين يتباهون من ناحيةٍ بأنهم تخلَّوا عن الشرك تماما ويعُدُّون غيرهم مشركين وأهل بدعة، ويقولون عن أنفسهم بأنهم متمسكون بالتوحيد والسنَّة، ويذكرون ذلك أمام الآخرين بكل اعتزاز ويمدحون تمسكهم بالتوحيد ويثنون عليه، ومن ناحيةٍ ثانية نجد أن العقائد المليئة بالشرك لا زالت مترسخة في قلوبهم بحيث يسلّمون إلى كافر حقير تاجَ الألوهية وعرشَها، ويعتبرون إنسانا ضعيف البنيان متساويا مع الله عظمةً وقدرة. ينكرون كرامات الأولياء، ولكن ينطقون بشهادة كرامات الدجال. فإذا قال لهم أحد مثلا إن السيد عبد القادر الجيلاني، قدّس الله سره، انتشل سفينة غارقة منذ 12 عاما بجميع ركابها أحياءً، وذات مرة كسر ساقَ مَلك الموت ساخطا عليه لأنه قبض روح أحد مريديه دون إذنه؛ لما قبلوا هذه الكرامات أبدا، بل عدّوا أيضا المنشدين بالمناجاة كهذه مشركين، ولكنهم يعتقدون بكل وضوح أن الدجال اللعين سيسيطر على جميع الملائكة - دع عنك مَلك الموت وحده - أي أن الملائكة المكلَّفين بأمور الأرض والسماء والشمس والقمر والسحاب والرياح والبحار سيخضعون كلهم لأمره، وسيخِرّون أمامه ساجدين بكمال الطاعة. فليفكِّروا: ما أعظم هذا الشركَ! وهل لهذا الشرك من حدود؟
الأسف كل الأسف! ما هذه الحُجُب على قلوبهم! فقد حملوا الاستعارات على الحقيقة وأثاروا زوبعة من الشرك، ومع وجود القرائن القوية لم يقبلوا الاستعارات التي يدافع القرآن الكريم عنها شاهرا سيف التوحيد البتار.
من المؤسف حقا أن معظم الناس يتّبعون المشايخ المتمسكين بظواهر الأمور، ولا يدرون ما يمكن أن ينتشر من الفساد نتيجة حمل هذه المفاهيم على ظاهرها. هل يُعقلُ أنّ ذلك الرسول النبي المقدس - فداه أبي وأمي - الذي علّمنا "لا إله إلا الله" ورمى قدرات غير الله تحت أقدامنا وتمسك بمعبود واحد قوي وجعل أهمية غير الله في نظرنا أقل من دودة ميتة؛ هل يُعقلُ أن يضعَ أمامنا لُغزا مُخيفا عن الزمن الأخير لتخويفنا؟
أكرر وأقول: هل يمكن لسيد الموحِّدين - الذي رسّخ في قلوبنا وأذهاننا وفي كل ذرة من كياننا وإلى الأبد؛ أنه لا يمكن أن توجد القدرات الإلهية في مخلوقٍ بحالٍ من الأحوال - أن يبدأ بتعليمنا ما ينافي تعاليمه المتتالية؟
فيا أيها الإخوة، اعلموا يقينا أنه لا يراد من هذا الحديث وأمثاله المعنى الظاهري قط، والقرآن الكريم يمنعنا من التوجه إلى هذا السبيل بسيف القرائن القوية البتار. بل الحديث كله إنما هو من الكشوف التي تحتاج إلى التفسير، فقد اقتبست حديثا من قبل وأثبتُّ من خلاله أن النبي قال بنفسه بأن أقوالي هذه كلها مبنية على كشوفي. وأضفْ إلى ذلك أنه قد أورد في الحديث عن دمشق كلمة: "كأني" التي تصرخ بأعلى صوتها أن هذه الأمور كلها من عالَم الكشف والرؤى ولا بد أن تفسَّر تفسيرا مناسبا.
وهذا ما قاله الإمام مُلّا علي القاري. وإن قانون الله في الطبيعة الذي يشهد على ضعف الإنسان بحسب الآية: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا لا يتيح للبشر قدرةً وقوةً يتجوّل بها في لمح البصر في مشارق الأرض ومغاربها مثل الهواء، أو أن تكون أجرام السماء وذرات الأرض قاطبة خاضعة لأمره.
فما دام النبي قد قال إن مضمون هذا الحديث هو من قبيل الكشوف والرؤى الصالحة، أي قابل للتفسير، فلماذا يُشدَّد دون مبرر على معانيه الظاهرية؟ ولماذا لا يُفسَّر كما تفسَّر الرؤى، أو تفوَّضُ حقيقتُه إلى الله مثل الكشوف المشابهة؟ اقرأوا في التوراة سِفر النبي زكريا الذي ورد قبل سِفر النبي ملاخي لتروا كم من كشوف ذُكرت فيه، ولكن ليس من عاقل يحملها على الظاهر. كذلك مصارعة يعقوب مع الله التي ورد ذكرها في التوراة، فلا يحمل عاقل هذا الكشف أيضا محمل الظاهر.
فيا أيها الإخوة، أقول لكم نصحا لله، وبحماس المواساة الكاملة التي أكنُّها لكم ولديننا الحبيب إنكم ترتكبون خطأ جسيمًا حين تحصرون كشوف النبي بظاهر كلماتها فحسب، تحكُّما منكم. اعلموا يقينا أن مَثَل حمل هذه الأمور على الحقيقة كمَثَل هدم اللبنات واحدة بعد أخرى من بنيان الإيمان.
إنني لأستغرب تصرفكم أيما استغراب، فإن كنتم لا تستطيعون قبول الاستعارات فلِـمَ لا تفوِّضون إلى الله تفسير أمور تفوق فهمكم؟ أيُّ ضيرٍ في ذلك عليكم أو على حماسكم الديني؟ مَن يطالبكم، أو متى أكّد النبي عليكم أن تحملوا هذه الكلمات محمل الحقيقة حتمًا؟
إن عذركم بأن السلف الصالح قد أجمعوا على ذلك لعجيب حقا، إذ لم تفكروا عند تقديمه أنه لو قَبِلناه جدلا - بيد أنه لا يمكن إثباته على الإطلاق - فإنه لا يمكن أن يكون قد حصل الإجماع على التمسك بظاهر الكلمات قط، ولا يمكن أن يكون قد أقّر كل واحد منهم فردًا فردا حالفا بالله أن المعنى المراد من الحديث هو المعنى الذي يُستخلص من ظاهر كلماته ليس إلا. بل الحق أن هؤلاء الصلحاء قد بلّغوا تلك الأحاديث بأمانة، وفوّضوا حقيقتها إلى الله. إن تهمة الإجماع افتراء عليهم لا أصل له ولا يسع أحدا إثباته. وأقول بكل يقين إن هذه الأحاديث لم تكن منتشرة بين الصحابة على نحو عام، دع عنك الإجماع عليها. والواضح أنه لو أجمع الصحابة على أن الدجال المعهود سيخرج في الزمن الأخير وسيقتله المسيح ، لما أقسم جابر بن عبد الله وعمر رضي الله عنهما أمام النبي على أن الدجال المعهود المنتظر مجيئه ما هو إلا ابن صياد الذي أسلم ومات أخيرا في المدينة.
أيها الإخوة، لقد ورد في الصحيحينِ أن ابن صائدٍ هو الدجال، كما ورد في سنن أبي داود، والبعث والنشور للبيهقي - برواية نافعٍ - حديثٌ جاء فيه أن ابن عمر كان يقول: والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صيّاد. يمكن أن تتركوا هذا الحديث جانبا لأنه قول صحابي، إذ يمكن أن يصدر منه خطأ، ولكن ما عذركم عن حديث ذكرتُه قبل قليل حيث قال جابر بن عبد الله أنه سمع عمر يحلف أمام النبي بأن المسيح الدجال ابن صيّاد، فسكت على ذلك، بل وافق على رأي عمر بعدم إنكاره .
لا شك أنكم تعرفون عظمة مكانة عمر بين الصحابة، لدرجة أن رأيه كان يوافق نزول القرآن في بعض الأحيان. ولقد ورد في حقه في الحديث أيضا أن الشيطان يفر من ظله، وورد أيضا: "لو كان بعدي نبي لكان عمر". وجاء في حديث ثالث: "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ".
والآن فكِّروا وتدبروا، أيّ مجال للمقارنة بين النواس بن سمعان وبين مكانة عمر العظيمة؟ وأين النواس بن سمعان بعلم القرآن والحديث مما أُعطِيه عمر [73]؟
وإضافة إلى ذلك إن الحديث الذي أورده كلٌّ من الإمام البخاري ومسلم متفق عليه، أما حديث النواس بن سمعان الذي فيه ذِكرُ دمشق وذكر صفات الدجال المتناقضة مع العقل وعقيدة التوحيد، فلم يرد إلا في صحيح مسلم. وزدْ إلى ذلك حلف عمر وعدم رفض النبي موقفه؛ فهذا كله يحكم بكل جلاء أن ابن صياد كان هو الدجال المعهود في نظر النبي وفي نظر الصحابة حتما. ويتبين من حديث ورد في "شرح السنة" أيضا أن النبي ظل دائم الخوف على أمته وعلى مدى حياته من أن يكون ابن صياد هو الدجال المعهود.
والآن، وقد ثبت بصورة قاطعة ويقينية لا مجال للشك فيها في أنّ ابن صياد هو الدجال المعهود، فهناك سؤال يفرض نفسه: ما دام الدجال قد وُلد في زمن النبي وأسلم ومات في المدنية، فمَن الذي سيُقتَل على يد المسيح الذي يقال عنه إن الغاية المتوخاة من مجيئه هي قتل الدجال، لأن الدجال لم يعد موجودا أصلا حتى يقتله المسيح؟ علما أن هذه المهمة هي من أبرز المهام التي وُكِّلت إلى المسيح.
لا نستطيع أن نرد على هذا السؤال بحال من الأحوال إلا أن نقول إن فكرة مجيء الدجال المعهود في الزمن الأخير باطلة تماما.
فزبدة الكلام أن الحديث عن دمشق الذي أورده الإمام مسلم يسقط من مرتبة الثقة على محك الأحاديث الأخرى الواردة في الكتاب نفسه، ويتبين بجلاء تام أن الراوي النواس بن سمعان قد أخطأ في بيانه. ومن جانب آخر كان من واجب الإمام مسلم أن يزيل بقلمه التعارض الحاصل بين الأحاديث التي ذكرها في صحيحه، ولكنه لم يتطرق إلى التعارض قط. وهذا يُثبت أنه كان يعُدُّ حديثَ محمد بن المنكدر قطعيًّا ويقينيا وواضحا وصريحا، ويعدُّ حديث النواس بن سمعان من قبيل الاستعارات والمجاز، ففوَّض حقيقته إلى الله.
فيا أيها الإخوة، لكل إنسان أن يدرك بالنظر إلى هذه الأحاديث أن الناس في صدر الإسلام لم يتفقوا قط بشأن الدجال المعهود على أنه سيخرج في الزمن الأخير وأن المسيح ابن مريم سيقتله على إثر خروجه، بل كانوا يوقنون أن ابن صياد هو الدجال المعهود، علما أنهم شهدوا إسلامه في حياتهم ثم شهدوا أيضا موته في المدينة، وصلّى عليه المسلمون. فأنّى كان لهؤلاء الصلحاء - والحالة هذه - أن يؤمنوا أو يعتقدوا بأن المسيح ابن مريم سينـزل من السماء في الزمن الأخير لقتل الدجال، لأنهم كانوا قد سلّموا بوفاة الدجال المعهود من قبل؟ فأنّى للاعتقاد القائل بانتظار المسيح ابن مريم من السماء ثانية وقتله الدجال المعهود أن يتوافق مع اعتقادهم المذكور آنفا؟ إن ذلك اجتماع الضدين صراحةً وبداهةً، وليس لشخص سليم القوى العقلية أن يعتنق معتقدَين متضاربَينِ مطلقا.
من الجدير بالتدبّر الآن: ما أشنعها من تهمة القولُ بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعتنقون بالإجماع الاعتقادَ القائل بخروج الدجال المعهود وظهور المسيح ابن مريم في الزمن الأخير!
وجدير بالتأمل أيضا أنه لو صحّ أن النبي قال: "مَا مِن نَبِيٍّ إِلَّا وقد أَنْذَرَ قَوْمَه الدَّجَّالَ وإنّي لأُنذِرُكم خُرُوجَه في الزّمَن الأخِير"، لكان ضروريا أن يبلِّغ الصحابةُ هذا الأمر إلى التابعين، معتبرين إياه واجبا عليهم تبليغه، ليكون ورود هذا الحديث في الصحيحَينِ برواية آلاف الصحابة أمرا محتوما. بينما الواقع أنه لم يروِه إلا النواس بن سمعان وشخص أو شخصانِ آخرَانِ، بل ينفرد النواس بن سمعان بروايته.
فكِّروا الآن، من ناحية يقال إن الصحابة أُوْصُوا بتبليغ مضمون هذا الحديث إلى التابعين، ولكننا حين نفحص الأمر لا نجد مبلِّغه إلا شخصا أو شخصين. ففي هذه الحالة لا يخفى على المحققين مدى ضعف هذا الحديث. فماذا عسى أن يسمى الادّعاء بكونه متواترا سوى تعنتٌ وتعصبٌ من الدرجة القصوى؟
اتقوا الله أيها الناس ولا تتهموا الصحابة والتابعين بأنهم أجمعوا على أن المسيح ابن مريم سينـزل من السماء ويقتل الدجال الأعور القائم بإظهار قدرات الألوهية. إن هؤلاء الصلحاء كانوا يجهلون هذا الاعتقاد تماما. لو علموا به فهل كان بوسع الصحابة رضي الله عنهم ألا يبلِّغوا هذا الأمر الواجب تبليغه إلى التابعين كما أوصاهم النبي في بعض أحاديثه؟ أو هل كان ممكنا ألا يُطلِع التابعون تابعيهم على هذا المعتقد؟ كيف كان ممكنا أن تصدر هذه المعصية الكبيرة من أكابر الصحابة مع أن عدم العمل بوصية النبي معصية كبيرة؟ فالواضح أن النبي لم يوصِ بتبليغ هذا الأمر مطلقا، ولهذا فلم يتوجّه الصحابة الكبار إلى تبليغه إلى التابعين مدفوعين بحماس جماعي، وأن مضمون هذا الحديث كان نادر الوجود قليل الشهرة لدرجة أن رئيس المحدثين، الإمام البخاري، لم يطلّع على حديثٍ يقول بأن المسيح ابن مريم سينـزل عند منارة شرقي دمشق، وأن الدجال سيقوم بكل الأعمال التي تصدر في الدنيا بقدرة الله وحدها.
فيجب الانتباه الآن، ما أكبره من افتراء القولُ بأن أكابر الإسلام بدءا من زمن النبي ظلوا متفقين على هذا المعتقد! بل الحق أن هذا الحديث يدخل في طيّ العدم بسبب الأحاديث المتواترة التي تحكم في أمر الدجال برواية الصحابة الثقات أن ابن صياد كان هو الدجال، ومات في المدينة المنورة في عهد حكومة "يزيد" الخبيث، وصُلِّيت عليه الجنازة.
من الغريب حقا أن القرآن الكريم يعلن موت المسيح ابن مريم بأعلى صوته، وتوحي الأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين بالاتفاق أن ابن صياد كان هو الدجال المعهود، وأن صحابيا جليلا مثل عمر قد حلف يمينًا بحضور النبي أن ابن صياد هو الدجال المعهود، وقد صدّق ذلك على أن ابن صياد هو الدجال المعهود وقد أسلم فيما بعد ومات في المدينة على الإسلام، ودُفن في مقبرة المسلمين، ولكن مع كل ذلك لا يكاد إخواننا يتخلَّون عن التعصب والتعنت.
فيا أيها الإخوة، إن لهذه العقيدة قائمتين:
إن لدينا إثباتات يقينية وقاطعة على وفاة المسيح ابن مريم لا يتّسع هذا الكتاب الوجيز لذكرها بالتفصيل. فاقرأوا القرآن الكريم بعيون باصرة أولا، تَرَوْا كيف ينبئ بوفاته بكل وضوح لدرجة لا يسعنا تأويله أيضا! فمثلا يقول الله تعالى في القرآن الكريم على لسان عيسى : فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[74]. فهل يمكن أن نستمد معنى النوم من كلمة تَوَفَّيْتَنِي ؟ هل من المناسب الاستنتاج هنا أن المراد هو: فلما جعلتَني أنام، أو جعلتَ النعاس غالبا عليّ؛ كنتَ أنت الرقيب عليهم بعد ذلك؟ كلا، ثم كلا. بل إن معنى فعل "التوفي" واضح جليٌّ؛ وهو الموت، وهذا هو المعنى الذي ينطبق هنا[75]. ولكن المراد من الموت ليس الموت الذي يصيبه بعد نزوله من السماء، لأن السؤال الذي طُرح عليه - حول فساد أمته - ليس له علاقة بذلك الموت. فهل النصارى قائمون اليوم على صراط مستقيم؟ أليس صحيحا أن الأمر الذي سأل اللهُ عيسىَ عنه كان قد بلغ أوج كماله إلى زمن النبي ؟
إضافة إلى ذلك لقد ثبتت وفاة عيسى من الأحاديث أيضا، فقد ورد في تفسير معالم التنـزيل تحت تفسير الآية: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[76]، "وروى علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني: إني مميتك".
وتدل على ذلك آيات أخرى منها: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ[77]، والَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ[78]، والَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ[79]. إذن، كان ابن عباس يعتقد أن عيسى قد مات. ولا بد أن يكون واضحا للقراء الكرام أن ابن عباس كان يحتل مقام الصدارة في فهم القرآن الكريم، وقد دعا له النبي أيضا لذلك.
ثم ورد في "معالم التنـزيل" برواية وهبٍ: "توفى الله عيسى ثلاث ساعات"، وروايةٌ أخرى عن محمد بن إسحاق: "إن النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات". ولكني أستغرب من أين ومن أي كتاب من كتب النصارى أخذ محمد بن إسحاق رواية تتحدث عن موته لسبع ساعات؟ لأن جميع فِرق النصارى متفقة على أن عيسى مات لثلاثة أيام، ثم رُفع من القبر إلى السماء. هذا ما يتبين من الأناجيل الأربعة، كما يقرّ عيسى في الأناجيل بموته إلى ثلاثة أيام. إذن، فإنّ موته ثابت في كل الأحوال.
إضافة إلى الأدلة المذكورة آنفًا، إن اليهود والنصارى كلَّهم مُجمعون على موته، والأدلة التاريخية تشهد بالتواتر على موته، كما أُنبئ بموته في الكتب السابقة أيضا.
أما الظن أن روحه دخلت الجسد المادي نفسه مرة أخرى فحَيِي الجسدُ ورُفع إلى السماء، فظنٌّ باطل تماما. والثابت المتحقق باتفاق الكتب الإلهية قاطبة أن الأنبياء والأولياء يَـحْيَون بعد مماتهم، أي يوهَبون حياة من نوع لا تُعطَى لغيرهم. وإلى ذلك يشير الحديث الذي يقول النبي فيه ما مفاده: لا يتركني الله في القبر ميتا[80] بل سيُحييني ويرفعني إليه[81]. يقول داود في المزامير 16 بناء على وحي من الله: "لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ، لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا". أي ستُحييني وترفعني إليك. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم بحق الشهداء أيضا فيقول: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[82].
وهناك حديث آخر يدل على وفاة المسيح ابن مريم وهو أنه سئل عن القيامة فقال بأنها ستقوم على بني البشر كافة بعد مئة عام من الآن[83]. وكانت في ذلك إشارة إلى أنه لا يمكن لأحد أن يعيش أكثر من مئة سنة. لذلك فقد ذهب معظم العلماء والصوفية إلى أن "الخضر " أيضا قد مات، لأنه لا يمكن أن يشوب الكذبُ كلامَ المخبر الصادق. ولكن من المؤسف حقا أن المشايخ قد اعتبروا المسيح خارجا عن هذه القيامة أيضا. وما يبعث على الاستغراب هو: لماذا يُعظَّم المسيحُ أكثر من بقية أنبياء بني إسرائيل؟
يبدو أن إخواننا المسلمين قد اعتادوا - منذ زمنٍ انضم فيه المسيحيون إلى الإسلام بكثرة، وربما دخلوه مع شيء من أفكار شركيّة عن المسيح - على تعظيم المسيح أكثر من المفروض ودون مبرر، الأمر الذي لا يقبله القرآن الكريم، فهم يَغْلُون في شأن المسيح أكثر من حد الاعتدال.
يجب أن ننظر بإنصاف؛ أن الله تعالى وصفني في كتابي "البراهين الأحمدية" بمثيل آدم صفي الله، وما استاء أحد من المشايخ من ذلك قط، ولقّبني مثيلا لنوح ولم يسخط على ذلك أحدهم، ثم نعتني تعالى بمثيل يوسف ولم يغضب أحد من المشايخ، وجعلني مثيلا لداود وما ضاق أحد من المشايخ ذرعا، وناداني بمثيل موسى وما استشاط أحد من الفقهاء والمحدَّثين غضبا، بل سماني الله مثيل إبراهيم أيضا ولم يُظهر أحدٌ مِن غيظه أو غضبه شيئا. ثم بلغ أمر المماثلة في النهاية درجةً خاطبني الله تعالى مرارا قائلا: "يا أحمد"، وجعلني مثيلا لسيد الأنبياء وإمام الأصفياء سيدنا محمد المصطفى أيضا بصورة ظلية وما ثار أحد من المفسرين أو المحدثين غضبا. أما حين ناداني الله باسم عيسى أو مثيل عيسى، فاحمرت وجوه الجميع من شدةِ الغيظ، واشتعلوا غضبًا حتى كفَّرني أحدهم، وسماني غيره ملحدا؛ فالمولوي عبد الرحمن - خلف المولوي محمد - من "لكهوكي" سماني ملحدا، وقال أيضا مرارا وتكرارا بأن هذا الشخص سيّء جدا. وقد ذكر أيضا - عند المدعو عبد القادر من مدينة "شَرْقْبُور" في محافظة لاهور- أن هذا الشخص ملحد وسيء وفاسد المذهب ولا يستحق اللقاء.
أضف إلى ذلك أن هؤلاء الناس لم يكتفوا بذلك، بل تمنَّوا أن يحصلوا على شهادة من الله بهذا الصدد، فاستخاروا بقلوب ملؤها الغضب والسخطُ. ولما كان من مقتضى سنّة الله منذ القِدم أنه لو أراد شخص - مدفوعا بأهوائه النفسانية - أن يُكشف عليه أمر من الغيب، لتدخّل الشيطان في أمنيته حتما، أمّا الأنبياء والمحدَّثين، فإن ما يوحى إليهم يكون منـزَّها من تدخّل الشيطان؛ فتدخّلَ "بئس القرين" في استخارة الشيخ عبد الرحمن وشريكِه في النية ميانْ عبد الحق الغزنوي، فجرى على لسانهما أن هذا الشخص - أي أنا - جهنمي وملحد وكافر لدرجة عدم عودته إلى الهداية.
ولكنني أتساءل: هل يجوز للعلماء أن يصدروا فتوى التكفير بحسب الشريعة - في قضية لم يتفق عليها أهل القرون الأولى، ولم يثبت عليها إجماع الصحابة رضي الله عنهم أيضا - ضد شخص ملهَم ويمكن أن تشهد على صدقه بعض الأحاديث والقرآن الكريم أيضا؟
للعقلاء أن يدركوا أن الإلهام المتعلق بكوني مثيلا للموعود لا يعارض الأحاديث ولا القرآن قط، ولا يهمل كتب الحديث أو يعطِّلها، بل يصدّقها ويُظهر صدقها. أليس صحيحا أن القرآن الكريم يبرهن على وفاة المسيح ابن مريم؟ وأن بعض الأحاديث الواردة في صحيح مسلم نفسه تُثبت موت الدجال المعهود؟ فما السبيل إذن إلى التوفيق بين القرآن وبعض الأحاديث إلا أن يُراد من نزول ابن مريم مثيلُه، أو أكثر من مثيل؟ فإذا أرشد الإلهام أيضا إلى الطريق نفسه هل سيكون - والحالة هذه - معارضا للحديث والقرآن أم موافقا لهما؟
والآن بقي سؤال وهو: هل يجوز عند الشرع أن يدَّعي نبي بكونه مثيلا أم لا؟ فليتضح أنه لو أمعنتم النظر جيدا لوجدتم أن جميع الأنبياء الذين أُرسلوا إلى الدنيا إنما أُرسلوا لهدف وحيد هو أن يسعى الناسُ ليكونوا أمثالهم. ولو تعذّر علينا أن نكون أمثالهم باتباعهم، وإذا صار المرء ملحدا وكافرا بمجرد هذا التفكير، لكان مجيء الأنبياء وإيمانُنا بهم عبثًا تماما.
إن الله تعالى يعلّمنا في القرآن الكريم بكل وضوح ويعطينا في سورة الفاتحة، أم الكتاب، أملا في أننا نستطيع أن نكون أمثال الأنبياء، ويؤكد لنا أن ندعو قائمين في حضرته تعالى في صلواتنا الخمس كل يوم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، أي اهدِنا يا ربنا الرحمن الرحيم هدايةً نصبح بسببها أمثال آدم صفي الله، وشيث نبي الله، وأمثال نوح، آدم الثاني، وأمثال إبراهيم خليل الله، وموسى كليم الله، وأمثال عيسى روح الله، وأمثال أحمد المجتبى محمد المصطفى حبيب الله، وأن نكون أمثال كل صدّيق وشهيد في الدنيا.
فليفكر الآن قليلا أولئك المشايخ الذين يرون إعلان المماثلة كفرا وإلحادا، ويكفِّرون شخصا يُبشَّر بالإلهام الإلهي بمرتبة ممكنة الحصول ويعتبرونه كافرا وملحدا ومن أهل جهنم، وليخبروني ما معنى الآية إن لم يكن لها معنًى بيّنته؟ ولو لم يكن هذا المعنى صحيحا لما قال الله تعالى لرسوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ[84].
فيجب التأمل أنه لـمّا صار المرء بنفسه حبيب الله باتباعه حبيبه، فهل سيصير مثيلا لذلك الحبيب أم لا؟ من المؤسف أن المعارضين المتعنتين لا يفكِّرون أدنى تفكير بأن هذه هي الأمنية المثلى والعليا للوصول إلى الله تعالى التي ترغّب الإنسان في المجاهدات، وهي القاطرة القوية التي تجذبه باستمرار إلى المراتب العليا من التقوى والطهارة والإخلاص والصدق والصفاء والاستقامة. وهذه هي النار التي تُذكي العطش الذي بسببه يضطرم ظاهر السالك وباطنه. فإنْ عنَّ يأسٌ كلِّيٌّ من الحصول على هذه البُغية لمات الطلاب الصادقون للحبيب الحقيقي وهم أحياء. لم يختلف أيّ واحد من كافة المتصوفة الأكابر الذين خلَوا إلى اليوم قيد شعرة في أن السبيل إلى وجود أمثال الأنبياء في هذا الدين المتين مفتوح، كما بشَّر النبيُّ العلماءَ الروحانيين والربانيين بقوله: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. فلهذا السبب ورد في أقوال بايزيد البُسْطامي - قدّس الله سِرَّه - التي نقلها فريد الدين عطار في "تذكرة الأولياء"، كما وردت في كتب أخرى موثوق بها أيضا أنه قال: أنا آدم أنا شيث، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا موسى، أنا عيسى، أنا محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى إخوانه أجمعين. وبناء على هذه الكلمات كُفِّر بايزيد البُسطامي رحمه الله سبعين مرة ونُفي من "بُسطام"، مدينة إقامته. ولقد بالغَ هؤلاء القوم أيضا كثيرا - أمثال ميان عبد الرحمن، خلف المولوي محمد - في تكفير بايزيد البسطامي، إلا أنهم عظّموه بعد مرور زمانه إلى ما لا حد له ولا نهاية، وبدأوا يفسرون أقواله التي بدت لهم مخالفة للشرع في بداية الأمر.
كذلك يشير السيد عبد القادر الجيلاني في كتابه "فتوح الغيب" إلى أن الإنسان في حالة ترك نفسانيته والإنطلاق والفناء في الله يصبح مثيلا لجميع الأنبياء، بل يصبح على صورتهم.
ولقد أسهب صديقنا أبو سعيد محمد حسين البطالوي أيضا في مجلته "إشاعة السنة" عدد 7 مجلد 7 في موضوع جواز الـمِثليَّة وإمكانيتها.
لقد ورد في كتابي "البراهين الأحمدية" كوني مثيل الموعود، وقد قيل بصراحة بأنه قد أُنبئ عني في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وقد أقرّ الشيخ محمد حسين بذلك من حيث الإمكانية، وإن لم يعترف صراحةً لأن سكوته عن ذلك - مع أن تعليقه عليه كان ضروريا - عند تقريظه الكتاب وعدم فتحه فمَه في الإنكارِ أو المنعِ لَدليلٌ قويٌّ على أنه لا يعارض قط أن هذا العبد الضعيف هو المسيح الموعود نفسه - مجازا وروحانيةً - الذي أُنبئ عنه في القرآن الكريم والحديث الشريف؛ لأني قد قلتُ في "البراهين الأحمدية" بوضوح تام بأني ذلك المسيح الموعود، من حيث الروحانية، الذي أنبأ به رسول الله من قبل. ولم أرفض في ذلك الوقت، ولا أرفض الآن أيضا؛ أنه يمكن - من حيث المعنى الظاهر للنبوءات- أن يأتي مسيح موعود آخر أيضا في المستقبل. والفرق الوحيد بين بياني هذا وما ورد في البراهين الأحمدية من قبل، هو أنني كتبتُ ذلك إجمالًا حينذاك، لكون الإلهام مجملا ولعدم معرفتي بكافة جوانبه، أما الآن فقد كتبته مفصّلا.
على أية حال، لقد سعى الشيخ المذكور آنفا كثيرا لإيجاد إثباتات محتملة لكوني مثيل المسيح؛ فقد نقل في أحد الأماكن تأييدا لهذا المطلب من "الفتوحات المكية" الباب 223 قولَ محيي الدين بن عربي: "غاية الوصلة أن يكون الشيء عين ما ظهر ولا يعرف، كما رأيت رسول الله وقد عانق ابن حزم المحدّث فغاب أحدهما في الآخر، فلم نر إلا واحدا وهو رسول الله . فهذه غاية الوصلة وهو المعبَّر عنه بالاتحاد." (الفتوحات المكية)
وأنقل فيما يلي بيتينِ من كتاب "اتحاف النبلاء" لنواب صديق حسن خانْ، فقد جاء فيه: "توهَّـمَ واشينا بليلِ مزارهِ فهَمَّ لِيسعَى بيننا بالتباعدِ
فعانقتُه حتى اتّحدنا تعانُقًا فلما أتانا ما رأى غيرَ واحدِ"
ثم أورد المؤلف بيتا فارسيا تعريبه:
"إن بيني وبينك ربْطَ حبٍّ قوي بحيث لا يُمكن التمييز بيني وبينك."
ثم ينقل عبارة تحتوي على دعاء: "ارزقنا اللهم من هذا الاتحاد في الدنيا والآخرة."
والآن أريد أن أقول شيئا تتمةً لكلامي عن وفاة المسيح ابن مريم.
فلو أثير اعتراض أنه - وإن كان موت المسيح ابن مريم ثابتا من الأحاديت والقرآن الكريم والإنجيل - ولكن مع ذلك قد ورد في القرآن الكريم: وَرَافِعُكَ إِلَيّ، ويُفهم منه أنه أُحيِيَ ورُفع إلى السماء.
وجواب هذه الوسوسة أن كلمة "السماء" لم ترد في أي مكان قط، ولا تعني هذه العبارة إلا أن الله تعالى سيرفعه إليه. والمعلوم أنه عندما يموت أيّ إنسان صالح، يُرفع إلى الله روحيًّا. فهل الله تعالى مقرّه في السماء الثانية فقط، حيث روح يحيى وعيسى عليهما السلام؟
وما دام ثابتا من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أن عيسى مات دون أدنى شك، فإن الاعتقاد بصعوده الجسدي إلى السماء بعد ثبوت موته خطأ فادح. الحق أنه يثبت بالبداهة من سياق القرآن الكريم أن روحه قد رُفعت إلى السماء بعد الموت. وذلك لأنه قد ورد في القرآن الكريم بصراحة تامة أنه كلما مات مؤمنٌ رُفعت روحه إلى الله تعالى وأُدخلت الجنةَ، إذ يقول : يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[85].
ويقول صاحب تفسير "معالم التنـزيل" في شرح هذه الآية: قال عبد الله بن عمرو: "إذا تُوُفِّي العبد المؤمن أرسل الله ملكين إليه وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال لها: اُخرجي يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رَوْح وريحان وربك عنك راض. فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة. فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا بِمَلَك إلا صلَّى عليها، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد. ثم يقال لميكائيل: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين."
فتبين بجلاء تام من هذه الآية القرآنية ورواية عبد الله بن عمرو أن روح المؤمن تُرفع إلى السماء بعد موته دون أدنى توقُّف. فما دام الحال على هذا المنوال فإن الاستنتاج من الآية: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ والآية: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ أن عيسى رُفع إلى السماء بالجسد ليس إلا تعنُّتًا وتعصُّبا، لأن مُتَوَفِّيكَ بحسب سياق رواية ابن عباس وسياق كلام الله ، لا تعني إلا "مميتك". فاتضح جليًّا - كما قلنا من قبل، واستنادا إلى كلام الله - أن أرواح الصالحين تصعد إلى السماء بعد موتهم دون أدنى توقف، وليس المراد من ذلك أن ملاك الموت ينتظر عدة ساعات في المكان نفسه بعد أن يقبض روحه.
ولو قبِلنا جدلا رواية "وهب" التي تقول إن عيسى مات ثلاث ساعات أو سبع ساعات، فهل لنا أن نقبل أيضا أن ملاك الموت بقي جالسا في المكان نفسه آخذا روحه في قبضته؟ أو ظل يتجول مع الناس حيثما ذهبوا بجثته ولم يصعد إلى السماء بروحه؟ إن هذه الوسوسة تعارض نص الحديث صراحة وتنافي الكتب السماوية قاطبة. فلما وجب علينا الإيمان بأن روح كل مؤمن تُرفع إلى السماء تبيَّن من ذلك بوضوح تام أن العبارة: رَافِعُكَ إِلَيَّ لا تعني إلا أن روح عيسى رُفعت إلى السماء بعد موته. لا شك أن نور قلب كل شخص وضميره يدرك دون أدنى تردد ويقبل أنه من المحتَّم طبيعةً وشرعًا أن تُرفع إلى السماء روح كل مؤمن بعد موته، وإن إنكار ذلك إنما هو رفض أمهات المسائل الدينية، ولا يوجد على هذا الإنكار دليل من أيّ نص أو حديث.
وإذا كان عيسى قد رُفع إلى السماء بعد الممات مع الجسد في الحقيقة، كان من المفروض أن تكون العبارة في القرآن الكريم كما يلي: "يا عيسى إني متوفيك ثم محييك ثم رافعك بجسدك إلى السماء." ولكن لا يوجد في القرآن الكريم إلا رَافِعُكَ، وقد وردت بعد مُتَوَفِّيكَ، ولا نجد كلمة: رَافِعُكَ في أيّ مكان آخر في القرآن بعد "محييك"، وإلا فأخرجوها لنا.
أقول بكل تحدٍّ إنه لا بد من الإيمان - بعد الإثبات أن عيسى قد مات في الحقيقة - بأنه كلما ورد قوله رَافِعُكَ أو بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ فليس المراد منه إلا رفع روحه كما هو مقدَّرٌ لكل مؤمن. إن تركَ الثابت المحتومِ والتطرقَ إلى غير الضروري ليس إلا جهلا بحتًا، وقد بيَّنتُ من قبل أن جميع الأنبياء يُرفعون إلى الله تعالى حتمًا.
لقد أثبتُّ بكل وضوح أن اعتقاد صعود المسيح إلى السماء بجسده لا يثبت من القرآن الكريم أو الأحاديث الصحيحة قط، بل يبدو مبنيًّا على روايات سخيفة ومتضاربة لا أصل لها. ومن الخطأ الفادح الأملُ في نهضة دينية في العصر الراهن الذي تسوده الأفكار الفلسفية والعقلُ والرصانةُ والذكاء مع مثل هذه المعتقدات. لو أراد أحد نشر هذه الأفكار الواهية والسخيفة في صحارى أفريقيا أو بين البدو والأميين من سكان براري العرب أو في الجزر المنعزلة، فقد تنتشر بسهولة نسبيا، ولكننا لا نستطيع أن ننشر بين المثقفين قط مثل هذه التعاليم التي تتعارض كليا مع العقل والمنطق والعلوم الطبيعية والفلسفية، ولا تثبت من نبينا الأكرم ، بل هناك أحاديث تنفيها، ولا نستطيع أن نُـهديها إلى المحققين في أوروبا وأميركا الذين بدأوا يتخلون عن سفاسف أديانهم. كيف للذين قَوَّى بريقُ العلوم الحديثةِ القوى الإنسانيةَ في قلوبهم وأذهانهم أن يقبلوا مثل هذه الأمور التي تسيء إلى الله وتوحيده، وتُبطل قوانينه في الطبيعة وتعارض سننه؟
هنا ينبغي أن نتذكّر أن نزول المسيح من السماء بجسده فرع لصعوده إليها بالجسد. لذا فإن قضية نزوله من السماء بجسده الذي كان يملكه في الدنيا فرع للمبحث الثاني القائل برفعه إلى السماء بالجسد. فلما تقرر ذلك فلا بد لنا من أن ننظر أولا في الاعتقاد الذي يُعتَبر قضيةً أساسيةً ونرى مدى ثبوته من القرآن والحديث، لأنه لو حُلَّت القضية الأساسية كما يجب، لما بقيت غضاضة في التسليم بفرعها، ولاستطعنا أن نقبل على سبيل الاحتمال على الأقل؛ أنه لما ثبتَ صعود الشخص إلى السماء بجسده المادي فأي ضير في نزوله بالجسد نفسه؟ ولكن لو لم يثبت هذا البحث الأساسي من القرآن الكريم والأحاديث، بل ثبت عكس ذلك؛ لما وسِعنا أن نقبل الفرع بحال. وحتى لو وُجدت بعض الأحاديث تؤيد الفرع، لكان من واجبنا أن نسعى لتوفيقها مع الأصل، وإذا استحال حملها على الحقيقة، بمتقضى الأصل، لتحتم أن نحملها محمل الاستعارة والمجاز، ونقبل أن المراد من نزول المسيح هو نزول مثيله كما قال المسيح نفسه عن النبي إيليا، مع أن اليهود كلهم كانوا ولا يزالون مُجمعين على أن إيليا سينـزل من السماء.
يجب أن نتذكَّر أن صعود إيليا إلى السماء ثم نزوله في زمن من الأزمان كان وعدا بصورة نبوءة، ولا يزال اليهود يعتقدون بالإجماع إلى الآن، مثل المسلمين، أن إيليا رُفع حيًّا إلى السماء بجسده المادي، وسينـزل منها مرة أخرى في الزمن الأخير بالجسم نفسه. إن صعود إيليا إلى السماء مع الجسم، مذكور في سِفر الملوك الثاني[86]11:2، ثم وُعد بنـزوله في سِفر ملاخي[87] 4: 5، وهذه النبوءة لا يزال اليهود ينتظرون تحققها إلى الآن.
أما ما قاله المسيح عن النبي يحيى: "فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ"، كان ذلك الكلام ينافي إجماع جمهور اليهود أيما منافاة، فلم يؤمنوا بالمسيح ولا بيحيى لأنهم كانوا يرنون إلى السماء وينتظرون نزول إيليا في أيّة لحظة واضعا يديه على أكتاف الملائكة. والصعابُ العظام التي واجهوها أنهم كانوا قد أجمعوا على نزوله بهذه الطريقة. وظواهر النصوص الواردة في سِفر الملوك وسِفر ملاخي أيضا كانت تدل على ذلك، فلم يؤمنوا بيحيى نتيجة هذا الابتلاء بل أنكروا نبوة المسيح أيضا، لأنه كان مكتوبا في كتبهم أنه لا بد من نزول إيليا من السماء قبل مجيء المسيح. فلما لم يتحقق نزول إيليا من السماء -كما كانوا يعتقدون في قرارة نفوسهم - اضطروا لإنكار نبيَّينِ صادقَينِ، أي المسيح ويحيى عليهما السلام وبالًا على تمسكهم بظواهر الأمور. ولكن لو تنحَّوا عن التمسك بظاهر الكلمات، ولو امتنعوا عن التمسك بظواهر الأمور، وحملوا عباراتِ سِفرَي الملوك وملاخي محمل الاستعارة والمجاز، لما وُجد اليوم في الدنيا يهوديٌ واحد، بل لتنصّروا جميعا، لأن المراد الحقيقي من عودة النبي إيليا - المذكورة في سِفريّ الملوك وملاخي - هو عودة ظله ومثيله.. أي عودةٌ في شخص النبي يحيى الذي كان مثيلا لإيليا من حيث صفاته الروحانية. ولكن اليهود لسوء حظهم وشقاوتهم لم يتنبَّهوا إلى ذلك المعنى الروحاني وتورطوا في ظاهر الأمور.
والحق أننا لو أمعنّا النظر لوجدنا أن الصعاب التي واجهها اليهود في سبيل الإيمان بيحيى لم يواجه إخواننا المسلمون مثلها قط، لأنه لا يزال مكتوبا في سِفر الملوك الثاني الإصحاح 2 بصراحة تامة أن النبي إيليا رُفع إلى السماء بالجسد وسقط رداؤه على الأرض. ثم وُعد في سفر ملاخي 4: 5 بوضوح تام أنه سيعود إلى الأرض ليمهّد الطريق للمسيح. أما إخواننا المسلمون فهم مُعْفَونَ تمامًا من كل هذه المصاعب؛ لأنه لا توجد في القرآن الكريم أدنى إشارة إلى رفع المسيح إلى السماء بالجسد، بل ذُكر موته بصراحة متناهية. صحيح أن كلاما من هذا القبيل المليء بالتناقضات موجود هنا وهناك في بعض الأحاديث التي لا أصل لها، أو منقطعة الإسناد، ولكن إلى جانب ذلك فقد ذُكر في أحاديث أخرى موت المسيح أيضا. فما حاجة التوجه إلى شقّ غير معقول للقضية مع هذا القدر من التناقض والتعارض فيه، في حين نجد أمامنا سبيلا مفتوحا، من حيث القرآن والحديث، ولا يقع عليه أيُّ اعتراض عقلا أو شرعا؟ وهذا السبيل هو موت المسيح ورَفع روحِه. فلِم لا نقبل سبيلا تؤكد عليه بيِّنات القرآن الكريم بشدة؟
لقد سجّلنا هنا قصة صعود إيليا ونزوله ليفكّر إخوتنا المسلمون أن المسيح ابن مريم الذي يتقاتلون ويكادون يموتون من أجله، هو الذي حكَمَ بما سبق ذكره، وقد صادقَ القرآنُ على حُكمِه. ولولا جواز النـزول من السماء على النحو الذي شبّهه المسيح بنـزول إيليا، لكان معنى ذلك أن المسيح ليس نبيا من الله أصلا. بل هذا الوضع يفسح مجالا للاعتراض على القرآن الكريم - والعياذ بالله - الذي يصدّق نبوة المسيح. فلو أريدَ الإيمان بالمسيح نبيا صادقا فلا بد من التسليم بحُكمه أيضا، ولا يجوز القول تعنُّتا بأن هذه الكتب كلها محرَّفة. لا شك أن بعض المواضع لم ينلها التحريف، وأن كِلا الحزبينِ؛ أي اليهود والنصارى، يعتقد بصحتها. وزدْ إلى ذلك أن إمام المحدثين، محمد بن إسماعيل البخاري يقول في صحيحه بأنه لم يحدث تحريف لفظي في هذه الكتب.
من الجدير بالذكر بوجه خاص، وقد ذكرتُ ذلك أكثر من مرة من قبل أيضا، بأن جميع الأنباء التي وردت في كتب الله أريدَ منها الابتلاء نوعا ما. ومما لاشك فيه أنه لو وُجدت نبوءة صريحة وواضحة عن نبيٍّ من الأنبياء لكان نبينا الأكرم أحق بها قبل غيره، لأن رفض نزول المسيح ليس مما يستلزم الكفر، أما إذا أُنكِرت نبوته فلا شك أن هذا الإنكار يوصل صاحبه إلى جهنم الأبدية. ولكن القراء يعرفون جيدا أنه لا توجد في التوراة والإنجيل عن النبي وكذلك عن عيسى نبوءة واضحةٌ وصريحة نضرب بها أعناق اليهود.
لقد ظل المسيح يقول لليهود مرارا وتكرارا إن موسى قد أنبأ في التوراة بحقي، ولكن اليهود ردُّوا عليه دائما: صحيح أنه قد أُنبئ في كتبنا بمجيء مسيحٍ، ولكن انظُرْ بنفسك، فإننا أُعطِينا علامةً لمجيء المسيح بأنه لا بد من نزول إيليا من السماء قبله، وقد ذُكر صعوده إليها في سِفر الملوك. فظل المسيح يقول في الجواب إن المراد من إيليا هو يوحنا، أي يحيى بن زكريا، ولكن أنّى لهم أن يستسيغوا هذا التفسير البعيد. وكان يبدو أن اليهود كانوا على حق من حيث ظاهر الكلام في تقديمهم هذا العذر. فمع أن الله تعالى كان قادرا على أن يُنـزِل النبي إيليا من السماء ويزيل وساوس اليهود كلها، ولكنه لم يفعل ذلك ليمحّص الصادقين والكاذبين، إذ يمكن للأشرار دون أدنى شك أن ينكروا ذلك في مثل هذا المقام بكل شدة، وذلك بناء على الحجة الظاهرية وحدها، أما الصادقون فكان الطريق مفتوحا أمامهم ليفسروا النـزول من السماء بطريقة أخرى حتى يفهموا حقيقته ويؤمنوا بنبيٍّ بالنظر إلى علامات أخرى تصحبه. إلا أنه صحيح تماما أنه لو حمل المسلمون أيضا بيان سِفرَي الملوك وملاخي على الظاهر مثل اليهود، لما وسعهم أن يعتبروا يحيى بن زكريا مصداقا لتلك النبوءة بحال من الأحوال. وإن التورط في هذه المعضلة لا يدَع مجالا لإثبات نبوة المسيح ابن مريم قط. لقد قبل القرآن الكريم تفسير المسيح بشأن نزول إيليا من السماء، وعَدَّ المسيح ويحيى نبيَّين صادقَينِ. أما لو اعتدّ القرآنُ الكريم بنـزول إيليا من السماء نزولا ظاهريا - كما يفهم إخوتنا المسلمون بالنسبة إلى نزول المسيح - لما عدَّ المسيحَ نبيا، لأن سِفري الملوك وملاخي سماويان، وإذا كانت معانيهما الظاهرية هي الجديرة بالاعتداد في هذا المقام، لصارت تلك الكتب كلها عبثية لا جدوى منها في حالة ترك معانيها الظاهرية. فليفكِّر صديقنا الشيخ محمد حسين في هذا المقام جيدا.
وإذا قيل: أليس ممكنا أن تكون عبارات هذه الأماكن من سِفري الملوك وملاخي محرَّفة؟ فجوابه كما قلت من قبل أيضا بأن ذلك وهْمٌ وظنٌّ باطل تماما، لأنه لو كانت عبارات تلك الأماكن محرَّفة ومبدَّلةً، لكان لدى المسيح ابن مريم جواب قويّ مقابل اليهود ليقول لهم بأن فكرة صعود إيليا إلى السماء والوعد بنـزوله - كما ورد في كتبكم - كله كلام غير صحيح أصلا، لأن عبارات هذه الأماكن محرّفة كلها.
ولكن الحق أن المسيح قد صادَقَ على صحة عبارات تلك الأماكن بعدم تقديمه عذرا كهذا. وأضفْ إلى ذلك أن تلك الكتب كما كانت بحوزة اليهود، كذلك كان المسيح وحوارييه يقرؤونها وصاروا حماتها. فلا يسعنا أن نجد سببا معقولا يمكن أن يدفع اليهود أو يُكرههم على تحريف عبارات تلك الأماكن بالذات. فلبُّ الكلام أن قصة إيليا قد وَضعت عراقيل في سبيل قبول اليهود النبوءةَ عن المسيح، بحيث لم يستطيعوا إزالتها إلى يومنا هذا، فزُهقت أرواحٌ لا تعدُّ ولا تحصى منهم وهم في حالة الكفر هذه.
والآن نلقي نظرة على نبوءات التوراة عن نبينا الأكرم . فهناك نبوءتان عن النبي في التوراة تبرهنان بكل جلاء للمتدبرين - إذا كانوا منصفين - أنهما وردتا بحقه حتما. ومع ذلك هناك مجال واسع لنقاش عقيم أيضا بشأنهما. فمثلا قد ورد في التوراة أن موسى قال لبني إسرائيل: قَالَ لِيَ الرَّبُّ: أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ. والمعضلة في هذه النبوءة هي أن بني إسرائيل أنفسهم قد ذُكروا كأخوة بني إسرائيل في بعض الأماكن في التوراة، وفي بعض الأماكن الأخرى ذُكر بنو إسماعيل أيضا كإخوة بني إسرائيل بالإضافة إلى ذِكر إخوة آخرين. والآن،كيف يمكن القطع والجزم أن المراد من إخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وحدهم؟ بل الجملة: "مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ" تزيد العبارة تعقيدا. ومع أننا نثبت نظريا لطالب الحق بجمع أدلة وقرائن كثيرة وإثبات المماثلة بين النبي وموسى، أنه لا مصداق لهذه النبوءة في الحقيقة سوى نبينا الأكرم ، ولكن النبوءة بحد ذاتها ليست واضحة وبديهية حتى نتمكن بناء عليها من إقناع كل جاهل وغبي أيضا، بل إن فهمها وإفهامها للآخرين يقتضي فطنة كاملة.
لو لم يُرِد الله تعالى ابتلاء خلقه، وكان بيان النبوءة بصورة بينة وجلية مقدّرًا في مشيئة الله، لكان من المفروض أن تُصَرِّح النبوءة بما يلي: يا موسى، سأبعث في القرن الثاني والعشرين بعدك في بلاد العرب من بني إسماعيل نبيًّا يكون اسمه محمدا () واسم أبيه عبد الله واسم جده عبد المطلب واسم أمه آمنة، سيولَد في مكة وتكون ملامحه كذا وكذا.
فالواضح أنه لو جاءت النبوءة في التوراة بهذه الطريقة لما كان لأحد مجال للقيل والقال، ولكُمّت أفواه الأشرار كلهم. ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ألم يكن الله قادرا على ذلك؟ وجوابه أنه كان قادرا دون أدنى شك، بل لو شاء لسجل آيات أكثر وضوحا من ذلك لتخضع لها الرقاب كلها دون أن يبقى منكِرٌ واحد في العالم كله. ولكنه ما شاء أن يصرّح ويوضّح أكثر من ذلك، لأنه يريد دائمًا الابتلاء أيضا نوعا ما من وراء النبوءات حتى يفهمها الفاهمون وطلاب الحق، ويُحرم من قبولها مَن كان في نفوسهم الحميّة والاستكبار والتهوّر والاستهتار وعادة التمسك بظواهر الأمور.
واعلموا يقينا أن المبدأ نفسه ينطبق على النبوءة التي قيل فيها إن ابن مريم سينـزل عند منارةٍ شرقي دمشق واضعا يديه على كتفَي مَلكينِ، لأنه لو كان المراد هو تحقق النبوءة بهذا الأسلوب وبصورة ظاهرية هكذا، لما أنكرها أحد من سكان الأرض في حالة النـزول بهذه الطريقة. فاسألوا جميع الأمم القاطنة على وجه المعمورة سواء أكانوا يهودا أو نصارى أو هندوسا أو بوذيين أو مجوسا أو غيرهم، أنه إذا رأوا بأم أعينهم نبيا نازلا على هذا النحو فهل سيشكّون في نبوته أو يرتابون في دينه؟ لا شك أنهم سيجيبون كلهم بأنهم لو شاهدوا شخصا صالحا كمثله نازلا من السماء واضعا يديه على كتفَي مَلكَين لآمنوا به دون أدنى ارتياب، بينما يقول الله تعالى في القرآن الكريم: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.[88]
كذلك ورد في عدة آيات من القرآن الكريم أنه لم يأتِ نبيٌّ آمن به الناس كلهم أجمعون. فلو كان المسيح نازلا في الحقيقة كما يوقن المشايخ، لما وسِع أحدا إنكاره بحال من الأحوال. ولكن يجب أن يعلم المشايخ جيدا أن هذا لن يحدث أبدا، لأن الله تعالى يقول في القرآن الكريم: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ أيْ لو أرسلنا الملائكة أيضا كأنبياء، لكان هناك مجال للشك والارتياب في أمرهم أيضا. والمعلوم أن المعجزة نفسها - أيْ معجزة النـزول من السماء - طُلبت من النبي أيضا حين كانت الحاجة ماسة لإظهارها، لأن عقوبة إنكار نبوته هي جهنم الأبدية، ولكن الله تعالى مع ذلك لم يُظهرها، وردّ على السائلين برفض باتٍّ قائلا إنه لا يُظهر معجزاتٍ بصورة مكشوفة في دار الابتلاء هذه حتى لا يقع خلل في الإيمان بالغيب، لأنه لو شاهد الناس شخصا نازلا من السماء، ورأوا أيضا الملائكة نازلين معه، وقُضي الأمر كليًّا، لما وسع أيَّ شقي أن يُنكر هذا الأمر الواضح الجليّ. إن القرآن الكريم يزخر بالآيات التي تقول صراحة إنه ليس من سنة الله تعالى أن يُري مثل هذه المعجزات، وأن الكفار كانوا يكرّرون المطالبة بمثل هذه المعجزات، فردّ الله عليهم دائما: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ولكن ليس من سنتنا أن نُري آية من هذا القبيل في دار الابتلاء هذه، لأن ذلك يؤدي إلى ضياع الإيمان بالغيب الذي هو مدار الأجر والثواب كله.
فيا أيها الإخوة، أقول لكم نُصحًا لله أن أقلعوا عن هذه الفكرة، وتدبروا هاتين القرينتين القويتين والبيِّنتين؛
فكانت أولاهما: نزول إيليا من السماء وكيفية نزوله.
وثانيتهما: مطالبةُ الكفارِ النبيَّ بالمعجزة نفسها وأُجيب عليها: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي[89].
تأملوا في أنفسكم؛ أليست في القرائن القوية والأدلة القاطعة كفاية للفهم أنه ليس المراد من النـزول من السماء النـزول الحقيقي والمادي، بل النـزول على وجه الظلية والمماثلة. لقد ظل المقدَّسون ينـزلون من السماء بهذا الأسلوب منذ بدء الخليقة، وقد قيل منذ البداية: لقد جاء آدم الثاني، وهذا يوسف الثاني، وهذا إبراهيم الثاني، ولم ير أحد إلى اليوم آدمًا نازلا من السماء بجسده المادي؛ فإن الروايات الضعيفة والمتناقضة والركيكة لا تنفع للإيمان بأمر يخالف نظام العالم ويتنافى مع ناموس الطبيعة ويتناقض مع التجارب المعلومة والمشهودة.
فلا تتوقّعوا قط أن الدنيا كلها سترى المسيح ابن مريم نازلا من السماء في الحقيقة واضعا يديه على كتفَي مَلكينِ. وإذا كنتم لا تريدون أن تؤمنوا بهذه النبوءة إلا بهذا الشرط فقط، فاعلموا يقينًا أن نزوله مُحال، ولن تؤمنوا بنـزوله. فاحذروا أن ينـزل أمامَكم يوما ما راكبُ منطادٍ فتنخدعوا به، واحذروا أن تعتبروا شخصا نازلا مثله ابنَ مريم لِتمسُّكِكم بهذا الاعتقاد!
تقول القاعدة إن الذي لا يقبل الحق يضطر لقبول الكذب في وقت آخر. إن الأشقياء الذين لم يؤمنوا بنبينا الأكرم آمنوا بمسيلمة الكذاب، إذ آمن به أكثر من مئة ألف شخص في غضون ستة أسابيع أو سبعة. فاتقوا الله وتأملوا في العزلة منـزوين في زوايا منفصلة فيما جرت عليه سنة الله إلى الآن. واعلموا أيضا أن الأحاديث الصحيحة لا تذكر النـزول من السماء قط، وأن فعْلَ "نزل، ينـزل" لا يدل على النـزول من السماء فقط، بل حتى لو وردت "السماء" على سبيل الافتراض، لما ضرَّ ذلك موقفنا شيئا؛ لأن هناك آيات كثيرة في التوراة والإنجيل تذكر أن الأنبياء ينـزلون من السماء دائما. فقد ورد مثلا في إنجيل يوحنا على لسان يحيى :
"وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ" (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 3: 31). والمعلوم أن قول الأنبياء مقدَّمٌ على أقوال غيرهم من العقلاء.
وقال المسيح : "قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي" (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 6: 38)
وسبق أن قال : "وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ." (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 3: 13).
أما مجرد القول "أنزلناه" أو "نزل" فلا يدل قطعًا أنه أُنزل من السماء بصورة مادية، لأنه قد ورد في القرآن الكريم[90] أيضا: أنزلنا الحديد والأنعام.
وواضح أن الأنعام تولَد ولادةً، ولم ير أحد حصانا أو ثورا أو حمارا يهبطُ من السماء، مع أن فعل "النـزول" مذكور بحقها أيضا، ولكن لا يحمل أحد هذه الآية على الظاهر. فلما تبين أنه توجد في كلام الله استعارات ومجازات مثلها، حيث قيل بكلمات واضحة إنه تعالى أنزل الحديد والدواب، وقد أريد منها معنى آخر؛ فهذا يبرهن على أنه قد جرت سنة الله أن يقرن شيئًا بالـ "نزول" ويكون المراد من النـزول، غير النـزول المادي.
أنصِفوا واعْدلِوا، هل ذُكر نزول المسيح من السماء بكلمات أوضح مما ورد في الآيات المذكورة آنفا؟ بل الحق أنه قد اعتُقد بنـزوله الظاهري بناء على بعض الأحاديث فقط، وأضِفْ إلى ذلك أن الأحاديث أيضا لم تذكر كلمة "السماء" قط، بل ورد فيها "نزول" فقط. ومن ناحية ثانية نرى أن نـزول الدواب مذكور في القرآن الكريم نفسه.
فكّروا جيدا، أيّ الكفتين أرجح؟ لو كان نزول المسيح من السماء ضروريا من ذلك المنطلق فقط، فإن نزول الدواب مذكور بوضوح أكثر منه. فإذا كنتم مصرين على الإيمان بظاهر الكلمات فقط، فعليكم أن تؤمنوا بنـزول الدواب أيضا من السماء على وجه الحقيقة، أو احمِلوا إن شئتم - من أجل التخلّص من هذه المعضلة - فِعْلَ "أنزلنا" على المضارع ليفيد المستقبل، وفسِّروا الآية على أنه حين ينـزل المسيح من السماء في الزمن الأخير ستنـزل معه كثير من الحمير، وخاصة الحمير للركوب، والبغال والأحصنة، والحديدُ أيضا، حتى يتم التوفيق بين معاني الآيات والأحاديث، وإلا فلكلٍّ الحق أن يعترض ويقول: لماذا تُصرَف معاني آيات القرآن الكريم من الظاهر إلى الباطن، ولماذا يتم الإصرار أكثر من المفروض على المعاني الحرفية للكلمات نفسها عن نزول عيسى حين تَرد في الأحاديث؟ وذلك مع أن القرائن القوية تبرهن بكل شدة على أن المسيح لم يصعد إلى السماء بجسده قط، ولم تَرد كلمة "السماء" في الآية قيد البحث، بل كل ما ورد فيها هو: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[91]، وجاء في موضع ثانٍ: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ[92]؛ ومعنى ذلك أن الله تعالى رفعه إليه بعد أن أماته، وهذا أسلوب شائع ومتَّبَع عموما، فمثلا عندما يموت شخص صالح يقال: لقد رفع الله ذلك الشخص الصالح إليه، كما يشير إليه قوله تعالى: ارْجِعِي إِلَى رَبِّك.
معلوم أيضا أن الله تعالى موجود في كل مكان، وليس له جسم ولا هو كيان مادي، كما لا يتقيد بجهة دون أخرى، فكيف يمكن القول بأن الذي يُرفَع إلى الله تعالى يجب أن يصل جسمه إلى السماء حتما؟ ما أبعد هذه الفكرة عن الصدق والحق! إن الصادقين يُرفَعون إلى الله تعالى روحًا وروحانيةً، وليس أن تصل إلى الله تعالى لحومهم ودماؤهم وعظامهم. لقد قال تعالى بنفسه: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[93].
ففي هذا البحث كفاية ليطمئن به كل طالب للحق والصدق اطمئنانا كاملا ويفهم بأنه حيثما جاء في القرآن الكريم والأحاديث ذكر نزول شيء متجسدا من السماء سواءً أكان المسيح أو أشياء أخرى، فلا تُحمَل تلك الكلمات على الظاهر مطلقا. والحق أن مشايخنا أيضا يصرفون المعاني من الظاهر إلى الباطن في كل مكان إلا في حالة المسيح ؛ ففي حالة المسيح وحده قد ترسّخ التعصب والتعنت في أذهانهم لدرجة لا يرضون إلا بإيصاله إلى السماء بجسده والإيقان بنـزول الجسم نفسه من السماء في وقت مجهول ومستور في طيات المستقبل.
رحم الله تعالى علماءنا، إنهم لا ينتبهون إلى مرتبة نبينا وعظمته، وأن فضل الله تعالى عليه كان أكثر من أيِّ واحد آخر، ومع أن الصحابة كلهم تقريبا كانوا يعتقدون برفع جسده الشريف إلى السماء في ليلة المعراج، كما كان الناس في ذلك الزمن يعتقدون برفع المسيح، أي بصعوده بالجسد ثم نـزوله بالجسد، ولكن السيدة عائشة رضي الله عنها لم تقبل هذه الفكرة وقالت إن المعراج كان رؤيا صالحة، ولم يسمِّها أحد ملحدة أو ضالة، وما انهالوا عليها لقولها بما كان مخالفا للإجماع المزعوم.
فيا أيها المنصفون، وطلاب الحق، ويا عباد الله الأتقياء، توقَّفوا في هذا المقام وقفة تأملية وتدبروا بهدوء وتأنٍّ؛ أليست عقيدة معراج نبينا الأكرم إلى السماء بجسده ثم نزوله منها بجسده بالتي أُجْـمِع عليها في صدر الإسلام؟ لم يكفِّر أحدٌ الصحابةَ الذين عارضوا ذلك الإجماع، ولم يسمِّهم أحدٌ ملحدين أو ضالين أو مؤوِّلين مخطئين.
ثم يجب الانتباه أيضا إلى أن قضية معراج النبي بالجسد تشبه تماما صعود المسيح إلى السماء بجسده ونزوله منها، وأن اتفاق بعض الصحابة الأجلاء الكامل مع رأينا في قضية مماثلة إنما هو تأييد لرأينا بأسلوب آخر. أيْ إن رفض السيدة عائشة رضي الله عنها معراج النبي بجسده يعني في الحقيقة رفضها لرفع المسيح ومعراجه بالجسد. إن طريق الأدب لكل من يَعُدُّ مكانة النبي وعظمته أفضل وأعلى من مكانة المسيح وعظمته، هو أن يعتقد أن مرتبة الكمال والقرب التي لم تَجُزْ للنبي ، فهي غير جائزة للمسيح من باب أَولَى؛ لأنه ما دام المسلمون يعتقدون عمومًا أن المسيح ابن مريم سيأتي في الزمن الأخير كأحدٍ من الأمة، وسيكون مقتديا في الصلاة وليس مقتدًى به، فمن الواضح في هذه الحالة أن الذي يأتي كأحدٍ من الأمة، لا بد أن يكون أقل درجة بكثير من الذي جُعل نبيا للأمة ورسولها ومقتداها، أيْ سيدنا ومولانا محمد . وإنه لمدعاةٌ لأقصى استغراب أن يوصَف شخصٌ من الأمة بما لا يوصف به نبيُّها، ويُعَظَّمَ بما لا يعَظَّم به رسولُها.
وإذا قلتم: أين وُصِفَ عيسى كشخصٍ من الأمة؟ قلتُ: اقرأوا في صحيح البخاري حديثا جاء فيه: "إمامكم منكم". لا شك في أن الخطاب في "منكم" موجَّه إلى جميع أفراد الأمة الذين سيأتون منذ زمن النبي إلى نهاية الزمن. ولكن من الواضح تماما أنه إذا كان المراد به أفراد الأمة فقط، وقد بشِّر أبناؤها أن ابن مريم الآتي سيكون "منكم" وسيولد فيكم؛ فمعنى ذلك، بتعبير آخر، أن ابن مريم الآتي لن يكون نبيا، بل أحد من الأمة فقط.
والجدير بالانتباه هنا؛ أيّ قرينة أقوى من أن المراد من ابن مريم هنا ليس ذلك النبي الذي نزل عليه الإنجيل، فالنبوة عطاء غير مجذوذ، وحرمان نبي من هذا العطاء وتجريده منه لا يجوز قط. ولو فرضنا جدلا أن ابن مريم سيأتي نبيا، وسينـزل نبيا؛ فإن فكرة ختم النبوة تحول دون ذلك. فإن هذه القرينة أقوى ما يكون، ولكن بشرط أن يكون قلب المرء متحليا بتقوى الله والفهم الموهوب منه .
لقد كتب إلي صديقي الشيخ أبو سعيد محمد حسين في إحدى رسائله بأنه لو قبِلنا أنك مثيل الموعود لصار صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح لغوا لا جدوى منها، ولحدثت فُرقة كبيرة في أمهات المسائل الدينية.
فأولا وقبل كل شيء أريد القول في الجواب؛ إن صديقي هذا هو الشيخ نفسه الذي اعترف من قبل في مجلته "إشاعة السنة" عدد 7 مجلد 7 أني مثيل الموعود وإمكانية أني الموعود أيضا، لأن كتابي "البراهين الأحمدية" الذي كتب عليه تقريظه، قد ورد فيه ذِكر كِلا الأمرينِ؛ أي قلتُ في ذلك الكتاب بكل صراحة بأني مثيلُ الموعود، بل أيضا الموعود الذي وُعد بمجيئه الروحاني في القرآن الكريم والأحاديث.
والآن أستغرب استغرابًا شديدا من قوله بأن قبولي مثيلا للموعود سيؤدي إلى إلغاء صحيح البخاري ومسلم، وإحداثِ فسادٍ كبير في المعتقدات الدينية؛ ذلك أني لم أكتب شيئا جديدا في الكتب الحالية، بل كلها أمور قديمة سبق أن سجَّلتُها في البراهين الأحمدية، وبِسكوتِه عليها في أثناء تقريظه على الكتاب قد شهد الشيخ المحترم على صدق ادّعائي. بل قبِل أيضا ببيانه الصريح إمكانية أني مثيل المسيح. غير أنني زدتُ في هذا الكتاب - بإعلام من الله إعلامًا قاطعا ويقينيا - على مضمون "البراهين الأحمدية" أن المسيح ابن مريم سيأتي في حُلَّة المثيل والظل، ولن يأتي المسيح الحقيقي نفسه.
إذن، فقد فسّرتُ فقط اعتقادا إجماعيا - لو افترضنا الإجماع جدلا - ولم أقل شيئا يخالفه. ويعلم الشيخ المحترم أن السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن جزأَيْ معراج رسول الله - على عكس إجماع الصحابة - بأنه لم يذهب إلى بيت المقدس بجسمه ولا إلى السماء، بل كان ذلك رؤيا صالحة. فما لم يُحدث قول عائشة رضي الله عنها أيّ خلل في صحيح البخاري أو صحيح مسلم ولم يُلغِ الصحاح الستة ولم يجعلها بلا جدوى، فكيف تَبطل إذن الصحاح الستة بادعائي وإلهامي؟ أين يثبت صعود المسيح إلى السماء بالجسد، كما يثبت ذلك لنبينا الأكرم ؟
فتأمّل يا أخي العزيز في هذا المقام ولا تستعجل.
"الذين يتأملون فيما يقولون تحاشيا للخطأ، أفضل من المتسرعين"[94].
إنْ قدَّمَ الشيخ المحترم شبهةَ أنه قَبِل في تقريظه إمكانية أني مثيلٌ للمسيح، وكذلك قَبِل أني المسيح الموعود أيضا بصورة ظلية وروحانية، ولكن متى قَبِل أني المصداق الكامل من كل الوجوه للأنباء الواردة في الصحاح عن المسيح ابن مريم؟
فالجواب على هذه الوسوسة أنني ما ادّعيتُ قط أن سلسلة مجيء المسحاء قد انقطعت عليّ ولن يأتي مسيح في المستقبل، بل أؤمن وأقول مرارا وتكرارا بأنه يمكن أن يأتي أكثر من عشرة آلاف مسيح دع عنك مسيحا واحدا، ومن الممكن أن يأتي بعضهم بشوكة وجلال ظاهري أيضا، وممكنٌ أيضا أن ينـزل بدايةً في دمشق.
ولكن اعذُرني يا صديقي من قبول نزول المسيح ابن مريم - الذي مات - من السماء بجسده. لا شك أن الإسلام يصفُ اللهَ تعالى قادرا مطلقا، ويقدِّم قول الله وقول الرسول على العقل، ولكنه مع ذلك لا يعتبرُ العقل عابثا وبلا جدوى. وإذا وُجد في كتابٍ موحى به، شيء يعارض العقل بصراحة، ووصلنا بعد إمعان النظر فيه جيدا إلى حقيقة أن ذلك الأمر يخالف العقل في الحقيقة -ولكنه ليس مما يفوق العقل - فلا يسمح لنا الشرع ولا كتاب الله قط أن نحمل ذلك الأمر الذي لا نعقله على الحقيقة، بل يؤكد لنا القرآن الكريم بكل وضوح أنّ علينا ألا نشدد مطلقا على المعنى الحرفي للآيات المتشابهات.. أيْ الأمور التي يتعذر على العقل فهمها، ويجب ألا نجزم أن هذا فقط ما يريده الله من هذا الكلام[95]، بل يجب أن نؤمن به ونفوِّض حقيقته إلى الله تعالى.
اعلموا أنه لتعليمٌ كامل من الله ، وببركته ننجو من آلاف النـزاعات التي تطل برأسها في هذا الزمن عن قصص ماضية أو نبوءات؛ وكثيرًا من الاعتراضات تنشأ لو حملنا على الحقيقة المعنى الذي يخالف العقل.
فما دمنا قد تخلينا عن هذا التعصُّب وسلّمنا - بحسب هدي ربنا في جميع المتشابهات التي يتعذر على العقل قبولها - بمبدأ أن نؤمن بها إجمالا ونفوِّض حقيقتها إلى الله، فلا يبقى للاعتراض أساس أصلا. فمثلا، لو ورد في حديث صحيح أنه إذا أضفنا عشرة إلى عشرة لكانت الحصيلة خمسة عشر وليس عشرين، فما حاجتنا أن نحمل مضمون الحديث على الحقيقة ونهيء للمعارضين فرصة للسخرية نتيجة تعنُّت دون مبرر؟ لقد فتح لنا القرآن الكريم سبيلا أن نصنِّف هذا الحديث في قائمة المتشابهات ونتّقي الفتنة. أما إذا جُعلنا راسخين في العلم لدرجة أُرينا بالإلهام سبيلا معقولا يطمئن له الناس، فلا حاجة لنا أن نُدخل آية أو حديثا مثله في المتشابهات، بل علينا أن نقبل شاكرين المعنى الذي كُشف بالإلهام.
وإذا قيل عن استنباط معنى من القرآن الكريم - غير ما نُقل من الأسلاف- بأنه إلحادٌ، كما قال ذلك عني الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد من "لكهوكي".
قلتُ: لم أستنبط معنى غريبا يخالف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، بل الحق أن معظم الصحابة كانوا يؤمنون بموت المسيح، واعتقدوا بموت الدجال المعهود أيضا، فمن أين يثبت الإجماع على عكس ذلك؟ وفي القرآن الكريم ما يقارب ثلاثين شهادة تدل على موت المسيح ابن مريم دلالة بيِّنة. إذن، فالقول بأن المسيح الذي صعد إلى السماء بالجسد سينـزل بالجسد نفسه قول لغو وكلام لا أصل له، وما أجمع عليه الصحابة قط. أما إذا كان الإجماع قد عُقد على ذلك فعلا، فسمُّوا لنا على الأقل ثلاثمائة أو أربعمائة من الصحابة الذين أدلَوا بشهاداتهم بهذا الشأن، وإلا فإن تسمية بيان شخص أو شخصَين إجماعا، إنما هو خيانة كبرى.
وإضافة إلى ذلك من خطأ هؤلاء القوم الفادحِ أنهم يعتبرون معاني القرآن الكريم محدودة، ومقتصرة على الزمن الغابر فقط. ولو قُبلت هذه الفكرة لما بقي القرآن الكريم معجزة، أو أنه يكون فقط للعرب الذين يملكون ذوقا لمعرفة الأساليب البلاغية.
ليكن معلوما أن إعجاز القرآن الواضح لا بد أن يكون واضحا بيِّنا على كل قوم وكافة أصحاب اللغات، وبتقديمه يمكننا أن نُفحم كل شخص ونُدينه ونُسكته سواء أكان هنديا أو فارسيا أو أوروبيا أو أميركيًا أو من أي بلد آخر، وإن معارف القرآن الكريم وحقائقه وعلومه الحكيمة اللامحدودة هي التي تُكشف بحسب حاجة كل عصر، وهي مستعدة كجنود مدَجّجين لمواجهة الأفكار المتجددة في كل زمن. ولو كان القرآن محدودا من حيث حقائقه ودقائقه لما عُدّ معجزة تامة قط. والبلاغة وحدها ليست بالأمر الذي يمكن أن يدرك كلُ مثقف وغير مثقف وجه إعجازها، إنما الإعجاز المبين هو الذي يضم في طياته معارف ودقائق غير محدودة. والذي لا يعترف بهذا الإعجاز القرآني فهو محروم تماما من علم القرآن الكريم. ومن لم يؤمن بذلك الإعجاز فوالله ما قدر القرآن حقّ قدره، وما عرف الله حقّ معرفته، وما وقّر الرسول حق توقيره.
يا عباد الله، اعلموا يقينا أن إعجاز القرآن الكريم من حيث المعارف والحقائق غير المحدودة إعجاز كامل، وقد عمل في كل عصر أكثر من عمل السيف. وفيه ردٌّ كامل ودفاع كامل وحجة كاملة على ما يأتي به كل عصر من الشبهات نتيجة ظروفه المتجددة، أو ما يدّعيه من المعارف السامية. لا يسع أحدا سواء أكان من أتباع طائفة الـ "براهمو" أو البوذية أو الآريا أو فيلسوفا من طراز آخر، أن يستخرج حقائق ربانية لم توجد في القرآن الكريم مسبقا. إن عجائب القرآن الكريم لن تنتهي أبدا. كما لم تقتصر عجائب صحيفة الفطرة وغرائبها على زمن خلا، بل تتجدد دائما، وكذلك الحال بالنسبة إلى هذه الصحف المطهرة، وذلك لتحقيق الانسجام التام بين قول الله تعالى وفعله.
ولقد كتبت من قبل أن عجائب القرآن الكريم تُكشَف عليّ في معظم الأحيان بواسطة الإلهام باستمرار، ومعظمها مما ليس له أيّ أثر في كتب التفسير. فمثلا كُشف عليّ أن المدة التي مضت منذ خلق آدم إلى النبي قد ذُكرت كلها في الحساب العددي لسورة العصر بحساب الجمَّل، وهي4740 عاما حسب التقويم القمري.
قولوا الآن بالله عليكم، في أيّ تفسير ذُكرت هذه الدقائق القرآنية التي هي أبرز إعجاز للقرآن الكريم؟ كذلك فتح الله عليّ نقطة أخرى من المعارف القرآنية أنه المراد من: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ليس فقط أنها ليلة مباركة نزل فيها القرآن، بل إلى جانب هذا المعنى - الذي هو صحيح طبعا - هناك معانٍ أخرى في باطن هذه الآية، وقد بيّنتها في الجزء الأول (فتح الإسلام).
قولوا الآن، في أيّ تفسير وردت هذه المعارف الحقة؟ وتذكّروا أيضا أنه إذا كان إلى جانب أحد معاني القرآن الكريم معنى آخر أيضا لا يناقضه، ولا يُحدِث في هدي القرآن الكريم نقصًا، بل كان نورًا إضافيًا ينضم إلى نورٍ موجود سابقًا ويُري نور عظمة الفرقان بصورة أجلى من ذي قبل - مع أن الزمن يثير بطبيعة الحال أفكارا متجددة وغير محدودة بسبب تقلبات الدهر غير المحدودة - فظهوره بأسلوب جديد وإظهاره علوما متجددة دائما للعيان وإراءته المحدَثات والأمور البديعة، لهو أمر محتوم. إذا لم يتدارك الكتاب الذي يدّعي كونه خاتَم الكتب تقلبات الدهر بما يناسب مقتضى الحال، فلا يمكن اعتباره خاتَم الكتب على الإطلاق. أما إذا وُجد في ذلك الكتاب أسباب مكنونة ضرورية لتدارك كل حالة من حالات الزمن، فلا بد لنا من التسليم أن القرآن الكريم يحوي معارف غير محدودة دون أدنى شك، ويتكفّل حاجات كل زمن وعصر لاحق بصورة كاملة.
وليكن معلوما أيضا أنه قد جرت سنة الله مع كل ملهَم كامل أن تنكشف عليه دائمًا عجائب القرآن المكنونة. بل في كثير من الأحيان تُلقى على قلب الملهَم آية قرآنية إلهاما، ويراد منها معنى آخر بصرفها عن المعنى الحقيقي، كما يقول المرحوم المولوي عبد الله الغزنوي في إحدى رسائله: أُلهم إليّ ذات مرة: "قلنا يا نار كوني بردا وسلاما" ولكني لم أفهم معناها، ثم أُلهمتُ: "قلنا يا صبر كوني بردا وسلاما"، ففهمت أن المراد من النار هنا هو الصبر. ثم يقول بأنه قد أُلهِم إليه ذات مرة: "ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق"، وما أُريدَ من ذلك المعنى الحقيقي، بل كان المراد أن المولوي المحترم سيخرج من منطقة "كوهستان" في ولاية "كابول"، ويأتي إلى بلاد البنجاب الخاضعة للسلطنة البريطانية. كذلك سجّل عدة آيات قرآنية ضمن قائمة إلهاماته وقد استُنتِجت منها معانٍ أخرى بترك المعاني الحقيقية.
إن بعض رسائله موجودة عندي وستُنشر بحسب مقتضى الحاجة بإذن الله.
الآن، فليتفضّل الشيخ عبد الرحمن وليقُل لطفا منه؛ إذا كان الإنسان يصبح ملحدا باستنباطه من القرآن الكريم معنى خلاف ما استنبطه السلف الصالح - كما يعتبرني ملحدًا لأن الله تعالى يكشف عليّ بإلهامه معانٍ مكنونة لبعض الآيات – فما الذي سيُفتيه في حق مرشده المولوي محمد عبد الله الغزنوي الذي تلقى في إلهاماته آيات أيضا تخصّ بعض الأنبياء بوجه خاص ولكنه اعتبرها بحق أفراد الأمة؟
فقد كتب إليّ مرتين بعض الآيات التي وردت في القرآن الكريم بحقّ الصحابة الكبار، وقال بأنها أُلهِمت إلي بحقك. ومنها الآيتان:(1) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[96]، (2) أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [97]. والحق أن ما أكِنّه من الحب وحسن الظن للمولوي المرحوم عبد الله الغزنوي يعود إلى أنه قد تلقّى من الله تعالى إلهاما بحقي أن هذا العبد الضعيف على وشك أن يُبعَث من الله تعالى. وقد بعث إلي عدة رسائل وكتب فيها إلهاماته المباركة، وذكر أيضا ذلك عند بعض الناس، وأظهر لي مراده هذا في عالَم الكشف أيضا.
الردود على الأسئلة التي يطرحها الناس عادة
السؤال: أين يثبت موت المسيح ابن مريم من القرآن الكريم؟ بل إن قوله تعالى:رَافِعُكَ إِلَيَّ وبَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ تدلّ على أن المسيح رُفع إلى السماء بجسده. وكذلك الآية: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[98] تدل على أن المسيح لم يُقتَل ولم يمت على الصليب.
الجواب: فليتضح أن معنى الرفع إلى الله هو الموت، كذلك إن لقول الله : ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ[99]، وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[100] المعنى نفسه. إضافة إلى ذلك إن الوضوح والجلاء والتفصيل الذي ورد به ذكر موت المسيح في القرآن الكريم لا يُتَصور أكثر منه؛ لأن الله قد بيّن وفاة المسيح بوجه عام وبوجه خاص أيضا، كما يقول مثلا على وجه العموم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[101].
إن هذه الآية التي قدّمتُها للاستدلال تدل بصراحة متناهية أن الموت قد أصاب جميع الرُّسُل، سواء أكان بالموت الطبيعي أو بالقتل، ولم يسلم من الموت نبي من الأنبياء السابقين. فهنا يستطيع القراء الكرام أن يفهموا بالبداهة أنه إذا كان المسيح- الذي كان رسولا من الرسل السابقين- لم يمت إلى الآن، بل رُفع إلى السماء حيا، ففي هذه الحالة لا يصح مضمون هذه الآية الذي يدلّ بوجه عام على موت كل نبي سبق، بل يصبح هذا الاستدلال لغوا وقابلا للطعن فيه.
والآية الثانية التي تدل على موت المسيح ابن مريم على وجه العموم هي: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ[102]. كذلك قول الله تعالى بوجه عام: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[103].
والآية الثالثة التي تدل على وفاة المسيح كاستدلال عام هي: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا[104]. أيْ؛ أيها الناس أنتم حزبان، فمنكم من يموت قبل الشيخوخة أيْ لا يصل إلى سن متقدم جدا ليصبح شيخا فانيا، بل يموت قبل تلك المرحلة؛ ومنكم حزب آخر يصل أصحابه إلى مرحلة الشيخوخة؛ أي يصابون بحالة أرذل العمر المقرفة والمنفّرة، فيصبحون كطفل عديم الفهم مع كونهم من العلماء والعاقلين، وينسون في لمح البصر كل ما تعلّموه مدى العمر.
فما دام الله تعالى قد قسم بني آدم إلى حزبينِ فقط من حيث أسلوب الحياة، فلا يمكن أن يبقى المسيح ابن مريم خارجا عن أحد هذين القسمين مثل بقية البشر. علما أن هذا ليس قانون المشرعين الدنيويين حتى يقدر أحد من الناس على ردِّه، وإنما هي سنَّة الله التي بيّنها الله جلَّ شأنُه بنفسه بصراحة تامة.
فمن منطلق هذا التقسيم الإلهي يجب أن ينطبق على المسيح إما مبدأ: مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى فيكون الآن جالسا بعد الموت في جنة الخلد على عرشٍ ذكره بنفسه في الإنجيل. أو إذا لم يمت إلى الآن فلا بد أن يكون قد أصبح شيخا فانيا بتأثير الزمن، وبذلك فإن وجوده أو عدمه سيّان بسبب حدوث الاختلال في حواسه.
أما الآيات البينات التي تدل على موت المسيح بوجه خاص فلا نرى حاجة إلى تكرارها. ومن الواضح أنه إذا كان المسيح ابن مريم خارجا عن جماعة المرفوعين الذين ارتحلوا من الدنيا إلى الأبد ورُفعوا إلى الله، فلا يمكنه قطعا أن ينضم إلى الذين وصلوا إلى عالم الآخرة، بل سينضم إليهم بعد الممات. وإذا قيل بأنه قد انضم إلى الأموات بحسب الآية: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي فسيُعَدّ منهم لا محالة. والثابت جليا من حديث المعراج أيضا أنه انضم إلى الأنبياء الذين ماتوا من قبل وأُعطِي مكانا قرب النبي يحيى. فمن الواضح في هذه الحالة أن معنى الآية: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[105] سيكون كما يلي: إني متوفيك ورافعك إلى عبادي المتوفّين المقربين ومُلحقك بالصالحين. ويكفي فهمًا للعاقل غير المتعصب أنه إذا كان المسيح قد رُفع حيا فكيف اقتحمَ صف الأموات. ولا بد من الذكر أيضا أن بعضا من قليلي الفهم يظنون أن تلك الآيات تحمل معنيين، ولكن هذا فهم فاسد تماما، ولا يليق بالمؤمن أن يفسِّر القرآن برأيه، بل القرآنُ بنفسه يفسر بعضه بعضا. وإذا لم يكن صحيحا أن الآيات التي وردت في حق المسيح مثل: مُتَوَفِّيكَ وفَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي، تدل على موت المسيح في الحقيقة بل لها معانٍ أخرى، فلا بد أن نحتكم إلى القرآن نفسه للبتّ في هذا النـزاع. وإذا كان القرآن يستخدم هذه الكلمة - بالتساوي - أحيانا بمعنى الموت وأحيانا أخرى بمعنى لا علاقة له بالموت، لَتساوَى احتمالُ استمداد كِلا المعنيين في القضية المتنازع فيها، أما لو كان القرآن الكريم يستعملها بمعنى محدَّد في غالب الحالات وأكثرها، لكان ذلك المعنى هو المرَجّح في هذا البحث، وأما إذا كان القرآن الكريم يستخدمها بمعنى واحد في كل مكان من بدايته إلى نهايته، فسيكون الحكم النهائي والقاطع في المكان المبحوث فيه أن المعنى المراد من فعل "التوفِّي" في القرآن كله، هو الذي أُريدَ به في هذا المقام أيضا؛ لأنه من غير الممكن وبعيدٌ عن الفهم تماما أن يستخدم الله تعالى في كلامه الفصيح والبليغ - ولا سيما في محل النـزاع والصراع الذي يُعرف أنه بمنـزلة معركةٍ حامية الوطيس - كلمات شاذة ومجهولة لم تُستعمَل في أيّ مكان في كلامه قط. ولو فعل ذلك لكان معناه أنه يريد أن يترك خلقه يهيمون في متاهات الشبهات. والمعلوم أنه لن يفعل ذلك. كيف يمكن أن يريد الله تعالى في 23 آية من القرآن الكريم معنى واحدا دائمًا من كلمة معينة، ويريد في مكانينِ فقط - ولا سيما في مكانينِ يحتاجان التوضيح والبيان أكثر من غيرهما- معنًى آخر تماما ويدفع الخلق إلى هوة الضلال بيده؟
أيها القراء الكرام، فليتضح لكم أنه حينما درستُ فعل "التوفِّي" دراسةً متأنية في جميع الأماكن في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته تبيّن لي أنها قد وردت في 23 آية - عدا الآيتين قيد البحث - بمعنى الموت فيها كلها، ولم تُستخدَم في أي مكان بأيّ معنى آخر. وتلك الأماكن هي:
من الواضح كل الوضوح أن المراد من فعل "التوفِّي" في جميع الأماكن المذكورة آنفا من القرآن الكريم إنما هو الموت وقبض الروح. أما الآيتان الأخيرتان فإنهما تتعلقان بالنوم ظاهريا، ولكن الحقيقة أن المراد في هاتين الآيتين ليس النوم، بل المراد والمقصود الحقيقي هو الموت، وقد أُريدَ الإثبات من ذلك أن النوم أيضا نوع من الموت. فكما تُقبَض الروح عند الموت كذلك تُقبَض عند النوم أيضا. إذن، فإن إطلاق فعل "التوفِّي" على النوم في هذين المقامَين استعارة استُخدمت مع قرينة النوم، أيْ قد ذُكر النومُ بكلمات صريحة ليعلم كل شخص أن المراد من "التوفِّي" هنا ليس الموت الحقيقي بل الموت المجازي وهو النوم.
ويعلم كل ذي علم بسيط أيضا أنه عندما تُستعمَل كلمةٌ ما بمعنى حقيقةٍ مسلَّمٍ بها، أي بمعناها الخاص بها والمتداول عموما، فليس ضروريا لمستخدِمها أن يورد قرينة معينة لتوضيح معناها بوجه خاص لأن الكلمة شائعة ومعروفة وتتبادر إلى الفهم بذلك المعنى المعين. ولكنه لو استخدم كلمةً بالمعنى المجازي بصرفها عن حقيقةٍ مسلَّمٍ بها، لتحتم عليه أن يُضيف عندها قرينة بأسلوب آخر، إما صراحةً أو كناية لكي لا يشتبه المعنى على الفهم. وللتمييز فيما إذا كان المستخدم قد استخدم الكلمة حقيقةً مسلَّمًا بها أم على سبيل المجاز والاستعارة النادرة، فإن لذلك علامة واضحة؛ وهي أنه عند استخدامها بالمعنى المتداول يذكر الحقيقةَ المسلَّم بها بإيجاز دون أن يرى ضرورة إلى قرينة عليها؛ معتبرا إياها مفهوما شائعا ومعروفا وموضوعا متبادرا إلى الذهن، أما في حالة الاستعارة والمجاز فلا يُستحَب ذلك الإيجاز، بل يكون واجبا عليه عندئذ أن يذكر قصده بعلامة واضحة يفهمها الفطين بسهولة، ويوضّحَ أن تلك الكلمة لم تُستخدَم في ذلك المقام بمعناها الأصلي.
الآن، وقد تبيّن بوضوحٍ الفرقُ بين الحقيقة والمجاز، يمكن لكل من قرأ القرآن الكريم بنظرة تأمل وتدبَّر في فعل "التوفِّي" حيثما ورد في القرآن، أن يشهد بأمانة على صدق بياني هذا. وينبغي الإمعان في الآيات التالية على سبيل المثال لا الحصر:
إذن، يتبين من هذه الآيات بصراحة متناهية ووضوح تام أن فعل "التوفِّي" قد استخدِم فيها كلها بمعنى الموت. وهل في القرآن الكريم آية استُخدِم فيها فعل "التوفِّي" وحده وأُريد منه معنى آخر غير الموت؟ فلما ثبت بصورة قطعية ويقينية دون أدنى شك أن الأسلوب المتَّبع في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته هو أن المعنى المراد من فعل "التوفِّي" في كل مكان هو الموت، فإن اختراع معنى في الآيتين: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وفَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي المتنازع فيهما مخالفا للأسلوب الشائع العام والمتَّبَع في القرآن الكريم، ليس إلا إلحادا وتحريفا سافرا.
وفي هذا المقام هناك نقطة أخرى جديرة بالتذكّر وهي: لماذا استُخدِم فعل "التوفِّي" في محل الموت في كل مكان في القرآن الكريم، ولماذا لم يُستخدَم فعل "الإماتة"؟
السر في ذلك أن لفظ "الموت" يطلق أيضا على فناء الأشياء التي لا تبقى فيها روح بعد فنائها؛ فمثلا لو اتخذت النباتات والجمادات صورا أخرى غير صورتها الحقيقية لأُطلق عليها لفظ "الموت"، كما يقال: مات الحديد وانصهر، أو ماتت قطعة الفضة وانصهرت. كذلك لا يُطلَق فعل "التوفِّي" على الحيوانات والحشرات التي لا تبقى فيها روح بعد موتها ولا تستحق الثواب أو العقاب، بل يقال: ماتت الدابة أو ماتت الحشرة؛ فلما كان في مشيئة الله تعالى أن يبيِّن في كلامه العزيز بوضوح أن الإنسان حيوان لا يصيبه الفناء التام بعد موته بل تبقى روحه، ويحتفظ بها قابضُ الأرواح؛ فلم يُطلِق عليه فعل "الموت" بل أطلق "التوفِّي" ليدل على أنه لم يقضِ عليه قضاء نهائيا، وما أفناه فناء تاما بعد إماتته، بل أمات جسده فقط، واحتفظ بروحه.
وإضافة إلى ذلك أيضًا؛ إن في اختيار هذا الفعل، ردًّا على الملحدين الذين لا يعتقدون ببقاء الروح بعد موت الجسد.
ليكن معلوما أيضا أن فعل "التوفِّي" قد استُخدم في القرآن الكريم من البداية إلى النهاية بمعنى قبض الروح وترك الجسم على حاله. إن حقيقة موت الإنسان هي أن الله تعالى يقبض روحه ويترك الجسد على حاله بفصل الروح عنه. ولكن ما دام النوم أيضا يشترك في هذه الحقيقة إلى حد ما؛ فقد عُبِّر عن النوم أيضًا في الآيتين المذكورتين من قَبْل بـ "التوفِّي" على سبيل الاستعارة، لأن الروح تُقبض نوعًا ما في حالة النوم أيضا، ويُترك الجسم عاطلا دون أن يكون له أي عمل أو دور. أما في حالة "التوفِّي" الكامل حيث تُقبض الروح على الوجه الأكمل، ويُـترَك الجسم وشأنه، فهي موت الإنسان، لذلك فقد استُخدم فعل "التوفِّي" في القرآن الكريم بوجه عام ليدل على موت الإنسان. والقرآن الكريم مليء بهذا الاستخدام من بدايته إلى نهايته. ولم يُطلَق فعل "التوفِّي" على النوم إلا في موضعينِ اثنين فقط، وذلك أيضا مع ذكر قرينةٍ. وفي هاتين الآيتين أيضا جاء التصريح بوضوح تام أنه ليس المراد من "التوفِّي" هنا النوم، بل المراد هو الموت فقط. وقد أُريدَ التبيان أن النوم أيضا نوع من الموت إذ تُقبَض الروحُ في النوم أيضا ويُترك الجسم على حاله. والفرق الوحيد بين النوم والموت هو أن النوم موت ناقص، والموت الحقيقي إنما هو موت على الوجه الكامل.
والجدير بالانتباه أيضا أنه كلما ورد فعل "التوفِّي" في القرآن الكريم، سواء أكان بمعناه الحقيقي (أي بمعنى الموت) أم بالمعنى غير الحقيقي (أي بمعنى النوم)، كان المراد منه دائما هو قبض الروح وترك الجسم عاطلا بلا حراك. فلما اعتبرنا المعنى المذكور آنفا مبدأ مسلَّمًا به، وتشهد عليه آيات القرآن الكريم التي ورد فيها فعل "التوفٍّي" - وإن قبلنا جدلا الفكرة الباطلة بداهةً أن معنى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هو "إني مُنِيْمُك" - ثبت مع ذلك خطأ الفكرة القائلة برفع الجسد؛ لأنه لا بد أن نستنتج من إِنِّي مُتَوَفِّيك حسب المبدأ المذكور آنفا؛ أني سأجعل النوم غالبا عليك وسأقبض روحك. والمعلوم الآن أن العبارة: رَافِعُكَ إِلَيَّ التي جاءت بعد: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ تعني أني سأقبض روحك ثم أرفعك إليّ؛ فإن كلمة: رَافِعُكَ إِلَيَّ مرتبطة بـ: مُتَوَفِّيكَ ويُستنتَج منها بالبداهة أن الله تعالى قد قبض روحه ثم رفع إليه الروحَ نفسها، لأن الشيء الذي يُقبض هو الذي يُرفع، ولا يوجد أيّ ذكر لقبض الجسد.
أما الآيات الأخرى التي تشير إلى النوم فقد قال الله تعالى فيها بصراحة تامة إن في النوم أيضا تُقبض الروح فقط كما تُقبض عند الموت، ولا يُقبض الجسد. فكل شخص يستطيع أن يُدرك أنه لا يُرفع إلا ما يُقبَض، وليس أنَّ ما يُقبَض هو الروح وأمّا ما يُرفع فهو الجسد. ولو قيل ذلك لكان هذا المعنى معارضا تماما للآيات القرآنية كلها ومشيئة الله أيضا؛ فكلما استخدم القرآن الكريم فعل "التوفِّي" - على سبيل الاستعارة - للإشارة إلى النوم، قال في تلك الأماكن أيضا إننا نقبض الروح ونترك الجسد على حاله، والفرق الوحيد بين الموت والنوم هو أنه في حالة الموت لا نحرر الروح بعد القبض، بل نحتفظ بها عندنا، أما في حالة النوم فنقبض الروح إلى مدة معينة ثم نحررها فتعود إلى الجسم.
الآن، يجب التدبر؛ أفلا يكفي هذا البيان القرآني للفهم أن الله لا يهمه قبض الجسم ورفعه سواء في حالة الموت أو النوم؟ فالله يقول بنفسه إن الجسد خُلق من طين، ويعود إلى التراب في نهاية المطاف. إن الله تعالى يقبض الأرواح منذ بدء الخليقة ويرفع إليه الأرواح فقط. فما دام هذا هو واقع الأمر وهذا هو الحق والصدق، وأيضًا لو افترضنا جدلا في هذه الحالة أن معنى إِنِّي مُتَوَفِّيك هو أنني سأقبض روحك بالأسلوب نفسه الذي تُقبض به روح النائم، فمع ذلك لا علاقة للجسم بهذا النوع من القبض. ولن يثبت من تفسيرٍ كهذا إلا أن روح المسيح قُبضت في حالة النوم، وبقي الجسد في مكانه، ثم أُعيدت إليه في وقت آخر. وهذا المعنى باطل بالبداهة وينافي ما يهدف إليه كِلا الفريقين، لأنه لا علاقة لنوم المسيح لفترة وجيزة واستيقاظه ببحثنا قط. وإن آية القرآن الكريم المذكورة آنفًا تعلن بأعلى صوتها أن روح المسيح ما أعيدت إلى الجسد - بعد أن قُبضت - كما تعاد روح النائم، بل رفعها الله تعالى إليه كما يتبين من الآية الصريحة الدلالة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ .
يجب أن ننظر بعين العدل والإنصاف أنه كما قال الله جلّ شأنه في القرآن الكريم في حق المسيح إِنِّي مُتَوَفِّيكَ كذلك قال في حق سيدنا ومولانا النبي أيضا: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي قد ورد فعل "التوفِّي" في كِلا الموضعين، في حق المسيح وفي حق سيدنا ومولانا ، فكم هو بعيد عن العدل والإنصاف أن نستنتج من "التوفِّي" الوارد في حق سيدنا ومولانا معنى الموت، ونصرفها عن معناها الحقيقي والمعروف إذا وردت الكلمة نفسها في حق عيسى ، وبذلك نجنف عن المعنى المتفق عليه الذي يتبين من القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، ونختلق من عند أنفسنا معنى آخر. إذا لم يكن هذا هو الإلحاد والتحريف فما الانحراف والتحريف إذًا؟
هناك تفاسير مبسوطة موجودة في العالم مثل تفسير الكشاف ومعالم التنـزيل والتفسير الكبير للإمام الرازي وتفسير ابن كثير وتفسير مدارك التنـزيل وفتح البيان وغيرها، وقد ورد في جميع هذه التفاسير تحت الآية: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ "إني مميتك حتف أنفك"، أي سأُمِيتُك موتا طبيعيا دون أن تموت على الصليب أو بالضرب.
وغاية ما في الأمر أن بعض المفسرين فسروا هذه الآية بأوجه أخرى أيضا نتيجة قصور فهمهم، ولكنهم فعلوا ذلك بناءً على رأيهم الشخصي الذي لا أصل له، وليس بناءً على آية أو حديث. ولو كانوا أحياء لَسُئلوا: لماذا وبأي دليل لبستم الحق بالباطل؟ على أية حال، ما داموا قد اعترفوا أن من جملة الأقوال المختلف فيها قولٌ بأن المسيح مات حتما ورُفعت روحه، فإن زلاّتهم الأخرى تستحق العفو. علما أن بعضهم - مثل صاحب الكشاف - ضعّف الأقوال الأخرى؛ إذ أسبقها بكلمة "قيل".
الآن، وقد أسهبنا في فعل "التوفِّي"، وتبيّن أنه قد استُعمل في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته بمعنى قبض الروح فقط، بقي أن نرى بأي معنى استُخدِمَ في القرآن الكريم فعل "الرفع" في: رَافِعُكَ إِلَيّ؟
ليكن معلوما أنه كلما ورد فعل "رفع" في القرآن الكريم في حق الأنبياء والأخيار والأبرار كان معناه العام هو بيان منـزلةٍ عليا في السماء يحتلها هؤلاء الأخيار عند الله من حيث مكانتهم الروحانية ونقطتهم النفسية، وأيضًا كي يبشَّروا أن روحهم ستُرفع بعد الموت وفراقِها الجسدَ إلى مقام قُربهم عند الله؛ إذ يقول الله جلّ شأنه في القرآن الكريم لإظهار المكانة السامية لنبينا الأكرم : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ[107]. أي أن جميع الأنبياء ليسوا سواسية من حيث درجاتهم، بل بعضهم نال شرف الكلام وجها لوجه، ورُفعت درجاتُ بعضهم أكثر من غيرهم.
لقد جاء في الأحاديث تفسير هذه الآية بأن روح كل نبي تُرفع إلى السماء بعد مماته وتنال مقاما في سماء من السماوات بحسب درجتها، فيقال بأنها رُفعت إلى مقام كذا وكذا، وذلك لتستبين درجتها الظاهرية أيضا بحسب درجتها الباطنية. إذًا، فهذا الرفع إلى السماء يكون لتحقيق الدرجات. وأما العبارة: رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ التي وردت في الآية المذكورة آنفا ففيها إشارة إلى أن رفع النبي كان أعلى ممن رفع إليه غيره من الأنبياء، وأن روحه لم تستقر في السماء الثانية مثل روح المسيح، ولم تستقر في السماء السادسة مثل روح موسى بل هي أعلى وأسمى من الجميع على الإطلاق. هذا ما يدل عليه حديث المعراج بمنتهى الصراحة. بل ورد في "معالم النبوة" حديثٌ بأن النبي حين تجاوز السماء السادسة ليلة المعراج قال موسى: "ربِّ لم أظنّ أن يُرفع عليّ أحد." لاحِظوا هنا أن فعل "رفع" قد استخدِم لبيان المرتبة فقط. كما تَبَيَّن معنى الآية القرآنية المذكورة آنفًا من خلال الأحاديث النبوية أن كل نبيٍّ يُرفع إلى السماء بحسب درجته، وينال نصيبه من الرفع بحسب مقام قربه. وتبيّن أيضا أن أرواح الأنبياء والأولياء - وإن كانت على الأرض أثناء حياتهم في الدنيا - تكون لها صلة مع سماءٍ تُعتَبر حدًّا أعلى لرفعِها. ثم بعد الممات تستقر روحه في السماء التي جُعلت الحدَّ الأعلى لرفعها.
فالحديث الذي يذكر رفع الأرواح عموما بعد الممات يؤيد هذا البيان.
ولأن هذا البحث واضح وصريح للغاية، وقد كتبت في هذا الموضوع من قبل أيضا، لذا لا أرى حاجة للإسهاب فيه الآن.
يجدر بالبيان في هذا المقام أن بعض المفسرين عندما رأوا أن معنى "التوفِّي" في الآية: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هو الإماتة في الحقيقة، وأن: رَافِعُكَ إِلَيّ تدل بقرينة صريحة على رفع الروح بعد الممات، قلقوا نظرا إلى أن ذلك يخالف رأيهم بمنتهى الصراحة، فاقترحوا إصلاحا أن كلمة: رَافِعُكَ هنا متقدمة على إِنِّي مُتَوَفِّيكَ حاسبين أنفسهم بمنـزلة مصلحي الترتيب الوارد في القرآن الكريم، واختاروا لأنفسهم منصب المعلِّم. ولكن القراء يعرفون جيدا كم يمس ذلك بكرامة كلام الله الأبلغ والأفصح، وإلى أي مدى يحطّ من شأنه!
هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن ما قاله الله تعالى بحق المسيح : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[108]، ليس المراد منه قط أن المسيح لم يمت. أليس هناك طريق آخر لموت الإنسان إلا أن يُقتَل أو يُصلب؟ بل المراد من النفي الوارد هنا أمرًا آخر؛ فقد ورد في التثنية 21: 23 أن "المعلَّق ملعون من الله"، واليهودُ الذين قتلوا المسيحَ على الصليب على حد زعمهم، كانوا يظنون لتمسكهم بالآية الواردة في التوراة أن المسيح ابن مريم لم يكن نبيا ولا مقبولا عند الله، لأنه مات على الصليب بحسب مضمون التوراة التي تقول أن الذي يموت على الصليب ملعون، فأراد الله تعالى أن يُظهر الحقيقة للعيان ويدحض زعمهم هذا، فقال: ما صُلب المسيح ابن مريم في الحقيقة، وما قُتل، بل مات ميتة طبيعية.
السؤال2: أين وفي أي كتاب ورد أن المسيح ابن مريم الذي وُعد بمجيئه ليس المرادُ منه المسيحُ ابن مريم نفسه بل أُريد منه مثيله؟
أما الجواب: أولا وقبل كل شيء، تناول القرآن الكريم هذا الذكر بصراحة تامة حين قال بكلمات واضحة إنه لم يأت نبي إلا مات، فقد جاء فيه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[109]، وقال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ[110]، وقال أيضا: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ[111]. فالواضح أن الاعتقاد بحياة المسيح على عكس ما تعلنه هذه الآيات بأعلى صوتها، وكذلك الاعتقاد بحياته بجسده المادي في السماء الثانية دون الحاجة إلى الطعام مثل الملائكة- على عكس مفهوم الآية: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ- هو انحراف تام عن كلام الله المقدس.
أكرر وأقول: لو كان المسيح حيا في السماء بالجسد المادي، لصار تقديم الله تعالى دليلا من خلال الآية المذكورة آنفًا - بالقول بأنه لو مات هذا النبي أيضا، فلا مجال للاعتراض على نبوته، لأن الأنبياء لا زالوا يموتون منذ البداية - واهيا ولغوا، بل خلافا لواقع الأمر. والله تعالى أعلى شأنا من أن يكذب أو يقول ما ينافي واقع الأمر.
وبما أنه من الواضح أن المسيح قد مات، وعودته بعد الممات مستحيلة، إذ لم يرد في القرآن الكريم أيّ نبأ بعودته إلى الحياة بعد الممات؛ فلا شك أن المسيح المقبل سيكون مثيله حتما.
وبالإضافة إلى ذلك قد أشار النبي أيضا في أحاديثه المقدسة إلى أن المسيح الآتي ليس المسيح ابن مريم الحقيقي بل مثيله، لأنه ذكر ملامح المسيح الراحل مختلفةً عن ملامح المسيح الآتي، وقال عن المسيح الراحل بصورة قاطعة أنه كان نبيا، أما المسيح الآتي فذكره على أنه شخص من الأمة كما يتبين من حديث: "إمامكم منكم". وفي حديث: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" أنبأ على سبيل الإشارة بمجيء مثيل المسيح. وعلى ذلك فإن المسيح المقبل نبي أيضا مجازا، لكونه محدَّثا. فأي بيان أوضح وأجلى من ذلك؟ وأضفْ إلى ذلك أن روح المسيح ابن مريم قد رُفعت بحسب مفهوم الآية: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[112] ودخلت الجنة، فكيف سيعود مرة أخرى إلى عالَم الأحزان هذا؟ صحيح أننا نعتقد أن الدخول الكامل في الجنة من الناحية المادية والروحانية يتحقق لكل من يستحقه بعد حشر الأجساد، ومع ذلك فإن المقرَّبين لا يُحرمون مما أُعطَوا من متَع الجنة قبل ذلك أيضا، وإن مثولهم أمام رب العالمين يوم القيامة لا يستلزم خروجهم من الجنة، لأنه ليس المراد من ذلك أن عرشا من الخشب أو الحديد أو الفضة سيُفرش خارج الجنة ويجلس الله عليه مثل الحكام أو السلاطين الدنيويين، وسيضطر الناس للمثول أمامه بقطع مسافة ما حتى يُعترَض بأن الناس سيضطرون للخروج من الجنة بعد أن دخلوها للمثول أمام الله في فلاة مترامية الأطراف حيث وُضع عرش رب العالمين. إن هذه الفكرة مادية بحتة ويهودية الطابع. والحق أننا نؤمن بيوم القيامة ونؤمن بعرش رب العالمين، ولكن لا نعتبره عرشا ماديا، ونؤمن أيضا بأن كل ما قاله الله والرسول سيتحقق حتما، ولكنه سيتحقق بأسلوب نـزيه لا يتنافى مع قُدُّوسية الله، ولا يغاير تنـزُّهَه أو أيَّ صفةٍ من صفاته الكاملة. إن الجنة مقام تجلّي الله تعالى، فكيف يمكن القول إنه سيظهر ذلك اليوم خارج الجنة كشخص عادي، أو سيأمر بنصب عرشه خارجها. بل الحق أن أهل الجنة سيكونون في الجنة في ذلك اليوم، وأهل النار في النار، ولكن التجلّي الأعظم لرحمة الله سيُمطر على الصادقين والمؤمنين متعةً كاملة بأسلوب جديد، ويريهم متعة حياة الجنة بصورة حسِّية ومادية، ويدخلهم دار السلام من جديد. كذلك تماما إن تجليّ غضب الله سيُري جهنم في أعين أهلها بصورة جديدة، وكأنه سيُدخِلهم في النار بعد الحساب والإدانة من جديد.
إن دخول أهلِ الجنةِ الجنةَ وأهلِ النار النارَ دون أدنى توقف بعد موتهم، إنما هو ثابت بتواتر القرآن والأحاديث الصحيحة. إلامَ أطيلُ هذا البيان! فارحم يا ربي القادر على كل شيء هذا القومَ الذين يقرؤون كلام الله المقدس ولا يُجاوز تراقيهم.
السؤال 3: الدليل الذي قدِّم على إبطال عودة المسيح، وإثبات موت المسيح، ودخول كل مؤمن وصادق الجنَّة بعد موته، وأن الذي يدخل الجنة يستحق البقاء فيها إلى الأبد بحسب مفهوم الآية: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ[113] ليس صحيحا، لأنه لو كان ذلك صحيحا لاستلزمه عدم صحة قصةٍ وردت في القرآن الكريم عن النبي "عُزير" حيث قيل إنه مات مئة عام ثم أحياه الله. والسبب في ذلك أنه لا بد من التسليم في حالة حياته - بحسب المبدأ المذكور آنفا - أنه أُخرِج من الجنة. كذلك لو حُملت هذه الآية على الظاهر، واستُنبط منها أن الصادقين يدخلون الجنة بعد مماتهم فورا ولا يخرجون منها أبدا، لبطل خروج الأموات من القبور بعد بعثهم للمثول أمام رب العالمين في المحشر، ولأحدث ذلك انقلابا شديدا في معتقدات الإسلام المسلَّم بها.
أما الجواب: فليتضح أنه صحيح تماما أن الذي يُدخَل الجنة لا يُخرَج منها أبدا، حيث وعد الله تعالى المؤمنين وعدا صادقا فقال: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، أيْ لقد نجا الداخلون في الجنة من كل نوع من الحزن والألم، ولن يُخرَجوا منها أبدا.
ثم يقول تعالى في آية أخرى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، أيْ أنّ السعداء يُدخَلون الجنة بعد الممات وسيبقون فيها إلى الأبد. ولو بُدِّلت السماوات والأرض كما سيحدث يوم القيامة لما أُخرِجوا منها، ولن يحدث في الجنة خلل بسبب تحلل السماوات والأرض، لأن الجنة عطاء لن يُحرَموا منه لحظة واحدة.
كذلك ورد ذكر بقاء أهل الجنة فيها في أماكن أخرى من القرآن الكريم كما يقول تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[114]، ويقول أيضا: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [115] وغيرهما.
والمعلوم أيضا أن المؤمن يُدخَل الجنة بعد مماته دون أدنى تأخير، كما يتبين من الآيات التالية: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ[116]، وفي آية أخرى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[117]، أيضًا الآية: فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ[118].
أما الأحاديث فيوجد فيها هذا الذكر بكثرة بحيث إن الخوض فيه مدعاة للإطالة. يذكر النبي ما رآه بأم عينيه فيقول: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ." كذلك ورد في قصة طويلة في إنجيل لوقا: الأصحاح 16 أن "لِعازَر" الذي كان شخصا فقيرا، أُجلس بعد مماته في حضن إبراهيم أي استمتع في جنة النعيم، أما الغني الذي مات في الأيام نفسها فأُلقي في النار، وطلب من "لعازر" ماء باردا ولم يُعطَه.
وبالإضافة إلى ذلك هناك آيات أخرى تتحدث عن حشر الأجساد، وأن أهل الجنة سيُدخَلون الجنة بعد الحساب ويُلقَى أهل النار في النار. ويبدو بإلقاء نظرة عابرة في كِلا النوعين من الآيات كأن هناك تناقضا بينهما. إن دخول الأرواح الطيبة الجنةَ بعد الممات يتبين بصراحة تامة وبداهة متناهية من القرآن والأحاديث، ولكن لن تجدوا آية واحدة أو حديثا واحدا يُثبت أن أهل الجنة سيُخرَجون من الجنة يوم الحساب، غير أن بقاءهم في الجنة إلى الأبد بحسب وعد الله مذكور في عدة أماكن في القرآن الكريم والأحاديث. ومن ناحية ثانية من الثابت أيضا أن الأموات سيخرجون من القبور أحياءً، وكل شخص سيقف أمام الله ليسمع الحكم بحقه، وسيُكشَف لكل شخص حساب أعماله وإيمانه بميزان الله تعالى. فالذين يستحقون الجنة يُدخَلونها، والذين يستحقون أن يصلَوا النار يُلقَون في جهنم.
فليتضح الآن أن الطريق الأمثل لإزالة هذا التعارض الحاصل بين الآيات والأحاديث ليس بالاعتقاد أن تبقى جميع الأرواح بعد الممات في حالة فناء دون شعورها بالارتياح أو نيلها أي نوع من العقاب ودون أن يصلها نسيم الجنة أو تشويها نار جهنم؛ لأن اعتقادًا مثله يعارض آيات القرآن الكريم البينة والأحاديث أيما معارضة. لولا علاقة الميت بالجنة أو النار خلال الفترة بين الموت وحشر الأجساد لكان الدعاء للميت والصدقاتُ وإطعامُ الفقراء الطعامَ عن الميت أو التصدق بالألبسة وغيرها من الأعمال من هذا القبيل كلها عبثٌ على مدى الأمد الطويل. ولا بد من القبول أيضا أنه لا علاقة للميت مع الراحة والألم أو الثواب والعقاب قط، مع أن هذا الزعم يعارض تماما تعليم النبي .
إذًا، إن ما يزيل التعارض بين الآيتين من كِلا النوعين هو أن الجنة والنار منقسمتان على ثلاث درجات.
الدرجة الأولى، وهي الدرجة الأدنى، تبدأ حين يرتحل الإنسان من هذه الدنيا ويرقد في مرقده. ولقد ذُكرت هذه الدرجة الأدنى في الأحاديث على سبيل الاستعارة بأساليب مختلفة، ومن جملتها أنه إذا كان الميّت عبدا صالحا فُتحت في قبره نافذة إلى الجنة يرى من خلالها مشاهد الجنة ويستمتع من نسيمها العليل. وسعة النافذة تعتمد على مرتبة إيمان صاحب القبر وعمله. وقد ورد أيضا أن الذين يغادرون الدنيا وهم فانون في الله بحيث يضحون بحياتهم الغالية في سبيل حبيبهم الحقيقي مثل الشهداء أو الصِّدِّيقين الذين هم سابقون على الشهداء أيضا، لا يُفتح لهم في قبرهم بعد مماتهم نافذة فقط، بل يُدخَلون الجنة بكل وجودهم وبكل قواهم، ولكن مع ذلك لا يذوقون متعة الجنة بصورة أكمل وأتم قبل يوم القيامة.
كذلك يُفتح للميت الخبيث نافذة في قبره، فيصيبه من خلالها دخان حارق، فتحترق الروح الخبيثة كل حين بلهيبه. بالإضافة إلى ذلك قد ورد أيضا أن الذين يغادرون الدنيا وهم فانون في الشيطان لدرجة قطْعِهم علاقتَهم بمولالهم الحقيقي كليا بسبب طاعتهم الشيطانَ، لا يُفتح لهم في قبرهم نافذة إلى جهنم فقط، بل يُلقَون فيها بكل وجودهم وكل قواهم كما يقول الله جلّ شأنه: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا[119]. ومع ذلك لا يذوقون عقاب جهنم بصورة أكمل وأتم قبل يوم القيامة.
الدرجة الثانية: فوق الدرجة التي ذكرناها آنفا لأهل الجنة وأهل النار، هناك درجة أخرى؛ هي دخولهم الجنة أو النار، ويمكن أن نسميها الدرجة المتوسطة، وتأتي هذه الدرجة بعد حشر الأجساد وقبل دخول الجنة العظمى أو النار الكبرى. وبسبب العلاقة الكاملة بين الروح والجسد، ينشأ نشاط ذو درجة عالية في قوى صاحبها فيلاحِظ تجلّي رحمة الله أو غضبه بوجه أكمل حسب حالته، ويجد الجنة العظمى أو جهنم الكبرى قريبة جدا منه، فتتقوّى حاسة المتعة أو العقاب أكثر من ذي قبل كما يقول الله جلّ شأنه: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ[120]، ويقول أيضا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ[121]. والحائزون على الدرجة الثانية أيضا ليسوا سواسية، بل منهم مَن يحتلون درجة عليا وتصحبهم أنوار الجنة في حالة كونهم من أهل الجنة؛ ويقول الله جل شأنه مشيرا إليهم: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ[122]. كذلك من الكفار أهل النار أيضا من يحتلون درجة عليا؛ حيث تُضرَم في قلوبهم نارُ جهنم قبل أن يدخلوها بصورة كاملة كما يقول الله جلّ شأنه: نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ[123].
وفوق هاتين الدرجتين هناك الدرجة الثالثة والأخيرة؛ وهي منتهى المدارج التي سيدخلها الناس بعد يوم الحساب ويتذوقون أكمل وأتم سعادة أو شقاوة.
فملخص الكلام أن الإنسان في هذه المدارج الثلاثة يكون في نوع من الجنة أو النار. وما دام الحال على هذا المنوال فمن الواضح أنه لا يُخرَج من تلك الدرجة من الجنة أو من النار بعد أن يحتل درجة من هذه الدرجات الثلاث، غير أنه حينما يتقدم من هذه الدرجة ينتقل من الدرجة الدنيا إلى الدرجة العليا.
ومن أساليب هذا التقدم أن شخصا يموت مثلا في حالة أدنى من الإيمان والعملِ فيُجعل له نافذةً صغيرة إلى الجنة بقدر قدرته على تحمُّل تجلي الجنة. وإذا مات تاركا وراءه أولادا صالحين يدعون لمغفرته جاهدين ويتصدقون وينفقون على الفقراء طالبين المغفرة له، أو كانت هناك علاقة حب بينه وبين أحد من أهل الله فيستغفر اللهَ له بالتضرع والابتهال، أو قام الميت في الدنيا في حياته بعمل لفائدة خلق الله، ينفع عبادَه بطريقة من الطرق؛ فتزداد النافذة التي فُتحت إلى الجنة اتساعا ببركة ذلك العمل الخيِّر الجاري. بل إن قوله : "سَبَقَتْ رَحْمَتِي على غَضَبِي"[124] يظل يوسِّع النافذة باستمرار حتى تصبح بوابة واسعة، فيُدخَل صاحبُه الجنةَ مثل الشهداء والصِّدِّيقين. ويفهم الفاهمون أنه من السخف شرعا وعدلا وعقلا الظنُّ أن يكون نوع من الخير جاريا من أجل مسلمٍ بعد وفاته، وأن تكون بعض أوجه الثواب والأعمال الصالحة مفتوحة له، ومع ذلك تبقى سعة النافذة المفتوحة له إلى الجنة على ما كانت عليه أول يوم فُتحت فيه.
ليكن معلوما أيضا أن الله تعالى قد أوجد مسبقا لفتح هذه النافذة أسبابا يتبين منها بصراحة أن ذلك الكريم يودّ أنه لو تحرك إليه أحد ولو بشائبة من الإيمان والعمل لظلت تلك الشائبة تنمو وتزدهر باستمرار. ولو حدث يوما أن انقطعت كافة أوجه الخير الذي يصل الميت من هذا العالَم لما انقطعت سلسلة الاستغفار الذي أمر به المؤمنون والصالحون والشهداء والصديقون أن يدعوا من الأعماق لإخوتهم الذين سبقوهم في هذا العالَم.
والواضح أن الذين يدعو لهم فوج من المؤمنين فإن دعاءهم لن يذهب سُدى أبدا، بل يعمل عمله كل يوم، ويوسّع بكل قوة نافذةً فُتحت إلى الجنة لمن مات من المؤمنين المذنبين. ولقد وسّعت هذه الأدعية إلى الآن ما لا يعَدّ ولا يُحصى من النوافذ حتى دخل الجنة عددٌ لا يُحصى من الذين فُتحت لهم في البداية نافذة صغيرة لرؤية الجنة فقط.
إن جميع المسلمين الذين يسمُّون أنفسهم موحدين في العصر الراهن مخدوعون؛ فيظنون أن الشهداء فقط يدخلون الجنة بعد الممات، أما بقية المؤمنين حتى الأنبياء والرسل فسيُبقَون خارجها إلى يوم الحساب، وسيُفتح لهم إلى الجنة نافذة صغيرة فقط. ولكن القائلين بذلك لم ينتبهوا إلى الآن أن الأنبياء والصديقين هم أعلى من الشهداء روحانيةً؟ كذلك، أليس الابتعاد عن الجنة نوع من العذاب الذي لا يمكن أن يُتصوَّر بحق المفغور لهم؟ والذين يقول الله عنهم: رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ[125] هل يمكن أن يتأخروا عن الشهداء في السعادة والفوز بالمرام؟
الأسف كل الأسف أن هؤلاء القوم قد قلبوا الشريعة الغراء رأسا على عقب لعدم فهمهم، إذ يزعمون أن أول الداخلين إلى الجنة هم الشهداء، ولعلّ دور الأنبياء والصديقين قد يأتي بعد سنين طويلة تفوق العدّ والحساب. إن هذه الإساءة إلى هؤلاء الأبرار والمساس بشأنهم، هي بمنـزلة اتهام كبير لهم لن يُمحى بأعذار واهية. لا شك أن الجميع يستطيعون أن يدركوا أن السابقين بالإيمان والأعمال يجب أن يكونوا سابقين بالدخول إلى الجنة أيضا، وليس أن تُفتَح لهم نافذةٌ كما تُفتح لضعاف الإيمان، بينما سيبدأ الشهداء باقتطاف ثمار الجنة فور انتقالهم من هذه الدنيا. إذا كان دخول الجنة مقصورا على إيمان كامل وإخلاص كامل واجتهاد كامل، فلا شك أنه ما من أحد أحق بذلك من الأنبياء والصديقين الذين تكون حياتهم مكَرّسة لله، ويقدمون في سبيل الله تعالى تضحياتٍ كالذين يموتون في هذا السبيل، ويتمنَّون أن يُستشهَدوا في سبيله ثم يُحيَوا ثم يُستشهَدوا ثم يُحيَوا ثم يُستشهَدوا.
لقد تبيّن جليا من بياني هذا أن هناك أسبابا قوية لإدخال الناس الجنةَ بحيث إن كل المؤمنين الصادقين سيدخلونها على وجه تام قبل يوم الحساب. ثم لن يُخرَجوا منها يومَ الحساب بل ستُقرَّب الجنة أكثر من ذي قبل. يجب أن يُفهَم من مَثَل النافذة كيف تُقرَّب الجنةُ من القبر. هل تأتي الجنة إلى الأرض المتصلة بالقبر؟ كلاّ، بل تُقرَّب الجنةُ روحانيا. كذلك سيكون أهل الجنة موجودين في ميدان الحساب وفي الجنة أيضا روحانيا في الوقت نفسه. يقول نبينا الأكرم ما مفاده: تحت قبري روضة الجنة[126]. ففكِّروا جيدا إلى ما يشير إليه هذا الكلام.
أما الحجة التي قدِّمت عن موت "عُزَير" وعودته إلى الحياة بعد مئة عام، فلا تنفع معارضينا شيئا، لأنه ما قيل قط إن عُزَيرا أُحيِي وأُرسل مرة ثانية إلى الدنيا، دار الهموم والأحزان، حتى يستلزم ذلك مأساة إخراجه من الجنة، بل لو حُملت تلك الآية على معانيها الظاهرية أيضا، لما ثبت شيء إلا تجلِّي قدرة الله التي أحيت عُزَيرا لحظةً واحدة ليوهب له اليقين بقدرته . ولكن المجيء إلى الدنيا كان مؤقتا فحسب، وبقي عُزَيرٌ في الجنة في الحقيقة. وليكن معلوما أيضا أن جميع الأنبياء والصِّدِّيقين يُحيَون بعد الممات ويُعطَون جسما نورانيا، وفي بعض الأحيان يقابلون الأتقياء في اليقظة أيضا. وإن هذا العبد الضعيف صاحب تجربة في هذا المجال. فأيّة غرابة لو أحيا الله تعالى عُزَيرا على هذا النحو؟ أما الاستنباط من هذا النوع من الحياة أنه أُحيِيَ وأُخرج من الجنة فهو جهل غريب من نوعه، بل الحق أن تجلِّي الجنة أعظم من هذه الحياة.
السؤال4: إن الآية: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [127] تدل على حياة المسيح ابن مريم لأنها تعني أن جميع أهل الكتاب سيؤمنون بالمسيح قبل موته. فيبدو من هذه الآية أن المسيح سيعيش حتما إلى أن يؤمن به أهل الكتاب جميعا.
أما الجواب: فليكن واضحا أن السائل مخطئ في ذلك إذ يزعم أن الآية تعني أنه لا بد أن تؤمن جميع فِرق أهل الكتاب بالمسيح قبل موته، لأنه لو قبلنا جدلا أن هذا ما تعنيه الآية كما فهم السائل، لاستلزم ذلك أن يؤمن به جميع أهل الكتاب الذين خلَوا منذ زمن صعوده والموجودون حاليا والذين سيأتون في المستقبل إلى زمن نزوله، وهذا باطل بداهةً. يعرف الجميع جيدا أن عددا هائلا لا يُعدُّ ولا يُحصى من أهل الكتاب قد وصلوا جهنمَ إلى الآن لإنكارهم نبوةَ المسيح، ويعلم اللهُ وحده كم منهم سيدخلون أتون هذه النار لكفرهم به في المستقبل أيضا. لو كان في مشيئة الله أن يؤمن بالمسيح كافةُ أهل الكتاب الذين ماتوا أيضا عند نزوله، لأبقاهم جميعا على قيد الحياة ما لم ينـزل المسيح من السماء. أما الآن فكيف يمكن أن يؤمنوا به بعد موتهم؟
يردّ على ذلك بعض الناس بتجشّمِ كثير من التكلُّف أنه من الممكن أن يُحيِي اللهُ كافة أهل الكتاب الذين ماتوا في كفرهم منذ زمن بعثة المسيح إلى نزوله الثاني. وجوابه: لا شك أنه لا شيء مستحيل أمام الله، ولكن الموضوع قيد البحث هو: هل يوجد لمثل هذه الأفكار أيّ أثر في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة؟ وإذا كان موجودا فلِم لا يُقدِّمونه؟
يقدّم البعض بصوت خافتٍ وبشيء من الاستحياء تفسيرا أن المراد من أهل الكتاب هم أولئك الذين سيكونون موجودين في الدنيا عند عودة المسيح، فسيؤمنون به فور رؤيتهم إياه، وسينضمون إلى فوج المؤمنين قبل موت المسيح. لكن هذه الفكرة أيضا باطلة بحيث لا حاجة للإسهاب فيها أكثر من ذلك، لأنه أولا وقبل كل شيء: إن الآية قيد البحث تفيد العمومَ بوضوح تام، وهذا يعنى أن المراد من أهل الكتاب هم أهل الكتاب جميعا الذين كانوا في زمن المسيح أو سيأتون بعده. ولا توجد في الآية كلمة تجعل زمنها مقتصرا على زمن محدد.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا المعنى باطل بداهةً لأن الأحاديث تعلن بأعلى صوتها أن منكري المسيح - سواء أكانوا من أهل الكتاب أو غيرهم - سيموتون بنَفَسه[128] في حالة كفرهم. وليس ضروريا أن نكرر نقل تلك الأحاديث، إذ يمكن قراءتها في مكانها في هذا الكتاب.
إضافة إلى ذلك، فمن معتقدات المسلمين المسلَّم بها أن الدجال أيضا سيكون من أهل الكتاب، ويعتقدون أيضا أنه سيؤمن بالمسيح! الآن لا يسعني أن أتصور مدى الخجلِ الذي سيصيب أصحاب تلك الفكرة باطلاعهم على هذه الأحاديث. ومن المسلَّم به أيضا والوارد في صحيح مسلم أن القيامة ستقوم على شِرَار الناس الذين سيبقون بعد المسيح. فلو لم يبق أحد كافرا فكيف ستقوم القيامة؟
والآن سيطرح سؤالٌ طبيعي نفسه بأنه إذا كان معنى الآية المذكورة آنفًا غير صحيح، فما هو معناها الصحيح إذن؟
فليتضح في الجواب أن المعنى الصحيح هو ذلك الذي يتحتم التسليم به بالنظر إلى جميع الآيات الواردة في هذا الموضوع، ولا يستلزم التسليم به أيّ عيب أو نقيصة. فأولا وقبل كل شيء أنقل فيما يلي تلك الآيات، ثم سأتطرق إلى إثبات معانيها الصحيحة. ففيما يلي تلك الآيات: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (النساء: 158-160)
أيْ أنّ سبب حرمان اليهود من رحمة الله والإيمانِ كان نتيجة أعمالهم السيئة التي ارتكبوها. ومن جملتها قولهم: انظروا، قد قتلنا المسيح ابن مريم الذي كان يدّعي أنه رسول الله. إن قولهم هذا لا يعني أنهم كانوا يؤمنون بالمسيح رسولاً، وإلا لما علّقوه على الصليب. بل إن قولهم إننا قتلنا الرسولَ كان استهزاءً وسخريةً، لأنه قد ورد في التوراة أن المعلَّق ملعون من الله، أي بعيدٌ من رحمة الله وقربه. كان اليهود يقصدون من وراء قولهم هذا أنه إذا كان عيسى بن مريم رسولا صادقا لما قدرنا على صلبه؛ لأن التوراة تعلن بأعلى صوتها أن المصلوب ملعون... وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي ما قتل اليهودُ عيسى وما صلبوه، بل جعل اللهَ الأمرَ مشتبَهًا ليُظهِر عليهم غباءهم وقدرتَه. ثم يقول تعالى بأن الذين يشكّون في كون المسيح قد صُلب فعلا، لا يعلمون يقينا أنه قد مات على الصليب، بل الأمر اليقين هو أنه مات ميتة طبيعية، ثم رفعه الله تعالى إليه كما يرفع عباده الصالحين. إن الله عزيز ويرزق العزة للذين يصبحون له، وهو حكيم فيفيد بحِكَمه أولئك الذين يتوكّلون عليه. ثم قال تعالى: ما من أهل الكتاب إلا وسيؤمن ببياننا المذكور آنفا - أي عن أفكار أهل الكتاب أنفسهم - قبل أن يؤمن بحقيقة أن المسيح قد مات موتا طبيعيا.
أيْ بيّنّا من قبل أنه لا أحد من أهل الكتاب يؤمن من أعماقه بأن المسيح قد مات على الصليب في الحقيقة، بل إن اعتقاد اليهود والنصارى كلهم بموته على الصليب مبني على الظن والشك فقط، وإن بياننا هذا صحيح تماما ولا يسع أحدا إنكاره. غير أنهم لا يعرفون عن موعد موته، فها نحن نخبرهم بذلك بأنه قد مات، وأن روحه قد رفعناها إلينا بإكرام.
ليكن معلوما هنا أن قول الله تعالى بأنه ما من أهل الكتاب إلا ويؤمن ببيانه عن أفكارهم إنما هو بيان إعجازي ومطابق تماما لما قاله الله تعالى لليهود: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[129]. فالمراد من هذا القول هو أن اليهود يقولون بأننا قتلنا المسيح على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه ملعون وليس نبيا صادقا - والعياذ بالله - وكذلك يقول النصارى إن المسيح قد مات على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه صار كفّارة لذنوبهم، ولكن الحق أن كِلا الفريقين مخطئ في أفكاره، ولا أحد من كِلا الفريقين يؤمن في قرارة قلبه بهذه الأفكار. بل اعتقادهم القلبي هو أن المسيح ما مات على الصليب يقينا. لقد أراد الله تعالى من هذا الكلام أن يدرك المنصفون على وجه القطعية من سكوت اليهود والنصارى أنه ليس في أيديهم بهذا الصدد شيء إلا الشك. ولـمّا لزم اليهود والنصارى الصمتَ بعد الاطلاع على هذه الآية ولم يبرزوا في الميدان للإنكار، اتّضح أن السبب في ذلك أنهم كانوا يعرفون جيدا أنهم لو برزوا للمواجهة وادَّعَوا بما ليس في قلوبهم، لواجهوا ذلة وخزيا، ولسوف تظهر من الله آيةٌ تُثبت كذبهم، لذا لم ينبسوا ببنت شفة، بل لزموا الصمت. مع أنهم كانوا يعرفون جيدا أن سكوتهم سيُثبت إقرارهم بالأمر، وهذا سيؤدي من ناحية إلى استئصال عقيدة هؤلاء الكافرين، ومن ناحية أخرى يُبطِل اعتقاد اليهود أن المسيح ليس رسولا صادقا من الله وليس من الذين يُرفعون إلى الله بالإكرام. ولكن السيف اللامع لصدق محمد رسول الله كان يبهر أبصارهم. فكما قيل لهم في القرآن الكريم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ولكن لم يفعل ذلك أحد لخوفهم، كذلك لا يسع أحدا الإنكار هنا أيضا لشدة خوفه، أي لم يستطيعوا القول بأننا نوقن بموت المسيح على الصليب، فلماذا نُدفع مع ذلك إلى عدم الإيقان؟ فإن سكوتهم في زمن النبي صار حجة إلى الأبد، وأثّرت أعمالهم وتصرفاتهم على ذرياتهم المقبلة أيضا، لأن السَّلَف يكونون بمنـزلة الشهود للخلَف، ولا بد للأجيال القادمة من أن تقبل شهاداتهم.
والآن يمكن للقراء أن يدركوا أن البحث الذي بدأه الله تعالى - وهو أن المسيح لم يمت على الصليب بل مات موتا طبيعيا - كان الهدف من ورائه أن الفئتين (أي اليهود والنصارى) كانوا يستنتجون من موته على الصليب نتيجتين مختلفتين لدعم موقفهم: قال اليهود إنه مات على الصليب، والمصلوب ملعون حسب التوراة، أي يُحرَم من قرب الله ومن شرفِ الرفع إلى الله، وإن شأن النبوة أرفع وأعلى من أن تصيبها ذلةٌ، أما المسيحيون فقد ابتدعوا - خشيةَ طعن اليهود- أن موت المسيح على الصليب لا يضرهم بشيء، بل قبِل لنفسه هذه اللعنة برغبته ليخلِّص منها المذنبين. فقد أراد الله أن يثبت بطلان موقف كِلتا الفئتين، وبيّن أنه لا أحد منهم يوقن بموت المسيح على الصليب، وإذا كان منهم من يوقن بذلك فليخرج للعيان. فلاذوا بالفرار ولم ينبسوا ببنت شفة. وإنها لمعجزة عظيمة للنبي وللقرآن الكريم، ولكنها خافية عن أعين المشايخ المعاصرين قليلي الفهم.
وأقسم بالله الذي نفسي بيده أن هذه الحقيقة قد كُشفت عليّ في هذه اللحظة بالذات، بالكشف، وكلّ ما كتبتُه فقد كتبتُه بتعليم ذلك المعلِّم الحقيقي، فالحمد لله على ذلك.
ولو اختُبر الموضوع على محك العقل لشهد كل عقل سليم على صدق هذا البيان، لأن كلام الله نزيهٌ من اللغو. ولكل عاقل أن يفهم أنه لو لم يشمل هذا البحث تلك المقاصد العظيمة، لكان البيان كله لغوا لا حقيقة فيه، لأنه لو كان الأمر كذلك لصار النقاش - هل مات نبي من الأنبياء على الصليب أو موتا طبيعيا - عقيما لا يسفر عن نتيجة مُرضية.
لذا يجب التأمل جيدا؛ ما هو الهدف السامي الذي يريد الله تحقيقه ببيانه بهذه القوة والشدة بأنه ما من يهودي أو مسيحي يعتقد يقينا بموت المسيح على الصليب؟ أو ما هو الهدف العظيم الذي لإثباته، أسكت اللهُ كِلا الفريقين وأفحمهما؟ إنه الهدف نفسه الذي أظهره الله بواسطة كشفه الخاص على هذا العبد الضعيف الذي هو كافر وملحد في نظر المشايخ.
"يا رب، نفسي فداء أسرارك، فقد رزقتَ الأميين فهمًا وذكاء، أين أُمِّيٌّ مثلي في كونك كله؟ فقد نشأتُ وترعرعت في بيئة يسودها الجهل. كنت دودةً صغيرة، فجعلتَني بشرا، إن شأني أغرب من مسيح كان بلا أب"[130]
إذا طُرح سؤال: هل يمكن الاستدلال من الإنجيل على عدم موت المسيح على الصليب أم لا؟ أي هل يثبت أن عملية الصلب لم تكتمل وإن كان قد عُلّق على الصليب، بمعنى: هل مات المسيح على الصليب أم لا؟
فجوابه أن الأناجيل الأربعة تشهد بكل جلاء على بيان القرآن الكريم: مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ لأن القرآن لا يقصد قط من: مَا صَلَبُوهُ أنه ما عُلِّق على الصليب، بل المراد منه أن الله نجّاه من الهدف من التعليق على الصليب، أي أنقذه من الموت عليه. وقد أقدم اليهود على هذه الفعلة - أيْ تعمّدوا قتله - ولكن قدرة الله وحكمته حالت دون تكميلها. وكما ورد في الأناجيل أنه قد حدث أن اليهود طلبوا من "بيلاطس" أن يسلِّمهم المسيحَ -الذي كان في السجن- ليصلبوه، فبذل بيلاطس قصارى جهده ليُطلق سراحه لأنه لم يجد فيه علة، ولكن اليهود أصروا وألحّوا عليه كثيرا أن يصلبه. وقال الكهنة والفرِّيسيّون كلهم أجمعون إنه كافر، ويصرف الناسَ عن أوامر التوراة. بينما كان بيلاطس يعرف جيدا من الأعماق أن قتل إنسانٍ صادق بناء على الاختلافات الفرعية ذنب كبير بلا أدنى شك، لذلك كان يبحث عن أعذار لإطلاق سراحه. ولكن الكهنة ما كانوا ليرتدعوا عن موقفهم، بل اختلقوا أمرا آخر وقالوا بأن هذا الشخص يدّعي أنه ملك اليهود، وهو متمرد على حكومة "قيصر" سِرًّا، وإذا أَطلقتَ سراحه فاعلمْ أنك قد حَمَيتَ متمردا. فخاف بيلاطس لأنه كان خاضعا لأمر قيصر. ولكن يبدو أنه مع ذلك ظل خائفا من سفك الدم بغير حق. ولقد رأت امرأته في الحُلم أن المسيح صادق، ولو قتله بيلاطس لكان ذلك مجلبة دمارٍ له، فخاف بيلاطس أكثر بسماع الحُلم. فلكل قارئ لبيب أن يفهم من التأمل في هذه الرؤيا المسجّلة في الإنجيل أن إنقاذ المسيح من القتل كان من مشيئة الله. فأول إشارة إلى مشيئة الله هذه تُستدلّ من الرؤيا نفسها، فتدبروها جيدا.
ثم حدث أن عقد بيلاطس اجتماعا لأخذ القرار النهائي، وحاول قدر المستطاع أن يُقنع الكهنة والشيوخ المزعومين أن يرتدعوا عن طلب قتل المسيح، ولكنهم لم يتراجعوا عن موقفهم بل ازدادوا صراخا قائلين "ليُصلَب، ليُصلَب" لأنه منحرف عن الدين. عندها طلب بيلاطس ماءً وغسل يديه أمام الجميع قائلا: إني بريء من دمه. فقال اليهود والشيوخ والكتبة: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا". عندها جُلِد المسيح ثم سُلِّم إليهم، وتعرَّض لكل ما كان في نصيبه من السباب والضرب واللطم والاستهزاء والسخرية بإيعاز من الشيوخ والكهنة حتى استعدوا لصلبه. كان الوقت عصرا يومَ الجمعة وكان عيد الفصح أيضا عند اليهود، فالوقت كان ضيقا، إذ كان يوم السبت- الذي يبدأ بغروب الشمس- على وشك الحلول، لأن اليهود - مثل المسلمين - يعُدُّون الليل الذي قبل النهار، جزءا من اليوم التالي. وكان هناك أمرٌ شرعيٌّ مؤكد ألا تبقى جثة معلَّقة على الصليب يوم السبت. فأسرع اليهود في تعليق المسيح - مع لصَّين- على الصليب، وذلك كي يتم إنزال الجثث قبل حلول المساء. ثم اتفق أن هبت عاصفة شديدة في الحال وعمّ ظلام حالكٌ. فقلق اليهود على أنه لو حلّ المساء في ذلك الظلام ولم يدركوا حلوله، لارتكبوا الجريمة المذكورة. فأنزلوا المصلوبِين الثلاثة عن الصُّلبان بناء على ذلك الخوف.
وليكن معلوما أنه من المتفق عليه أن الصليب في تلك الأيام ما كان مثل المشنقة المعروفة في الأيام الراهنة حيث يُقضَى على المزمَع قتلُه خلال دقيقة واحدة بشدِّ الحبل على عنقه. ففي تلك الأيام ما كان يُوضع في العنق حبل، بل كانوا يدقُّون المسامير في بعض الأعضاء. وكان المصلوبون يُترَكون على الصليب إلى ثلاثة أيام جياعا وعطاشى، للتأكد من موتهم. ثم تُكسَر عظامهم لضمان موتهم. ولكن شاءت مشيئة الله ألا يحدث كل هذا مع المسيح. فقد اجتمعت الأسباب كلها في آن معا؛ مثل عيد الفصح، وضيق الوقت، أي وقت العصر، وخوفهم من حلول السبت، وهبوب العاصفة. وقد أدّت هذه الأمور كلها إلى إنزال المسيح واللصين عن الصُّلبان في وقت قصير.
ثم حين جاء الأمر بكسر العظام أظهر الله تعالى نموذج قدرته الكاملة؛ إذ أن بعضا من جنود بيلاطس الذين كانوا قد أُفهِموا سرًّا هَوْلَ عاقبة الرؤيا، كانوا موجودين آنذاك، وكانوا يرغبون في أن يزول هذا البلاء عن المسيح حتى لا تتحقق بقتله الرؤيا التي رأتها زوجة بيلاطس، فيحلّ ببيلاطس بلاء، فكسروا عظام اللصَّينِ أولا. ولما كانت العاصفة شديدة الوطأة وعمّ الظلام، قلق الناس للعودة إلى بيوتهم على جناح السرعة. فوجد الجنود فرصة مواتية، وحين فرغوا من كسر عظام اللصينِ وجاء دور المسيح، قال أحدهم بعدما لمسه باليد: إنه قد مات، فلا حاجة لكسر عظامه. وقال آخر: أنا سأتولّى دفن جثته. وكانت العاصفة من الشدة والقوة بحيث دفعت اليهود لمغادرة ذلك المكان. وهكذا أُنقذت حياة المسيح، ثم قابلَ الحواريين وأكل معهم السمك. وحين وصل اليهود إلى بيوتهم وتوقّفت العاصفة، ارتابوا في عدم اكتمال خطتهم، وانتابهم الشك في تصرفات الجنود أيضا.
إذن، فلا يزال اليهود والنصارى على الحال نفسها، إذ لا يستطيع أحد منهم أن يقول حالفا بالله أو مؤكدا البلاءَ أو العذابَ لنفسه بأنه واثق ومتيقّن أن المسيح قد قُتل في الحقيقة. والحق أن هذه الشكوك قد أطلّت برأسها في ذلك الوقت نفسه. ولقد حاول "بولُس" بحذلقته أن يزيل تلك الشكوك، ولكنها ظلت تزداد وتتفاقم. فمن الواضح تماما من بعض رسائل بولُس أنه لما أُنزل المسيح عن الصليب، ظهرت حجة قوية أخرى للعيان على كونه حيا، وهي أنه عندما طُعن بحربة في جنبه، خرج منه على الفور دم وماء. فلا يزال اليهود في شك بسبب عجلتهم، وأما النصارى فيشاركون في هذا الشك بناء على بيان الإنجيل. الحق أنه لا يسع مسيحيا يتدبر الإنجيل أن يعتقد على وجه اليقين أن المسيح مات على الصليب في الحقيقة، بل لا تزال قلوبهم في شك من أمره إلى يومنا هذا. والكفارة التي يشيعونها مبنية على تلة رملية قد ذَرَتها بيانات الإنجيل نفسه. فإن الآية القرآنية: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ[131] لا تتضمن نبوءة كما يزعم إخواننا المشايخ الذين يدّعون أنهم علماء كبار، بل تبيِّن واقع الحال الذي كان موجودا في زمن النبي . بمعنى أن الله تعالى يسرد لليهود والنصارى ماهيّة أفكارهم السائدة آنذاك إتماما للحجة عليهم، ويُظهر عليهم حقيقة قلوبهم، ويُدينهم ويفهِّمهم أنه إذا كان بياننا هذا غير صحيح، فابرُزوا في الميدان وأعلنوا بوضوحٍ أن هذا الخبر ليس صحيحا، ولم تتطرق الشكوك والشبهات إلى قلوبنا، بل نحن على يقين تام بأن المسيح قد مات مصلوبا في الحقيقة.
هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن الله جلّ شأنه يهدف من قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ الوارد في نهاية الآية إلى أنه يجب ألا يستنتج أحد من عدم موت المسيح على الصليب مقولة إنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب، لذا فإنه لم يمت إلى الآن. فقال تعالى: إن هذا بيانٌ لما جرى قبل موته ميتة طبيعية، فلا تستنبطوا من ذلك عدم موته، لأن الحق أن المسيحَ مات بعد ذلك ميتة طبيعية. فقد قال في هذه الآية بأن اليهود والنصارى يؤمنون ببياننا هذا بالاتفاق على أن المسيح لم يمت حتما على الصليب، وليس لديهم إلا الشكوك والشبهات فقط بهذا الصدد. فإنهم يؤمنون - قبل أن يؤمنوا بموت المسيح الطبيعي الذي حدث في الحقيقة - بما سبقت من أحداث قبل موته؛ لأنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب - الأمر الذي كان اليهود والنصارى يريدون أن يستنتجوا منه نتائج معينة لتحقيق أهدافهم - صار إيمانهم بموته الطبيعي محتوما عليهم، لأن الذي يولَد سيموت حتما. فإن تفسير العبارة: قَبْلَ مَوْتِهِ هو: قبل إيمانه بموته.
ومن ناحية ثانية يُستنبَط من الآية معنًى آخر أيضا وهو أن هذه الأفكار والشكوك والشبهات لا تزال تراود قلوب اليهود والنصارى منذ وقتٍ لم يكن المسيح قد مات فيه بعد. فمن منطلق هذا المعنى يشهد القرآن الكريم ضمنيًّا على موت المسيح.
فباختصار، قد ذُكر موت المسيح في ثلاث آيات من القرآن الكريم، ولكن من المؤسف حقا أن المشايخ لا يقرؤون هذه الآيات. يقول بعض الناس بمنتهى الحذلقة: حسنا، قبِلنا أن القرآن الكريم يقول بموت المسيح، ولكن أليس الله جلّ شأنه قادرا على أن يُحييه مرة أخرى ويعيده إلى الدنيا؟ الحق أن عقول هؤلاء المشايخ وأفهامهم تدعو للرثاء والبكاء فعلا.
فيا أيها المساكين، نحن نؤمن بأن الله قادر على كل شيء، وقادر على أن يحيي الأنبياء جميعا إذا شاء ذلك. ولكن السؤال المطروح أمامكم هو أن القرآن الكريم قد حكى قصة المسيح إلى موته ثم سكت، فإذا كنتم تعرفون آية قال الله تعالى فيها بأنه قد أحيا المسيحَ بعد موته فأخرِجوها لنا، وإلا فإنكم تتصدَّون للقرآن الكريم بما يخالف تعليمه الذي أعلن موته، وأنتم في الواقع تدّعون - على عكس ذلك - أنه لم يمت، بل لا يزال حيا.
إن بعض المشايخ يقول بمنتهى البساطة إن قوله تعالى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وقوله رَافِعُكَ بعد قوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يدل على عودته إلى الحياة. ثم يقولون بأنه إذا لم يكن هذا المعنى صحيحا، فلمَ لم ترد كلمة: رَافِعُكَ بحق أيّ نبيّ سوى المسيح؟
لقد سبق أن كتبتُ ردًّا مفصلا في هذا الجزء نفسه من الكتاب "إزالة الأوهام" على كل هذه الوساوس، وقلت إن المراد من الرفع هو رفع الروح بعزة وإكرام؛ إذ تُرفع روح كل مؤمن بعد وفاته إلى الله تعالى بعزة وإكرام بحسب نصوص القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة. أما السبب وراء ذكر رفع المسيح هنا، فلأن مهمته لتبليغ الدعوة كانت شبه فاشلة، وزعم اليهود أنه كاذب، لأنه كان ضروريا حسب زعمهم أن ينـزل "إيليا" من السماء قبل المسيح الصادق. فأنكروا رفعَ المسيح إلى الله تعالى بالعزة والإكرام مثل بقية الأنبياء، بل اعتبروه ملعونا، والعياذ بالله. وملعونٌ مَن لا يُرفع بالعزة والإكرام. فأراد الله أن يزيل هذه التهمة عن المسيح.
فأولا وقبل كل شيء؛ أبطل الله تعالى الأساس الذي بناء عليه اعتبر اليهودُ والنصارى الأشرارُ المسيحَ ملعونا في قرارة قلوبهم. ثم ذكر بصراحة تامة أن المسيح ليس ملعونا حتى يُحرم من الرفع، بل رُفع بالعزة والإكرام. فقد ارتحل المسيح من الدنيا بعد قضاء حياته المؤقتة كمسكين، وبالغ اليهودُ كثيرا في الإساءة إليه، ووجّهوا إلى أمه تُهمَا باطلة، واعتبروه ملعونا، ورفضوا رفعه كالصادقين. ولم يقتصر ذلك على اليهود فقط، بل تورط النصارى أيضا في الفكرة نفسها، وابتدعوا بوقاحة شديدة حيلة لنجاتهم المزعومة؛ أن يعتبروا الصادق ملعونا. ولم يفكروا أنه إذا كانت النجاة مقتصرة على كون المسيح ملعونا، وإذ كانت لا تُنال إلا بجعْل صادقٍ طيِّب السيرة، ومحبوب عند الله معلونا، فتبًّا لهذه النجاة! بل إن جهنم أفضل منها بألف مرة.
قصارى القول: إن كلتا الفئتين، اليهود والنصارى، جوّزوا بحق المسيح ألقابا مسيئة، فلم تُرِد غيرة الله أن تترك كرامة هذا المقدس دون شهادة تُثبتها. فبعث الله تعالى - كما وعد في الإنجيل من قبل - سيدنا ومولانا خاتَم المرسَلين وشهد في القرآن الكريم على قداسة المسيح ورفعه.
لقد وردت كلمة: "الرفع" في عدة أماكن في القرآن الكريم؛ منها قوله في قصة بلعام باعور: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، ومنها قوله عن نبي لم يحقق أي نجاح[132] وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا[133].. الحقيقة أن الناس رفضوا رفْع هذا النبي (إدريس ) أيضا. كذلك أُرِيدتْ إهانتي أنا أيضا مثل المسيح، فمن خصومي مَن يكفِّرني، ومنهم من يسمِّيني ملحدا ومنهم من يعدُّني عديم الإيمان، حتى إن الفقهاء والمشايخ مستعدون ليعلِّقوني على الصليب كما كتب ميانْ عبد الحق في إعلانه المنشور بأن من واجب المسلمين أن يُعملوا أيديهم أيضا في قضية هذا الشخص. ولكن هذه الحكومة ترعى رعيتها البريئة أكثر من بيلاطس، ولا تخشى الرعية مثله. غير أن قومنا هؤلاء لم يدخِّروا جهدا لإهانتي لتتحقق المماثلة من كِلا الجهتين. فقد تلقَّوا أيضا "إلهامات" عني تقول إنه من أهل جهنم ويدخل جهنم في نهاية المطاف، ولن يكون من الذين يُرفعون إلى الله بالعزة والإكرام. فاليوم فهمتُ معنى الإلهام الذي ورد في "البراهين الأحمدية" منذ عدة أعوام ونصه: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة". أيْ أن هذين الشيخين؛ عبد الرحمن وعبد الحق، يعدُّونك حاليا جهنميا حتما. ولكن الله قد وعدني قبل إدلائهم بهذا البيان بعشر سنوات بأنني من أهل الجنة. وكما زعم اليهود أن المسيح عيسى ملعون - والعياذ بالله - ولن يُرفع بالعزة والإكرام فنـزلت الآية: إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ للرد عليهم، كذلك، ولعلمه الأزلي؛ ألقى الله هذا الإلهام على قلبي أيضا نبوءةً قبل بضع سنين. ولما كان الله يعلم أن ميان عبد الحق وعبد الرحمن سيعتبرانني بعد بضع سنوات ملعونا كما اعتبر اليهودُ المسيحَ، فقدَّر أن تسجَّل هذه النبوءة في "البراهين الأحمدية" قبل الأوان ويجعلها معروفة في العالم كله حتى تظهر قدرته وحكمته، ولكي يُعلَم أنه كما اعتبر الشيوخُ اليهود المسيحَ معلونا في عهده وأنكروا أنه من أهل الجنة ولم يقبلوا رفعه إلى الله بالعزة والإكرام وانضمامه إلى جماعة الصادقين، كذلك أراد المشايخ من أهل ديني أيضا أن يحرموني من رحمة الله. والمعلوم أن المؤمنين المذنبين أيضا يحظون بشيء من الاحترام، ولكن هؤلاء القوم لم يبالوا بذلك أيضا بحقي أنا العبد الضعيف، بل ألقوا بهذا الصدد خطابات عامة وبعثوا رسائل ونشروا إعلانات، فقد استخدمهم الله تعالى لتحقيق المماثلة، وإلا فإن حقيقة كون المرء من أهل الجنة أو النار يعلمها كل امرئ بعد موته حين يقول البعض بحسرات وهم في جهنم: مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ[134].
"يا أيها الزاهد الورع؛ لا تذكر عيوبنا نحن المخطئين، فلا تدري ما هو الجيد وما هو السيئ وراء الحجاب"[135]
فحاصل الكلام أن كلمة "الرفع" التي وردت في القرآن الكريم هي الكلمة نفسها التي استخدمها بحقي أنا العبد الضعيف أيضا في الإلهام.
ولو أثار أحد إشكالية أن المسيح يقول في الإنجيل إنه سيموت حتما وسيقوم في اليوم الثالث، فكيف إذًا ينسجم الكلام المذكور آنفا مع كلامه هذا؟
فجوابه أنه ليس المراد من هذا الموت موتٌ حقيقي، بل المراد هو موت مجازي. ومثل هذا هناك تعبير شائع؛ حيث يقال عمن ينجو من الموت المحتوم: إنه أُحيِيَ من جديد. والبلية التي حلّت بالمسيح - إذ علِّق على الصليب ودُقَّت في أطرافه المسامير التي أدت إلى إغمائه لم تكن أقل من الموت قط. ويقال بوجه عام عن الذي ينجو من الموت المحتوم بأنه نال الحياة من جديد، ولو قال هو بنفسه إنه أُحيى أو نال الحياة من جديد، لما اعتُبر كلامه كذبا أو مبالغة.
وإذا طُرح سؤال: أيّ قرينة في كلام المسيح تدل على أن المراد من الموت ليس الموت الحقيقي؟ فجوابه أن المسيح بنفسه أقام هذه القرينة حين جاءه الشيوخ والكتبة والفريسيون وقالوا بأنك تدَّعي أنك المسيح، ولكن أنّى لنا أن نؤمن بذلك دون أن نرى منك آية؟ فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ.
أيْ أنهم يُعطَون آيةً كآية يونان النبي؛ فكما أنه بقي في بطن الحوت حيا لثلاثة أيام ولم يمت، كذلك سيبقى المسيح أيضا حيا في القبر لثلاثة أيام - قدّرها الله تعالى- ولن يموت.
فيجب التأمل هنا أنه لو حُملت كلمات المسيح محمل الموت الحقيقي، لبطلت مماثلته مع آية يونان النبي؛ لأنه بقي في بطن الحوت حيا غير ميِّتٍ. ولكن لو كان المسيح قد مات، وأُدخل القبر وهو ميِّتٌ، فما هو وجه الشبه بين حادثه وحادث يونان النبي؟ وأية مماثلة بين الأحياء والأموات؟ فيكفي قول المسيح إنه سيموت لثلاثة أيام قرينةً على أن كلامه ليس محمولا على الحقيقية، بل المراد هو الموت المجازي، أي حالة الإغماء الشديد.
وإذا قُدِّم عذرٌ أن المسيح قال أيضا حين علِّق على الصليب، بأني سأدخل الجنة اليوم، فمن قوله هذا يتبين موته بجلاء.
فليكن واضحا في الجواب أن المسيح كان قد وُعد بدخول الجنة والرفع إلى الله، ولكن هذا الوعد كان مؤجَّلا لوقت آخر لم يُكشَف للمسيح كما ورد في القرآن الكريم: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ. فقد ظن المسيحُ في ذلك الوقت العصيب لعل هذا الوعد سيتحقق في اليوم نفسه. كان المسيح بشرًا ورأى أن جميع أسباب موته متوفرة، فظن نظرا إلى الأسباب الظاهرية أنه قد يموت في اليوم نفسه. أيْ قد تغلّب عليه ضعف البشرية نتيجة هيبة التجلِّي الجلالي نظرا إلى الظروف المحيطة به، فدعا مكتئبا: إيلي إيلي لما شبقتني؟ أيْ لماذا تركتني يا ربي؟ ولماذا ما وفيتَ بوعدك الذي وعدتني به بأني لن أموت، بل تكون حالي مثل حال النبي يونس؟
وإذا قيل: لماذا شك المسيح في وعد العصمة؟ قلتُ: إن ذلك كان ناتجا عن مقتضى البشرية، إذ لا تقوم للبشرية قائمة أمام التجلي الجلالي. إن الله تعالى يُري جميع الأنبياء أياما كهذه، فأولا يبشر نبيّه بوعد البشارة، وعندما يفرح النبي بذلك يضع في سبيل تحققها - على سبيل الابتلاء - عراقيل من كل الجوانب والنواحي تبعث على اليأس والخيبة على وجه اليقين والقطعية؛ فقد بشَّر الله تعالى سيدنا ومولانا النبي بالفتح والانتصار في معركة بدر، ومن جانب ثانٍ؛ حين اندلعت الحرب عُلم أن الخصوم يملكون جمعًا لا يترك مجالا للأمل في الانتصار نظرا إلى الظروف السائدة. عندها دعا النبي في حضرة الله متضرعا في كرب شديد وقلق متزايد أن يرزق الله هذه الفئة فتحا وانتصارا، وقال: اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. ولكن هذه الكلمات لا تدل على أن النبي خالجه نوع من الشك في صدق النبوءة، بل كانت نظرته إلى أن الله غني، والظروف مخالفة للمرام، وكان هيَّابًا لـهيبة جلال الله تعالى. والحق أنه كلما قيل للنبي في القرآن الكريم بألا يكون من الممترين تجاه وعود الله، كان ذلك في ظروفٍ تهدد بالخيبة بكل شدة، فظهور الأسباب المعادية بصورة مرعبة تترك كل شخص في حيرة من أمره بمتقضى ضعفه البشري. ولذلك قيل للنبي في مثل هذه المواقف الحرجة بُغية طمأنته: إنّ عليك ألا ترتاب، بمقتضى البشرية، في أمر تحققها وإن بدت الظروف جد حرجة في الظاهر، ولا تظننّ أنه قد يكون للنبوءة معنى آخر.
إن مؤلف هذا الكتاب صاحب تجربة في هذا المجال. لقد كشف الله تعالى عليّ قبل ثلاثة أعوام تقريبا - بناء على بعض الأمور التي ذكرتها مفصلا في إعلان نُشر بتاريخ 10 تموز/يوليو 1888م - نبوءةً أن البنت الصغرى للميرزا أحمد بيك بن الميرزا غامان بيك سترتبط بك بالزواج في نهاية المطاف، وأن الناس سيعادون ذلك كثيرا وسيُمانعون بشدة وسيبذلون قصارى جهودهم ألا يتم ذلك ولكنه سيتم في نهاية المطاف. وقال أيضا إنه سيأتي بها إليك في كل الأحوال، بِكرا أو ثيِّبًا، وسيرفع كل عائق في هذا السبيل وسيتم هذا الأمر حتما ولا رادّ له.
لقد بيّنتُ هذه النبوءة بالتفصيل مع ذكر ميعادها وموعدها المحدد ومستلزماتها التي جعلتها فوق قدرة الإنسان، وذلك في الإعلان المنشور في 10-7-1888م، والذي شهد عليه بعضٌ من المنصفين الهندوس أيضا، وقالوا بأنه لو تحققت هذه النبوءة، لكان ذلك فعل الله دون أدنى شك. لقد كانت هذه النبوءة بحق قوم بلغوا من المعاداة الغايةَ وكأنهم سلّوا سيوف الحقد والعناد. وكل من يعرف عن أحوالهم شيئا سيُدرك عظمة النبوءة جيدا. لم أكتب هنا تفاصيل النبوءة حتى لا تُجرَح مشاعر أحدٍ من المعنيين. ولكن الذي سيقرأ الإعلان المشار إليه لا بد له من الاعتراف مهما كان متعصبا ومتعنتا أن مضمونها يفوق قدرة البشر. وسيجد أيضا في الإعلان نفسه جوابا مسكتا ومفحما على تساؤلات مثل: لماذا أنبأ الله تعالى بهذه النبوءة أصلا؟ وماذا تضم في طياتها من الحِكَم؟ وكيف وبأي دليل تفوق قدرات البشر؟
ما أنوي قوله هنا هو أنه بعدما أُطلِعتُ على هذه النبوءة، ولم تكن قد تحققت بعد -كما لم تتحقق إلى اليوم الموافق 16-4-1891م - أُصبتُ بمرض شديد حتى أشرفتُ على الموت، بل كتبتُ الوصية أيضا نظرا إلى الموت الوشيك، وكان يبدو لي أنه النَفَس الأخير وأن جنازتي ستُشيَّع في اليوم التالي. عندها فكّرتُ في نفسي في تلك النبوءة أنه قد يكون لها معنى آخر لم أفهمه. ففي هذه الحالة الموشكة على الموت تلقيتُ إلهاما نصه: "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين." عندها كُشف عليّ سرُّ قول الله تعالى في القرآن الكريم لرسوله : فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففهمتُ أن هذه الآية تُعنى بمواقف حرجة كهذا الذي أواجهه الآن من الضيق واليأس. وتيقَّنتُ أنه كلما واجه نبي من الأنبياء موقفا كهذا الذي أواجهه حاليا، وهبهم الله يقينا متجددا قائلا: لمَ ترتاب في الأمر، ولماذا جعلتْك البليةُ يائسا؟ فلا تكونن من الممترين.
السؤال 5 :لم يفسّر أحد من السلف والخلف نزول ابن مريم في الأحاديث - التي يُفهَم منها أنه المسيح عيسى ظاهريا - بأن "ابن مريم" يراد منه غير ابن مريم الحقيقي، بل مثيله. وبالإضافة إلى ذلك هناك إجماع على حمل النصوص على ظاهرها ولا يجوز صرفها إلى باطنها دون قرائن قوية.
أما الجواب: فليتضح أن الأمر كان قضية إيمان عند السلف والخلف فآمنوا بالنبوءة إجمالا، ولم يدّعوا قط أنهم وصلوا إلى كنهها، ولم يقولوا إن المراد من ابن مريم هو عيسى بن مريم حقيقةً. لو قاموا بادّعاء كهذا، لما اعتقدوا بموت الدجال، ولما سكتوا على آيات القرآن الكريم التي تتناول ذكر موت المسيح معتبرين إياها خارجة عن موضوع النقاش. ولو افترضنا جدلا أن أحدا من الصحابة حسِبَ أن المراد من ابن مريم هو عيسى بن مريم نفسه، لما حدث أيّ خلل، فقد صدرت أحيانا أخطاء من الأنبياء أيضا في فهم النبوءات قبل تحققها، فلا غرابة إذا أخطأ صحابي في ذلك. إن فراسة رسولنا وفهمه، أكثر من فراسة كافة أفراد الأمة وفهمها مجتمعة. ولولا أن يغضب إخواننا المسلمون بسرعة، فإن مسلكي الذي أستطيع إثباته بالحجة هو أن فراسة جميع الأنبياء وفهمهم لا يساوي فراسة النبي الأكرم ، ومع ذلك اعترف بنفسه أنه أخطأ في فهم حقيقة بعض النبوءات. لقد ذكرتُ بضع مرات من قبلُ أن النبي قال لزوجاته: أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا، فبدأن - بحضوره - يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا. ولم يعرف رسول الله أيضا حقيقة النبوءة حينها، فلم يمنعهن من ذلك ولم يقل بأنكُنّ مخطئات في ذلك، حتى سُدِّد الخطأ عند تحقق النبوءة. ولو أمهل الله تعالى أمهات المؤمنين وبقينَ كلُّهن على قيد الحياة إلى عصرنا هذا لكان واردا تماما أن تبقى الأمةُ مجمِعةً منذ عهد الصحابة إلى العصر الراهن على أن أطولهن يدًا ستموت قبل غيرها. وكم كان هذا الإجماع سيكون مدعاةً للخجل والندم إنْ ماتت مَن ليست أطولهن يدا عند تحقق النبوءة، وإلى أيِّ مدى كانوا سيعرِّضون النبي للإساءة بغير حق، ويعرِّضون إيمانَهم للشبهات!
وبالمناسبة، تذكَّرت قول أحد الأصدقاء، وكان اسمه المرحوم "الحافظ هدايت علي"، تغمده الله بواسع رحمته - وقد شغل فيما سبق منصب نائب المفوَّض في محافظة غورداسبور، ورئيس المديرية في بتالة إلى فترة طويلة - إذ قال في أحد الاجتماعات: إن الأمور التي وُعد بظهورها في الزمن الأخير والنبوءات التي أُنبئ بها، ينبغي ألا نعتقد أنها ستتحقق بمعناها الحرفي حتما، وذلك حتى لا نتعثّر ولكي يسلم إيماننا لو ظهرت حقيقتها بطريقة أخرى في المستقبل. وأضاف قائلاً: لعلنا قد ولِدنا في الزمن الذي قيل عنه قبل 1300 عاما - أو أقل من ذلك بقليل - إنه الزمن الأخير؛ فلا غرابة لو تحقّقت بعض تلك النبوءات في حياتنا. فعلينا أن نتمسك بمبدأ الإيمان الإجمالي بقوة، وينبغي ألا نركِّز على شق معين كتركيزنا عندما نصل إلى كنه حقيقة ما. تم كلامه.
وهذا هو الحق والصدق الجلي، فلا علاقة لإجماع الأمة بأمور النبوءات، وإن المشايخ المعاصرين مخدوعون جدا إذ يريدون أن يجرّوا إلى قبضة الإجماعِ تلك النبوءاتِ أيضا التي لا تزال في حُجُب الغيب.
الحق أن مَثَل الأنباء كمثل امرأة حامل، فيمكننا مثلًا أن نقول إن في أحشائها جنينا حتما، وأنه سيولَد أيضا في غضون تسعة أشهر وعشر، ولكن لا يمكننا الجزم على وجه الدقة بشكله أو حالة جسمه أو ملامح وجهه، أو إنْ كان ذكرا أم أنثى.
وهنا قد يخالج قلب أحد اعتراضٌ أنه لو كان هذا هو حال النبوءات، لما كانت جديرة بالاعتبار، ولما كانت جديرة بأن تُعدَّ دليلا على صدق نبيٍّ أو جديرة بالتقديم أمام مُعارضٍ ومنكِر.
فجوابه أن النبوءات تتحقق أحيانا بصورة ظاهرية، وفي بعض الأحيان بصورة باطنية، وهذا لا يحط من شأن النبوءات الإلهية شيئا، بل تزداد عظمةً في عيون أصحاب النظرة الدقيقة. فمثلا لو فهم ذو فهْمٍ بليد قولَ فيلسوف على عكس الحقيقة، ثم تبيّنت بعد ذلك معانيه المعقولة والمتحققة والثابتة، فهل يحط خطأ الغبي من شأن المعنى الصحيح شيئا؟ كلا.
إضافة إلى ذلك يبقى قاسم مشترك ملحوظا في الأنباء في كل الأحوال، بحيث لو حُملت على ظواهر كلماتها أو ظهرت لها معانٍ مجازية في نهاية المطاف، فإن ذلك القاسم المشترك يُبيِّن بالبداهة أن النبوءة صادقةٌ في الحقيقة وتفوق قدرات البشر.
والنبوءات التي تقدَّم أمام الخصوم تحدِّيا تضم في طياتها لمعانا خاصا وبداهةً، ويتوجّه الملهَمون إلى الله تعالى بوجه خاص فتُكشَف عليهم حقيقتها أكثر. ومع ذلك تكون بعض زواياها خافية إلى حد كبير كما جرت العادة. فمن الجهل والتعنت الظنُّ أن النبوءات تُحمَل على ظواهرها في كل الأحوال. كل من قرأ كتب اليهود والنصارى يعلم جيدا كم استُخدمت من الاستعارات في النبوءات الواردة فيها بحيث قد ذُكر في بعض الأماكن فيها يومٌ وأُريدَ به سنة. الحق أن النبوءات تكون من قبيل الكشوف وتصدر من النبع الذي يتدفق بالاستعارات. تأمَّلوا في رؤاكم، هل ترون رؤيا واضحة تمام الوضوح إلا فيما شذ وندر. كذلك يُظهر الله الكشوف أيضا بواسطة أنبيائه مزيّنةً بخلعة الاستعارات. وإن تسمية هذه الحقيقة إلحادًا، هو إلحادٌ في حد ذاته، لأن الإلحاد ليس إلا صرف المعنى عن حقيقته. فما دام قانون الطبيعة قد وضع للكشوف والرؤى الصالحة مبدءًا بأن تغلب عليها الاستعارات في معظم الحالات فإن صرفها عن هذا المبدأ والادعاءَ أن النبوءات تُحمَل على ظاهرها دائما ليس إلا الإلحاد بعينه. إن اعتبار النبوءة حقيقة مكشوفة مثل أحكام الصوم والصلاة خطأ فادح وخديعة كبرى. لقد شرح لنا النبي هذه الأحكام بعمله وأماطَ اللثام عنها كليًّا. ولكن هل قال بحق الأنباء أيضا بأنها مكشوفة من كل الوجوه، ولا توجد فيها حقيقة أو كيفيةٌ مكنونةٌ تُفهَم عند تحققها؟ إذا كان هناك حديث بهذا المعنى فلماذا لا تقدّمونه؟
لستم أكثر فراسة وعلمًا من النبي ، اقرأوا صحيح البخاري تجدوا أن النبي أُرِيَ صورة عائشة رضي الله عنها على قطعة حرير على أنها ستكون زوجه، ولكنه لم يدَّعِ أبدا أن المراد منها هو عائشة في الحقيقة، بل قال إنه إذا كان المراد من صورة عائشة هو عائشة حقيقةً، فلسوف أنالها، وإلا يمكن أن يكون المراد منها امرأة أخرى. وقال أيضا إنه أُعطِي عنقودا من عنب الجنة لأبي جهل، ثم ثبت أن مصداق هذه النبوءة هو ابنه عكرمة. فلم يصرّح شيئا قط بشأن جزء معين من أجزاء نبوءةٍ ما لم يكشف الله عليه جميع جوانبها بوضوح.
تعرفون جيدا أنه حين شارطَ أبو بكر أبا جهلٍ، وجعل مدار الشرط في نبوءة القرآن الكريم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ[136] مدة ثلاثة أعوام لتحققها؛ غيّر النبي في الشرط بعض الشيء فورا نظرا إلى طبيعة النبوءة وقال لأبي بكر إن عبارة: بِضْعِ سِنِينَ مجملة، وتطلَق في معظم الأحيان على مدة تمتد إلى تسع سنين.
كذلك ذَكَر النبي لإفهام الأمة، أنه قد صدر منه أيضا خطأ أحيانا في فهم بعض النبوءات[137].
ألا يكفي الآن تعليم النبي ؟ ألا يعلن هذا التعليم بأعلى صوته أن آمِنوا بالنبوءات إجمالا وفوِّضوا حقيقتها إلى الله ولا تفرِّقوا الأمة واسلكوا سبيل التقوى؟
يا أيها الناس، فكّروا في الأمر جالسين في بيوتكم فُرادى، وتدبَّروا في كلامي ببساطة وأنتم في أسرّتكم، اذهبوا إلى المقابر، واطلبوا لأنفسكم نظرة غير ضبابية ذاكرين موتكم، وتأمّلوا جيدا؛ ما هو طريق التقوى؟ وما هي سبل خشية الله؟ وإن كان تشابَه عليكم ما قدَّمتُه لكم، فأي ضير في أن تبقوا قائمين على إيمانكم إجمالا ولا تتدخلوا في تفاصيله الخفية وتفوِّضوا أمري إلى الله؟ لا أُكره أحدا على شيء، إن هو إلا تبليغ، سواء أأصغى إليه أحد أم لم يُصغِ. فلو رزق الله أحدا يقينا وعرفني وآمن بكلامي، فهو أخي بوجه خاص، وله الأجر على إيمانه دون شك. ففكرِّوا في أنفسكم؛ أي ضير عليكم وأية مؤاخذة يمكن أن تتعرضوا لها عند الله لو فوَّضتم - على الأقل - الدقائق الخفية لهذه النبوءة إلى الله وتوقّفتم على حدود الإيمان فقط وما ادّعيتم المعرفة الكاملة دون مبرر؟ هل ستؤاخَذون لو فعلتم ذلك؟ ولكن لو تجاوزتم حدود الإيمان وادّعيتم ما لم تُعطَوا من علمه شيئا، لسُئلتم حتما عن هذا التدخل غير المبرَّر.
يا أيها المشايخ الكرام، لماذا تُلقون الناس في الابتلاء؟ ولماذا تدّعون أكثر مما تعلمون؟ حتى لو لم تكن هناك قرينة مضادة في حديثٍ عن نزول ابن مريم، بل كشف عليكم مسلمٌ المعنى بإلهامه فقط، وقال إن المراد من ابن مريم هنا ليس عيسى بن مريم في الحقيقة؛ لما كان لكم حقّ بأن تدّعوا وتقولوا مقابله بأن المراد من ابن مريم هو ابن مريم الحقيقي، لأن الاستعارات هي السمة الغالبة في الكشوف، وإن الإلهام من الله يفيد قرينةً قوية لصرفها عن الحقيقة، وأنتم مأمورون بحسن الظن.
أما هنا فلا يقتصر الأمر على الإلهام فقط، بل هناك قرائن قوية أخرى أيضا. ألا يكفيكم قرينةً أن الله تعالى قد بيّن في عدة آيات موت المسيح، ولم يذكر كونه حيًّا أو رفْعه إلى السماء حيًّا ولو بإشارة خفيفة؟ أوَلا يكفيكم قرينةً أن النبي ذكر ملامح ابن مريم الآتي مختلفة عن الراحل؟ أوَلا يكفيكم قرينةً أن النبي قال بأن المسيح الآتي سيكون فردا من الأمة، ورآه يطوف بالكعبة؟
أما العذر بأن هناك إجماعا على حمل النصوص على ظواهرها.. أي أن تؤخَذ من القرآن والأحاديث معانٍ ظاهرية، فليتضح في جوابه أنه عذرٌ تَتِمّ به حجتنا على خصومنا في الحقيقة، لأنهم هم الذين اختاروا طريقا غير سليم إذ يصرفون نصوص كلام الله البينة إلى الباطن دون قرينة. لقد استخدم القرآن الكريم فعل "التوفِّي" في 25 موضعا بمعنى قبض الروح، وبيّن في كل موضع أن معنى "التوفِّي" هو قبض الروح وترك الجسد على حاله. لكن هؤلاء القوم - هداهم الله - يقبلون هذا المعنى في 23 موضعا المذكورة، أما في الموضعينِ المتنازع فيهما حيث ذُكر موت المسيح، فينحتون معانيَ أخرى من عند أنفسهم.
والآن يجب الانتباه جيدا، أَنحن مَن أعرض عن ظواهر النصوص أم هؤلاء القوم؟ صحيح أن المراد من "ابن مريم" الوارد ذكره في الأحاديث ليس ابن مريم الحقيقي حسب رأينا، ولكن هذا لا يستلزم أننا صرفنا النص من الظاهر إلى الباطن، بل اضطررنا لقبول هذه الاستعارة - بغض النظر عن إلهام الله - لأن نصوص القرآن البيّنة والأحاديث الصحيحة تحول دون حملها على الحقيقة. ولقد بيّنّا الأدلة الصريحة بهذا الصدد مرارا، فحتّامَ نكرر الكلام نفسه؟
السؤال 6: ما وُجدت كلمة "مثيل" مع ذكر المسيح الموعود في الأحاديث، أي لم يَرد في أيّ مكان أنه سيأتي مثيل المسيح ابن مريم، بل ورد أنه سيأتي المسيح ابن مريم.
أما الجواب: يجب التأمل في أنه ما دام الله تعالى قد أطلق على المثيل المقبل اسم "ابن مريم" نفسه فما حاجته ليذكره كمثيل ابن مريم؟ فكّروا أيضا أن الذين يسمُّون أولادهم "موسى"، و"داود" و"عيسى" وغيرهم، يتمنَّون طبعا أن يصبح أولادهم أمثال هؤلاء الأنبياء في البِرِّ والخير والبركة، ولكنهم مع ذلك لا ينادون أولادهم قائلين: يا مثيل موسى، يا مثيل داود، يا مثيل عيسى، بل ينادونهم بأسماء حقيقية على سبيل التفاؤل. ألا يمكن أن يفعل الله القادر على كل شيء ما يفعله الإنسان تفاؤلا؟ أليس الله قادرا على أن يجعل حالة أحدٍ الروحانية شبيهة بحالة شخص آخر ويُطلق عليه نفس الاسم؟ ألم يُسمِّ يحيى من قبل باسم إيليا بناء على المماثلة بينهما في الحالة الروحانية؟ ألم يُطلَق في التوراة في سِفر التكوين 49 اسم "شيلون" على المسيح ابن مريم بناء على المماثلة الروحانية بينهما، بينما كان "شيلون" اسم حفيد يهوذا بن يعقوب ؟ ولقد بُشِّر يهوذا في الإصحاح نفسه بمجيء المسيح ابن مريم بكلمات: "لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا.... حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ" وما قيل: حتى يأتي ابن مريم.
ولما كان المسيح ابن مريم بمنـزلة حفيد يهوذا لولادته في العائلة نفسها، لذا أُطلق عليه اسم "شيلون".
كذلك ورد في التوراة نفسها في (التَّكْوِينِ 48: 15-16) دعاء يعقوب إذ طلب البركة ليوسف ودعا لأبنائه قائلا: "اللهُ الَّذِي سَارَ أَمَامَهُ أَبَوَايَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ، اللهُ الَّذِي رَعَانِي مُنْذُ وُجُودِي إِلَى هذَا الْيَوْمِ، * الْمَلاَكُ الَّذِي خَلَّصَنِي مِنْ كُلِّ شَرّ، يُبَارِكُ الْغُلاَمَيْنِ. وَلْيُدْعَ عَلَيْهِمَا اسْمِي وَاسْمُ أَبَوَيَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ".
فلا يمكن إنكار سنة الله القديمة أنه يُطلق اسم شخص على آخر بناء على المماثلة الروحانية بينهما. فالذي يحمل صفات إبراهيم هو إبراهيم عند الله، والذي يحمل صفات موسى فهو موسى عند الله، والذي يتحلى بصفات عيسى فهو عيسى في نظر الله، أما الذي نال نصيبا من كل هذه الصفات فهو مصداق لكل تلك الأسماء. أما إن كان هناك أمر جديرٌ بالنقاش فهو:
لماذا يُصرَف اسم "ابن مريم" عن معناه الظاهري والمتبادر إلى الذهن بوجه عام؟
وجوابه أن ذلك يعود إلى مقتضى القرينة القوية، لأن القرآن الكريم والأحاديث النبوية تدل بصراحة تامة أن المسيح ابن مريم مات ورُفع إلى الله وانضم إلى إخوته. وقد رآه نبي آخر الزمان ليلة معراجه مع النبي الشهيد يحيى في السماء الثانية، أي وجده مع جماعة الذين خلَوا وماتوا. إن القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة تُعطي أملا وبشارة بالتواتر أنه سيأتي مثيل ابن مريم وأمثال آخرون أيضا. ولكن لم يُذكَر في أي مكان أن نبيا سابقا قد مات من قبل سيعود إلى الدنيا ثانية. فمن الثابت المتحقق بالبداهة أنه ليس المراد من ابن مريم ذلك النبي ابن مريم رسول الله نفسه الذي مات من قبل وانضم إلى جماعة الأموات.
انظروا إلى حكمة الله العجيبة أنه قد سماني أنا العبد الضعيف "عيسى" قبل عشر سنوات تقريبا، وبفضله وتوفيقه الخاص قدّر أن يُنشر ذلك الاسم في "البراهين الأحمدية" ويُذاع في العالم كله.
أما الآن، فقد أعلن بعد مدة مديدة بإلهامه الخاص؛ أنْ هذا هو عيسى نفسه الذي وُعد بمجيئه. لقد ظل الناس يقرؤون هذا الاسم في "البراهين الأحمدية" إلى عشر سنوات متتالية. ولقد أبقى الله تعالى الإلهام الثاني الذي كان شرحا للإلهام الأول في طي الكتمان إلى عشر سنوات حتى تثبت أعماله الحكيمة منـزّهة من التصنّع في نظر المتدبرين، لأن سلسلة التصنّع التي يُخطَّط لها مسبقا لا تطول هكذا. فتدبروا يا أولي الأبصار.
السؤال 7: لقد قلتَ إنه من الممكن أن يأتي أكثر من مثيل، فهل المراد من ذلك أن المثيل الموعود هو شخص واحد فقط، وهو أنت، أو سيكون الجميع موعودين؟ وبأيٍّ منهم نؤمن بكونهم موعودين صادقين؟
أما الجواب: فليتضح أن المسيح الموعود الذي وجب مجيئه بحسب الإنجيل والأحاديث الصحيحة قد جاء على وقته وبآياته، وقد تحقق اليوم ذلك الوعد الذي جاء في نبوءات الله المقدسة من قبل. أما إذا راود أحدا شكٌّ أن كيفية نزول المسيح الآتي لا تبدو منسجمة ظاهريا مع ما جاء في بعض الأحاديث مثل الحديث الذي ورد فيه ذكر دمشق، فجوابه الأول هو أنها كلها استعارات، والاستعارات هي السمة الغالبة في الكشوف بحيث يُذكر بالكلمات شيءٌ ويراد منه شيء آخر. فمن الخديعة الكبرى والخطأ الفادح أن يحاول المرء حملَها على ظاهرها، أو يتردد ويحتار فيقول: لماذا لا تتحقق تلك العلامات بصورة ظاهرية؟
أليس صحيحا أن خصومنا أيضا قد اضطروا في معظم الأماكن لتأويل هذه الأحاديث عند شرحها، فأوَّلوها بكثير من التكلُّف؟ ففي مهمة جليلة الشأن للمسيح ابن مريم وهي أنه سيقتل الخنـزير عند مجيئه إلى الدنيا، يجدر الانتباه إلى أيّ مدى حاول العلماء في شرح ذلك صرف الألفاظ من الظاهر إلى الباطن! كذلك إلى أيّ مدى قاموا بتأويلات بعيدة عن الحقيقة في قضية طواف الدجال بالكعبة! فلو تنحّى الفريق الثاني تماما عن التأويلات في كِلا المقامين، لكان لهم بعض العذر في اعتبارنا من المؤوِّلين. أما الآن، وقد سلكوا السبيل نفسه فبأي وجهٍ يتّهموننا بذلك؟
الحق أنه ما دامت هذه العبارات المبنية على الكشوف زاخرة بالاستعارات، فلا يمكن لأيّ فريق أن يحملها على الظاهر في كل مكان. فالحديث الذي جاء فيه: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" يعلن بكل قوة وشدة أنه ينبغي ألا تركِّزوا على ظواهر هذه الكشوف، وإلا ستنخدعون، ولكن لا أحد منكم يقبل هديَه (). لقد ورد في الأحاديث بكثرة عن عذاب القبر بأنه ستكون في قبور المذنبين عقاربُ وأفاعٍ ونار، فإن كنتم تريدون أن تحملوا مثل هذه الأحاديث على ظاهرها في كل الأحوال، فانبشوا بعض هذه القبور وأرونا فيها الأفاعي والعقارب.
إضافة إلى ذلك نقول أيضا بأنه إذا أُريدَ حملُ الأحاديث المختلفة التي لا تطابق حالتي في الوقت الراهن فلا ضير في ذلك أيضا، لأنه من الممكن أن يحققها الله تعالى في زمن من الأزمان بواسطة تابع كامل لي يهبه مرتبة مثيل المسيح. ويُدرك الجميع أن بعض المهمات تتحقق على يد الأتباع كتحققها على يد المتبوع، ولا سيما إذا تصبّغ بعض أتباعي بصبغتي تماما سالكين مسلك "الفناء في طاعة الشيخ"، فيهبهم الله تعالى بفضله - بصورة ظلية - مرتبة وهبنيها. ففي هذه الحالة تُعتبَر إنجازاتهم كلها كأنها إنجازاتي أنا دون أدنى شك، لأن الذي يسلك مسلكي ليس منفصلا عني، والذي يحقق أهدافي بواسطتي أنا، فإنه داخلٌ في وجودي أنا. فيكون مشتركا في النبوءة مع المسيح الموعود أيضا، لكونه جزءا مني وغصنا من شجرة وجودي؛ لأنه ليس منفصلا عني. فإذا أُعطِي هذا الشخص من الله اسم "مثيل المسيح" بصورة ظلية واشترك في لقب "الموعود" أيضا، فلا ضير في ذلك، لأن الجميع موعودون لكونهم من المسيح الموعود - وإن كان المسيح الموعود واحدا - لأنهم أغصان شجرة واحدة، ومتمِّمون ومُكْملون لهدفٍ موعودٍ وحيد بسبب اتحادهم الروحاني، فتعرفونهم بثمارهم.
اعلموا أن وعود الله تعالى المتعلقة برسله وأنبيائه ومحدَّثيه تتحقق أحيانا مباشرة دون واسطة، وأحيانا أخرى تتحقق بواسطة. إن وعود النصرة والفتوحات التي أُعطِيها المسيح ابن مريم لم تتحقق في حياته، بل تحققت بظهور نبي آخر هو سيد الأنبياء (أيْ سيدنا وإمامنا محمد المصطفى خاتَم الرسل ). كذلك فيما يتعلق ببشارات فتح كنعان التي أُعطِيها موسى كليم الله، بل كان حيث كان قد أُعطِي وعدا بكل وضوح أنه سيأخذ قومه إلى كنعان فيملكون أرض كنعان الخضراء، ولكن هذا الوعد لم يتحقق في حياة موسى، لأنه مات في الطريق، ولكن لا يمكننا القول بأن النبوءة التي لا تزال مسجلة الآن في التوراة كانت باطلة، لأن قوة موسى وروحه قد أُعطِيها بعد وفاته تلميذُه "يوشعُ" فأنجز - بأمر من الله وبنفخه الروحَ فيه- مهمةَ موسى بواسطته ومتصبِّغًا بصبغته. فكان يوشع بمنـزلة موسى عند الله، لأنه أنجز مهمته من خلاله، وكان فانيا فناء كاملا في طاعته وحائزا على روحه من الله تعالى. كذلك هناك نبوءات في التوراة عن سيدنا ومولانا لم يتحقق بعضها على يده مباشرة، بل تحققت بواسطة خلفائه الذين كانوا فانين في حبه وطاعته . فلا يسع أحدا الإنكار أنه ليس ضروريا أن تتحقق الفتوحات والأمور العظيمة كلها - التي تتعلق بمبعوث من الله وتُذكَر في حُلل النبوءات - على يده هو حتما. بل الحق أن أتباعه المخلصين يُعتبَرون مثل جوارحه، فتُنسَب أعمالهم وإنجازاتهم كلها إليه. وذلك كمثل قائد الجيش بعدما يأسر العدو أو يقتله في معركة ما بمساعدة الجنود البارعين ومدبِّري الأمور؛ فإن تلك الإنجازات كلها تُنسَب إلى قائد الجيش، ويقال بكل بساطة: إن القائد أسر العدو أو قتله. فما دام هذا الأسلوب شائعا ومعروفا فأيّ تكلُّفٍ - إذا سلّمنا على سبيل الافتراض أن تحقق بعض النبوءات بصورتها الظاهرية، أيضا ضروري - في أن نعترف أيضا إلى جانب ذلك أن هذه النبوءات سوف تتحقق لا محالة، وسيُحققها الله على أيدي أناس ينطبق عليهم حُكم وجودي أنا لكونهم فانين في سبل طاعتي الكاملة، ولتلقّيهم روحًا سماوية. هذا ما تشير إليه نبوءة سُجِّلت في "البراهين الأحمدية"؛ وهي مبنية على إلهام نصه: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة."
وتذكَّروا أيضا المسيح الذي هو من ذرِّيّتي أنا العبد الضعيف وسُمِّي ابن مريم أيضا لأني سُمِّيت في "البراهين الأحمدية" باسم "مريم" أيضا.
السؤال 8: كان المسيحيون في زمن النبي يعتقدون أن المسيح ابن مريم الحقيقي هو الذي سيعود إلى الدنيا. فإذا لم يكن هذا الاعتقاد صحيحا، فلماذا لم يكذّبه الله تعالى في القرآن الكريم، بل وُعد في الأحاديث بعودة ابن مريم؟
أما الجواب: فليتضح أن الله تعالى قد كذّب هذا الاعتقاد في القرآن الكريم فعلا، إذ بيّن فيه أن المسيح ابن مريم قد مات حقا، ولم يذكر عودته إلى الحياة قط. والأحاديث أيضا لا تعارض القرآن الكريم في ذلك مطلقا. لن تجدوا حديثا واحدا يذكر رفع المسيح ابن مريم إلى السماء حيا بجسده المادي. إذًا، لم يدّخر النبي أيضا جهدا في دحض هذا الاعتقاد، بل أكّد على أن المسيح المقبل سيكون من الأمة، وبيّن ملامح المسيح الأول مختلفةً عن ملامح المسيح الثاني، وأكّد على موت المسيح ابن مريم. الحق أنه كان في هذا القدر من البيان كفاية، ولكن لما كان الهدفَ من وراء النبوءات ابتلاءُ الناس أيضا، وكذلك أن يكون فيها نوع من الخفاء أيضا، فقد أُخفيت فيها بعض الأمور إلى حد ما، لكي يُمتحن الصادقون والكاذبون في وقت مناسب.
وليس صحيحا أيضا القول بأن المسيحيين يعتنقون اعتقادا متَّفَقا عليه أن المسيح سيعود إلى الدنيا، إذ أن بعض فِرقهم تؤمن بموته أيضا. ولا يؤيد إنجيل متّى ويوحنا رفع المسيح إلى السماء في الحقيقة، غير أنه قد ورد ذلك في إنجيلَي مرقس ولوقا اللذَينِ ما كانا من الحواريين، ولم يذكرا هذا الأمر برواية أيّ حواريٍّ.
السؤال 9: ببيانك معنًى جديدًا لليلة القدر قد فتحتَ بابا لمذهب الطبيعية والباطنية.
أما الجواب: فقد خدع المعترضُ الناسَ بإثارته هذا الاعتراض. وحقيقة الأمر أن الله تعالى قد كشف عليّ أن معنى ليلة القدر الذي بيّنه العلماء من قبل صحيح تماما ومسلّمٌ به، وإلى جانب ذلك هناك معنى آخر أيضا بيّنتُه، ولا منافاة بينهما قط. والمعلوم أن للقرآن الكريم ظهرا وبطنًا، وتكمن فيه مئات المعارف. فإذا بيَّنتُ هذا المعنى لليلة القدر بتفهيم من الله، فكيف ظُنَّ أنني أرفض المعاني المذكورة من قبل. ألا يُسمَّى زمن النبي خير القرون؟ ألم تكن العبادات في ذلك الزمن أكثر ثوابا؟ أَلم يكن الملائكة ينـزلون في ذلك الزمن لنصرة الدين؟ ألم يكن الروح الأمين ينـزل فيه؟ فلا شك أن كافة آثار ليلة القدر وأنوارها وبركاتها كانت موجودة في ذلك الزمن، غير أن نوعا واحدا من الظلمة أيضا كان موجودا، فكانت تلك الأنوار والملائكة والروح الأمين وأنواع عدة من النور تنـزل لإزالتها. وإضافة إلى ذلك إذا سمِّي، بإلهام من الله، زمن النبي المقدسُ أيضا: ليلةَ القدر، فأي عيب في ذلك؟ أيجوز تسميته ملحدا مَن يسلِّم بمعنًى من معاني القرآن الكريم، ثم يبيّن نقطة دقيقة أخرى إضافة إلى ذلك؟ لا شك أن أصحاب هذه الأفكار يعادون القرآن الكريم وينكرون إعجازه.
السؤال 10: لقد أنكرتَ وجود الملائكة وجبريل وقد اعتبرتَهم في "توضيح المرام" قوى الكواكب فقط.
أما الجواب: هذا سوء فهم، والحق أني أؤمن بالملائكة وجبريل تماما كما ورد ذكرهم في القرآن الكريم والأحاديث، ولقد ذُكرت في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة علاقات العمل الموكلة للملائكة مع الأجرام السماوية. كذلك ذُكر في "توضيح المرام" ما كلِّف به الملائكة من الأعمال بوجه خاص.
"لا تخطِّئْ كلام أصحاب القلوب الواسعة، إنك يا صديقي لا تُدرك أسرار الكلام، فهنا يكمن الخطأ" [138]
السؤال 11: لقد ورد في الجزء الأول من الكتاب أي "فتح الإسلام" أنك ادّعيت النبوة.
أما الجواب: ليس ذلك ادّعاء النبوة، وإنما هو ادّعاء المحدَّثية بأمر من الله تعالى، ولا شك أن المحدَّثية أيضا تضم في طياتها شعبة قوية من شعب النبوة. من المعلوم أن الرؤيا الصالحة هي الجزء السادس والأربعين من النبوة، وقد ذُكرت المحدَّثية في القرآن الكريم جنبا إلى جنب مع النبوة والرسالة. وقد ورد بشأنها حديث صحيح أيضا في صحيح البخاري، فإذا اعتُبرتْ - والحال هذه - نبوة مجازية أو شعبة قوية من شعب النبوة، فهل يلزم ذلك ادّعاء النبوة؟ تذكّروا قراءة آية القرآن الكريم التي رواها ابن عباس وهي: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته". أين خُتم على الوحي من الله، بعد النبوة الكاملة؟ إذا كان الأمر كذلك فما معنى الآية: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا[139]. فيا أيها الغافلون، إن قنوات الوحي جارية في هذه الأمة المرحومة إلى يوم القيامة، ولكن على قدر مراتب أصحابها.
السؤال 12: في سورة الزخرف آية تقول: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا [140]والمراد من العلم هنا هو عيسى الذي سينـزل قرب القيامة، فمن هذه الآية يثبت نزوله.
أما الجواب: فمن الواضح أن الله تعالى يريد من تقديمه هذه الآية أن يُدين منكري القيامة ويقول لهم: لماذا ترتابون في إحياء الموتى بعد رؤيتكم هذه الآية؟ كل عاقل يستطيع أن يفهم بالتدبر في هذه الآية أنه ليست لها أدنى علاقة بنـزول عيسى، بل تقول بأن آية إحياء الموتى تلك، ما زالت موجودة الآن أيضا، وتُدين المنكرين وتقول: كيف تشكّون فيها الآن؟ فلكل عاقل أن يفهم الآن أنه إذا كان الله يريد من هذه الآية الإثباتَ أن عيسى عندما ينـزل من السماء يكون نزوله دليلا أو علامة على إحياء الموتى، فكيف يمكن أن يُدينهم الله قبل ظهور هذا الدليل؟ هل يمكن أن تتم الحجة على المنكرين قبل أن يظهر الدليل للعيان وقبل أن يكون له أيّ أثر، ومع ذلك يقال لهم كيف لا تؤمنون به؟ ألا يصح عذرهم في هذه الحالة أن يقولوا: يا ربنا لم يظهر الدليل أو العِلم للساعة الذي بناء عليه يوجَّه إلينا التهديد المتمثل في: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا. وهل الطريق لإتمام الحجة في أن يكون الدليل لا يزال في طي الغيب ويُظَنَّ أن الحجة قد تمت؟! إن عزو هذا المعنى إلى القرآن الكريم إنما هو إلصاق وصمة سوداء ببلاغته وبيانه الحكيم؟ صحيح أن البعض قد استنتجوا هذا المعنى، ولكنهم أخطأوا في ذلك خطأ كبيرا. والحق أن الضمير في "إنه" يعود على القرآن الكريم نفسه، ومعنى الآية هو أن القرآن آية على إحياء الموتى، لأن القلوب الميتة تحيا بواسطته، ويخرج الأموات من القبور وتدب الحياة في العظام الرميمة. وذلك مثل قول الله جلّ شأنه عن القرآن الكريم بأنه نموذجٌ للقيامة: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [141] وكذلك قوله تعالى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ[142].
صورة غلاف الطبعة الأولى لهذا الكتاب
ترجمة صفحة الغلاف للطبعة الأولى
"جاء في الدنيا نذير، فأنكروه أهلها وما قبلوه، ولكن الله يقبله ويُظهر صدقه بصولٍ قوي شديد، صول بعد صول"
الجزء الثاني
إزالة الأوهام
فيه بأس شديد ومنافع للناس
بحمد الله ومنته قد طُبع في شهر ذي الحجة المبارك عام 1308هـ هذا الكتاب الجامع لمعارف القرآن والشارح لأسرار الكلام الرباني من تأليف المرسل الرباني والمبعوث الرحماني سيدنا الميرزا غلام أحمد القادياني
في مطبعة "رياض الهند"بإشراف وسعي صاحبها شيخ نور أحمد
الإعلان
ليكن معلوما أن الكتاب "إزالة الأوهام" يحتوي على الردود على جميع الأسئلة التي يثيرها معظم الناس عن حياة المسيح ومماته نتيجة قصور فكرهم. ولا شك أن مَن يقرأ هذا الكتاب بإمعان من بدايته حتى نهايته فلن تبقى لديه أية شبهة. فلو هداه الله تعالى بهذا الكتاب وشرح صدره لكان واجبا عليه أن يُفيد الآخرين أيضا بمعلوماته. وكلّ مَن قبِل هديَ هذا الكتاب بإخلاصه الكامل يتحتم عليه أن يسعى لنشره. والطريق الأنسب والأَولى للمنكرين، بعد نشر الكتاب، أن يوصدوا باب المناظرات الشفوية ويطالعوا هذا الكتاب بتأمل. وإن لم ينالوا به الهداية فعليهم أن يحاولوا دحض أدلتنا التي وردت فيه. ونصيحتنا الأخيرة لهم أن يتقوا الله جلّ شأنه. ولمقتُ الله أكبر من مقتهم. والسلام على من اتبع الهدى.
الــمــعــلــن
ميرزا غلام أحمد القادياني، من لُدهيانه، حارة إقبال غنج
أي أننا أحيينا الأرض الميتة بالقرآن، كذلك سيحدث عند حشر الأجساد، ثم يقول الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ[143].. أي أننا أحيينا الأموات بالقرآن، ثم يقول اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا[144].. أي اعلموا أيها الناس أن الأرض كانت قد ماتت والله تعالى يحييها الآن من جديد.
باختصار، قد ذُكر في عدة أماكن في القرآن الكريم أنه نموذج للقيامة. بل هناك حديث يقول النبي فيه: "وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي"، أي أنّ الناس سيُحيَون بمجيئي، وأنا أقيمهم من القبور، والذين يُحيَون يجتمعون على قدميَّ. والحق أنه لو ألقينا نظرة عادلة على بلاد العرب، ووجدناها في حكم المقابر من حيث حالتها الروحانية ورأينا أن روح الصدق وخشية الله كانت قد تلاشت من قلوب أهلها إلى درجة كبيرة وصاروا في حكم المتآكلين العفنين بسبب أنواع المفاسد التي أثرت في أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم، لصعدت من قلوبنا شهادة عفوية أن إحياءهم كان أكثر غرابةً من عودة الموتى الحقيقيين إلى الحياة، وقد حيَّرت شدّتُها كثيرا من العاقلين الفطنين.
فملخص الكلام أن المعنى الحقيقي للآية المذكورة هو ما قد بيّنتُه، أي أنّ الله تعالى يقدم إحياء الموتى الروحانيين آيةً بديهية على إحياء الموتى الماديين. وكانت هذه الآية مؤثرة جدا في القلوب، فاقتنع بها كثير من الكفار وما زالوا يقتنعون. وهناك جماعة من المحققين الذين يستنبطون المعنى نفسه من الآية التي نحن بصددها. فقد ورد في تفسير معالم التنـزيل في شرح هذه الآية: "وقال الحسن وجماعة: وإنه يعني أن القرآن لعِلمٌ للساعة يُعلِّمكم قيامها، ويخبركم بأحوالها وأهوالها، فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا، فلا تشكّنّ فيها."
السؤال 13: إن الإلهام الذي بناء عليه خرجتَ من حلقة إجماع الأمة لا أصل له ولا حقيقة، ولا جدوى من ورائه، وإن ضره أكبر من نفعه.
أما الجواب: فليكن معلوما أني قد كتبت من قبل أنه لا علاقة للإجماع بالأنباء، بل يكون الإجماع على أمور عُرفت حقيقتها جيدا وشوهدت وعُثر عليها بدقة، ووضّح الشارع جزئياتها وعلّمها جيدا بالعمل بها مثل الصوم والصلاة والزكاة والحج والثواب والعقاب. أما هذه النبوءات الدنيوية فلا زالت أمورا خافية شرحها الشارع - إذا كان قد شرحها أصلا - بما يوِّجه الأنظار إلى الاستعارات. فمثلا هل يمكن الإجماع على أحاديث تقول إن المسيح سيصطاد الخنازير في البراري والفلوات بعد مجيئه؟ وإن الدجال سيطوف بالكعبة، وإن ابن مريم أيضا سيقوم بواجب الطواف بالكعبة واضعا يديه على كتفَي رجُلينِ؟ ألا تعلمون أن الذين شرحوا هذه الأحاديث ممن خلَوا قد عزف كل واحد منهم على وَتَر مختلف وبأسلوب غير معقول؟ لو كان هناك أمرٌ متَّفَق عليه وأُجمع عليه، لما أدلى كل واحد منهم بأفكار تختلف عن غيره؟ ألم يخافوا التكفيرَ؟
أما القول إن الإلهام المذكور بلا أصل وعديم الفائدة ولا حقيقة له، وإن ضره أكبر من نفعه؛ فليكن معلوما في الجواب أنه لا يقول مثل هذا الكلام إلا الذي لم يتذوق طعم هذا الشراب الطهور، ولا يريد أن ينال إيمانا صادقا، بل هو راضٍ بالعادة والتقليد، ولا يمحِّص مدى يقينه بالله تعالى، ومدى معرفته، وما الذي يجب أن يفعله حتى تزول نقاط ضعفه الداخلية وينشأ تغيُّر حيٌّ في أخلاقه وأعماله وإراداته، وينال عشقا ومحبةً حتى يسهل عليه السفر إلى الآخرة، وتنشأ في نفسه قوة عاطفة محمودة وقابلة للتقدم.
لا شك أن الجميع يستطيعون أن يفهموا أن الإنسان بسبب حياته الغافلة التي تجذبه إلى ما تحت الثرى كل حين وآن، وكذلك بسبب علاقاته مع الأهل والأولاد والعِرض والشرف التي تجذبه إلى الأسفل باستمرار كجذبِ الحِمل الثقيل، لذا فإنه بحاجة حتما إلى قوة عليا لتهبه بصيرة حقيقية وكشوفا صادقة ولتجعله مشغوفا في جمال الله الكامل.
فليكن معلوما أن تلك القوة العليا هي الإلهام الإلهي الذي يهب صاحبه المتعة عند المعاناة، ويجعله يقف تحت تلال المصائب وجبالها بكل سرور ومتعة. إن ذلك الأمر الدقيق الذي بهر القوى العقلية وترك عقول العقلاء والحكماء في حيرة من أمرهم، إنما هو الإلهام الذي بواسطته يخبر الله تعالى عن وجوده ويطمئن قلوب السالكين وينـزِّل عليهم السكينة قائلا: "أنا الموجود" وينضِّر الحياة الذابلة بالنسيم العليل لوصاله البالغ غايتَه. لا شك أن القرآن الكريم وحده يكفي هدايةً، ولكن الذي يوصله القرآن الكريم إلى نبع الهداية؛ فالعلامة الأُولى التي تلاحَظ فيه هي أنه يحظى بالمكالمة الإلهية الطيبة التي تؤدي إلى نشوء المعرفة المبصرة من الدرجة العليا، والبركةِ والنورِ الملحوظَينِ، ويبدأ صاحبها بنوال معرفةٍ لا تُنال قط بمجرد تخمين التقليد أو تخريص العقل، لأن العلوم التقليدية محدودة ومشتَبهٌ فيها، والأفكار العقلية ناقصة غير مكتملة، فنحن بأمسّ الحاجة إلى أن نوسّع معرفتنا مباشرةً، لأن الحماس والشوق يهيج في نفوسنا على قدر معرفتنا فقط. فهل يمكننا أن نتوقّع الحماس والشوق الكامل مع المعرفة الناقصة؟ كلا.
يا لَلغرابة! ويا لسوء فهم هؤلاء الذين يستغنون - للوصول إلى الحق - عن الوسيلة الكاملة التي ترتبط بها حياتنا الروحانية!
يجب التذكُّر أن العلوم والمعارف الروحانية تُنال بواسطة الإلهامات والكشوف فقط، وما لم ننل تلك الدرجة من النور فلا تحظى إنسانيتنا بمعرفة حقيقية أو كمال حقيقي، بل سنظل نعدّ النجاسة حلوى مثل الغراب أو الشاة ولن ننال الفِراسة الإيمانية، بل سنكون متمسكين كالثعلب، بالمكر والمكائد الكثيرة فقط.
لقد خُلقنا لهدف عظيم وهو نوال المعرفة اليقينية، وتلك المعرفة هي مدار نجاتنا التي تُحررنا من كل طريق خبيث ومغشوش، وتضع فمنا على شفا نهر طيب وصافٍ، ولكن هذه المعرفة ننالها بواسطة الإلهام الإلهي فقط. عندما نُفني وجودنا كليًّا ونخوض عميقا بقلب متألِّم في كيان لا يُدرَك، فإن بشريتنا تخوض في بحر الألوهية، وتأتي عند العودة ببعض العلامات والأنوار من ذلك العالم. فالذي يزدريه الناس في هذه الدنيا، هو الذي يوصل البعيد عن الحبيب - منذ مدة - إلى حبيبه، وذلك في لمح البصر، وبسببه ينال عشاق الله الاطمئنانَ، ويُخرِجون دفعة واحدة أقدامهم من أسْر النفس بكل أنواعه. وما لم ينـزل ذلك النور على القلوب، فيستحيل تماما أن ينوَّر قلبٌ.
فباختصار، إن قصور عقل الإنسان ومحدودية العلوم التقليدية؛ تشهدان على ضرورة الإلهام. إن جميع العاقلين الموجودين في العالم، أو الزهاد الذين حُرمت قلوبُهم من هذا الأسلوب المقدس؛ تشهد تصرفاتهم المخجلة وانقباضهم الأخلاقي وأفكارهم السفلية على بياني هذا، وتشهد أيضا على مدى تورطهم في كُدُورات مكروهة نتيجة حرمانهم من هذا الينبوع المقدس. وكما أن إلقاء قطرة ماءٍ قذرٍ في بئر، تجعل البئر كله كدرا؛ كذلك فإن أفكارهم السيئة تُعرف بتصرفاتهم السيئة.
وإن كان من شأن فلسفتهم أن تؤدي إلى ثورة كبيرة في أفكار عامة الناس، ولكن لا يصحبها النور الصادق، فتظهر ظلمتها للعيان سريعا. ومع تباهيهم وادّعائهم بمعرفة كل شيء، فإن حالتهم الداخلية تُعلن إفلاسهم بكل جلاء واستمرار. وفي كثير من الأحيان تصدر من هؤلاء الفلاسفة والحكماء والمشايخ والفضلاء - لعدم نوالهم الطمأنينة الروحانية - أعمال تشهد بجلاء على شدة بعدهم من ينبوع الطمأنينة، لكونهم يواجهون عذابا أليما، أو قولوا إن شئتم ألما وحُرقة واضطرابا ليل نهار، وذلك لعدم فوزهم ببحبوحة حقيقية.
هنا قد يخالج بعض القلوب اعتراض بصورة طبيعية أن كثيرا من الناس يدّعون تلقّي الإلهام، بل يسردون فقرات إلهاماتهم أيضا، ولكن لا يلاحَظ أيُّ تقدم في معرفتهم، ولا يبدو أنهم حائزون على درجة أعلى من المعرفة بالمقارنة مع درجة البشر العاديين، بل يلاحَظ فيهم عقلٌ بليدٌ وأفكار سطحية وظلمة فطرية وانحطاطٌ. ولا يُرى في قواهم الأخلاقية والذهنية والروحانية أمرٌ خارق للعادة. فأنّى لنا أن نعتبر هؤلاء القوم ملهَمين وحائزين على شرف المكالمة مع ينبوع الفيض؟ إذ لا بد من حدوث التغير الخارق للعادة فيمن ينال قربه وشرف مكالمته ، وذلك كي تُلاحظ - على الأقل - في هذا الملهَم بعض الأمور التي تميِّزه عن غيره.
اعلموا أن أمثال هؤلاء الناس لا يكونون ملهَمين في الحقيقة، بل يكونون مبتَلين بنوع من الابتلاء، فيحسبونه إلهاما لسوء فهمهم. إن مكالمة الله الحقيقية ليست بأمرٍ هيِّن، بل مثَلها كمثَل شخص جالس في ظلام دامس تُفتح عليه فجأة نافذة إلى الشمس، فيؤثِّر ضوء سماوي على حواسه محولًا حياته إلى حياة جديدة تماما، فيخرجُ المرء تلقائيا من الظلام الذي يسبب له الكآبة، وينشأ في قلبه السرور والمتعة وفي عينيه النورَ وفي حالته الاستقامةَ. وقليل هم الذين يحظون بهذه المكالمة على صعيد الواقع والحقيقة، وستعرفونهم من خلال علامات خارقة للعادة.
السؤال 14: مع أن موت المسيح ثابت من القرآن الكريم، ولكن لا يثبت لموته وقت محددٌّ. فما السبيل إلى رفع التعارض بين القرآن والحديث إلا أن يُعتبر زمن هذا الموت بعد نزوله الثاني؟
أما الجواب: فاعلموا أن نصوص القرآن الكريم البينة تدل بصراحة تامة على أن المسيح قد مات في زمنٍ جاء فيه لإصلاح فِرق اليهود الفاسدة كما يقول الله جلّ شأنه: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[145]. والواضح هنا أن الله تعالى قد أورد أولاً: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ثم أورد: رَافِعُكَ، وهذا يثبت أنه مات أولا، ثم رُفع بعد الممات. والدليل الآخر هو أن الله جلّ شأنه يقول في هذه النبوءة أني سأجعل متّبعيك - بعد مماتك- غالبين على خصومك من اليهود، وذلك إلى يوم القيامة. فالواضح الآن أن النصارى والمسلمين كلهم يقبلون أن هذه النبوءة قد تحققت بكل جلاء بعد زمن المسيح إلى ظهور الإسلام، لأن الله تعالى جعل اليهود خاضعين للمسيحيين والمسلمين، ومحكومين على يدهم، ولا يزالون كذلك بعد مرور مئات السنين. وليس أنهم سيخضعون لهم بعد نزول المسيح . إن هذا المعنى باطل بالبداهة.
وجدير بالتدبر أيضا أن في القرآن الكريم آية يقول الله جلّ شأنه فيها على لسان المسيح : وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي[146]. والواضح أن العمل بهذه الواجبات الشرعية في السماء محال. والذي يعتقد أن المسيح قد رُفع إلى السماء حيا، لا بد له أن يؤمن أيضا بناء على مضمون هذه الآية بأن كافة أحكام الشريعة- التي يجب على الإنسان أن يعمل بها بحسب الإنجيل والتوراة- لا تزال واجبة على المسيح حتى الآن، مع أنها تكليفٌ بما لا يطاق. واللافت في الموضوع أن يأمر الله تعالى عيسى من ناحية بأن عليك أن تخدم أمك ما دمتَ حيا، ثم يفصل بنفسه بينه وبينها في حياته. وكذلك يأمره بأداء الزكاة طول حياته، ثم يوصله في حياته إلى مكان لا يستطيع أن يؤدي فيه الزكاة ولا يستطيع أن ينصح أحدا بأدائها. كذلك ينصحه الله أيضا بالصلاة، ثم يرميه بعيدا عن جماعة المؤمنين الذين كانت صحبتهم ضرورية لتكميل الصلاة. فهل حصلت أية فائدة من هذا الرفع سوى النقصان الكبير في العمل وضياع حقوق العباد وفوات مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فلو بقي حيا على الأرض إلى هذا العام -1891م - لاستفاد خلق الله من ذاته جامع البركات فوائد جَمَّةً، ولكن ماذا كانت نتيجة صعوده إلا أن فسدت أمته، وحُرم هو من أداء مهمات النبوة؟
عندما نتعمق في آية يقول الله جلّ شأنه فيها: إننا ما جعلنا للبشر جسدا يمكن أن يعيش دون أكل الطعام، وهذا يستلزم - بحسب اعتقاد خصومنا - أن يأكل المسيحُ الطعام في السماء ويتبرّز، وتتيسر له هنالك الحاجات البشرية الأخرى كلها، مثل اللباس والأواني والمأكولات وغيرها. ولكن هل يثبت كل ذلك من القرآن الكريم والحديث الشريف؟ كلا.
لا يسع خصومنا إلا أن يقولوا في الجواب بأن حياته في السماء تختلف عن حياة الإنسان العادية، فهو ليس بحاجة إلى أيٍّ من الحاجات التي يحتاج إليها الإنسان الساكن على الأرض، وإن جسمه الآن من نوع خاص بحيث لم يعد بحاجة إلى الطعام ولا إلى اللباس ولا إلى البول والتبرُّز ولا يؤثر فيه الدهر كما يؤثر في الأجساد الأرضية، ولم يعد مكلَّفا بأحكام الشريعة.
وجواب ذلك أن الله تعالى يقول بكل وضوح إن هذه الحاجات جزء لا يتجزأ من الأجساد المادية كلها ما دامت حيَّةً؛ فقد قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ[147]. والواضح جليا أنّه قد ذُكِر في الآية الجزء، وأُريدَ منه الكلُّ؛ فمع أنه قد قال بأنه ما جعل جسد نبيٍّ يمكن أن يعيش بغير الطعام، إلّا أنه ذكر في هذا الصدد ضمنيًّا جميع المستلزمات والنتائج التي تعقب تناول الطعام. فإذا رُفع المسيح إلى السماء بجسده، فلا بد أن يأكل الطعام، وأن تلازمه حاجات ضرورية أخرى أيضا مثل البول والتبرز، لأنه لا يمكن أن يكون كلام الله كاذبا.
وإن قلتم بأن المسيح لم يصعد إلى السماء بالجسد المادي، بل دُفن ذلك الجسد في الأرض، وأن الجسد النوراني الذي أُعطيه المسيح كان بريئا من حاجات الأكل والشرب فرُفع بذلك الجسد. قلتُ: هذا هو الموت بعينه الذي أقررتموه أخيرا، وهذا ما نعتقد به نحن أيضا؛ وهو أن المقدَّسين يُعطَون جسما نورانيا بعد الممات. والنور الذي يصحبهم، يصبح لهم جسدًا وبه يُرفَعون إلى السماء. هذا ما يشير إليه الله جلّ شأنه في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[148]. أيْ أن الأرواح الطيبة والنورانية تصعد إلى الله تعالى، والأعمال الصالحة ترفعها أكثر، أيْ كلما كثرت الأعمال الصالحة رُفعت الروحُ أكثر فأكثر.
لقد أطلق الله تعالى على الروح هنا الكَلِمُ وفي ذلك إشارة إلى أن الأرواح كلها كلمات الله في الحقيقة، ولكنها تحولت إلى الأرواح كسِرٍّ لا يُدرَك، ولا يمكن للعقل أن يسبر غوره.
وإلى هذا الأمر يشير مضمون الآية: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ[149]. ولما كان ذلك سرّ الربوبية، فليس لأحد أن ينبس ببنت شفة أكثر من أن كلمات الله هي التي تَلبس حلَّة الروح بأمر الله وإذنه ، وتنشأ فيها كافة القوى والقدرات والخواص التي توجد في الأرواح. والأرواح الطيبة تتخلى عن جميع قواها في حالة فنائها في الله، وتفنى في طاعته، فكأنها - وكما كانت كلمة الله بدايةً - تخرج من حالة الروح، وتتحول إلى كلمة الله نهايةً.
إذًا، فإن اقتران الروح الطيبة بكلمة الله، إشارة إلى كمالها البالغ ذروته، فإنها تُعطَى لباس النور، وبقوة الأعمال الصالحة تُرفع إلى الله تعالى.
إن مشايخ الظاهر في عصرنا يظنون بسبب أفكارهم السطحية أنه ليس المراد من الكلمات الطيبات إلا المعتقدات والأذكار والأشغال، وأن المراد من الأعمال الصالحات أيضا هي الأذكار والخيرات وما شابهها فقط؛ فإنهم بتفسيرهم هذا يخلطون بين العلة والمعلول، ويجعلون منهما شيئا واحدا. لا شك أن الكلمات الطيبات أيضا تعود إلى الله، ولكن المعنى الذي ذكرته معنىً باطني، يعرفه العارفون، ويشمل إشاراتٍ دقيقةً في القرآن الكريم.
السؤال 15: لقد أثبت المسيح ابن مريم أنه من الله تعالى بمعجزات كثيرة، فما هي الإثباتات التي قدَّمتَها أنت؟ هل أحييتَ ميِّتا أو شفيتَ أعمًى؟ وإذا افترضنا جدلا أنك مثيل المسيح فماذا استفدنا بوجودك؟
أما الجواب: اقرأوا الإنجيل تجدوا أن الاعتراض نفسه ظلّ يوجَّه إلى المسيح دائما بأنك لم تُظهِر أية معجزة، فأيُّ مسيحٍ أنت؟! وذلك لأنه ما أُحيِي ميِّتٌ حتى يتكلّم ويسرد أحوال ذلك العالَم، وينصح مَن خلفه قائلاً: إني جئت مرورا من جهنم، فآمِنوا به أنتم فورا. فلو أحيا المسيحُ آباءَ اليهود وأجدادهم ظاهريا وجعلهم يُدلون بشهاداتهم، لما وسِع أحدا الإنكارُ قط. فالأنبياء قد أظهروا آياتٍ دائما، ولكنها ظلت خافية عن أعين الذين ما كانوا ليؤمنوا. كذلك ما أتيتُ أنا أيضا صفر اليدين، بل قد أعطاني الله تعالى كمًّا هائلا من ماء الحياة لإحياء الأموات، فمن شربه أُحييَ حتما. إنني أعترف بلا أدنى شك أنه لو لم يعُد الأموات إلى الحياة بكلامي، ولم يفتح العميان عيونهم، ولم يُشْفَ المجذومون؛ لما كنتُ من الله، لأن الله تعالى قد قال في كلامه المقدس مشيرا إليّ بأنه لو مُحِّص أمري - مقارنة بالمسيح الناصري - لتبين أني أُشفِي عباد الله أكثر بكثير مما شُفيت الأمراض الجسدية في وقته.
اعلموا يقينا أن بذرة الحياة الروحانية قد بُذرت كحبة خردل، وقد قرُبَ، نعم قد قرب جدا زمنٌ تتراءى فيه كدوحة عظيمة. إن صاحب الأفكار المادية يحب الأمور المادية، ويعتبرها شيئا يُعتَدُّ به. أما الذي أُعطِي نصيبا من الروحانية، فيبحث عن الحياة الروحانية. إن عباد الله الصالحين لا يأتون إلى الدنيا ليُرُوا الناس شعوذات، بل هدفُهم الحقيقي هو الجذب إلى الله، وفي الأخير يُعرفون بتلك القوة القدسية. إن النور الذي يخلِق فيهم قوةَ الجذب لا يمكن أن يراه أحد على سبيل الاختبار والامتحان، بل يتعثَّر، غير أنه يُظهِر ثأثيره الخارق بجذبه إلى نفسه جماعةً تستحق أن تُجذب. ومن علامات أحباء الله المخلصين:
هذه هي علامات أولياء الرحمن، ولكن كل نوع منها حينما يظهر في وقته، يتراءى ككرامة عظيمة، ولكن إظهارها في يد الله.
والآن، ومن منطلق آيةِ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[151] لا أرى غضاضة من البيان أن الله تعالى قد أعطاني بمحض فضله ورحمته حظا وافرا من كل الأمور المذكورة آنفا. ولم يرسلني صفر اليدين، ولم يبعثني بغير الآيات، بل أعطاني كل تلك الآيات التي تظهر وستظهر في المستقبل أيضا. وسيظل الله يُظهِرها ما لم يُتم الحجةَ بكل وضوح.
أما قولهم: ما الذي استفدنا من وجودك؟ فليعلموا في الجواب أن الذي يأتي مأمورا من السماء يستفيد الجميع من وجوده على قدر مراتبهم، بل يستفيد العالم كله. والحق أنه يكون بمنـزلة شمس روحانية يصل ضوؤها، قليلا أو كثيرا، إلى أماكن بعيدة. وكما تقع تأثيرات الشمس المختلفة على الحيوانات والنباتات والجمادات وعلى كل جسم- ولكن قليل هم الذين يحيطون بها علمًا كما هو حقها - كذلك تقع تأثيرات المبعوث أيضا على جميع الطبائع وفي أكناف العالم كله. ومنذ أن يتقرر في السماء ظهوره كرحمة، تنُـزَّل الملائكة من السماء كأشعة الشمس، ويهبون في أنحاء العالم كله أناسا مستعدين لقبول الصدق، قوةً للتقدم على جادة الحق والصدق، فتميل طبائع الصالحين إلى الصدق تلقائيا. فكل ذلك يمثّل آيات صدق ذلك الشخص الرباني الذي تُنشَّط القوى السماويةُ في عصر ظهوره.
هذه هي علامة الوحي الصادق التي بيّنها الله تعالى أن الملائكة يُنـزَّلون حتما مع نزوله، فتنقلب الدنيا إلى الصدق والحق يوما بعد يوم. فهذه علامة عامة للمبعوث الذي يأتي من الله تعالى. أما العلامات الخاصة فقد ذكرناها قبل قليل.
السؤال 16: لقد جاء في الإنجيل أن المسيح سيأتي إلى الدنيا في مجدٍ وستقبله الدنيا، أما في حالتك فلا نرى أية علامة لظهورك في مجدٍ، ولم تقبلك الدنيا أيضا.
أما الجواب: لقد ورد في إنجيل متّى 25: 31- 46: "مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ، وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ،" ولكن ليس لهذا المجيء علاقة بهذه الدنيا، بل إن هذا المجيء سيكون بعد انقطاع سلسلة الدنيا، وسيحدث بعد حشر الأجساد، وذلك حين يأتي كل نبي مقدس في مجده ويبشر صلحاء أمته ويُدين المنكرين. ولكن المسيح أخبر في العبارات نفسها أن مجيئه يكون في حالة الفقر كما ورد في العدد 34 وما يليه في الإنجيل نفسه:
"... تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. 35 لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. 36 عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. 37 فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ 38 وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ 39 وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟40 فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. 41 ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، 42 لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. 43 كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. 44 حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ 45 فَيُجِيبُهُمْ قِائِلًا: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. 46 فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ."
فيتبين من هذه العبارات بجلاء تام أن المسيح ذكر فيها بعضا من أمثاله، وعدّ مجيئهم إلى الدنيا ومعاناتهم، كمجيئه ومعاناته هو. ولا يمكن أن يكون المراد بالإخوة الأصاغر إلا الذين ينالون إلى حد ما نصيبا من منصب المسيح وطبيعته ودرجته، ويأتون مأمورين باسمه، بينما ليس للمسيحيين أن يقولوا بأنهم إخوة المسيح. ولا شك أن المحدَّث يكون بمنـزلة الأخ الصغير للنبي، والأنبياء كلهم إخوة عَلاّتٍ. وإنها لإشارة دقيقة بأنْ عدَّ المسيح مجيئهم كمجيئه هو.
وجدير بالذكر أيضا أن مجيئي هذا إنما هو مجيءٌ في مجدٍ نسبيا، لأنه تمهيد لانتصارات عظيمة لنشر التوحيد من قِبل الله. وإذا ظُنَّ أن المجيء في مجد يتعلق بأمور السياسة، فهذا ليس صحيحا؛ إذ بعيدٌ تماما من العدل والإنصاف أن يأتي أحد مأمورا بإيقاظ الغافلين ثم يبدأ بالضرب والقتل وسفك الدماء فور مجيئه. والله تعالى لا يعذِّب قوما ما لم تتم عليهم الحجة كاملةً.
إذن، فإن مجيء المسيح في مجد كما يزعم المسيحيون لا يتعلق بهذه الدنيا، وإن وعد مجيء المسيح إلى هذه الدنيا لا يتعلق بالمجيء في مجد، بل الحق أن المسيحيين خلطوا الحابل بالنابل وجعلوا حقيقة الأمر مشتبهةً على أنفسهم. أما عبارات إنجيل متّى المذكورة آنفًا فتعلن بكل جلاء أن المجيء في مجد سيحدث حين يحاسَب كل شخص بعد حشر الأجساد، وإلا؛ فكيف يمكن أن تُحشَر كليَّةً وفي مكان واحد جماعات الأشرار والصالحين الذين ماتوا من قبل إلا بحشر الأجساد. كذلك يُفهم مجيء المسيح إلى هذه الدنيا من بيان إنجيل متّى 24، على عكس ما يتبين من إنجيل متّى 25. ويمكن التوفيق بين البيانَين إذا كان الذي سيأتي بعد حشر الأجساد في الآخرة، هو المسيح نفسه، أما الذي سيأتي باسم المسيح في الدنيا فهو مثيله، الذي هو أخوه الأصغر، وكأنه يدخل في حُكم وجوده بحسب قول المسيح نفسه. لقد قال المسيح بكل وضوح عن المجيء إلى الدنيا بأنكم لن تروني بعد ذلك. فأنّى له أن يأتي إلى الدنيا وقد قال بنفسه بأنكم لن تروني بعد ذلك؟
وليكن معلوما أيضا أنه ليس ضروريا أن تقبل الدنيا المبعوثين فورا، بل تقبلهم رويدا رويدا دائما. ولا بد أيضا من أن يكون هناك أولئك الذين لن يؤمنوا، ويموتوا بريح نَفَس المسيح. والمراد من الموت بريح النَفَس هو موتهم بالحجج القاطعة. لقد ورد في الإنجيل أن الكثيرين سيُدانون عند نزول المسيح ويُحرَّر الكثيرون، أي ستقوم الحجة على البعض وينـزل العذاب بهم، وكأنه قد بُطِشَ بهم جميعا. وهناك آخرون سيستحقون النجاة وكأنهم نالوها.
السؤال 17: ما حاجة مجيء مثيل المسيح في هذا الوقت بالذات؟
أما الجواب: كانت الحاجة ماسة لمجيء المسيح في هذا العصر، كذلك كانت هناك حاجة ماسة إلى الملائكة الذين ينُـزَّلون للإحياء، لأن موتا وغفلة روحانية قد سادت العالَم كله، وفتر حب الله جلَّ شأنه وعمَّت القسوة والعكوف على الدنيا، وظهرت للعيان جميع الأوجه التي أدت إلى مجيء المسيح ابن مريم إلى الدنيا لتأييد التوراة. وقد خرج الدجال بقوة متناهية. وحلّت منذ ولادة آدم نهايةُ الألفية السادسة.. وهي بمنـزلة اليوم السادس بحسب مضمون الآية: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[152]، فكان ضروريا أن يولد في هذا اليوم السادس آدمُ الذي هو مثيل المسيح من حيث ولادته الروحانية؛ فأرسلني الله تعالى مثيلا للمسيح وكآدم للألفية السادسة.
كما أوحى في البراهين الأحمدية ما نصه: "أردتُ أن أستخلف فخلقتُ آدم". وأوحى تعالى في مكان آخر ما نصه: "خلق آدم فأكرمه". فكما عومل آدم بالتحقير وعُدّ مفسدا كذلك عوملتُ أنا أيضا. ولما كانت هناك مماثلة بين آدم والمسيح، لذا سُمِّيتُ آدمَ وسُمِّيتُ المسيح أيضا.
السؤال 18: إذا عُدّ ابنُ صياد مسيحًا دجالا فهذا لا يضر حديثَ صحيح مسلم الذي ورد فيه ذكر دمشق، لأنه يتبين من بعض الروايات أن ابن صياد مفقود.
أما الجواب: إن غياب ابن صياد لا يثبت من رواية صحيحة قط، أما إيمانه وموته فثابت. وكما كتبتُ من قبل، إن موته في المدينة ثابت بداهةً. ولو افترضنا جدلا أنه صار مفقود الخبر فهل يثبت ذلك أنه حي؟ هل نسيتم أحاديث صحيحة قال فيها النبي : مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ؟. يجب الانتباه أيضا إلى أن الشيعة يعتقدون عن الإمام "محمد المهدي" أنه غاب في الغار، وهو حيٌّ وسيظهر قرب القيامة. وأما أهلُ السنة فيرون اعتقادَهم هذا باطلا، ويقدمون بهذا الصدد أحاديث أن النبي قال: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ. فيعتقد أهل السنة أن الإمام محمد المهدي قد مات، وأن إماما آخر سيُبعث باسمه في الزمن الأخير. أما مجيء المهدي فليس بأمر يقيني عند المحققين.
يبدو لي عند التدبر في هذا الموضوع أن الخلاف بين الشيعة وأهل السنة في هذه المسألة ليس ناتجا عن خطأ تاريخي، بل الحق أن روايات الشيعة تبدو مبنية على كشوف بعض السادات الأكارم الدقيقة. ولما كان الأئمة الاثنا عشر من المقدسين والصالحين العظام ومن الذين تُفتح عليهم أبواب الكشوف الصحيحة، لذا من الممكن، بل الأكثر معقوليةً أن يكون بعض أكابر الأئمة قد بيّنوا هذه المسألة بإلهام من الله بالأسلوب نفسه الذي بيّن به النبي ملاخي في كتابه عودة النبي إيليا. وكما هناك ضجة عن عودة المسيح، ولكن قد يكون مراد صاحب الكشف أن إماما آخر مثله سيأتي في زمن من الأزمان حاملا اسمه وقواه وصفاته تماما وكأنه قد أتى هو بنفسه، ولكن حين راجت هذه النقطة الدقيقة بين أصحاب الأفكار المادية، ظنوا نتيجة أفهامهم البليدة أن ذلك الإمام مختفٍ في الغار حقيقةً منذ مئات الأعوام وسيخرج في الزمن الأخير.
ولكن الواضح أن هذا الزعم ليس صحيحا، إذ من الأسلوب الشائع أنه عندما يأتي أحد بصبغة أحد وحاملا صفاته يقال: قد جاء هو نفسه. إن المتصوفين أيضا يعتقدون بهذه الأمور بوجه عام ويقولون إن أرواح بعض الأولياء السابقين تدخل في أولياء يأتون من بعدهم، ويريدون من قولهم هذا بأن بعض الأولياء يأتون بقوى وطبائع بعض الأولياء الآخرين وكأنهم هم.
السؤال 19: إذا كان المسيح ابن مريم مات في الحقيقة، فهل الفكرة الشائعة منذ 1300 عام والقائلة برفع المسيح إلى السماء حيا ثبتَ اليوم بطلانها؟
أما الجواب: فليكن معلوما أنه من الافتراء المحض القولُ بأنه قد اعتُقد منذ 1300 عام بالإجماع أن المسيح قد رُفع إلى السماء بجسده حيا. من الواضح أنه لو أجمع السلف والخلف على قول واحد لما أورد المفسرون أقوالا مختلفة. ولكن هل من تفسير يخلو من أقوال مختَلَف فيها بهذا الشأن؟ يقولون مرة بأن المسيح رُفع في حالة النوم، ويقال مرة أخرى إنه مات ورُفعت روحُه، وأحيانا أخرى يستخرجون - خطأً - من القرآن الكريم إذ يقولون: يجب أن يسبق قوله تعالى: رَافِعُكَ إِلَيكلمةَ مُتَوَفِّيكَ في الآية الكريمة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي[153]. فلو أجمعوا على قول واحد، لما جمعوا في تفاسيرهم أقوالا مختَلَفا فيها. وما داموا غير مستيقنين بقول واحد فأين الإجماع إذن؟
أما اعتراضهم بأنك أنت الوحيد الذي علمتَ هذا الأمر بعد 1300 عام، فجوابه أن هذا ليس بقول جديد في الحقيقة، بل إن ابن عباس كان أول مَن رواه. أما الآن فقد كشف الله تعالى عليّ حقيقة ذلك القول وأثبت بطلان الأقوال الأخرى ليُرِي كرامة عبده الضعيف بهذه الطريقة من حيث القول أيضا، وذلك كي يفهم العاقلون أن هذا الهدي الخاص إنما هو من الله ، لأنه إذا كان فهمه بمقدور فهمٍ أو عقلٍ عاديّ، لكان بإمكان الآخرين أيضا أن يبيِّنوا هذه الحقيقة مع جميع أدلتها التي ذكرتها في كتبي.
إلى هنا قد انتهت الأسئلة كلها، ولم يلحق بالحق والصدق أيّ ضرر، إلا أنه قد استبان وسطع أكثر من ذي قبل.
إن الذين سيقرؤون هذا الكتاب من البداية إلى النهاية سيستيقنون جيدا أنه ليس في أيدي خصومنا إلاّ الأوهام، وينهزمون من كل حدب وصوب، ويقدّمون كل مرة وهمًا أن نزول ابن مريم مذكور في الكتب، ولا يستوعبون كلامي حين أقول: أليس الله بقادر على أن يسمِّي أحدا ابنَ مريم بناء على بعض الصفات الخاصة؟ من الغريب حقا أنكم تسمُّون أولادكم بأسماء الأنبياء، بل تجمعون اسمين لنبيَّين في اسم واحدٍ لبعض أولادكم، مثل: محمد يعقوب، محمد إبراهيم، محمد مسيح، محمد عيسى، محمد إسماعيل، أحمد هارون، وغيرها. أما لو نادى اللهُ عبدا من عباده باسم من هذه الأسماء، أو أطلق على أحدٍ من مبعوثيه اسما من أسماء هؤلاء الأنبياء أو كُنية من كُناهم، فلا تُجيزونه في حق الله. ولا ترون أن النبي قد قال إنه سيأتي في الأمة أمثال أنبياء بني إسرائيل. أليس ضروريا أن يأتي هؤلاء الأمثال في الدنيا؟ ثم أيّ عيب إذا سمّى الله تعالى أحدا باسم "ابن مريم" لكونه مثيل المسيح؟ والقرينة بيّنةٌ وجليَّةٌ بأن الأموات لا يعودون إلى الدنيا ثانيةً، ولا يورد الله تعالى موتَتَينِ على الأنبياء. وقد قدّر وحكم أيضا أنه هيهات لمن مات وخلا من هذه الدنيا أن يعود إليها ثانية، فيقول تعالى: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ[154]. وقال أيضا: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى[155]. أيْ لا تصيب أهل الجنة موتة ثانية، بل قد أصابتهم الموتة الأولى وانتهى الأمر.
والذين يقولون: أليس الله بقادر على أن يُحيي المسيح الذي مات ويرسله مرة أخرى؟ فإنهم لا يعتبرون المسيح من أهل الجنة فيُجيزون له موتتينِ.
يا أيها السادة، لماذا تريدون أن تُميتوا المسيح مرة بعد أخرى لمحض التعصب لقولكم؟ ما ذنبه حتى يتعرّض لميتَتَين؟ ثم أين الدليل على هاتين الميتتين من القرآن والحديث؟ قدّموا لنا شيئا على الأقل. أما إذا كان المشايخ الذين يخالفوننا الرأي غير جاهزين للقبول مع كل ذلك، فلا ندعوهم إلى المباهلة لكونهم مخطئين، لأنه لو جازت المباهلة بين المسلمين بناء على خلافات داخلية لكانت النتيجة أن ينـزل عليهم العذاب، ولأبيد المسلمون كلهم نهائيا سوى شخصٍ معيَّن كان خِلوًا من الأخطاء كليًّا. فما دام ليس ذلك في مشيئة الله، فلا تجوز المباهلة بسبب الخلافات فقط. أما إذا كان خصومنا يعتبرون أنفسهم على الحق، ويوقنون فعلا أن المسيح ابن مريم الذي نزل عليه الإنجيل سينـزل من السماء في الحقيقة، فالسبيل الأمثل للحكم هو أن يجتمعوا في جمع حاشد ويدعوا الله تعالى بتضرعٍ وابتهالٍ مفرط لنـزول مسيحهم المزعوم. ولا شك أن دعاء جماعة الصالحين مجابٌ حتما، ولا سيما إذا كان بينهم الملهَمين أيضا. فلو كانوا صادقين لدَعوا حتما، ولنـزل المسيح أيضا حتما. وإنْ لم يكونوا على الحق - واعلموا أنهم ليسوا على الحق مطلقا - لما دعَوا قطعا، لأنهم يوقنون في قرارة قلوبهم أن دعاءهم لن يُجابَ، بل سيرُدُّون طلبي هذا بأعذار واهية لكي لا يتعرضوا للخزي والذلة.
وإذا قال قائل بأنه ليس ضروريا أن يُستجاب دعاء أهل الحق مقابل أهل الباطل، وإلا للزم أن يجاب دعاء المسلمين عن القيامة إزاء الهندوس وأن تحلَّ القيامة فورا. فجوابه أنه قد تقرّر مسبقا أن القيامة لن تقوم قبل مرور سبعة آلاف سنة. فلا بد أن يؤجِّلها الله ما لم تتحقق كافة علاماتها المذكورة في الأحاديث. غير أن وقت ظهور المسيح هو الوقت الراهن بعينه الذي شهد به ذلك الشيخ المرحوم أيضا الذي اعترف الشيخُ محمد حسين البطالوي بأنه مجدد. وقد ظهرت أيضا -كما أثبتنا في هذا الكتاب- جميع العلامات التي كان ظهورها ضروريا في عصر المسيح. فلو لم يُقبَل الدعاء بنـزول المسيح الآن أيضا، لثبت يقينا أن الدعاء كتحصيل الحاصل، لذا ما استُجيب.
يقول صديقنا الشيخ أبو سعيد محمد حسين في إحدى رسائله بأنه سيُثبت هذا الأمر (وفاة المسيح) عقلا. ولكن لا ندري ما الذي يقصده من "العقل" هنا؟ هل ينوي أن يصعد إلى السماء في منطادٍ ويُري الناسَ شعوذة؟ يجب عليه ألا يذكر "العقل" وإلا فهناك خطر أن ينهال عليه أصحاب الفلسفة الحديثة، بل عليه أن يقول بأن مَن استخدم العقل فقد كفر! إذا كان ينوي أن يقضي بعض الوقت معتنقا هذا الاعتقاد، فلا حَربة مفيدة له إلا حربة التكفير. أما نحن فنؤمن بأن الله تعالى ما خلق العقل في الإنسان سُدًى. فلو تجادل فريقان من المسلمين على مسألة فرعية واختلفا، وكان أحد الفريقينِ يدعمه العقل أيضا بالإضافة إلى أدلة شرعية ونصوص القرآن والحديث، لكان هو الصادق دون أدنى شك، لأن هناك شهادات كثيرة تؤيد ادّعاءه.
والآن يجب التدبر كيف يؤيد القرآن الكريم والأحاديث والعقلُ والتجربة موقفَنا في موت المسيح، ولا يدعم خصومنا شيء من هذه الشواهد. عندما يتوجه خصومنا إلى القرآن الكريم يقول لهم: اخسأوا فليس في خزائن حكمتي ما يؤيد موقفكم. ثم يتوجهون - محرومين من هناك - إلى الأحاديث، فتقول لهم الأحاديث: أيها القوم العصاة، ألقُوا علينا نظرة شاملة، ولا تكونوا مؤمنين ببعض وكافرين ببعض، لكي تعلموا أننا لا نعارض القرآن الكريم. وبذلك يقنطون من الأحاديث، ويُقبلون إلى أقوال السلف والخلف المختلفة، فيجدونها لا تتفق على قولٍ جامع، بل يجدون التفاسير مجموعة من الغث والسمين. وحين يريدون أن يروا ما معنى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ في التفاسير المبسوطة، يواجهون أولا وقبل كل شيء حديثَ ابن عباس الذي يقول بموت المسيح. ثم يسعون إلى العقل قانطين من القرآن والحديث، فيصوِّب العقل إليهم لطمة الحجة البيّنة، ويصرف وجوههم إلى جانب آخر. عندها يعودون إلى الضمير ونور القلب، فيدفعهم بعيدا ولا يسمح لهم أن يقتربوا منه. فأيّ حرمان أكبر من أنه لا يقبلهم شيء فلا يستطيعون أن يجدوا لهم موطئا في أي مكان!
ثم يسعون -شطارةً منهم- إلى أن يحجبوا الأدلة القرآنية البيّنة ويقولون: لقد جاء فعل "التوفِّي" بعدة معانٍ في المعاجم، ومع أنهم يعرفون جيدا في قرارة قلوبهم أن الكلمات التي يخصّها القرآن الكريم بمعانٍ معينة اصطلاحا، ويُفهِّم جيدا -ببيانه المتواتر- أنه إذا خصّ كلمة ما، بمعنًى معين؛ فإن صرف هذا المعنى عن تلك الكلمة - بناء على مجرد فكرة وورود معناها الآخر في المعاجم - ليس إلا إلحادا صريحا. فمثلا، في المعاجم قد أُطلق اسم "الكافر" على الليل المظلم أيضًا.
أما في القرآن الكريم كله فلم تُطلَق كلمة "الكافر" إلا على الكافر بالدين أو الكافر بالنعمة فقط. والآن، لو صرف أحد معنى "الكفر" عن المعنى المتداول والشائع في القرآن الكريم، وأراد منها الليل المظلم، ثم قدّم على موقفه دليلا أن هذا المعنى أيضا مذكور في المعاجم، فقولوا صدقا وحقا، بالله عليكم، هل يُعدّ منهجه هذا إلحادا أم لا؟
كذلك، إن كلمة "الصوم" لا يقتصر معناها -في المعاجم- على الصيام المعروف فقط، بل يُطلَق على البِيعة (كنيسة النصارى) أيضا، كما يُطلَق أيضا على روث النَّعام.
أما في مصطلح القرآن فلا يراد به إلا الصيام المعروف. كذلك ذُكرت للصلاة أيضا عدة معانٍ في المعاجم. أما في مصطلح القرآن الكريم فلا يطلَق إلا على الصلاة المعروفة، والصلاة على النبي والدعاء. ويعرف العلماء جيدا أن كل فنٍّ يكون بحاجة إلى مصطلحات معينة، وأن أصحاب هذا الفن يخصّون بعض الكلمات بمعنى واحدٍ معينٍ مجرِّدين إياها من معانيها العديدة الأخرى. خذوا فن الطبابة مثلا؛ فقد حُصرت وخُصِّصت فيها بعض الكلمات بمعنى واحد معين كمصطلح دون معانيها الأخرى الكثيرة. والحق أنه لا يستقيم أيّ علم دون وجود الكلمات الاصطلاحية فيه. فالذي لا يريد الإلحاد، فالطريق المستقيم له أن يستنبط من القرآن الكريم معاني متداولة ورائجة في القرآن وما اصطلح عليه القرآن الكريم، وإلا سيكون تفسيره تفسيرا برأيه.
وإذا قيل: إذا كان معنى "التوفِّي" - المتداول في القرآن الكريم- هو الموت فقط، فلماذا أورد المفسرون أقوالًا تتعارض مع هذا المعنى؟ فجوابه، أنهم ظلوا يكتبون معنى الموت أيضا باستمرار. لو لم يُجمِع قوم على هذا المعنى، فلماذا ظل هذا المعنى واردا في التفاسير منذ زمن النبي إلى اليوم مع مرور 1300 عام. فإن ورود هذا المعنى باستمرار دليل واضح على الإجماع على هذا المعنى منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا. أما القول: لماذا إذن نُقلت معانٍ أخرى في التفاسير؟ فجوابه أنه رأي خاطئ لبعض الناس. ويكفي لإثبات خطأ رأيهم أنه ينافي القرآن الكريم تماما، ويمكن القول أيضا؛ إن منهم من يزعم أن عيسى مات لثلاث ساعات أو سبع ساعات أو لثلاثة أيام، ثم رُفع إلى السماء بعد أن أُحيِيَ.
يتبين بإلقاء نظرة عابرة على هذا الرأي، أن الذين تبنَّوا هذا الرأي بدايةً لعلهم كانوا ينوون - كما ورد في بعض الأحاديث، وكما كتب المولوي عبد الحق الدهلوي في كثيرٍ من كتبه، وكما يعتقد المتصوفون - بأنه عندما يموت عبدٌ صالح ومقدس يُحيا بعد مماته، ويُعطَى بقدرة الله جسما نورانيا نوعا ما، وبه يسكن في السماء بحسب درجته؛ فلماذا نجعل من رفع المسيح قصة غريبة؟!
نحن نعترف أنه رُفع إلى السماء بجسد نوراني كما رُفع الأنبياء الآخرون، وقد أعطِي جسدا نورانيا، لذلك لم يعد بحاجة إلى الأكل والشرب والبول والتبرز. ولو كان في السماء بجسد مادي لكان ضروريا أن يكون له مطبخ ومرحاض هنالك أيضا، لأن الله تعالى قد جعل هذه الأمور كلها ضرورية للجسد المادي، كما يتبيّن من آيات القرآن البينات.
يا أيها المشايخ لما كان موت المسيح ثابتا من القرآن الكريم بوجه عام، وظل بعض الصحابة والمفسرين أيضا يذكرون موته منذ البداية إلى اليوم، فلماذا تتعصبون لرأيكم بغير حق. فدَعُوا إله النصارى يموت. حتّامَ تسمونه حيّا لا يموت؟ ألا يوجد لكلامكم هذا أية حدود؟ وإذا أصررتم متعصبين على أن المسيح ابن مريم قد مات فعلا، ولكن عادت روحه إلى الجسد المادي نفسه مرة أخرى، فهل عندكم من دليل على ذلك؟ وفي هذه الحالة سوف تعرِّضونه لميتتين. فأين ورد - ولهداية مَن، قيل - أن الله لن يكتفي بالموتة الأولى، ومع أنه قدّرَ موتة واحدة لكل شخص في العالم، أما المسيح المسكين، فسيعرِّضه لمعاناة موتة ثانية لذنب لم يرتكبه؟ هل عندكم من حديث أو آية من القرآن تتحدث عن موتتين. إنكم من ناحية تريدون أن تدفنوا جثة المسيح بإكرام بالغ؛ إذ تقولون إنه سيُدفن مع سيدنا رسول الله في قبره، ومن ناحية ثانية لا تفكرون بأي ذنب سيواجه ميتة ثانية؟
وليتضح أيضا أن دفنه في قبر النبي في الزمن الأخير، هو فرعٌ لقضية إثبات رفعه حيا بالجسد المادي أولا، وإلا لو افترضنا جدلا صحة الحديث الذي يعارض صراحة النصوص البينة، وحملناه على ظاهر معانيه، لكان من الممكن أن يكون هناك مثيل للمسيح يُدفن قرب روضة النبي ، لأنه ليس هناك شح للأمثال بحسب الحديث: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، كذلك يشير قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أيضا، إلى إمكانية وجود أكثر من مثيل. وإذا اعتبرنا الحديث استعارة - بشرط صحته - بناء على قرائن قوية، يمكننا أن نستنبط منه أنه إشارة إلى المعيّة والوحدة. فمثلا يودّ الإنسان ألا يكون حتى قبر عدوه قريبا من قبره، ويحب أن يكون قبر صديقه متصلا بقبره، وأمور كهذه تلاحَظ في الكشوف بكثرة.
قبل فترة من الزمن أُريتُ في المنام أني واقف بجانب قبر النبي ، وهناك أناس كثيرون ميِّتون، أو هم مقتولون، ويريد الناس أن يدفنوهم. وفي هذه الأثناء خرج من القبر شخص وفي يده قَصَبٌ، فكان يشير بالقصب إلى أرض معينة ويقول لكل واحد: هنا سيكون قبرك، حتى وصل إليّ، فأراني مكانا، ووقف بحذائي وأشار بالقصب إلى أرض ملتصقة بروضة النبي المباركة وقال: هنا سيكون قبرك. ثم استيقظتُ، وفسَّرتُ ذلك باجتهادي أن هذه إشارة إلى المعيّة في الـمَعَاد، لأنه إذا قرُب أحد من مقدَّس روحانيا بعد الممات، فكأن قبره أصبح قرب قبر ذلك المقدس. والله أعلم، وعِلمُه أحْكَم.
اعتراض نُشر في جريدة "نور أفشان" بتاريخ 23 نيسان/أبريل
لقد نُشر في مجلة "نور أفشان" دليل على صعود المسيح بأن هناك أحد عشر شاهد عيان على صعوده، وقد رأوه على مدى بصرهم صاعدا إلى السماء. فقد نقل المعترض العبارات التالية من سِفر أعمال الرسل تأييدا لدعواه:
الَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ * وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ. (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 1 : 3-4)
* وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. * وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ * وَقَالاَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ. (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 1 : 9 - 11)
إن القسيس المحترم فهِم من العبارة المذكوة آنفا بسعادة غامرة أن المسيح قد رُفع إلى السماء في الحقيقة بجسده المادي بعد الممات. ولكنه لا يدرى أن هذا بيانُ "لوقا" الذي لم يقابل المسيح ولم يسمع من تلاميذه شيئا، ففي هذه الحالة كيف يمكن الاعتداد ببيان شخص مثله؛ شهادتُه ليست شهادة عيان، ولا يذكر اسم أيّ شاهد عيان؟ وأضف إلى ذلك أن هذا البيان مبني على سوء الفهم كليًّا. صحيح أن المسيح مات في وطنه "الجليل"، ولكن ليس صحيحا مطلقا أن الجسد المدفون نفسه قد أُحيِيَ ثانيةً. بل العبارة الثالثة من العبارات المقتبسة أعلاه تبيّن بجلاء أن المسيح ظهر لتلاميذه في الكشف أربعين يوما. ولا يفهمنَّ أحد هنا أن المسيح مات مصلوبا، لأننا قد أثبتنا من قبل أن الله تعالى أنقذه من الموت على الصليب. بل يشهد (أَعْمَالُ الرُّسُلِ1: 3) على موت المسيح ميتة طبيعية أصابته في "الجليل"، وبعد هذا الموت ظهر لتلاميذه في الكشف أربعين يوما. إن الذين لا يدركون حقيقة الكشوف يتعثّرون في مثل هذه الأماكن كثيرا. ولهذا السبب قد اعتبر المسيحيّون المعاصرون والمحرومون من النور الروحاني عالَم الكشف عالَمًا ماديا.
والحق أن المقدسين والصالحين يُحيَون بعد الممات، ويظهرون في الكشف أحيانا كثيرة لأصفياء الباطن ومحبيهم، والكشف هو عالَم اليقظة بعينه. وأنا شخصيا صاحب تجربة في هذا المجال، إذ قد رأيت مرارا بعض المقدسين في اليقظة تماما. وهناك بعض درجات من الكشف لا أستطيع القول قط إن فيها شيئا من النعاس أو النوم أو الغفلة، بل تكون في يقظة كاملة، ويتم اللقاء في يقظة كاملة مع أناس خلَوا، ويجري الحديث معهم أيضا. والحال نفسه في رؤية الحواريين، إذ ظهر لهم المسيح ابن مريم أربعين يوما في الكشف بعد موته على إثر وصوله إلى "الجليل" بفترة وجيزة، ولم يروا في الكشف المسيح فقط، بل رأوا أيضا مَلكَين لابسَينِ لباسا أبيض، وهذا يدل بوضوح أكثر على أن المشهد كان كشفا. ولقد ورد أيضا في الإنجيل أنهم رأوا مرة موسى ويحيى عليهما السلام وكان ذلك في الكشف أيضا.
فباختصار، إن الكشف من الدرجة العليا يكون حالة اليقظة بعينها. وإذا كان هناك أحد من الذين لهم نصيب في هذا المجال فيمكننا أن نقنعه بكل سهولة، ولكن ما الذي يمكننا فعله إزاء الذين ليس لهم أدنى إلمام بهذه الأمور ولا يدركونها أدنى إدراك؟
لقد قلتُ مرارا وأكرر وأقول بأنه من الثابت المتحقق عند أصحاب الكشوف أن المقدسين والصالحين يُحيَون بعد الممات ويُعطَون جسما نورانيا نوعا ما، وبهذا الجسم يُرفعون إلى السماء. وقد جاء في بعض الأحاديث أن أطول مدة لبقاء المقدسين في الأرض بعد الموت هي أربعون يوما. ويقول النبي أيضا ما معناه أنه لا يلبث نبي في الأرض بعد موته أكثر من أربعين يوما بل يُرفع إلى السماء في أثناء هذه الفترة. وقال عن نفسه إني لا أظن أن الله تعالى سيُبقيني في القبر أكثر من أربعين يوما[156].
فيجب الاستيعاب جيدا أن رفع المسيح إلى السماء مع الجسد - الأمر الذي يصرخ به المسيحيون والمسلمون على حد سواء بأعلى صوتهم - لا يعني إلا ما سبق ذكره، ولا خصوصية للمسيح في ذلك، بل كل مقدس وصادق كامل، يُرفع بهذه الطريقة وحدها، وهذا الأمر من المسلَّمات والمشاهدات عند أهل الكشوف. لقد ورد ذكر رفع المسيح في القرآن الكريم لإثبات صدقه فقط، أما ما أُرِي تلاميذُ المسيحِ من رفعه في الكشف، فكان لتقوية إيمانهم، لأن رؤساء الكهنة والشيوخ والفريسيين في ذلك الوقت كانوا أيضا قد أصدروا فتوى التكفير ضد المسيح مثل المشايخ والفقهاء المعاصرين لنا، وكادوا ليُلقوا في القلوب الشكوكَ والشبهات بمكائدهم ومكرهم. ففتح الله تعالى عين الكشف لتلامذة المسيح، فرأوا أنه قد رُفع إلى السماء كالمقربين الخواص. ولو لم يكن ذلك كشفا، لرأى هذا المشهد أناس من غير أصحاب المعرفة، وأصحاب العقائد الفاسدة أيضا، لأنه لم يكن هناك مانع من أن يتردّد الآخرون على ذلك المكان. إذن، فالآخرون من الصادرين والواردين لم يقدروا على أن يروا ذلك لسبب وحيد، وهو أنّ ذلك كان كشفا. ثم ورد في العبارة 11 من العبارات المذكورة آنفا أن الملَكين الواقفينِ هناك قالا: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ." ففي ذلك إشارة دقيقة إلى أنه كما رأيتم المسيح صاعدا إلى السماء في عالم الكشف -الذي هو عالَـم مثيل لليقظة- كذلك سيعود بصورة مثيله كما جاء إيليا.
وليكن معلوما أن هذه التفاسير تصح فقط إذا قبِلنا أن تلك العبارات صحيحةً وغير محرَّفة، ولكن هناك صعاب كثيرة في قبولها. يعلم العارفون جيدا أن رفع المسيح إلى السماء لا يثبت قط من أية عبارة إلهامية في الإنجيل. أما الذين كتبوا شيئا تخمينا منهم وبغير رؤية عيان، فإن في بياناتهم - بالإضافة إلى خلوها من شهادة عيانٍ - تعارضًا كبيرا، بحيث لا يمكننا أن نأخذ أيًّا منها كشهادة.
كان من المحتوم أن يخرج المسيح الدجال من الكنيسة فقط
لقد ذكرتُ من قبل أنه كان هناك خلاف بين الأكابر في قرن الإسلام الأوّلِ في تعيين المسيح الدجال وتشخيصه، فكان بعض الصحابة يعتبرون أن ابن صياد هو المسيحُ الدجال بالقطع واليقين. فقد قال عمر أمام سيدنا رسول الله حالفا بالله أن ابن صياد هو الدجال (أي المسيح الدجال). ولأن "الدجال" لا يُطلَق إلا على المسيح الدجال، كذلك قال ابن عمر أيضا بكلمات صريحة إنّ ابن صياد هو المسيح الدجال. ولقد كتبتُ أيضا من قبل أنه يتبين من بعض الأحاديث أن ابن صياد قد مات في المدينة بعد إسلامه، وصلّى عليه المسلمون. ويقول البعض أيضا بأنه غاب، ولكن القول الأول هو الأرجح لأن خبر الموت يحتوي على علم قاطع ويقيني.
على أية حال، لما ثبت إسلام ابن صياد من حديث صحيح مسلم، ولم يثبت ارتداده، فإن ملاحقة مسلمٍ بهذه الطريقة وإطلاق كلمة "الدجال" عليه، ثم الإيقان أنّه ابن صياد نفسه - وهو من أصل يهودي - وسيعود إلى الكفر مجددا في الزمن الأخير، وسيخرج مدّعيا الألوهية؛ ليس مناسبا على الإطلاق حسب رأيي. بل هو اغتياب أخٍ مسلم بغير حق، ويقع تحت طائلة الآية: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[157]. وأضفْ إلى ذلك أنه لم تصدر عن ابن صياد فتنة أو فساد حتى في أيام كفره ليُعَدَّ بناء عليه عديم النظير في إثارة الفتن في زمنه، ثم حين دخل نورُ: "لا إله إلا الله" قلبَه، واستنار صدره بتصديق النبي ، لم يعد هناك سبب للشك والريبة في أمره. لا شك أن الأحاديث التي قيل فيها بالقطع واليقين بأن هذا الشخص هو الدجال، لغريبةٌ حقا، ولا نستطيع أن نفسِّرها بأية طريقة إلا أن نقول بأن الدجال الذي أُنبئ بخروجه في الزمن الأخير سيتحلى ببعض صفات ابن صياد أيضا. كما أن الصفات - من قبيل المكر والدهاء والغفلة والتجاسر والمخادعة - التي كان ابن صياد يتحلى بها في حالة كفره، ستوجد نفسها في الدجال المقبل أيضا، وكأنه سيكون مثيله، وستُوجَد فيه أيضا صفاتٌ وُجدت في ابن صياد أيام كفره، كما لو أنه مثيله، وسيلاحَظ فيه أيضا ما لوحِظ في ابن صياد في حالة الكفر.
أما الدجال الذي سيخرج من الكنيسة - وقد أورد عنه الإمام "مسلم" في صحيحه رواية عن فاطمة بنت قيس، فوُصف بكونه كيانا ضخما جدا ومصفَّدا بالسلاسل، وذُكرت جَسَّاسته أيضا، وأنه هو الدجال نفسه الذي رآه تميم الداري مربوطا بإحكام في كنيسة كائنة في إحدى الجزر، ويداه مربوطتان إلى رقبته - فيركِّز المشايخ كثيرا على هذا الدجال، ويقولون بأنْ هذا هو الدجال الذي سيخرج في الحقيقة في الزمن الأخير. ولم يذهب أحد إلى أن الدجال سيولَد في الزمن الأخير من بطن امرأة، بل ظل السلف والخلف يقولون متّفقين: إن الدجال المعهود كان موجودا في زمن النبي ، وسيخرج في الزمن الأخير بقوة متناهية، وأنه ما زال موجودا حيا في جزيرة من الجزر. غير أن فكرة كونه حيا ليست صحيحة قط. وإن حديثين في صحيح مسلم يستأصلان هذه الفكرة من جذورها. وفيما يلي هذان الحديثان:
فلو لم نفسِّر هذين الحديثين - وقد أقسم النبي في أحدهما - بكثير من التكلّف، لتبين منهما بوضوح تام أن الدجال الذي ورد بصدده ذكر الجَسَّاسة، مات أيضا مثل ابن صياد، وهو الذي يظن المشايخ أنه سيخرج في الزمن الأخير. بينما لو افترضناه حيا إلى اليوم، لاستلزم ذلك تكذيب أحاديث النبي المؤكَّد عليها. إن قول الدجال في الحديث: "إِنّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ" والذي يدل بوضوح أكثر على أنه هو المسيحُ الدجال، لهو أمرٌ يثير الشبهات ظاهريا فيما يتعلق بخروجه في الزمن الأخير. ولكن هذه الشبهات يمكن أن تزول بكل سهولة لو فهمنا الأمر على أن هذا الدجال المسيحي إنما هو بمنـزلة جَدٍّ أكبر لذلك الدجال الذي سيولَد في الفئة المسيحية وسيخرج من الكنيسة. والمعلوم أن الوارثَ والموروثَ منه في حكم واحد. ومن الممكن أيضا أن يكون هذا الكلام مبنيا على الاستعارات، وأن يكون المراد من السلاسلِ؛ الموانعُ التي حدَّت من نشاط الوعاظ المسيحيين في زمن النبي وكأنهم صاروا محصورين في مكان واحد مضطرين، وقد تكون في ذلك إشارة إلى أنهم سيخرجون في الزمن الأخير بقوة أكثر كما هو الحال في هذه الأيام.
هنا يجدر الانتباه أيضا إلى أن الدجال لم يدّعِ الألوهية بحسب الحديث المذكور آنفًا بل العبارة: "وَإِنّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ" تدل على أن الدجال مقِرٌّ بوجود الله تعالى. ولا توجد في الأحاديث كلمة توحي بأن الدجال - الذي ذُكرت الجساسة بصدده - سيدّعي جهارا نهارا عند خروجه الأخير بأنه خالق السماوات والأرض. ولكن يبدو أنه سيُقال له "إلـه" نظرا إلى استكباره، كما هي عادة الذين ينسون الله تعالى كليا ولا يتوجّهون إلى عبادته وطاعته قط ويحبون أن يناديهم الناس قائلين: "ربيّ، ربّي" ويطيعوهم كطاعة الله. وإنها الدرجة الأخيرة من الوقاحة والغفلة أن ينطوي قلبُ المرء على فكرة احتقار ربِّه . فمثلا، إذا كان هناك شخص غنِيٌّ يمتنع عن الصلاة معتبرا إياها فعلا سخيفا لا فائدة من ورائه، ويسخر من الصوم، ولا يعتبر عظمة الله تعالى شيئا يُعتَدُّ به، ولا يعتقد بمقاديره السماوية، بل يعتبر مكائده ومكره هو مدار النجاح كله، ويريد أن يخضع له الناس كخضوعهم أمام الله تعالى، ويستاء من طاعة الله ويعُدُّ أوامره أرذل مهانةً، ويعتبر أوامره الشخصية هي الجديرة بالتقدير، ويودّ أن يقدّم طاعة نفسه على طاعتهم لله ؛ فإنه يدّعي الألوهية في الحقيقة، مع أن هذا الادعاء لا يصدر منه قولًا، ولكنه يصدر عن لسان حاله حتما. بل الحق أنه يدّعي ذلك قولًا أيضا، لأنه يحب أن يناديه الناس: "ربّي ربّي". فيبدو أن ادعاء الدجال أيضا سيكون من هذا القبيل.
تبيّن مما سبق أنه سيأتي للدجال أيضا مثيل كما سيأتي للمسيح ابن مريم مثيل. أي ستكون هناك فئة تحمل في سيرتها وصفاتها صفات الدجال الأول. ولكن الحكمة الكامنة في اختيار هذا الأسلوب البياني - أي أنه سينـزل مثيل المسيح ويخرج مثيل الدجال - هي الكشف أن مجيء الدجال سيكون بلاءً وابتلاءً، أما مجيء المسيح فيكون نعمةً تنـزل نصرةً للمؤمنين بمشيئة الله الخاصة. وذلك مثل قول الله تعالى في القرآن الكريم بأننا أنزلنا لكم الحديد، وأنزلنا لكم الأنعام؛ أي قد خلقنا هذه الأشياء لفائدتكم رحمة منا. وأن كل ما يخرج من الأرض تصحبه الظلمة والكدورة، وأما الذي ينـزل من الأعلى يصحبه النور والبركة، وأن النازل من فوق يكون غالبا على ما تحته.
فالذي تحالفه البركات السماوية والنور السماوي؛ كان استخدام "النـزول" هو الأنسب لحاله ولذكر مجيئه. أما مَن سادتْ وجودَه ظلمةٌ أرضية وخبثٌ وكدورة، فتناسبه كلمة "الخروج"، لأن الأشياء النورانية تنـزل من السماء، فتتغلب على الظلمة.
ولقد تبين الآن من هذا البحث أنه كما سُمِّي مثيلُ المسيحِ "المسيحَ ابن مريم" نظرا إلى كونه محظوظا بروحانية المسيح ابن مريم، وكونه قد أقام وجود المسيح باطنيا؛ كذلك إن الدجال الذي مات في زمن النبي ، قد حل محلَّه - في هذا الزمن الأخير- ظلُّه ومثيلُه، وخرج من الكنيسة وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها. وبهذا البحث تثبت بقوة أكبر من ذي قبل، فكرة المثلية الدائرة والسارية في كِلا المسيحَينِ: الطيِّبِ والخبيث.
إذا قيل: لم يُذكَر في الأحاديث إلا نزول المسيح ابن مريم فقط، وخروج الدجال، فلماذا تُقرن معهما كلمةُ "مثيل"؟ أليس ذلك إلحادا؟
فجوابه أني قد أثبتُّ بالنصوص القطعية والبيّنة أن المسيح ابن مريم الذي نزل عليه الإنجيل قد مات، وكذلك مات الدجال أيضا، ولا يوجد أدنى ذكر لعودتهما إلى الحياة، لا في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الشريفة، بل الآيات البينات ترفض عودتهما إلى الدنيا بمنتهى الشدة. فماذا نفعل في هذه الحالة لو لم نستنبط أن المراد من المسيح الآتي والدجال؛ هو مثيلاهما؟ أما لو وردت في الأحاديث الشريفة كلمات تقول بأن المسيح ابن مريم الذي نزل عليه الإنجيل ومات من قبل، وكذلك الدجال الذي كان مكبلًا في جزيرة وكان معه جساسة؛ سيُحييان ويعودان إلى الدنيا في الزمن الأخير، لما بقي مجال لأي تأويل أو تفسير. أما الآن، فإن التأويل ليس جائزا فحسب، بل هو واجب. ولما كان ضروريا أن يأتي أحد باسم "ابن مريم" بحكم الحديث القائل: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فكان من الواجب أيضا أن يأتي مَن هو من الأمة حقًا، وليس نبيا على وجه الحقيقة. لذا كان ضروريا أن يُبعث - بدلا من ابن مريم الحقيقي - أحد من الأمة متصبِّغًا عند الله بصبغة ابن مريم. فقد أرسل الله تعالى مثيل المسيح ابن مريم في وقت مناسب تماما، وبواسطة هذا المثيل برهن على أن المسيح ابن مريم قد مات في الحقيقة، وأماط اللثام عن جميع الأدلة في هذا الباب.
ولو ورد في القرآن الكريم فعلا - بافتراضِ المحال- أن المسيح قد رُفع إلى السماء حيا- بخلاف سنة الله الجارية في بني آدم جميعا، وسيعيش إلى قرب القيامة- لوجد المسيحيون أسبابا قوية لإغواء الناس. فنِعْمَ ما حصل أن مات إله النصارى، والدليل الذي هاجمتُ به - كوني من الله، وبصفتي المسيح ابن مريم - ليس أقل تأثيرا من طعن الحربة في هؤلاء الدجالين الذين أُعطُوا الطيبات ولكنهم خلطوا بها الخبائث، وقاموا بما كان سيقوم به الدجال.
والآن بقي سؤال قابل للتحليل هو: إن المسيح ابن مريم سيأتي ليتصدى للدجال، فإذا كنتَ قد جئتَ بصفة المسيح ابن مريم، فمن هو الدجال مقابلك؟
فجوابي على هذا السؤال هو أنني أُقرُّ أنه من الممكن أن يأتي بعدي "مسيح ابن مريم" آخر، وأن يكون موعودا أيضا بحسب بعض الأحاديث، وكذلك أن يأتي دجالٌ أيضا يعيث الفتنة والفساد في المسلمين، ولكنني أعتقد أنه لم يُخلَق إلى الآن دجالٌ مثل القساوسة المعاصرين، ولن يُخلَق مثلهم إلى يوم القيامة. ولقد ورد في حديث في صحيح مسلم: عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله يقول: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَىَ قِيَامِ السّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدّجّال". فأولا يجب الانتباه إلى أن الدجال يطلَق في اللغة على فئة الكاذبين الذين يُلبِسون الحق بالباطل، ويمكرون مكرا كُبَّارا، ويقومون بأعمال التلبيس لإضلال خلق الله.
والآن أقول بكل تحد: بحسب ما جاء في حديث صحيح مسلم - الذي نقلته قبل قليل- لو ألقينا نظرة شاملة - مستعينين بكافة الوسائل المتاحة لنا منذ زمن آدم ولغاية اليوم- على حالة جميع الناس الذين حملوا على عاتقهم مهمة الدجل والتلبيس، لما وجدنا لدجل القساوسة المعاصرين نظيرا أبدا. فقد وضعوا أمام أعينهم مسيحا مزعوما وافتراضيا، وجعلوه حيًّا، ويدّعي الألوهية حسب زعمهم. ولكن الحق أن المسيح ابن مريم لم يدّع الألوهية قط، بل هؤلاء القوم هم الذين ينسبون إليه ادعاء الألوهية من عندهم، زاعمين أنفسهم محاميْه. ولم يدّخروا جهدا في التحريف في سبيل ترويج هذا الادعاء، وما تركوا للتلبيس بهذا الصدد حيلة إلا ونفّذوها. وهل من مكانٍ لم يصلوه ما عدا مكة والمدينة؟ وهل من خطة للخداع والمكر والإضلال والإغواء لم يقوموا بها؟ أليس صحيحا أن هؤلاء القوم قد أحاطوا بالعالم كالدائرة، بخططهم الدجالية؟ فحيثما ذهبوا وأقاموا مركزهم، قلبوا الأوضاع رأسا على عقب. إنهم يملكون الثروة، وكأن كنوز الدنيا تتبعهم.
ومع أن الحكومة الإنجليزية لا تُهمُّها أمورُ الدين شيئا، بل هي مهتمّة بإدارة أمور السلطنة، ولكن للقساوسة أيضا سلطنة منفصلة تملك أموالا تفوق العدّ والإحصاء، وتنشر لحمتها وسداها في الدنيا كلها، وتستقطب نوعا من الجنة والنار. فمن أراد الانضمام إلى دينهم كُشفت له تلك الجنة، ومن عارضهم هُدّد بالنار. وفي بيتهم كمٌّ هائل من الطعام وكأن جبال الخبز تتبعهم حيثما ذهبوا وحلُّوا. وإن كثيرا من المرتزقة يُفتَنون بخبزهم البراق، ويشرعون بالترديد: "ربنا المسيح". فما من علامة من علامات المسيح الدجال إلا وتوجد فيهم؛ فمِن وجهٍ يُحيُون الأموات، ومِن آخَر يميتون الأحياء، فليفهم الفاهمون. ولا شك أنهم ينظرون بعين واحدة هي العين اليسرى. ولو نظروا بالعين اليمنى لخافوا الله تعالى، ولامتنعوا عن إعلان الألوهية.
والصحيح أيضا أنه قد ورد ذكر هؤلاء القوم الدجالين في الكتب السابقة، وقد أكثر المسيح ابن مريم أيضا من هذا الذكر في الإنجيل، كما يوجد الذكر نفسه في الصحف السابقة أيضا بكثرة. ولا شك أنه كان ضروريا أن يحدث كذلك تماما، وأن يُنبئ كل نبيّ مسبقا بمجيء هذا المسيح الدجال. لذا فقد أنبأ عنه كلهم؛ إما تصريحا أو إجمالا، إشارة أو كنايةً، إذ يوجد خبر عن هذا المسيح الدجال بدءا من زمن نوح إلى زمن سيدنا ومولانا خاتَم الأنبياء الميمون، وهذا ما أستطيع إثباته بالأدلة.
من ذا الذي يستطيع أن يحيط بمدى الأضرار التي لحقت بالإسلام على يد هؤلاء القوم، ومدى ما أدمَوا الحق والعدل. لم يكن لهذه الفتن جميعها أثر يُذكر قبل القرن الثالث عشر للهجرة المقدسة، ولكن ما أن انتصف هذا القرن ونَيِّف، إلا وخرجت هذه الطغمة الدجالية فجأة، وأخذت في التقدّم، وقد بلغ عدد المتنصرين في أواخر هذا القرن في الهند وحدها؛ نصف مليون نسمة، وذلك على حد قول القسيس "هيكر". وقُدّر عدد الذين ينضمون إلى المسيحية - فينادون العبد العاجز إلها - بمائة ألفٍ كل اثني عشر عاما. ولا يخفى على العارفين، أن جماعة كبيرة من المسلمين، أو بتعبير آخر، فئة من صعاليك الإسلام من ذوي البطون الجائعة والأجسام العارية؛ استحوذ عليهم القساوسة بما لوّحوا لهم به من الرغيف والثوب. ومن لم يطمع في رغيفهم افتتنوه بالنساء. ومن لم يقع في شَرَكهم بهذه الطريقة أيضا، نشروا للكيد به فلسفة الإلحاد واللادينية، التي وقع فريستها حتى اليوم ألوف من الناشئة من أبناء المسلمين؛ ممن يسخرون من الصلاة، ويستهزئون بالصوم، ويرون الوحي والإلهام أضغاث أحلام. أما من قصر باعه عن دراسة الفلسفة الإنجليزية، فقد ألّفوا ونشروا لتضليله قصصا كثيرة ملفقة، نسجها القساوسة بكل سهولة، وهجوا فيها الإسلام بأسلوب روائي أو تاريخي. كما ألّفوا ما لا يُحصى من الكتب للطعن في الإسلام ولتكذيب سيدنا ومولانا ونبينا ، ووزعوها في كثير من أنحاء العالم مجّانا، ونقلوا أكثرها إلى لغات عديدة، وقاموا بنشرها. راجِعوا في ذلك فتح الإسلام: حاشية الصفحة 46 تجدوا أنهم ألّفوا ووزعوا مجانا ما يربو على سبعين مليونا من الكتب لنشر أفكارهم المليئة بتلبيساتهم خلال إحدى وعشرين سنة، وذلك لكي يرتدّ عن الإسلام أهله، ويؤمنوا بالمسيح إلها.
فالله أكبر! إن لم يكن هؤلاء في نظر قومنا الدجّال من الدرجة الأولى، وإن لم تكن ثمة حاجة إلى مسيح صادق لرد مكائدهم، فماذا عسى أن يكون مآل هؤلاء القوم يا تُرى؟
أيها الغافلون، انظروا كيف يبذلون جهودًا جبارة لهدم بناء الإسلام، وكيف هيأوا لذلك وسائل كثيرة، وكيف رخصت في سبيل هذا الهدف أرواحهم، وأنفقوا المال بدون هوادة كالماء، ونفّذوا كل حيلة، حتى لجأوا إلى حيل منكرة خبيثة. واخترعوا أنواع الألغام لنسف بناء الحق وصرح الإيمان، وأوجدوا بكل جهد ومشقة دقائق الحيل من كذب وخداع لمحو الإسلام. وألّفوا لهذا الغرض آلاف الكتب المحتوية على قصص ومباحثات هي محض افتراء، ليتركوا تأثيرا سلبيا على القلوب بهذه الطريقة إن لم تنجح طرقهم الأخرى. فقد اختاروا أسلوب قُطّاع الطرق. وهل من سبيل للإضلال والإغواء لم يبتكروه؟
فمن الواضح أن هذه؛ هي أعمال السحر والشعوذة التي تقوم بها الأمم المسيحية ومناصرو التثليث، وهي نموذج كامل للسحر، ولا يمكن ظهورها إلا من دجال من الدرجة الأولى، ألا وهو الدجال المعهود. فلا بد من اعتبار هؤلاء القوم - الذين هم فئة القساوسة- دجالا معهودا. وحين نُجيل البصر في معظم ما مضى من عمر الدنيا، ينقلب إلينا البصر بشهادة استقرائية؛ أننا لا نجد لهؤلاء القوم نظيرا في الصفات الدجالية ونجاحها قدرَ ما يمكننا العثور عليه في الأزمنة الغابرة، ولا يساويهم أحد في أعمالهم المبنية على السحر والشعوذة. وما دامت هذه هي علامة الدجال المذكورة في الأحاديث الصحيحة؛ حيث قيل إنه سيُحدث فتنا من هذا القبيل، ولن يوجد له نظير منذ بدء الخليقة، فلا بد من القطع واليقين بأن المسيح الدجال الذي يخرج من الكنيسة، ليس إلا هؤلاء القوم الذين كانت هناك حاجة لمعجزة مقابل سحرهم. وإذا رفضتم قولي هذا فأتوا بنظير لهم من الدجالين في الأزمنة الغابرة.
وهناك سؤال يُطرح: لا بد أن يكون خروج الدجال، قبل مجيء المسيح ابن مريم، فأين هو الدجال؟! والحق أن جوابه بيِّن، وقد بلغ مبلغ الثبوت أن المسيح الدجال الذي يُنتظَر مجيئه، إنما هو فئة هؤلاء القساوسة الذين انتشروا في العالم مثل الجراد.
فيا أيها الكرام، ها هو الدجال المعهود الذي قد خرج، ولكنكم لم تعرفوه. خذوا الميزان في أيديكم وزِنوا بالقسطاس المستقيم وانظروا؛ هل يمكن أن يخرج دجال أكبر منهم وأكثر منهم مكرًا وخديعة؟ تقدّمون مرارا، حديثًا عن الدجال الذي تتوهمونه، وتقولون إنه سيعيث فتنة كبرى، حتى يؤمن به سبعون ألف مسلم، أما الآن فقد هجر الإسلامَ آلافُ الآلاف من الناس، ولا يزالون يهجرونه. إن نساءكم وأولادكم وأصدقاءكم الحميمين، وأولاد كبرائكم وأوليائكم، وأفراد عائلات محترمة فيكم؛ ينضمون إلى هذه الديانة الدجالية. ألا يشكّل هذا الموقف مأتما كبيرا للإسلام؟
تأمّلوا، إلى أيّ مدى تطاولت فتنهم، وكيف بلغت مساعيهم أوجها! هل من كيد أو مكر ادّخروه للهجوم على الإسلام؟ لقد نشروا لهذا الغرض ملايين الكتب في البلاد، ونشروا آلاف الوعّاظ والدعاة في كل مكان للغرض نفسه. ينفقون النقود في هذا السبيل بالبلايين، يصلون بعبورهم سبلا وعرة، واجتيازهم جبالا شاهقة خطيرة، إلى من يعيشون في بلاد ياغستان، وكافرستان كالوحوش وإلى أناس في صحاري أفريقية. وللغرض نفسه يختارون أسفارا بريّة وبحريّة لكي يوقِعوا الناس في شراك تزويرهم. إن مراكزهم تجمع في طياتها جميع المكائد التي نسجها الناس على اختلافهم من زمن آدم إلى الآن في الدنيا كلها. ولو فكّر أحد لمدّة عام كامل وأوجد مكائد جديدة للإضلال والإغواء ثم تأمل في الموضوع، لوجد تلك المكائد كلها في هذه المراكز.
وفي عدة أماكن امتهن هؤلاء مهنة الطب أيضا، ليُغْوُوا المرضى البؤساء على الأقل عن طريق المعالجة. يشترون الكميات الكبيرة من الغلال ليوزعوها مجانا على المعوزين عند القحط والمجاعة، ويبشروهم بدينهم أيضا مستغلين هذه الفرصة. وقد شوهد في كثير من الأماكن أن القساوسة يفتحون أبواب الصدقات على مصاريعها يوم الأحد، فيجتمع حولهم كثير من المساكين، فيقومون بوعظهم أيضا قدر الإمكان قبل أن يوزعوا عليهم النقود. وإن الكثير من الراهبات المبشِّرات يزرن البيوت صباح مساء بانتظام، ويقمن بتعليم بنات الأشراف النبلاء فنون الخياطة والتطريز وغيرها، متأبطات في الوقت نفسه خناجر الإغواء والتضليل التي يستعملنها عند سنوح الفرص. فكم من فتيات شريفات من أسر مسلمة عريقة؛ كالسادات والشيخية والمغولية والأمراء والسَّراة، دخلن في الديانة المسيحية بسعي تلك الراهبات. وكم من محجَّبات شريفات لم يريْن وجه رجل أجنبي طوال عمرهن، أصبحن بإغوائهن يمرحن الآن في الأسواق واضعات أيديهن في أيدي غير المحارم من الرجال، ولا يأنفن إذا قبّلهن الأجنبي باسم الحب الطاهر. لم يكنّ يسمعن حتى باسم الخمر سابقًا، ولكنهن أصبحن الآن يعاقرن الخمر الخبيثة ليل نهار، ويحفظن أسماء عدة أنواع من الخمور مثل "براندي" و"شيري" و"وسكي" و"رم" و"بورت". كما أن ألوفا من اليتامى من أبناء المسلمين قد أصبحوا اليوم من ألد أعداء الإسلام بعد أن وقعوا في قبضتهم، وتعلّموا تلبيساتهم. أرأيتم؟ هل يُتَصَوّر طريق من طرق الفتنة لم يسلكوه، أو هل من كيد لم يعملوا به لمحو الإسلام والقضاء عليه؟
أنصفوا الآن، إن هؤلاء القوم يحتلون في التزوير والتلبيس والدجل المرتبة الأولى بين الناس جميعا منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، ولا يُعثرُ على نظيرهم على وجه المعمورة في إفشاء وباء كهذا من أول يوم إلى الآن، وتأثيراتهم السامة قد أهلكت بعض الناس بالكامل، وجعلت أنصاف أجساد بعضهم كالمفلوجين، وأفسدت دم بعضهم كالمجذومين؛ فتتراءى بصمات الجُذام الكبيرة في وجهوهم، وقد مسحوا عيون البعض بأيديهم، فجعلوهم لا يرون شيئا، وكذلك تزداد جماعة العميان بالولادة أيضا بسبب انتشار ذرية هؤلاء المتنصرين الجدد، وتثور أرواح خبيثة في عشرات ملايين الناس من ذوي الطبائع المظلمة.
وباختصار، فإنه نتيجة هبوب الرياح المتسببة في نشر هذا الوباء، قد حل الزمان الذي تراءى فيه للعيان ملايين من المجذومين، وملايين من العميان بالولادة، وملايين من المفلوجين، وملايين الجثث العفنة المتآكلة. فأكرر وأتساءل: ألم يكن ضروريا أن يأتي لنجدتهم المسيح ابن مريم محيي الأموات؟ وما دام هذا المسيح الدجال قد خرج، أفلم يكن ضروريا أن يأتي المسيح ابن مريم؟
تثار في هذا المقام شبهات أن الدجال سيكون أعور، وأن يأجوج ومأجوج سيظهران في العصر نفسه، وستخرج دابة الأرض، وسيأتي الدخانُ، وستطلع الشمس من مغربها، وسيظهر الإمام محمد المهدي أيضا في العصر نفسه، وستصحب الدجال جنةٌ ونار، وتصحبه أيضا كنوز الجنة وجبال الخبز. وسيظهر حمار الدجال الذي سيُري الشعوذات، وستطيعه السماوات والأرض، فيُنـزِل المطر على قوم يشاء، وسيُهلك من يشاء بالجفاف والقحط. وفي الأيام نفسها سيكون أقوام يأجوج ومأجوج حائزين على تقدم ملحوظ، ومسيطرين على الأرض، وهم من كل حدب ينسلون. وسيكون الدجال شخصا ضخما جسيما أحمر اللون؛ ولكن أين كل هذه العلامات؟
وفيما يلي أُجيب تباعًا على هذه الشبهات: إن المراد من الأعور ليس بالأعور في الحقيقة، إذ يقول الله جلّ شأنه في كلامه المجيد: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى[158]، فهل المراد من العَمى هنا هو العَمى المادي؟ كلا، بل المراد هو العمى الروحاني؛ بمعنى أن الدجال سيكون مفتقرا إلى الذكاء الديني، وإن كان عقله الدنيوي حاذقا جدا، وكان حكيما، وقام بأعمال غريبة وكأنه يدّعي الألوهية، ولكن ستنقصه عين الدين كليًا، كما هو الحال لدى أهل أوروبا وأميركا في هذه الأيام، حيث أوصلوا الأمور الدنيوية منتهاها. وكلمةُ "كأني" في الحديث أيضا، تدلّ على أنه كشفٌ وبحاجة إلى تفسير كما أشار إليه ملا علي القاري. أمّا يأجوج ومأجوج؛ فهما قومان حازا على التقدم والازدهار في الدنيا، أحدهما الإنجليز والآخر الرُّوس. وهذان القومانِ ينسلون من كل حدب.. أي ينالون الانتصارات بقدرات وهبهما الله إياها. أما المسلمون فقد أسقطهم سوء تصرفاتهم في الحضيض. وأما هذان القومان فقد أحدثت حضارتهم وحكمتهم وهمتهم وثباتهم ومبادئهم الاجتماعية السامية - بأمر الله القادر وحكمته - ازدهارا وتقدما. وقد ورد ذكر هذين القومين في الكتاب المقدس.
وأمّا دابة الأرض؛ فليس المراد أنها حيوان لا يعقل، بل هي الإنسان بحسب قول سيدنا علي [159]. والمراد من دابة الأرض هنا طائفة من الناس الذين ليس فيهم روح سماوية، ولكنهم يُفحمون منكري الإسلام بالعلوم والفنون الأرضية، ويبذلون علم الكلام وأساليب المناظرة في سبيل تأييد الدين، ويؤدون خدمة الشريعة الغراء قلبا وروحا. ولكنهم ما داموا أناسا ماديين حقيقةً وليسوا سماويين ولا يملكون روحا سماوية كاملة، فيُدعَون دابة الأرض. وما داموا غير حائزين على التزكية الكاملة والوفاء الكامل، فإن وجوههم وجوه الناس، أما بعض أعضائهم فتشبه أعضاء الدواب. وهذا ما أشار إليه الله جلّ شأنه في قوله: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ[160]، أي حين يحلّ العذاب بالكفار ويقترب أجلهم المقدَّر، عندها نُخرج من الأرض فئةً؛ هي دابة الأرض، وهي فئة المتكلِّمين الذين سيهاجمون جميع الأديان الباطلة تأييدا للإسلام، أي أنهم سيكونون علماء الظاهر، وذوي كعب عالٍ في علم الكلام والفلسفة. فسيهُبُّون هنا وهناك في تأييد الإسلام، وينشرون حقائق الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بالاستدلالات.
ولقد استُخدمت كلمة أَخْرَجْنَا هنا للإشارة إلى أن خروجهم - وليست نشأتهم- سيتم في الزمن الأخير؛ بمعنى أنهم سيكونون موجودين في كل زمن كبذرة، أو بعدد ضئيل، أما في الزمن الأخير فسيخرجون بكثرة وبكمال ملحوظ، ويحتلّون في تأييد الإسلام منصب الوعاظ في كل مكان تقريبا، ويكثر عددهم. فليكن معلوما أيضا أن كلمة "الخروج" وردت في القرآن الكريم عن يأجوج ومأجوج أيضا بأسلوب آخر، كما وردت في القرآن الكريم عن الدخان كلمة شبيهة لها وتعني الخروج، وكذلك استُخدمت في الأحاديث كلمة "الخروج" للدجال أيضا.
فالسبب في استخدام هذه الكلمة هو الإشارة إلى أن الأشياء التي ستظهر في الزمن الأخير لن تكون معدومة تماما في الأزمنة الأولى، بل سيكون وجودها ملحوظا ومتحققا في بعض الناس من قبل أيضا نوعا ما، أو كمثيل، وسيكون شبيها ومماثلا لهويتها الموجودة من قبل. ولكن وجودها هذا سيكون متسما بحالة من الضعف والفشل نوعا ما. أما وجودها الثاني الذي أُشيرَ إليه بكلمة "الخروج"، فسيكون بجلال؛ أي سيكون خاليًا من الضعف الذي كان في الوجود الأول، بل سيظهر بقوةٍ قد أشير إليها بكلمة الخروج. فبناء على ذلك قد وُجدت بين المسلمين فكرةٌ أن المسيح الدجال موجود منذ زمن النبي ، ثم ترسّخ في أفكارهم خطأً بأنه لا يزال - مثل المسيح ابن مريم - حيًّا إلى الآن، ومكبَّلا ومصفَّدا في جزيرة ما، ويحسبون أن جساسته أيضا ما زالت حية وتوصِل الأخبار إليه. الأسف كل الأسف على تورطهم - لسوء فهمهم حديث رسول الله - في أخطاء فادحة، ومصائب لا قِبل لهم بها.
كذلك يحسبون يأجوج ومأجوج أحياء بالوجود المادي، أي يقولون ببقاء شخصهم. إذن، فلما كان الدجال وجساسته، ويأجوج ومأجوج وعشرات ملايين من الناس، ودابة الأرض، وبحسب قول بعضهم ابن صياد أيضا، لا يزالون أحياء إلى الآن؛ فلو لم يكن المسيح حيًّا، لكان ذلك إساءة في حقه. وفي رأيي أن الطريق الأسهل لهم لإثبات موقفهم؛ هو أن يجوب المشايخ الكرام بعض الفلوات والبراري، فيقبضوا على أحد من رجال يأجوج ومأجوج أو جساسة الدجال أو ابن صياد نفسه، ويأتوا به على الملأ، فيكون نِعْمَ العمل، وسيؤمن الجميع فورا بأن المسيح أيضا موجودٌ حيا في السماء على المنوال نفسه، وبذلك سينال المشايخ الفتح مجانا!
فتفضلوا أيها المشايخ الكرام، وشمروا عن سواعدكم وابطشوا على الأقل بجساسة الدجال الشرير، ولا تفتر عزيمتكم؛ لأن كل هذه الأشياء موجودة على الأرض على أية حال! فاقرأوا حديث تميم في صحيح مسلم، وتجسّسوا جسّاسة الدجال مسترشدين به، وانظروا الدجال الخبيث بأم أعينكم مكَبَّلا بالسلاسل ثم أروه الآخرين. فما أجملَ هذا الأمر!
لقد اجتهد الإنجليز واكتشفوا عالَما جديدا، فما عليكم إلا أن تحرزوا نجاحا في هذه العملية البسيطة لعلّكم تعثرون على أحد ممن ذُكروا آنفا. فلو همَّ المرء لإنجاز مهمة، لتحولت الأشواك إلى باقة زهور. وإن لم تفعلوا ذلك، فمِن مصلحتكم أن تتخلوا عن تلك الأفكار السخيفة.
لقد قال النبي حالفا بالله: "أُقْسِمُ بِاللهِ؛ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ." ولكنكم تزعمون، بغير حق، أن كل تلك النفوس المنفوسة حية إلى اليوم. إن الزمن الراهن هو زمن التحقيق والتدقيق، فلا ترسموا إسلامًا يضحك عليه كل صغير وكبير. تدبروا وتأمّلوا جيدا؛ في أيّ بلد وأية مدينة يسكن هؤلاء الناس الذين يبلغ عددهم الملايين وظُنّ أنهم ما زالوا أحياء، ولا يكادون يموتون؟
من اللافت حقا ألا يتم العثور على الجساسة والدجال وابن صياد مفقودِ الخبر، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج وملايين الناس، وقد كُشِفَت حقيقة المعمورة كلها، وعُلم كل شيء بوضوح تام عن الجبال والجُزر، وأبلغ المحققون تحقيقهم ذروة كماله، فاكتشفوا عمرانا لم يكن معروفًا منذ زمن بدء الخليقة!
فاعلموا يقينا أيها الكرام، أن جميع هؤلاء النفوس المنفوسة الذين كانوا من نوع البشر قد رحلوا من الدنيا، واختفوا في طيات الأرض، والحديث الوارد في صحيح مسلم الذي يتحدث عن "مِائَة سَنَةٍ" أذاقهم جميعا جام الموت بجلال صدقه. وإن انتظاركم إياهم ليس سوى سوء الفهم. فاقرأوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، واعتبروهم ميِّتين.
وإذا انتابكم الظن فيما ورد في الأحاديث النبوية من وعد بخروجهم، وقلتم؛ ما معنى ذلك في هذه الحالة؟ فاعلموا أن معناه الحقيقي الذي كشفه الله جلّ شأنه عليّ هو أن المراد من ذلك هو الظهور الجلالي لكل تلك الأشياء في الزمن الأخير بصورة أمثالها. فمثلا، شوهد الدجال في أول الأمر على أنه مكبَّل في السلاسل وضعيف للغاية بحيث لا يقدر على أن يهاجم أحدا، أما في هذا الزمن الأخير فقد خرج دجالُ حملةِ المسيحيةِ متصبِّغًا بصبغة الدجال نفسه، وبقوة أكبر، وكأنه هُوَ هُوَ، مع وجوده المثيلي والظلي. لقد شوهد في الزمن الأول مكبَّلا في كنيسة، أما الآن فقد تحرّر من ذلك الأسر وخرج من كنيسة النصارى، ويعيث الآن فسادا وينشر الآفات في الدنيا.
اسمعوا الآن عن يأجوج ومأجوج، إنهما قومان قديمان لم يحوزا غلبة بيِّنة على غيرهم في الأزمنة الغابرة إذ كانت حالتهم تتسم بشيء من الضعف. ولكن الله تعالى يقول بأنهما سيخرجان في الزمن الأخير؛ أي سيظهران بقوة جلالية كما يقول في سورة الكهف: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ[161] أيْ أن هذين القومين يتغلبان على الآخرين أولا، ثم يهاجمان بعضهما بعضا، وسيرزق الله الانتصار لمن يشاء. ولما كان المراد منهما أمة الإنجليز والروس، فعلى كل مسلم أن يدعو لانتصار الإنجليز في هذه المعركة لأنهم أحسنوا إلينا. وإن للسلطنة البريطانية علينا أيادي بيضاء كثيرة. إنه لجاهل وغبي من يَكِنُّ من المسلمين في قلبه حِقدا تجاه هذه الحكومة. ولو لم نشكر هذه الحكومة لما شكرنا الله تعالى، لأننا وجدنا في ظل هذه الحكومة راحة ما كنا لنجدها في كنف أية حكومة مسلمة قط.
كذلك إن دابة الأرض، أي العلماء والواعظين الذين لا يجدون في نفوسهم قوة سماوية، ما زالوا موجودين منذ البداية، ولكن ما يقصده القرآن الكريم هو أن كثرتهم في الزمن الأخير ستتجاوز الحدود. والمراد من خروجهم هو كثرتهم.
هناك نقطة أخرى جديرة بالذكر أيضا أنه كما وردت كلمة "الخروج" بحق الأشياء التي لا تملك القوة السماوية وستظهر بكل حماس وقوة في الزمن الأخير، فقد وردت كلمة "النـزول" في الأحاديث بحق الشخص الذي سينـزل بالوحي السماوي والقوة السماوية. والحقيقة أنه قد رُوعي في هذين اللفظَين- أيْ "الخروج" و"النـزول"- فرق وحيد، أي قد أُريدَ التوضيح أن جميع الأشياء التي ستظهر في الزمن الأخير، تتحلى من حيث قوة ظهورها إما بصفة الخروج أو بصفة النـزول. فالذي قُدِّر له أن يأتي بالقوة السماوية وُصف بصفة النـزول، والذي كان سيخرج بالقوة الأرضية ذُكر بلفظ الخروج؛ وذلك لتُفهَم بلفظ النـزول عظمة النازل، ويثبت نوع الدونيّة بلفظ الخروج، وليُعلَم أيضا أن النازل غالب على الخارج.
كذلك إن الدخان المذكور في القرآن الكريم ليس خاصا بالزمن الأخير فحسب، غير أنه قد تم ظهوره البيّن والأوضح في الزمن الأخير الذي نحن فيه كما يقول الله جلّ شأنه: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ[162]... فقوله إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ: أي أردنا أن تتم كل المعارف والدقائق الإلهية ببعثتك المباركة، وأن يكون الكلام النازل عليك جامعا لجميع معارف الحِكْمَة، وذلك كما ذكرنا من قبل.
وأحد المعاني المراد من لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ما هو معروف لدى الجميع، والمعنى الثاني هو ليلة زمن بعثة النبي الذي يمتد إلى يوم القيامة. وفي الآية: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ إشارة إلى أن الزمن الممتد إلى يوم القيامة - الذي يندرج تحت عهد نبوة النبي - سيستفيد من بركات القرآن الكريم كثيرا. وأن المعارف الإلهية التي كانت خافية إلى الآن، ستظل تظهر في هذا الزمن بين الفينة والأخرى. وكذلك تشير الآية: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ إلى أن من ميزات هذا الزمن المبارك أيضا أنه لن يُترَك فيه أيّ أمر حكيم دون تفصيل. ثم قال تعالى: إن إلهكم هو الإله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما لتؤمنوا بذلك الخالق الحقيقي ولكي لا يبقى مجال للشك.
والمراد من الدخان هنا هو القحط الشديد الذي أصاب زمن النبي المبارك إلى سبع سنين، حتى اضطر الناس لأكل الميتة والعظام، كما ورد بيانه بالتفصيل في حديث ابن مسعود. كذلك جاء الوعد عن الزمن الأخير أيضا الذي نحن فيه أن الدخان سيظهر فيه بشدة متناهية قبل ظهور المسيح. فليكن معلوما الآن أن القحط في هذا الزمن الأخير قد وقع من كِلا الوجهين، المادي والروحاني: فالماديُّ أنه لو ألقينا نظرة على الخمسين سنة الماضية لما وجدنا نظيرا لانخفاض[163] أسعار الغلال والأشياء الأخرى عموما مقارنةً بالحال الآن؛ فكانت الأسعار ترتفع بضعة أيام كخيال ثم تنخفض سريعا، أما الآن فإذا ارتفع فلا ينخفض، وبات القحط الشديد يدمر العالم من الداخل.
أما من الناحية الروحانية فقد تفشى شح الصدق والأمانة والإخلاص، وساد المكر السيئ والخديعة والعلوم المظلمة كالدخان، وهي في ازدياد مستمر. إن مفاسد هذا الزمن تختلف تماما عن مفاسد الأزمنة الغابرة. ففي الأزمنة الخالية كان الجهل والأُميّة سببا للإفلاس الأخلاقي في معظم الحالات، أما في العصر الراهن فتحصيل العلوم هو السبب في ذلك. إن التنوير الحديث في عصرنا الذي يجب أن يسمى - بتعبير آخر- دخانا، يضر الإيمان والأمانة والبساطة الداخلية بشكل مذهل. ولقد غطّى غبار الخطابات السفسطائية شمس الصدق، وألقت المغالطات الفلسفية في قلوب البسطاء من الناس شبهات كثيرة. عُظِّمت الأفكار الباطلة، وحُقِّرت الحقائق في نظر معظم الناس. فأراد الله تعالى أن يعيد إلى جادة الصواب -بواسطة العقل- أولئك الذين ضلوا الطريق نتيجة عقولهم، ويُرشد إلى الطريق المستقيم - وبالفلسفة السماوية - أولئك المفتونين بالفلسفة، فهذا هو الدخان المبين والكامل الذي ظهر في العصر الراهن.
وأمّا طلوع الشمس من مغربها، فنؤمن به أيضًا؛ وقد كُشف عليّ في الرؤيا أن طلوع الشمس من المغرب يعني أن البلاد الغربية التي تسودها ظلمة الكفر والضلال من القِدم ستُنوَّر بشمس الصدق والحق، وستُعطَى نصيبا من الإسلام.
ذات مرة رأيتُني في المنام على منبرٍ في مدينة لندن أبين صدق الإسلام باللغة الإنجليزية ببيان مدعوم بالحجج القوية، وبعدها اصطدتُ طيورا بيضاء كثيرة كانت على أشجار صغيرة، وكانت بحجم السُّمَاني على وجه التقدير، ففسرت الرؤيا أن كتاباتي ستنتشر بين هؤلاء القوم وإن كنتُ غير ملمٍّ بالإنجليزية، وأن كثيرا من الإنجليز الصادقين سيكونون صيدًا للصدق. الحق أن علاقة أهل البلاد الغربية مع الحقائق الدينية في الأزمنة الغابرة كانت ضعيفة جدا، وكأن الله تعالى قد أعطى الفطنة الدينية كلها لسكان آسيا، أما أهل أوروبا وأميركا فقد أُعطَوا الفطنة الدنيوية كلها. وأن سلسلة الأنبياء أيضا كانت في نصيب أهل آسيا من البداية إلى النهاية، وهم الذين نالوا كمالات الولاية أيضا، أما الآن فيريد الله أن ينظر إلى هؤلاء القوم أيضا بنظرة الرحمة.
واعلموا أني لا أنكر أن يكون لطلوع الشمس من مغربها معنًى آخر أيضا، غير أنني بيّنت هذا المعنى المذكور بناء على كشف أكرمني الله به. أما إذا حسب أحد من المشايخ هذه الكشوف إلحادا فهذا شأنه. وما قلت من عند نفسي بل اتبعت ما كُشف عليّ. والله بصير بحالي، وسميع لمقالي، فاتقوا الله أيها العلماء.
وإذا طرح أحد في هذا المقام سؤالا أنه عندما تطلع الشمس من مغربها سيُغلق باب التوبة كما هو مكتوب من قبل، فإذا كان هذا هو المعنى المقصود فما الفائدة من إسلام غير مقبول؟
وجوابه أن إغلاق باب التوبة لا يعني أن التوبة لن تُقبل بحال من الأحوال. بل المراد أنه عندما يدخل أهل بلاد الغرب في الإسلام أفواجا، يحدث في الأديان انقلاب عظيم. وحين تطلع هذه الشمس في بلاد الغرب بوجه كامل، فلن يُحرم من الإسلام إلا الذين سُدّ عليهم باب التوبة؛ أي الذين لا تتلاءم طبائعهم مع الإسلام قط. فإن إغلاق باب التوبة لا يعني أن الناس سيتوبون ولن تُقبَل توبتهم، ويبكون خشوعا وتضرعا ولكنهم سيُطردون، لأن ذلك يتنافى مع رحمة الله الرحيم والكريم في هذه الدنيا؛ بل المعنى أن قلوبهم ستصبح قاسية ولن يوفَّقوا للتوبة. وعلى هؤلاء الأشرار ستقوم القيامة، فتفكَّر وتدبَّر.
وأمّا ما يقال عن المهدي بأنه يجب أن يأتي الإمام محمد المهدي أولا ليظهر المسيح ابن مريم بعده، فهذه الفكرة أيضا ناتجة عن قلة التدبر، لأنه إذا كان مجيء المهدي مرتبطا بزمن المسيح ابن مريم بإحكام لا انفصال بينهما، ويدخل في سلسلة ظهور المسيح، لَـما أهمل الشيخان الكبيران وإمامَا الحديث (أي الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم رحمهما الله) ذِكر هذا الحدث في صحيحَيهما. ولكنهما قد رسما لنا خريطة ذلك الزمن بالتفصيل، وبيَّنا - حصرًا وتحديا- أن حادثًا كذا وكذا، سوف يحدث في وقت كيت وكيت، ولكنهما لم يتناولا ذكر الإمام محمد المهدي مطلقا؛ فيُفهَم من ذلك بكل وضوح أنهما لم يحسبا الأحاديث - التي تربط مجيء المسيح بظهور المهدي وتجعلهما متلازمين لا ينفصلان - صحيحة بحسب معايير تحقيقيهما وفحصهما. والحق أنه من السخف وغير المعقول تماما القولُ ببعثة شخص ذي شأن عظيم في الدنيا- يجدر بأن يُسمّى ابن مريم من حيث صفاته الباطنية- ثم يُستلزَمُ أن يأتي معه مهدي آخر أيضا. أفليس هو مهديًا بحد ذاته؟ ألم يأتِ بنفسه حائزا على الهداية من الله تعالى؟ أليس معه الكثير من الجواهر والكنوز والأموال والمعارف والدقائق حتى يسأم الناس من أخذها، وتمتلئ جيوبهم بحيث لا يبقى لديهم مجال لقبول المزيد منها؟
فإذا كان ذلك صحيحا وحقا، فما الحاجة إلى مهدي آخر في هذه الحالة؟ ثم هذا ليس بمذهب الإمامَين المذكورينِ فقط، بل قد أورد ابن ماجه والحاكم أيضا في صحيحَيهما: "لا مهدي إلا عيسى". مع أنني أقرّ بأنه من الممكن أن يكون قد أتى أكثر من مهدي من قبل، ويمكن أن يأتي في المستقبل أيضا، كما يمكن أن يأتي مهدي باسم الإمام محمد أيضا، ولكن لا تثبت هذه الفكرة على النهج الذي يفكر به عامة الناس. وهذا ليس رأيي فقط بل ظل معظم المحققين أيضا يرون الرأي نفسه.
يقول بعض الناس: حسنا، اتركوا المهدي وشأنه، ولكن ما الحاجة لتأويل الكلمات الصريحة التي وردت في الأحاديث بالتكرار أن عيسى سيأتي، أو أن المسيح ابن مريم سينـزل؟ وما الحاجة لتأويل هذه الكلمات الصريحة؟ وإذا كان في علم الله جلّ شأنه ومشيئته أن المراد من ابن مريم ليس عيسى بن مريم نفسه، فلماذا إذًا أوقع الناس في المتاهات قصدا؟ ولماذا لم يقل بصراحة إنه سيأتي مثيل للمسيح؟ وأية حاجة دعت إلى أن يأتي مثيل المسيح فقط دون غيره؟ فكيف يمكننا إنكار الكلمات الواضحة؟ وإن هذا الإنكار يمثِّل تكذيب رسول الله في الحقيقة، ويعني ضمنيا أن نبوءة رسول الله كانت باطلة.
فليتضح أن هذه كلها أوهام باطلة، وإن استخدام الاستعارات من هذا القبيل في القرآن الكريم والأحاديث بُغية ابتلاء خلق الله ليس بِدعا من الأمر، أو ما لا أصل له. وإن نظير استعارات مثلها موجود في الكتب السابقة: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[164].
خذوا مثلا قصة إيليا الذي سمِّي يوحنا. فلما كشف القرآن الكريم بالقطع واليقين أن المسيح ابن مريم مات، فأية قرينة أقوى من ذلك لتدل على الحاجة إلى التأويل. فأقول على سبيل المثال: إنه إذا علمنا برسالةٍ موثوق بها أن المدعو عبد الرحمن -الساكن في كالكوتا- الذي كانت شهادته مهمة جدا في قضية ما، قد مات، ثم اطلعنا على ورقة رسمية مكتوب عليها أن شهادة المدعو المذكور، مسجلة بعد تاريخ وفاته، ففي هذه الحالة، هل ينبغي علينا أن نفهم أن المدعو عبد الرحمن الذي كان قد مات من قبل، قد عاد إلى الحياة وسجل شهادته؟ فما دام ليس عندنا دليل على عودة عبد الرحمن إلى الحياة، فهل يُستحق أن نربح القضية المرفوعة في المحكمة نظرا إلى قدرة الله تعالى فقط، دون الإثبات أن المدعو عبد الرحمن نفسه قد أُحيِيَ في الحقيقة وأدلى بشهادته؟ كلا.
أما الوسوسة: لماذا اختِير اسم المسيح ابن مريم؟ فجوابها: إنه أسلوب الكلام نفسه الذي أُطلق فيه اسم إيليا على يحيى بن زكريا. كان بمشيئة الله تعالى أن يُبعث في الزمن الأخير شخص بصفات المسيح وقواه وطبعه، ويتصدى لعصبة الكذابين الذين تتنافى وتتعارض طبائعهم مع طبعه. فأطلق تسميةَ المسيح الدجال على عصبة الكذابين، وأطلق على حامي الحق وناصره اسم "المسيح ابن مريم". وجعله أيضا حزبا ساعيًا - باسم المسيح ابن مريم - لانتصار الصدق والحق إلى نهاية الدنيا. فكان لزاما أن يأتي هذا المبعوث حاملا اسم المسيح ابن مريم؛ لأن المسيح ابن مريم قد أُعطِي بواسطة روح القدس تأثيرا مضادا للإحياء والإماتة الذي أراد المسيح الدجال نشرَه. فالذي جاء على سيرة المسيح مزوَّدًا بالتأثير المذكور وأُعطي نَفَسًا ذي صفات ترياقية مقابل الرياح التي تُهلك أو تقرِّب إلى الهلاك، قد سُمِّي المسيح ابن مريم لأنه جاء متصبِّغًا بصبغة المسيح من حيث الروحانية. ولكن كيف يمكن أن يأتي المسيح ابن مريم الحقيقي نفسه وهو رسولٌ؟ ذلك أن جدرانا نحاسية حول خاتَم النبيين تحول دون مجيئه. لذا فقد جاء بصبغته وصفاته شخص ليس رسولا، ولكنه أشبه وأمثل بالرسل. هل ورد في أي حديث بكلمات واضحة أن بعض الرسل السابقين سيعودون إلى هذه الأمة، كما ورد أنه سيُبعث أشباههم وأمثالهم الذين هم أقرب إلى الأنبياء فطرةً؟ فلا تُعرضوا عن الذين وُعد بمجيئهم بصراحة ودون أي تعارض، واستفيدوا من إلهامهم شهادةً، لأن شهادتهم تكشف ما لا تستطيعون اكتشافه بعقولكم. لا تتجاسروا في ردّ شهادة سماوية، فإنها صدرت من النبع الطاهر نفسه الذي صدر منه وحي النبوة، وهي تشرح معنى الوحي، وتُرشد إلى الصراط المستقيم.
وصية الحق
أيها القراء الكرام، إلى هنا أكون قد أنهيت هذا الموضوع، وقد تبين من هذا البحث كله أن هناك ثلاثة طرق من حيث الشرع والنقل لتصديق إلهامنا الذي يبرهن على أن المسيح ابن مريم قد مات أو تكذيبه، وهي:
(1) القرآن الكريم (2) الأحاديث (3) أقوال السلف والخلف.
والمعلوم أن هذه الطرق الثلاثة تصدق إلهاماتي. والطريق الأكثر استقامة، والأسلوبُ الأهم والمليء بأنوار اليقين والتواتر، والمرشدُ الكامل لمصلحتنا الروحانية وتقدمنا العلمي هو القرآن الكريم الذي جاء كفيلا للحُكم في النـزاعات الدينية في العالم كله، والذي تصحب كلَّ آية من آياته وكلَّ كلمة من كلماته آلافُ أنواع التواتر، والذي يزخر بماء الحياة لنا، وتكمن فيه جواهر نادرة تظهر للعيان كل يوم وهي لا تُعَدُّ ولا تُحصى ولا تُقدَّر بثمن. فهذا هو المحك الأمثل الذي بواسطته يمكننا أن نفرّق بين الحق والباطل. وهو السراج المضيء الذي يُري سبل الصدق بعينها. لا شك أن الذين لهم نسبة وعلاقة مع الصراط المستقيم تنجذب قلوبهم إلى القرآن الكريم تلقائيا، وقد خلقهم الله تعالى لتميل قلوبهم إلى حبيبهم هذا كالعاشق المشغوف، ولا يستقر لهم قرار في أي مكان آخر دونه، ولا يسمعون من أحد شيئا بعد أن يسمعوا منه كلاما واضحا وصريحا. ويقبَلون منه كل حقيقة بكل سرور مسارعين. وهو الذي يسبب لهم الإشراق وتنوير الضمير، ويكون الوسيلة للانكشافات الغريبة واللافتة، ويوصل الجميع إلى معارج التقدم حسب كفاءاتهم. لقد كان الصلحاء بحاجة ماسة ليمشوا في ضوء القرآن الكريم دائما، وكلما أدت حالة الدهر المتجددة إلى اصطدام الإسلام بدين آخر، كان القرآن الكريم وحده السلاح الحاد والنافذ والحاسم على الفور دائما. وكلما أُشيعت أفكار فلسفية من أجل المعارضة، فقد كان القرآن الكريم هو الذي يستأصل تلك الغرسة الخبيثة في نهاية المطاف، ويظهرها في عيون الناظرين ذليلة مهانة، وكأنه وضع أمامهم مرآة ليروا أن هذه الفلسفة هي الصادقة، وليست تلك. وفي العصر الراهن أيضا، كلما رفع الوعاظ المسيحيون رأسهم، وأراد سيِّئو الفهم والجهلاءُ من الناس أن يُبعدوا الناس عن التوحيد ويجعلوهم عبادَ إنسانٍ ضعيف، وحبّبوا لهم طريقهم المغشوش بتزيينه بخطبهم السَفسطائية، وأحدثوا طوفانا في بلاد الهند؛ جعلهم القرآن الكريم وحده يتقهقرون حتى لا يقدروا على مواجهة شخص خبير مطلقا. وقد نقض أعذارهم الطويلة والعريضة وطواها طيَّ الورق. وقد بيّن القرآن الكريم الحقيقة بقوله عن المسيح مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ، وجعل أهم عقيدة عندهم، أي عقيدة الكفّارة كالعدم. وأخبر عن نجاة ابن الإنسان بطريقة طبيعية تتلاءم مع فطرة كل إنسان منذ خلق آدم. وبذلك فقد عجز هؤلاء القوم عن أن يقدموا للعقلاء الكفارة الظالمة وعديمة التأثير، إلا أنه من الممكن أن يبعثوا لإثبات الكفارة فريقًا إلى الجِنَّة الذين يثبت وجودهم بحسب الإنجيل، لأن الله تعالى لم يخلقهم أيضا للهلاك! ولكن المشكلة أن هذه الكذبة التي لا أصل لها قد نُسجت للاعتقاد أن المسيح ابن مريم جاء ليكون كَفّارة لبني آدم فقط، وقد استحق مواساة بني البشر فحسب لكونه ابن آدم ومن جنس بني آدم. غير أنه من الممكن أن تُقدَّم هنا حجة أنه كان للمسيح أخ آخر لم يكن من بني آدم، بل كان يُدعى ابن الجن، وقد صُلب كفّارة للجِنّة. ولكن لا بدّ من تقديم دليل على ذلك من الإنجيل!
كذلك كشف القرآن الكريم حقائق عديدة للهندوس أيضا، فأطلعهم على قيّوم العالمين الذي كانوا يجهلونه. فلو قبلوا هذه الحقيقة لرأوا ذلك الإله الذي يغفلون عن عظمته وقدرته. ولكنهم أحبّوا الفلسفة كفلسفة الإنجليز الجديدة، وشرعوا في البحث عن علة كل شيء ليبارزوا فلسفة القرآن الصادقة، ولكن فعلتهم هذه كانت مدعاة لافتتانهم، وبلغ الأمر إلى إظهارهم نموذجين سيئَينِ من اعتقاداتهم وأعمالهم التي تدخل في إيمانهم بحسب تعليم كتابهم "الفيدا". وكان نموذجهم العقَدي أن أنكروا أن الله خالق، وبذلك أوصدوا على أنفسهم طرق الاطلاع على وجوده، وعدّوا كل ذرة من الدنيا- والأرواحَ أيضا- خالقةً نفسَها، وأزليةً وواجبةَ الوجود، وتركوا السر الدقيق للتوحيد الذي تتوقف عليه المعرفة الحقيقية والنجاة الحقيقية. أما نموذجهم العمَلي، فكان أن نشروا في كتبهم قضية الـ"نيوك" المخجلة التي كانت مخفية من قبل في الفيدات، والتي بحسبها يجوز للمرأة الهندوسية أن تضاجع شخصا غير زوجها بُغية الحصول على الأولاد. ولو اعتبروا هذا المعتقد قانونًا يخص زمنا معينا، لربما كانت شناعته أخف قليلا؛ ولكنهم الآن قد اعتبروا هذه القضية قانونًا مستديمًا لا يتبدّل، وصالحا لكل عصر، كان أزليا وسيبقى إلى الأبد مثل الفيدات بحسب زعمهم.
الحق أنها عقوبةُ معارضتهم القرآن الكريم، وسنتناول ذكرها بصراحة وتفصيل بإذن الله في الأجزاء المتبقية لكتاب: "البراهين الأحمدية". فإن القرآن الكريم قد ألصق بمنكري موت المسيح هزيمة وندامة بحيث لا يستقر لهم قرار قط. وقد لقي قليلو الفهم في هذه الحرب هزيمة لن ينسوا مرارتها طول العمر.
فقصارى القول إن القرآن الكريم يدفعهم بكل قوة وشدة ويطردهم من عتباته.
أما الأحاديث، فأوَّل ما يجدر تأمُّله فيها هو: ما مكانتها من القرآن الكريم؟ وإذا خالف حديث نصوص القرآن الكريم البيّنة، فإلى أيّ مدى يجب أن نعيره اهتماما أو أهمية؟
اعلموا أن القرآن الكريم كلام الله القطعيُّ واليقينيّ، ولا دخل فيه للإنسان قيد أُنملة أو شعرة، إنه كلام الله تعالى وحده بألفاظه ومعانيه، ولا مندوحة لأية فرقة من فِرق المسلمين من الإيمان به. إن كل آية من آياته يصحبها تواتر من الدرجة العليا. وهو وحيٌ متلُوٌّ محسوبةٌ كلماته بمنتهى الدِّقة، وهو مصون من التبديل والتحريف بسبب إعجازه أيضا. أما الأحاديث فمليئة بتدخلات الناس، وما يُعتبر منها صحيحًا أيضا، لا يحظى مقابل كلام الله المنقطع النظير ولو بواحدٍ في المئة مليون من العَظَمة. لا شك أن الحديث الصحيح الذي ثبت عن النبي بسند متصل، إنما هو نوع من الوحي، ومع ذلك ليس من النوع الذي يمكن أن يقوم مقام القرآن الكريم، لذلك لا تجوز الصلاة بقراءة الحديث بدلا من القرآن الكريم. وفي الأحاديث أوجه كثيرة تشير إلى ضعفها بحيث يحتاج العاقل دائما بالنظر إليها للعثور على إشارة على الأقل من القرآن الكريم لتقويتها. صحيح أن الأحاديث وصلت إلى مدوِّني الصحاح على لسان الصحابة بواسطة عدة رواة، وصحيح أيضا أن مدوِّني الصحاح بذلوا قصارى جهودهم قدر الإمكان في تحقيق الأحاديث وتمحيصها، ولكنْ مع ذلك؛ لا يمكننا أن نثق بها كثقتنا بكلام الله جلّ شأنه، لأنها وصلت إلى أئمة الحديث مرورا بوسائط عديدة وعبر أناس عاديين. فمثلا هناك حديث رواه عمر وهو خليفة رسول الله ورئيس الثقات، ولكن في سلسلة الرواة هناك ستة أو سبعة أشخاص لا تثبت تزكية نفوسهم ولا كمال طهارتهم، وإن صدقهم وتقواهم وأمانتهم مقبولة بصورة سطحية ولحسن الظن بهم، ولكن لا يثبت عنهم شيء على وجه اليقين، فكيف يمكن إذن إنزالهم منـزلة عمر في الصدق والصلاح؟ ولماذا لا يمكن أن يصدر منهم خطأ - قصدا أو عن غير قصد - عند روايتهم بعض الأحاديث؟ فمن هذا المنطلق فإن بعض الأئمة مثل الإمام الأعظم الكوفي الذي يُعدّ من أصحاب الرأي السديد، لم يتوجه إلى الأحاديث إلا قليلا، وقد اعتُبرت اجتهاداته مخالفة للأحاديث الصحيحة بسبب دقة معانيها. والحق أنه كان أفضل وأعلى من الأئمة الثلاث الآخرين من حيث قوة اجتهاده وعلمه ودرايته وفهمه وفراسته، وإن القوة التي وهبها الله تعالى له للوصول إلى القرار الصائب كانت متقدمة، بحيث كان يستطيع أن يفرّق بين الثبوت وعدمه بكل سهولة. وكانت قوة إدراكه موهوبة بوجه خاص في فهم القرآن الكريم. وكان لطبعه انسجام خاص مع كلام الله تعالى، وكان قد بلغ من المعرفة مبلغا أعلى؛ لذلك اعتُرِفَ بمرتبته العليا في الاجتهاد والاستنباط التي تقاصر عنها الآخرون.
سبحان الله، كيف فهِم هذا الإمام الرباني والذكي إشارة عليا ورفيعة لآية واحدة، وترك أحاديث كثيرة كانت تعارضها كشيء رديء، وما خاف طعن الجهلاء قط. ولكن من المؤسف جدا في العصر الراهن أن الأقوال الواهية التي لا أصل لها، تُقدَّم على القرآن الكريم، ويُعتبر كلامٌ لا أصل له إجماعا. لا شك أن مَثل ذكر الأحاديث بحذاء القرآن كمثل تقديم اليراعة أمام الشمس، ومع ذلك فإنه من شقاوة معارضينا الكبيرة أنه لا توجد أحاديث تُثبت أن المسيح ابن مريم رُفع إلى السماء حيا بجسده المادي. غير أنّ هناك أحاديث كثيرة تتحدث عن مجيء ابن مريم، ولكن لم يرد فيها أن ابن مريم - النبي الإسرائيلي الذي نزل عليه الإنجيل وأعلن القرآن الكريم موته- سيأتي بعد عودته إلى الحياة. صحيح أيضا أن المسيح الآتي قد ذُكر كنبي، ولكنه إلى جانب ذلك ذُكر كفرد من أفراد الأمة أيضا. بل أُخبِر أفراد الأمة أنه سيكون منكم، وإمامكم منكم. ولم يُكشف بالقول فقط أنه فرد من الأمة، بل أُثبت بالفعل أيضا أنه سيتّبع ما قال الله وما قال الرسول مثل بقية أفراد الأمة، ولن يحُلَّ المعضلات الدينية بنبوته، بل باجتهاده، وسيصلي وراء غيره.
فيتبين من كل هذه القرائن أنه لن يكون متصفا بصفة النبوة التامة بصورة حقيقية، غير أنه سيتحلى بنبوة غير كاملة، تسمَّى بتعبير آخر؛ المحدَّثية، وفيها شأن من شؤون النبوة التامة. إذن، فإن في تسميته فردًا من أفراد الأمة ونبيا أيضا، إشارة إلى أنه سيتحلى بكِلتا الصفتين، أيْ سيكون فردا من الأمة وسيكون نبيا أيضا، كما يجب وجود كِلتا الصفتين في المحدَّث. أما صاحب النبوة التامة فيتحلى بصفة واحدة فقط هي صفة النبوة.
فزبدة القول إن المحدَّثية تكون متصبِّغة بصبغتين اثنتين، لذا فقد سماني الله تعالى في "البراهين الأحمدية" فردا من الأمة، ونبيا أيضا. ولا بد من التأمل أيضا أنه ما دام النبي الإسرائيلي "المسيح ابن مريم" قد مات، وليس في القرآن الكريم ذكْرُ عودته إلى الحياة، فلا يُفهم من ذلك إلا أن ابن مريم الآتي هو غيره.
يقول البعض: أليس الله بقادر على أن يُحيِي المسيح ابن مريم ويرسله؟ أقول: إذا كان المقصود هو الاعتماد على قدرة الله دون الاعتداد بالنصوص القرآنية، فالمعلوم أن الله تعالى يملك القدرة من كِلا النوعين: فهو قادر على أن يُحيي أحدا ويرسله، وهو قادر أيضا على ألا يُحييه قط، ولا يرسله إلى الدنيا. ولكن يجدر بالانتباه أن نلحظ أيًّا من هاتين القدرتين تنسجم مع مشيئته . وسيتبين بأدنى تأمل أن قدرته على إنزال عذابِ موتةٍ ثانية دون مبرر على مَن أماته مرة، لا يتلاءم ومشيئة الله تعالى على الإطلاق، وهو القائل في كلامه المجيد: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ[165]. وكذلك يقول مشيرا إلى الموتة الواحدة: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى[166]. فمما يتنافى مع وعده الحق أن يرسل الأموات إلى الدنيا ثانية. ثم كيف يمكن أن يأتي بعد خاتم النبيين نبيٌّ، وذلك بمفهوم النبوة التام والكامل الذي يدخل في شروط النبوة التامة؟ أليس ضروريا أن توجد في ذلك النبي كافة مقتضيات نبوته التامة بما فيها الوحي ونزول جبريل؟ لأن الرسول، بحسب تصريح القرآن الكريم، هو الذي يتلقى أحكام الدين وعقائده بواسطة جبريل. والمعلوم أنه قد خُتم على وحي النبوة قبل 1300 عام، فهل سيُنقض هذا الختم عندئذ؟ وإذا قلتم: سيُرسَل المسيح ابن مريم منـزوعَ النبوة التامة؛ قلتُ: لا بد أن يكون هناك سببا لهذه العقوبة؟
يقول البعض إن السبب في ذلك أنه كان قد اتُّخِذ معبودا بغير حق، فأراد الله أن يعزله عن النبوة عقوبة على ذلك، ليقتدي بالآخرين عند مجيئه إلى الدنيا ويصلي وراء غيره، ويقوم بالاجتهاد فقط مثل الإمام الأعظم، ويؤيِّدَ المذهب الحنفي بسلوكه مسلكا حنفيا. ولكن هذا الجواب ليس معقولا، إذ قد برّأه الله من هذه التهمة في القرآن الكريم، وبيّن أن نبوته دائمة. فيا أيها الإخوة، لماذا تقولون أقوالا سخيفة على استحياء، وتقترفون الذنب بغير حق؟ لقد أعلن القرآن الكريم موتَ المسيح ابن مريم الذي كان نبيا إسرائيليا ونزل عليه الإنجيل. فلا تضيفوا في الأحاديث من عندكم أن المسيح الذي مات من قبل، سيأتي مرة أخرى.
يا عباد الله، قليلا من التقوى! أليس الله قادرا عندكم أن ينفخ في عبده روحا فيتصبّغ بصبغة ابن مريم تماما؟ ألا توجد في كتب الله أمثلة أنه أطلق اسم نبي على نبي آخر؟ أليس مذكورا في الأحاديث أن أمثال ابن مريم وغيره سيولَدون في هذه الأمة؟ فما دام القرآن الكريم يصرح بموت ابن مريم، وفي الأحاديث وعدٌ بمجيء مثيل ابن مريم؛ فأي إشكالية بقيت في الموضوع؟ أيُّ كذبٍ في القول بأنّ الذي سيملك سيرة ابن مريم، سيكون ابن مريم نفسه؟
"لا توجد في ابن مريم شائبة من الألوهية، وما كان مَعفيًا من الموت والوفاة.
قد حرر نفسه من الشرك والمغايرة، فلو فعلت أنت ذلك لكنتَ أيضا ابن مريم"[167].
أيها المشايخ، اتركُوا العبث والفضول وأخبروني بحديث واحد صحيح - يبلغ مبلغ التواتر والثبوت، ويفيد اليقين القاطع عند العقل، ولا يتوقف عند حدود الشك والريب - يُثبت رفعَ المسيح إلى السماء حيا بجسده، ووجودَه هنالك حيا إلى الآن. وأنتم تعرفون كم تمنح الآيات القرآنية اليقين. لقد كان ادّعاؤنا مبنيًّا على النصوص القرآنية، ومعنا أيضا الأحاديث التي تؤيدها، وكذلك فإن أقوال السلف والخلف التي تؤيدنا ليست بقليلة، وذلك بالإضافة إلى شهادات إلهامية، فخذوا ميزان العدل والإنصاف وضعوا أفكاركم في كفة وأفكارنا كلها في الكفة الثانية، ثم اعدلوا بأنفسكم. اعلموا أنه لو كانت عندنا نصوص القرآن الكريم وحدها لكفَتْ، وإذا وافقتْ بعض الأحاديث أيضا تلك النصوص فذلك نور على نور. والانحراف المتعمد عنها ليس إلا إلحادا. ولا شك أننا لو لم نعتبر الأحاديث التي تعارض أعلى درجات الثبوت باطلة، ولم نسمِّها موضوعة، بل أوَّلناها؛ لكان ذلك أقصى درجات اللين والمرونة من قِبلنا، وإلا؛ فمن حقنا أن نعدّها دون مستوى الاعتبار القطعي واليقيني.
إن بعض الناس يقدمون وسوسةً أن ما ورد في القرآن الكريم في ذكر موت المسيح هو فعل "التوفِّي" وحده، ولكن هذا الفعل قد ورد في اللغة بمعان عديدة. وجواب هذه الوسوسة أنه سواء أجاءت هذه الكلمة بمعنى واحد أو عدة معان، فالقضية الأساسية هي أن القرآن الكريم قد أخذ بعض الكلمات من اللغة وخصّها بمعنى اصطلاحي واحد، مثل: الصوم والصلاة، والرحمانية، والرحيمية، وكذلك لفظ "الله" والكثير من الكلمات. والرجوع إلى اللغة في أمور اصطلاحية غباوة محضة. ففسِّروا القرآن بالقرآن نفسه، وانظروا هل يلتزم بمعنى واحد أو يتفرع إلى معان مختلفة؟ إن أقوال السلف والخلف ليست حجة مستديمة في حد ذاتها، ولو حدث الخلاف في رأيهم لاعتُبر الفريق الذي يوافق رأيه رأي القرآن على حق. لو كانت كل الأقوال - من غثٍ وسمين - الواردة في التفاسير محكَمَةً، لما وردت في التفاسير نفسها أقوال متضاربة. وإذا كانت هذه الأقوال هي الدليل على الإجماع، فقد عثرنا على حقيقة الإجماع!
والآن أريد الإثبات في هذه الوصية أن القرآن الكريم يصدّق ادّعائي بأدلته الدامغة، ويستأصل وساوس خصومنا الباطلة. ويغلق باب عودة الأنبياء السابقين إلى الدنيا، ويفتح باب مجيء أمثال بني إسرائيل. وهو الذي علّمنا دعاءَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. إن مفهوم هذا الدعاء أن اجعلْنا يا ربنا أمثال الأنبياء والرسل. ويقول تعالى في حق يحيى : لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا[168]، أي لم نرسل في الدنيا من قبل مثيلاً له يمكن تسميته "يحيى" من حيث الصفات. وإن هذه الآية بمنـزلة إشارة نصية لتصديق كلامي، لأن الله تعالى قد بيّن فيها أنه لم يرسل مثيلاً له من قبل، ولم يقل إنه لن يرسَل أحدا فيما بعد أيضا، وذلك ليُعلم أن باب المجيء بأسماء الأنبياء الإسرائيليين فيما بعد مفتوح، أي أنّ الذي يكون سمِيَّ ذلك النبي عند الله سيكون مثيله، بمعنى أن مَن كان مثيل موسى، سيسمَّى موسى، ومن كان مثيل عيسى سيسمّى عيسى أو ابن مريم.
والجدير بالانتباه أيضا بأن الله تعالى قد استخدم في هذه الآية كلمة سَمِيًّا وما قال "مثيلا"، ليُعلَم أن من مشيئة الله تعالى أن الذي سيأتي مثيلا لنبيٍّ إسرائيلي، لن يُدعَى باسم "مثيل"، بل سيُدعَى - بسبب التوافق الكامل بينهما - باسم النبي الذي سيأتي مثيلا له.
ولو استخدم الله تعالى في القرآن الكريم كلمة للتعبير عن موت المسيح ابن مريم، ثم استخدم هذه الكلمة بمعانٍ أخرى أيضا، لوجَد الخائن فرصة للخيانة، ولكنه قد وضع حدا للخونة بكل شدة، إذ استخدم فعل "التوفِّي" لذكر موت عيسى ، وقد استخدم الفعل نفسه 25 مرة بالمعنى نفسه. وجعل لهذه الكلمة اصطلاحا محددا، واستخدمها كل مرة بمعنى قبض الروح وترك الجسد على حاله، لتدل على أن الروح أزلية، غير أنها تكون في قبضة الله بعد موت الجسد وكذلك في حالة النوم. إذن؛ الجسد يفنى، وأما الروح فلا. فكلما استُخدم فعل "التوفي"، كان بالمعنى نفسه دائما في كل مكان دون الخروج عن هذا المعنى.
لذا فقد اعتُبر هذا المعنى من النصوص القرآنية الصريحة والبينة والواضحة، والانحرافُ عنه إلحاد، لأنه من المسلَّم به أن النصوص تُحمل على ظواهرها.
فباختصار، إذا استثنينا الموضعين المتنازع فيهما: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وفَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي فإن القرآن الكريم استخدم فعل التوفي في 23 موضعا بمعنى واحد، وهذا المعنى هو قبض الروح وترك الجسد على حاله. بل هو من البينات من الدرجة الأولى، والمطالب الصريحة والبديهة، وحائز على مرتبة القطع واليقين الذي إنكاره يُعدّ جهلاً من الدرجة القصوى. لقد اختار القرآن الكريم أسلوبينِ اثنين لشرح هذه الكلمة لا ثالث لهما.
(1) قبض الروح بصورة دائمة وترك الجسد على حاله، وهو ما يُعبَّر عنه بـ: الإماتة.
(2) قبض الروح مؤقتا وترك الجسد على حاله، وهذا ما يُعبَّر عنه بـ: الإنامة. والمعلوم أنه لا علاقة للمعنى الثاني بالموضوع المتنازع فيه، لأن النوم والاستيقاظ أمر عادي تماما. فحين يكون الإنسان نائما؛ تكون الروح في قبضة الله، وعندما يستيقظ؛ تعود مجددا إلى جسده الذي تُرك على حاله. يُفهم بكل جلاء أنه ما دام المراد من فعل "التوفِّي" هو قبض الروح فقط- دون أن تكون له علاقة بالجسد، بل إن ترك الجسد على حاله أيضا يدخل في مضمون التوفِّي- لذا فليس هناك أشد غباءً مِن أن يُستنبط من "التوفِّي" معنى قبض اللهِ الجسدَ، لأنه إذا كان هذا المعنى صحيحا، فلا بد أن يكون هذا المعنى نفسه ملحوظا في مكان آخر أيضا في القرآن الكريم كمثال، بيد أني قد بيَّنتُ قبل قليل أن القرآن الكريم استخدم هذه الكلمة من بدايته إلى نهايته بالمعنى نفسه.. أي بمعنى قبض الروح دون أي علاقة بالجسد، بل تركه على حاله. ولو قبلنا جدلا المعنى الثاني في وفاة المسيح ابن مريم، لكان حاصله أن المسيح قد نام لفترة وجيزة ثم استيقظ. وهذا أيضا لا يُثبت أن الجسد رُفع إلى السماء. فهل الذين ينامون بالليل أو النهار تصعد أجسادهم إلى السماء؟
وكما بينتُ من قبل أن الروح في حالة النوم تُقبض لفترة وجيزة فقط، ولا علاقة لذلك برفع الجسد مطلقا. وقد بيّنت أيضا قبل قليل أن نصوص القرآن الواضحة والمتواترة والصحيحة قد جعلت معنى "التوفِّي" مقصورا على قبض الروح، وترك الجسد على حاله. وما دام الأمر كذلك، فإن الاستنباط من فعل "التوفِّي" بأن الله تعالى لم يرفع إليه روحه فقط، بل رفع جسده أيضا معها؛ لهي فكرة غبية جدًّا، ومخالفة بالبداهة لنصوص القرآن الكريم الصريحة والبينة. إن تصريح القرآن الكريم بأن المراد من "التوفِّي" هو قبض الروح فقط ولا علاقة له بالجسد قط، لم يكن مرة أو مرتين، بل 25 مرة. ومن لم يقبل بعد ذلك أيضا، فلا علاقة له بالقرآن أصلا، بل عليه أن يقول صراحةً بأنه لا يريد أن يتخلى بحال من الأحوال عن مسلك بعض الذين يزعمهم صلحاء.
ثم تأتي بعد القرآن الكريم مرتبة الأحاديث، والأحاديث أيضا تتفق كلها مع بيان القرآن الكريم بصراحة تامة. ولا يوجد حديث واحد ورد فيه أن المسيح ابن مريم- النبي الإسرائيلي- الذي أُنزل عليه الإنجيل وأماته القرآن الكريم، سيعود إلى الدنيا بنفسه. غير أنه قد ورد فيها مرارا أنه سيأتي أسمياء (أي أمثال) أنبياء بني إسرائيل. صحيح تماما أنه قد ورد في الأحاديث أنه سيأتي ابن مريم، ولكن الأحاديث نفسها تبيِّن الاختلاف في ملامحهما، وتبيِّن أيضا أن ابن مريم الآتي هو من الأمة، وبذلك قد صرحت بكل جلاء أن ابن مريم الآتي غير ابن مريم الحقيقي.
ولو أردنا الرجوع إلى أحاديث أخرى بُغية شرح الأحاديث المتنازع فيها، لما وجدنا حديثا واحدا يؤكد على أن نبيا من الأنبياء السابقين سيأتي إلى الدنيا في وقت من الأوقات. أما ما يثبت فهو أنه سيأتي أمثالهم وسيُسمَّون بأسمائهم.
ولقد كتبت غير مرة أن مجيء المسيح ابن مريم رسولا بعد خاتَم النبيين يستلزم فسادا عظيما؛ وفي هذه الحالة لا بد من التسليم بأحد أمرين: إما أن تبدأ سلسلة وحي النبوة مجددا، أو سيرسل الله تعالى المسيح ابن مريم بعد نزع جميع مستلزمات النبوة منه، وسيُرسله فردا من أفراد الأمة فقط، ولكن كِلا هذين الأمرين مستحيل.
وليس في غير محله الذكر هنا؛ أنه ما دامت كل الأحاديث تقريبا تطابق القرآن الكريم وتؤيد موقفنا - وإن ورد حديث على سبيل الندرة يعارض مجموعة الأحاديث اليقينية - فعلينا إما أن نعتبره خارجا عن النصوص، أو نؤوله؛ لأنه لا يمكن أن نهدم - بناء على حديث ضعيف نادر الوجود - بناءً متينًا شيَّدته نصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. فإما أن يسقط حديث مثله تلقائيا لكونه معارضا لنصوص القرآن، أو سيُعتبَر قابلا للتأويل. وكل عاقل يعرف جيدا أن غاية ما يفيده خبر الآحاد هو الظن فقط، ولا يضر الثبوتَ القطعي واليقيني شيئا. فهناك أحاديث كثيرة في صحيحَي مسلم والبخاري لم يقبلها رئيس الأئمة.. أي الإمام الأعظم، ومنها ما لم يقبله الإمام الشافعي أيضا. كذلك ترك الإمام مالك بعض الأحاديث التي تُعدّ في مرتبة عليا من الصحة. ولقد قال بعض المحدثين إنه عندما سيأتي المسيح الموعود إلى الدنيا سيبني معظم استدلاله على القرآن الكريم، ويترك بعض الأحاديث التي يثق المشايخ المعاصرون بصحتها.
يقول مجدد القرن الثاني عشر[169] في كتابه: "مكتوبات" المجلد 2، الرسالة 55 ما مفاده: عندما يأتي المسيح الموعود سيعارضه مشايخ عصره، لأن ما سيبيّنه باستنباطه واجتهاده يكون معظمه دقيقا وغامضا، وسيبدو للمشايخ كلهم معارضا للقرآن والسنة بسبب دقة مأخذه وغموضه، ولكنه لن يكون كذلك في الحقيقة. (انظر: مكتوبات الإمام الرباني الصفحة: 107، مطبعة أحمدي، دلهي)
فيا أيها الإخوة، أناشدكم بالله ألا تتعصبوا لرأيكم ولا تتعنتوا، فقد كان ضروريا أن أقدِّم أمورا أخطأتم فهمها. فلو كنتم على جادة الصواب مسبقا، فما الحاجة لمجيئي أصلا؟ لقد قلت مرارا إني جئت بصفة ابن مريم لإصلاح هذه الأمة، وجئت كما جاء المسيح ابن مريم لإصلاح اليهود. وإنني مثيله، لأنني قد كلِّفت بالمهمة نفسها التي كلِّف بها هو . لقد حرّر المسيحُ بعد ظهوره اليهودَ من كثير من الأخطاء والأفكار التي لا أصل لها؛ منها أن اليهود كانوا يأملون عودة النبي إيليا إلى الدنيا ثانيةً، كما يأمل المسلمون اليوم عودة المسيح ابن مريم رسول الله، فقال المسيح ابن مريم: لن ينـزل النبي إيليا من السماء بل يوحنا (يحيى بن زكريا) هو إيليا، فمن شاء فليؤمن، وبذلك قد أزال خطأ قديما، وسُمِّي على لسان اليهود ملحدا ومنحرفا عن الكتب، ولكنه مع ذلك أماط اللثام عن وجه الحقيقة. والحال نفسه ينطبق على مثيله أيضا، إذ قد لُقّب - مثيل المسيح - بالملحد. أليست هذه أعلى درجات المماثلة؟
تأملوا في نقطة دقيقة؛ لماذا بُشِّر المسلمون أن المسيح ابن مريم سينـزل فيهم؟ السر في ذلك أن سيدنا ومولانا خاتَم الأنبياء مثيل موسى ، والأمة المحمدية مثيلة أمة بني إسرائيل، وقد أنبأ النبي أن هذه الأمة ستفسد في الزمن الأخير كما فسد اليهود في زمنهم الأخير، وارتفع من بينهم البِرّ الحقيقي والصدق الحقيقي والأمانة الحقيقية، ونشأت فيهم الخصومات الواهية التي لا أصل لها، وفتر فيهم حب الدين. وقال إنكم ستحذون حذو اليهود "حتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ"، أي ستصبحون مثل اليهود بكل معنى الكلمة. وحيث إن الله لم ينسَ اليهودَ في هذه الحالة أيضا بل أرسل إليهم المسيح ابن مريم من بينهم لإصلاح أخلاقهم وأعمالهم وتصحيح أخطائهم، فقد بُشِّرت هذه الأمة أيضا أنه حينما تصبح حالتكم مثل أولئك اليهود القساة القلوب وتتمسكون بظواهر الأمور وتسوء تصرفاتكم وتعكفون على الدنيا، ويتورط نُسّاككم ومشايخكم وأناس ماديون منكم -كلّ بطريقته - في المكر السيئ وسوء الخلُق بأنواعه المختلفة، ويتضاءل التوحيد وعبادةُ الله وتقواه وحبه بشدة؛ سيُبعث فيكم ومن بينكم أيضا، مثيلٌ لابن مريم؛ ويسعى جاهدا لإصلاح حالتكم الأخلاقية والعملية والإيمانية كما سعى المسيح ابن مريم.
والآن، القرينة واضحة بيِّنة؛ فما دام المسلمون في هذا العصر ليسوا يهودا حقيقيين، بل تشبَّهوا بهم نوعا ما نتيجة قسوة قلوبهم وعكوفهم على الدنيا؛ فإن المسيح ابن مريم الذي نزل فيهم ليس المسيح ابن مريم الحقيقي، بل مثيله من حيث واجبات منصبه الموكولة إليه.
اعلموا يقينا أن المسيح ابن مريم رسول الله قد مات، ثم رزقه الله بعد موته حياةً كما يرزقها دائما للأنبياء والصديقين والشهداء. فرُفع إلى الله بحياة لطيفة ونـزيهة عن مستلزمات الجسد المادي الكثيفة والمكدَّرة، وانضم إلى جماعة الحائزين على الحياة من هذا النوع. ولو رُفع بالجسد المادي للازمته مستلزمات الجسد المادي أيضا، لأن الله جلّ شأنه يقول: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، بينما تؤمنون أنتم أن جسد المسيح ابن مريم في السماء قد صار الآن من النوع الذي لم تَعُدْ تلازمه مستلزمات الجسد المادي مطلقا، فإنه لا يشيب ولا يؤثر فيه الدهر، وليس بحاجة إلى طعام أو شراب. وكأنكم أقررتم بطريق أو بآخر أن لجسده صفات وشؤونا مختلفة تماما. وتعرفون أيضا أن نبينا الأكرم رأى الأنبياء في السماء ليلة المعراج. فهل رأى المسيح مع الجسد بوجه خاص، بينما رأى أرواح الآخرين فقط؟ بل من الواضح أنه رآهم جميعا بالأرواح والأجساد معا، وبيّن ملامحهم المادية أيضا. وقد بيّن ملامح المسيح مختلفةً تماما عن المسيح الآتي. أليس في ذلك دليلا قويا على أن المسيح نال بعد موته جسدا لطيفا كالذي ناله الأنبياء يحيى وإدريس ويوسف وموسى وإبراهيم عليهم السلام؟ أَلوحظ في المسيح شيء غريب لم يُلحَظ في غيره؟
الآن، ولـمّا تبيّن بكل وضوح موتُ المسيح وعودته إلى الحياة ورفعه إلى السماء مثل بقية الأنبياء والصديقين والشهداء تماما، فلماذا تصرون بغير حق على جسد أدنى وكثيف للمسيح، وعلى حياة مآلها الفناء؟ ولماذا الإصرار على تعريضه لميتتين، بينما ليس لغيره إلا ميتة واحدة؟ لقد ورد في القرآن الكريم في حق النبي إدريس : وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ولم يرد معه لفظ "التوفِّي" مطلقا، ومع ذلك يوقن المشايخ بموته، ويقولون بأنه رُفع من هذه الدنيا للأبد، ولا عودة له؛ أيْ أنه مات، لأنه لا يرحل أحد من هذه الدنيا للأبد إلا بالموت. والسبب هو أن هناك بابًا واحدا للخروج من الدنيا ودخول الجنة، ألا وهو الموت، حيث قال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ. وإذا قيل لهم: هل مات إدريس في السماء أو سيعود منها أو ستُقبض روحه فيها؟ لرفضوا عودة إدريس إلى الدنيا بكل شدة. ولما كان الموت قبل دخول الجنة لا مناص منه، فإنهم يقبلون موت إدريس، ولكن يقولون بأن الرفع هنا يعني الموت فقط. وما دام لفظ "التوفِّي" قد سبق لفظ "الرفع" المستخدم بحق المسيح؛ فلماذا، وبأي دليل يثيرون ضجة قيامه ليثبتوا حياته؟
الأسف كل الأسف على المشايخ المعاصرين الذين حين يرون أن القرآن يعلن موت المسيح بأعلى صوته، ولا يوجد حديث صحيح أيضا يتنافى معه أو يخالفه، يلجأون إلى الإجماع مضطرين. مهما قلنا لهم مرارا وتكرارا: يا أيها السادة، إن كلمة الإجماع لا تُطلق على النبوءات مطلقا، ويمكن أن يخطئ نبي في الاجتهاد قبل ظهورها للعيان؛ لا يقبلون ذلك ولا يدرون أيضا أنه يجب أن يُبنى الإجماع على أمور يقينية ومكشوفة تماما، ولكن السلف والخلف الذين يُنسَب إليهم ادعاء الإجماع، لم يملكوا يقينا كاملا ولا انكشافا تاما. ولو كانت أفكارهم مبنية على يقين كامل، لما صدرت منهم أقوال مختلفة، ولما نُقلتْ في كتب التفاسير تحت آية: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ستة أو سبعة أقوال متضاربة، بل لاتفقوا على مرّ العصور على شِقٍّ واحد مسلَّمٍ به. ولو حظُوا بانكشاف تام، لكتبوا حتما- مشيرين إلى القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة- أن المسيح ابن مريم المقبل؛ هو في الحقيقة المسيح ابن مريم رسول الله نفسه الذي نزل عليه الإنجيل، وكان نبيا إسرائيليا، ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة للتصريح بهذا الأمر، بل رحلوا مفوِّضين الحقيقة إلى الله كما هي سيرة الصالحين، حتى أتى زمانٌ كشفَ الله تعالى فيه حقيقة الأمر على عبد من عباده، وأظهر عليه سرًّا كان مكنونا منذ مدة، وذلك لكي يُعتبَر ذلك التفهيم الخارق للعادة، والذي تقاصرت عنه أفهام العلماء كلهم؛ كرامةً في حق ذلك العبد. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فيا أيها الإخوة، أناشدكم بالله ألا تستعجلوا، ولا تصِموا علمكم وفراستكم بوصمة عار. واعلموا يقينا أن سبل الرفض مغلقة ومسدودة كلها، وطرق الإنكار موصَدة جميعها. ولو كان هذا الأمر من فعلِ إنسان، أو كان مبنيا على افتراء؛ لما حالفته هذه الأدلة البيّنة قط. ويقول البعض: لو قبلنا أيضا أن المسيح ابن مريم رسول الله، قد مات فعلا، فما الدليل على أنك أنت الذي أُرسلت لتقوم مقامه؟
فجوابه أن الإنسان يُعرف بأعماله، مع أن الأمر دقيق وغامض في أعين العوام، ولكن الأذكياء يعرفون ويدركون جيدا أنه لا دليل أكبر على صدق المبعوث من الله من أنه لو تمكن من أداء الخدمة التي يدّعي أنه قد أُرسل من أجلها بصورة مُرضية وطريق فريد بحيث لا يجاريه فيها أحد، لتحقَّق على وجه اليقين أنه صادق في دعواه؛ لأن كل شيء يُعرف بتحقق غايته المتوخاة. ومن سخف الكلام تماما القولُ بأن الذي يُدعَى مثيل المسيح يجب أن يُحيِي الموتى أيضا مثله، أو يشفي المرضى، لأن المماثلة تكون في الغاية المتوخاة دائما، ولا أهمية للأمور العابرة. يعرف دارسو أسفار التوراة جيدا أن الخوارق التي نُسبت إلى المسيح - بما فيها إحياء الموتى وإبراء المرضى- ليست خاصة بالمسيح وحده دون غيره، بل قد سبق أن بعض أنبياء بني إسرائيل ما كانوا سواسية مع المسيح ابن مريم في تلك الخوارق كلها فقط، بل سبقوه أيضا، ومع ذلك لا يُعتبَرون أمثال المسيح، ولا يُعدُّ المسيحُ مثيلهم. كذلك فقد اعتُبر نبينا الأكرم مثيل موسى، والقرآن الكريم شاهد على ذلك، ومع ذلك لم يسمع أحد أنه حوّل العصا إلى ثعبان كما فعل موسى، أو أمطر من السماء الدمَ والقمّل والضفادع، بل أريدت المماثلة في الغاية المتوخاة فحسب. ولما كان موسى قد بُعث لتحرير بني إسرائيل، فكلِّف النبيُّ أيضا بمهمة مماثلة؛ ألا وهي تحرير المؤمنين بأيدٍ قوية من فراعنة العصر. فكما حالفت نصرةُ الله الخاصة موسى ، كذلك حالفت سيدَنا رسول الله بوجهٍ آخر. والحق أنها النصرة نفسها التي تحالفني أيضا، وتسمَّى في وقتها المناسب بالمعجزات، وهي مختلفة الأنواع والأقسام.
إنني لأعرفُ جيدا أنه كما حالفت نصرة الله المسيح ، فلن أُحرَم أنا أيضا من تلك النصرة. ولكن ليس ضروريا أن تظهر تلك النصرةُ بإبراء المرضى الماديين، بل الحق أن الله تعالى قد كشف عليّ بالإلهام أن تلك النصرة سوف تشفي خلق الله من الأمراض الروحانية وتزيل الشكوك والشبهات التي تراودهم. وكما قلت من قبل، فأرى أيضا أن تأثيرا طيبا يقع على قلوب مستعدة، وتزول أسقامُها المزمنة، وأن نصرة الله تعمل عملها في الخفاء. ولقد قال الله تعالى في كلامه الخاص مشيرا إليّ بأنه لو بُحث في أمري على غرار سيرة النبي الناصري، لتبين بجلاء تام أن هذا العبد الضعيف يُبرئ الأمراض الروحانية أكثر مما أُبرئت الأمراض الجسدية في زمن من الأزمان.
إن المتحلين بعلوم الطبيعة المعاصرين الذين لم يبق في قلوبهم شيء من عظمة قولِ الله وقول الرسول، يقدمون فكرة لا أصل لها تقول: إن الأخبار التي جاءت في الصحاح عن مجيء المسيح ابن مريم باطلة كلها. ولعلهم يقصدون من وراء ذلك أن يحقِّروا إعلاني أنا العبد الضعيف ويُبطلوه بطريقة أو بأخرى. ولكن الحق أنهم يخاطرون بإيمانهم بإنكارهم هذا الكم الهائل من المتواترات. والواضح تماما أن التواتر شيء لو عُثر عليه في كتب تاريخ الأمم الأخرى أيضا، لما وسعنا إلا قبوله، وقد قبلنا وجود أسلاف الهندوس مثل "رام تشندر" و"كرشنا" وغيرهما بناء على التواتر فقط. مع أن الهندوس أغرار جدا في مجال البحث والتحقيق، ولكن هذا القدر من التواتر الموجود في كتبهم لا يترك مجالا للظن أن الراجا "رام تشندر" والراجا "كرشنا" اسمان خياليان.
يجب الإدراك هنا بأنه مع أن القرآن الكريم كتاب أكمل وأتم إجمالا، ولكننا قد استمددنا جزءا كبيرا من الدين وأساليب العبادة وغيرها بصورة مفصّلة ومبسوطة من خلال الأحاديث. ولو اعتبرنا الأحاديث ساقطة من الاعتبار كليا، لتعذر علينا الإثبات أن أبا بكر وعمر وعثمان ذا النورين ، وعليًا المرتضى كرّم الله وجهه، كانوا كبار صحابة النبي وأمراء المؤمنين، وكانوا موجودين فعلا، وما كانوا شخصيات وهمية أبدًا، مع أنه لم يُذكر اسم أيّ منهم في القرآن الكريم.
لا شك أنه إذا كان هناك حديث يعارض أو ينافي آية من القرآن - كأن يقول القرآن الكريم بأن المسيح ابن مريم قد مات، ويقولَ الحديث إنه لم يمت - فإن هذا النوع من الأحاديث مرفوض وغير جدير بالاعتبار. أما الحديث الذي لا يعارض القرآن الكريم، بل يبيّن مضمونه بالشرح والتفصيل، فهو جدير بالقبول بشرط كونه خاليا من الطعن. فمن الشقاوة الكبيرة والخطأ الفادح أن نعتبر جميع الأحاديث ساقطة من الاعتبار، ونُدخل في قائمة الأحاديث الموضوعة؛ أنباءً متواترة انتشرت في البلاد الإسلامية كلها في فترة خير القرون، واعتُبرت من المسلَّم بها. لا يخفى على أحد أن النبأ عن مجيء المسيح ابن مريم يحتل مقام الصدارة، وقد قبله الجميع بالاتفاق، ولا يساويه وزنا وأهمية نبوءة من النبوءات الواردة في الصحاح، فهو حائز على أعلى درجة من التواتر، ويصدّقه الإنجيل أيضا.
فرفض كل هذا القدر من الإثباتات، والقولُ بأن كل هذه الأحاديث موضوعة؛ إنما هو فعل الذين لم يعطِهم الله نصيبا من البصيرة الدينية ومعرفة الحق. ولأنه لم تبق في قلوب هؤلاء الناس عظمةُ ما قال الله ورسوله؛ فإنهم يُدخلون كلّ ما فاق فهمَهم في قائمة المحالات والمحظورات. لا شك أن ناموس الطبيعة أداة لاختبار الحق والباطل، ولكنه ليس مدار كل اختبار وتمحيص.
وبالإضافة إلى ذلك هناك أدوات ومعايير أخرى أيضا يمكن تمحيص الحقائق عليها. بل الحق أن الحقائق التي عُثر عليها بواسطة قوانين الطبيعة الذي اصطلح عليه الحكماء، هي من الدرجة الدنيا، غير أن هناك قانونا آخر أيضا فوق هذا القانون المبنيّ على الفلسفة، وهو قانون دقيق وغامض جدا، وهو مخفي عن النظرات السطحية لغموضه ودقته، ولا يُكشف إلا على العارفين، ولا يظهر إلا على الفانين في الله. وإن عقول هذه الدنيا، والعارفين بقوانينها؛ لا يقدرون على معرفته، بل يظلون ينكرونه. لذا فإن الأمور التي ثبتت بواسطته، والحقائق التي تحققت من خلاله؛ تدخل في الأباطيل في عيون هؤلاء الفلاسفة السِّفليين. إنهم يعتبرون الملائكة قوًى فقط، ويعدّون الوحي نتيجةً للتفكير والتأمل فقط. ويسمّون كلّ ما يتطرق إلى القلب وحيا، ويحسبون القرآن الكريم وكتب الله الأخرى قد اختلقها الأنبياء أنفسهم، وذلك لأنه ليس في قلوبهم عظمة ذلك الذات القوي والقيوم ومدبِّر هذا العالم في الظاهر والباطن، بل يعتبرونه ميتا أو نائما أو ضعيفا أو غافلا. وينشغل بالهم في التفكير بهدم بناء قدرته كليا. ينكرون المعجزات نهائيا ويرفضون نبوءات القرآن الكريم تماما. ولا يرون القرآن الكريم حتى معجزة بسيطة لِعَمَاوَتهم، مع أنه أعلى وأرفع معجزة على الإطلاق. ويفسرون الجنة والجحيم تفسيرا ضعيفا للغاية لا يُستخلص منه إلا الإنكار. ينكرون حشر الأجساد كليا، ويسخرون من العبادات مثل الصوم والصلاة. وإن العكوف على الدنيا في نظرهم، أفضل من التوجه إلى الله. ومَن توجّه إلى الله؛ اعتبروه ساذجا وأبله وغبيا ودرويشا. إن من سوء حظ المسلمين نشوء هذه الفرقة في الإسلام أيضا، وهي تتقدم في ميادين الإلحاد يوما فيوما.
ياربي، يا ربي القدير انصرْ، فإن الناس قد اختاروا سبل الإفراط والتفريط. بعضهم تركوا كليًّا بيّنات كلامك، وإشارات كلامك، ودلالات كلامك، وفحوى كلامك، وأحبّوا بدلا منه طريقًا لا أصل له. أما بعضهم الآخر فقد ترك كلامك وذلك المسلك أيضا، واتخذوا عقلَهم الناقص مرشدا لهم، واتخذوا الفلاسفة المحجوبين من أوروبا- من ذوي الأفكار المظلمة- أئمة لهم، تاركين إمام الرسل.
يا أحبائي، اسمعوا وصيتي الأخيرة. أخبركم بسرٍّ! تذكَّروه جيدا! عليكم أن تغيِّروا اتجاه مناظراتكم مع المسيحيين، وأثبِتوا لهم أن المسيح ابن مريم قد مات للأبد. هذا هو المبحث الوحيد الذي لو نجحتم فيه، لطويتم صفحة الديانة المسيحية من وجه المعمورة. فلا حاجة لكم أن تضيعوا أوقاتكم الثمينة خائضين في خصومات طويلة أخرى، ركِّزوا على موت المسيح ابن مريم فقط، وأفحموا المسيحيين وأسكِتوهم بأدلة دامغة. إذا أثبتّم انضمام المسيح إلى صف الأموات، ورسّختم هذه الفكرة في قلوب المسيحيين، فاعلموا أن الديانة المسيحية سوف تغيب من الدنيا في اليوم نفسه. واعلموا يقينا أيضا؛ أنه ما لم يمت إلههم، لن يموت دينهم، ولذلك فإن النقاشات الأخرى معهم عابثة. إن لدينهم عمودا واحدا؛ وهو أن المسيح ابن مريم ما زال متربعا في السماء حيا، فاهدموا هذا العمود، ثم انظروا أين تصبح المسيحية في الدنيا. ولأن الله تعالى أيضا يريد هدم هذا العمود، ويحب أن تهبّ رياح التوحيد في أوروبا وآسيا وغيرها، فإنه قد أرسلني وكشف عليّ بإلهامه الخاص أن المسيح ابن مريم قد مات. فقد احتوى إلهامه على أن المسيح ابن مريم رسول الله قد مات، وأنك جئتَ حاملا صفاته بحسب الوعد. وكان وعد الله مفعولا. أنت معي وأنت على الحق المبين. أنت مصيب ومعين للحق.
لقد أثبتُّ في هذا الكتاب موت المسيح وانضمامه إلى الأموات بأدلّة قوية ودامغة. وقد أبلغتُ بالبداهة أن المسيح لم يُرفع إلى السماء حيا بجسده المادي قط، بل وافته أيضا المنيّة مثل بقية الأنبياء، فرحل من هذه الدنيا إلى الأبد. فمن كان يعبد المسيح، فليعلم أنه قد مات، وانضم إلى جماعة الأموات للأبد. فاستفيدوا من كتابي هذا بُغية تأييد الحق، وتصدُّوا للقساوسة بحماس. يجب أن تكون هذه القضية وحدها محل تركيزكم، والأجدر بالاعتماد؛ أي أن المسيح ابن مريم قد دخل حزب الأموات في الحقيقة. لقد أبلغت هذا البحث في هذا الكتاب مُنتهاه بكل تركيز وبأدلة كاملة ودامغة. ولقد نصرني الله تعالى في تأليفه بما لا يمكنني بيانه. أقول بكل تحدٍّ وثقة: إنني على الحق، وسأنال الفتح في هذا المجال بفضل الله تعالى. وبقدر ما أستطيع أن أنظر ببصيرتي أرى العالم خاضعًا لصدقي. قرُب أن أحقق فتحا عظيمًا، لأن لسانا آخر يتكلم مؤيِّدا لساني، ويدا أخرى تجري لتقوية يدي، الدنيا لا تراها، ولكنني أراها. إن روحًا سماوية تنطق من داخلي، وتنفخ الحياة في كل كلمة وحرف يخرج من فمي. هناك ثَوَرانٌ وهياجٌ في السماء بَعَثَ هذه الحفنة من التراب وحرَّكها كما تُحرَّك الدُمية. سيدرِك قريبا كل من لم يُغلَق بابُ التوبة في وجهه أني لست من عند نفسي. هل تبصر العيون التي لا تستطيع تمييز الصادق؟ وهل يعتبر حيًّا مَن لا يشعر بهذا الصوت السماوي؟
موعد نزول المسيح الموعود وتاريخه
بحسب أقوال كبار السلف والخلف
والأحوال الأخرى
نقلا عن كتاب: "آثار القيامة"[170]
المولوي السيد محمد صِدِّيق حسن خانْ - الذي يعتبره الشيخ أبو سعيد محمد حسين مجددا - كتب بكل صراحة في الصفحة 395 من كتابه "آثار القيامة" أن ظهور المهدي ونزول عيسى وخروج الدجال سيكون في قرن واحد. ثم يقول: كانت هناك نبوءة تنبأ بها الإمام جعفر الصادق بأن المهدي سيظهر في العام 200 من الهجرة، ولكنه قد مضى ولم يظهر المهدي. فإذا كانت النبوءة المذكورة مبنية على كشف أو إلهام، فلا بد من تفسيره، أو لا بد من اعتبار الكشف باطلا. ثم يقول بأن مذهب أهل السنة هو أن المراد من حديث "الآيات بعد المائتين" هو أن هذه العلامات ستبدأ بالظهور بعد مرور 1200 عام، وسيحل موعد ظهور المهدي والمسيح الموعود وخروج الدجال. ثم ينقل عن "نعيم بن حماد" أن "أبا قبيل" يقول بأن المهدي سيظهر في عام 1204من الهجرة. ولكن هذا الكلام أيضا لم يتحقق. ثم يقول مشيرا إلى كشف رآه الشاه ولي الله - المحدث الدهلوي- أنه علم تاريخ ظهور المهدي في كشف من الله متمثلا في الاسم "جراغ دين" بحسب حساب الجمَّل، وأن مقدار هذه الاسم بحساب الجمّل هو: 1268. ثم يقول: لقد مرت تلك السنوات أيضا ولم يُعثر للمهدي على أثر في الدنيا. فتبين من ذلك أن هذا الكشف أو الإلهام "للشاه ولي الله" لم يكن صحيحا.
أقول: إن مرور السنوات المحددة لا يدل على الخطأ في الكشف، بل يدل على الخطأ في الفهم، لأن مواقيت الأنباء المحددة لا تكون قطعية الدلالة، بل في كثير من الأحيان تكون فيها استعارات، حيث تُذكر الأيام ويرُاد منها السنوات.
ثم يشير إلى مجلة "السيف المسلول" للقاضي ثناء الله باني بتي، ويقول: قد ورد فيها أن علماء الظاهر والروحانيين متفقون ظنا وتخمينا منهم أن المهدي سيظهر في أوائل القرن الثالث عشر. ثم يقول: لقد سبق أن قال بعض المشايخ بناء على كشوفهم؛ إن المهدي سيظهر بعد مرور 1200 عام، ولن يتجاوز ظهوره القرن الثالث عشر. ثم يقول: لقد مضت هذه الأعوام أيضا ولم يبق من القرن الثالث عشر أيضا إلا عشرة أعوام ولم يظهر المهدي ولا عيسى في الدنيا إلى الآن. فما هذا الذي حدث؟ ثم يسجل رأيه هو ويقول: إنني أرى بناء على قرائن قوية أنه سيظهر على رأس القرن الرابع عشر. ثم يقول: القرائن تدل على أن الفتن الدجالية الكثيرة قد ظهرت في القرن الثالث عشر، ولا تزال تظهر للعيان كظلمات الليلة الحالكة الظلام. وإن اجتماع الفتن والآفات في القرن الثالث عشر صار على لسان كل صغير وكبير، حتى أننا سمعنا من العجائز - حين كنا صغارا - أن الدواب أيضا استعاذت من القرن الثالث عشر. ثم يقول: مع أن هذا الكلام لا يثبت بهذه الدقة من أيّ حديث، ولكن حين ننظر إلى تقلّبات العالم ونرى الاختلافات الواضحة الحاصلة في أحوال بني آدم؛ نجدها شاهدا صادقا على أن الدنيا لم تكن بهذا الحال من قبل. فمع أن كشوف المشايخ ليست جديرة بالثقة الكاملة، لأن هناك إمكانية كبيرة للخطأ فيها؛ بيد أنه يمكننا القول بأن وقت ظهور المهدي وعيسى قد قرُب، لأن الأمارات الصغرى قد ظهرت جميعها، ويلاحَظ في الدنيا تغيُّرٌ عظيم، وإن حالة أهل الدنيا قد تغيَّرت إلى حد كبير، وساد الإسلامَ ضعفٌ كامل، والحقيقة النورانية التي اسمها "العِلم" قد اختفت من الدنيا، وعمّ الجهل كثيرا وشاع، وحمي وطيس الفسق والفجور، وانتشر البُغض والحسد والعداوة، وتجاوز حب المال الحدودَ كلَّها، وقد تقاصرت الهمم عن تحصيل أسباب المعاد، وجُعلت الدار الآخرة في طي النسيان تماما، وأوثرَتْ الدنيا بكل معنى الكلمة، فهذه كلها علامات بينة وأمارات جليّة على أن ذلك الوقت قريب جدا.
أقول: إن قول الشيخ صديق حسن خان بأنه لا يثبت من حديث صحيح وقتٌ محدد لظهور المسيح خطأ فادح من الشيخ، بل يبدو من كشوف الأولياء أن أجله الأخير هو نهاية القرن الثالث عشر. وقد أقرَّ من قبل أن عمر الدنيا منذ خلق آدم هو سبعة آلاف سنة، ولم يبق من عمرها إلا قليل.
ثم نقل في الصفحة 385 من كتابه حديثا ورد في ابن ماجة برواية أنس، وقد أورده الحاكم أيضا في المستدرك: "لا مهدي إلا عيسى بن مريم." ثم يقول إن هذا الحديث ضعيف، لأن مجيء المهدي ثابت من أحاديث كثيرة.
أقول: إن الأخبار عن المهدي لا تخلو من الضعف، لذلك لم يأخذ بها الشيخان، أما حديث ابن ماجة والحاكم الذي يقول: "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" فقد اطلعنا عليه الآن. ولكن يمكننا التوفيق بين الروايات في أن الشخص الذي ذُكر مجيئه في الأحاديث باسم عيسى، سيكون هو المهدي في عصره وهو الإمام، ومن الممكن أيضا أن يأتي بعده مهدي آخر، وهذا ما ذهب إليه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري أيضا، لأنه لو كان معتقدا بشيء آخر لذكره في صحيحه، ولكنه اكتفى بالقول: سينـزل ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ، وسكت. والمعلوم أن إمام الوقت يكون واحدا فقط. ثم يقول في الصفحة 425 بأن السلف والخلف متفقون على أنه عندما ينـزل عيسى سيُدخَل في الأمة المحمدية. ويقول بأن الإمام القسطلاني أيضا قال ذلك في كتابه: "المواهب اللدنية". واللافت في الموضوع أنه سيكون فردا من الأمة، ونبيا أيضا. ولكن من المؤسف حقا أن الشيخ المرحوم لم يدرك أن صاحب النبوة التامة لا يمكن أن يكون من الأمة مطلقا. والذي يسمَّى رسول الله بوجه أكمل، من المستحيل تماما أن يكون مطيعا كاملا لنبي آخر أو فردا من أمته بحسب نصوص القرآن الكريم والأحاديث؛ إذ يقول الله جلّ شأنه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ[171]، أيْ أن الله تعالى يرسل الرسول ليكون مطاعا وإماما، وليس ليكون مطيعا وتابعا لغيره، أما المحدَّث - وهو من المرسَلين أيضا - فيكون فردا من أمة نبيه المتبوع، ونبيا أيضا نبوةً غير كاملة. فيكون فردا من الأمة لكونه تابعا كاملا لشريعة رسول الله، ونائلا البركات من مشكاة الرسول. ومن ناحية ثانية هو نبي أيضا، لأن الله تعالى يعامله معاملة الأنبياء. بل الحق أن الله تعالى قد خلق المحدَّث كالبرزخ بين الأنبياء والأمم. فمع أنه من الأمة بوجه كامل، ولكنه نبي أيضا من وجه آخر. فمن الضروري للمحدَّث أن يكون مثيلا لنبي، وينال عند الله اسم ذلك النبي.
هنا يجب أن يكون مفهوما أنه لما كان مقدّرا أن تسري أفكار النصارى واليهود الباطلة في الدنيا كلها كالسم الزعاف، ولن يتسرب تأثيرها السيِّئ إلى الناس من طريق واحد فقط بل من آلاف الطرق - وقد أُنبئ مسبقا في الأحاديث الشريفة عن هذا الزمن بأن الصفات السيئة للمسيحية واليهودية سوف تنتشر إلى حد كبير حتى تترك تأثيرها القوي في المسلمين أيضا، ويصبح سلوك المسلمين وعاداتهم وتصرفاتهم شبيهة باليهود والنصارى تماما، والعادات التي أهلكت اليهود والنصارى من قبل، ستتسرب كلها إلى المسلمين نتيجة ظهور أوجه التأثير فيهم، وفي ذلك إشارة إلى زمنٍ يترك فيه المجتمع المسيحي الذي يحمل في طياته صفات اليهود أيضا تأثيره على نحو عام في أفكار المسلمين وعاداتهم ولباسهم وأساليب عيشهم. والحق أن العصر الراهن هو ذلك الزمن الذي غابت منه الروحانية كليًّا- لذا كان مقدرا عند الله أن يرسِل لهذا الزمن مصلحا يمحو صفات اليهود والنصارى السامة من بين المسلمين، فأرسل مصلحا باسم ابن مريم ليُعلَم أن الذين أُرسِل إليهم هذا المصلح قد صاروا مثل اليهود والنصارى تماما. فكما ورد أن ابن مريم سينـزل فيكم، كذلك أُشير في الوقت نفسه بكل صراحة إلى أن حالتكم عندئذ ستكون كحالة اليهود عند بعثة المسيح ابن مريم. فقد اختير هذا اللفظ إشارةً ليعلم كل واحد أن الله تعالى قد وصف المسلمين الذين وُعد نزول المسيح ابن مريم فيهم باليهود، ولكن من المؤسف حقا أن لا أحد من المشايخ المعاصرين يفهم هذه الإشارة، بل هم متمسكون بظواهر الألفاظ كاليهود، ويقولون مرارا وتكرارا إنه لا بد من مجيء المسيح ابن مريم حقيقةً. ولا يفكرون قط أنه إذا قيل لأحد: إنك فسدتَ كفرعون، ولسوف يأتي موسى لإصلاحك، فهل يعني هذا الكلام أن موسى رسول الله الذي نزلت عليه التوراة سيُحيا في الحقيقة ويعود إلى الدنيا؟ كلا، ومن الواضح تماما أن هذا ليس هو المعنى المراد، بل يراد من مثل هذا الكلام أن مثيلا لموسى سيأتي لإصلاحك.
والواضح أيضا أن مغزى الأحاديث النبوية وملخّصها أنه يقول: عندما تفسد تصرفاتكم في الزمن الأخير كاليهود، سيأتي عيسى بن مريم لإصلاحكم. أيْ حينما تصبحون يهودا بسبب تصرفاتكم السيئة سأرسل إليكم أحدا بصفته عيسى بن مريم. وعندما تستحقون السياسة بسبب تمردكم الشديد عندها سيظهر فيكم محمد بن عبد الله؛ الذي هو المهدي.
فليكن واضحا أن كِلا الوعدَين؛ أيْ وعد مجيء محمد بن عبد الله ومجيء عيسى بن مريم، يماثل بعضهما الآخر من حيث الهدف والمقصود. فالمراد من مجيء محمد بن عبد الله هو أنه حين تؤول حالة الدنيا إلى وضع يقتضي الإصلاح، عندها سيظهر شخصٌ مثيل لمحمد ، ولكن ليس ضروريا أن يكون اسمه محمد بن عبد الله في الحقيقة. بل المراد من تلك الأحاديث هو أنه عند الله؛ سيحمل اسم محمد بن عبد الله، لأنه سيأتي مثيلا لمحمد . كذلك فالمراد من مجيء عيسى بن مريم: هو أنه عندما يصبح الناس مثل اليهود نتيجة سوء استعمالهم لعقولهم وابتعادهم عن الروحانية والحقيقة وغياب عبادة الله وحبه من قلوبهم؛ سيكونون عندئذ من أجل إصلاحهم روحانيًا، بحاجة إلى مصلح يوجههم إلى الروح والحقيقة، والبِرِّ الحقيقي، وذلك دون أن تكون له علاقة بالقتال والحروب. وهذه مكانةٌ مسلَّم بها للمسيح ابن مريم؛ لأنه قد جاء لأداء هذه المهمة بوجه خاص. وليس ضروريا أن يكون اسم هذا الشخص الآتي "عيسى بن مريم" حقيقة، بل المراد من الأحاديث هو أن اسمه "عيسى بن مريم" عند الله على وجه القطعيّة. وكما سمّى الله تعالى اليهودَ قردةً وخنازير، إذ قال عنهم: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ[172]، كذلك وصف ذوي الطبائع الفاسدة من هذه الأمة بأنهم يهودا، وسماني المسيح ابن مريم، وقال في إلهامه: جعلناك المسيح ابن مريم.
ثم يقول المولوي صديق حسن خان في كتابه المذكور: عندما ينـزل عيسى بن مريم ستُكشف عليه جميع أحكام القرآن الكريم بواسطة جبريل ؛ أيْ سينـزل عليه الوحي، ولكنه لن يتوجّه إلى الأحاديث، لأن تفسير القرآن الكريم سينـزل عليه بالوحي، وسيُغنيه عن الحديث.
ثم يقول: يظن البعض أن عيسى بن مريم عندما ينـزل، يكون فردا من الأمة فقط، ولن تكون فيه نفحة من النبوة.
ثم يضيف ويقول: والحق أنه سيكون فردا من الأمة ونبيا أيضا، ويكون اتّباع النبي واجبا عليه مثل بقية أفراد الأمة، وسيضطر لقبول كلِّ ما أجمعت عليه الأمة، وحيث رأى النبيَّ ليلة المعراج، فهو صحابي أيضا، غير أن أبا بكر هو الأعلى درجة من بين الصحابة جميعا بحسب إجماع جماعة أهل السنة.
ثم يتساءل: كيف صار واحدا من الأمة مع كونه نبيا؟ ويرد على ذلك بنفسه قائلا: لأنه كان قد دعا الله تعالى أن يجعله من أمة نبي آخر الزمان، لذا فقد جعله الله من أمته أيضا، مع كونه نبيا.
ويقول في الصفحة 427: سيكون مجدد عصره، ويُعدُّ من مجددي هذه الأمة، ولكن لن يكون أمير المؤمنين؛ لأن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وأنّى للمسيح أن يسلب حقهم؟ لذا لن يؤدي قط مهام الخلافة؛ مثل الجدال والقتال والسياسة، بل سيأتي تابعا لخليفة الوقت، وكالرعايا.
فمن الشبهات الكبيرة التي تطلّ برأسها هنا أنه إذا كان المسيح ابن مريم من الأمة تماما عند نزوله، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون رسولا لكونه فردا من الأمة، لأن هناك تفاوتًا بين مفهوم الرسول ومفهوم الفرد من الأمة. وكذلك إن كون نبينا خاتَم النبيين؛ يمنع مجيء نبي آخر، أما الذي يستمد النور من مشكاة نبوة محمد ، ونبوته ليست نبوة تامة، بل يُدعى بتعبير آخر محدَّثا؛ فهو يخرج من نطاق هذا التحديد، لأنه داخل في ظِل خاتَم المرسَلين ، وذلك لاتباعه وفنائه في الرسول ، كما يدخل الجزء في الكل. ولكن المسيح ابن مريم قد نزل عليه الإنجيل - الأمر الذي يجعل نزول جبريل ضروريا - فلا يمكن أن يكون فردا من الأمة بحال من الأحوال، لأنه سيكون محتّما عليه اتّباع الوحي الذي سينـزل عليه بين فينة وفينة كما هو جدير بالرسل. فلو اتبع هذا الوحيَ والكتابَ الجديد الذي سينـزل عليه، فلن يُعدّ فردا من الأمة.
وإذا قلتم إن الأحكام النازلة عليه لن تكون مضادة للقرآن الكريم، قلتُ: مع ذلك لا يمكن أن يعدَّ من الأمة بناء على هذا التوافق وحده، إذ من الواضح البيّن أن جزءا لا بأس به من التوراة يطابق القرآن الكريم تماما، فهل سيُعدُّ نبينا الأكرم من أمة موسى - والعياذ بالله - بسبب هذا التوافق فقط؟ التوافق شيء والاتّباع كالمنقادين شيء آخر.
لقد أوردت قبل قليل قول الله تعالى في القرآن الكريم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ أيْ لا يأتي إلى الدنيا رسول مطيعا ومتَّبِعا، بل يأتي مطاعا وتابعا للوحي الذي ينـزل عليه بواسطة جبريل فقط. والواضح أيضا أنه عندما ينـزل المسيح ابن مريم ويبدأ جبريل بإنزال الوحي عليه بالتوالي، ويعلّم بالوحي المعتقدات الإسلامية مثل الصيام والصلاة والزكاة والحج ومسائل الفقه كلها، فستُسمَّى هذه المجموعة من أحكام الدين "كتاب الله" حتمًا.
وإن قلتم: سيؤمَر المسيح بذلك الوحي فقط أن يعمل بالقرآن، ثم ينقطع الوحي طول العمر، ولن ينـزل عليه جبريل بعد ذلك قط، بل ستُسلَب منه النبوة كليا فيصبح مثل بقية أفراد الأمة، قلت: إن هذه فكرة صبيانية جدا وتبعث على الضحك. فالمعلوم أنه لو قيل إن الوحي سينـزل عليه مرة واحدة فقط، ثم يصمت جبريل نهائيا بعد ذلك، لكان ذلك أيضا منافيا لختم النبوة؛ لأنه إذا فُضَّ ختم النبوة مرة، وبدأ نزول وحي النبوة من جديد - قليلا كان أم كثيرا - فلا يغير في الموضوع شيئا. لكل عاقل فطين أن يدرك أنه إذا كان الله تعالى صادق الوعد - وكان وعده الوارد في آية خاتَم النبيين، وما جاء في الأحاديث بصراحة تامة أن جبريل قد مُنع بعد وفاة النبي من الإتيان بوحي النبوة إلى الأبد - صدقا وحقا، لاستحال قطعا أن يأتي أيّ شخص رسولا بعد نبينا الأكرم . ولو افترضنا جدلا أن المسيح ابن مريم سيُحيا ويعود إلى الدنيا، لما وسعنا الرفض بحال من الأحوال أنه رسول، وسيأتي كرسول، وستبدأ سلسلة نزول جبريل وكلام الله عليه من جديد. كما لا يمكن على الإطلاق أن تطلع الشمس دون أن يصحبها ضوءها،كذلك من المستحيل تماما أن يأتي إلى الدنيا رسول لإصلاح خلق الله دون أن يصحبه الوحي وجبريل .
وبالإضافة إلى ذلك لكل عاقل أن يعلم؛ أنه إذا انقطعت تماما سلسلة نزول جبريل ونزول كلام الله في زمن نزول المسيح ، فأنّى له أن يقرأ القرآن الكريم باللغة العربية؟ هل سيتتلمذ في مدرسة ما، لبضعة أعوام بعد نزوله ليدرس القرآن الكريم على يد أحد المشايخ؟ وإن افترضنا جدلا أن هذا ما سيفعله ، فكيف يستنتج من القرآن الكريم - بغير تلقيه وحي النبوة - مسائلَ دينية مثل عدد ركعات السنّة في صلاة الظهر، وعدد ركعات السنّة في صلاة المغرب مثلا؟ ومن تجب عليه الزكاة، وما هو نصابها؟ لأنه قد تبين مسبقا أنه لن يتوجه إلى الأحاديث. وإذا أُعطي كل هذا العلم بوحي النبوة، فلا بد أن يُعدّ الكلام الذي بواسطته ستُكشف عليه كل هذه التفاصيل كتابَ الله، لكونه محتويا على وحي النبوة. فالواضح أن هناك مفاسد ومصاعب لا حصر لها تلازم مجيئه الثاني؛ منها أنه ليس من سلالة قريش، فلا يمكن أن يكون إماما بحال من الأحوال، فسيضطر ليبايع إماما آخر شاء ذلك أم أبى، وخاصة إذا كان الاعتقاد سائدا أن الجميع يكونون قد بايعوا محمدا بن عبد الله المهدي قبل نزوله. ففي هذه الحالة ستطل مصيبة أخرى برأسها وهي أن تأخُّره عن بيعة المهدي تكون معصية كبيرة، لذا لا بد من مبايعته المهديَ حتما بحكم الحديث القائل: "من شَذّ شُذَّ في النار"، أو تصدر بحقه فتوى الخروج عن طاعة الله ورسوله، لعدم بيعته خليفة الوقت.
ثم نُقل في الصحفة 427 من كتاب "آثار القيامة" نفسه قول ابن خلدون بأن المتصوفين يرون بناء على الكشف أن الدجال سيخرج في عام 743. فيتابع ويقول: إن هذا الكشف أيضا لم يتحقق. ثم يقول: لقد اكتشف يعقوب بن إسحاق الكندي أيضا بواسطة الكشف أن عام 698، هو عام نزول المسيح، ولكن مضت مدة أطول منها بكثير ولم يأتِ المسيح إلى الآن. ثم يقول بأنه قد رُوي عن أبي هريرة أن النبي قال: "إني لأرجو إنْ طال بي العمر أن ألقى عيسى بن مريم" أي إن وجود محمد بن عبد الله المهدي في تلك الفترة ليس ضروريا. "فإن عجل بي موت فمن لقيه فليُقرئه مني السلام". أخرجه مسلم وأحمد أيضا.
هنا يقول المولوي صديق حسن خانْ: أتمنى أن يأتي المسيح في حياتي لأقرأ عليه أنا السلام من سيدنا خاتَم المرسَلين. طبعا هذه كانت أمنية كل واحد، رحمهم الله. لقد قال مجدد القرن الحادي عشر[173] بالحق ما معناه: حين ينـزل المسيح، سيعارضه العلماء كلهم ويقولون: بأنه يقدِّم رأيه ويترك الإجماع، ويحرِّف معاني كتاب الله!
ثم يقول: إن هناك اختلافا في موت عيسى قبل الرفع. يقول البعض إنه رُفع بعد الموت، ومع ذلك سيموت بعد عودته؛ لذا فله ميتتان. ومع أن الآية: وَرَفَعْناهُ مَكَانًا عَلِيًّا[174] لا تتناول ذكر موت إدريس، ولكن المذهب الصحيح هو أنه أيضا رُفع بعد الموت. ثم يقول إن الشيعة أيضا يقولون بأنه: لن ينـزل عيسى من السماء، بل الحق أن المهدي هو الذي سُمِّي عيسى. ثم يقول: إن بعض المتصوفين استنبطوا من الحديث: "لا مهدي إلا عيسى" أن المهدي الآتي هو عيسى نفسه في الحقيقة، ولا حاجة لنـزول عيسى آخر من السماء. ولقد اعتبر المتصوفون مهديَّ آخرَ الزمان هو عيسى، لأنه سيأتي لخدمة الشريعة المحمدية، وسيأتي تماما كما أتى عيسى لخدمة شريعة موسى واتِّباعها.
ثم يقول في الصفحة 431 من كتابه المذكور بأنه يتبين من الأحاديث أن الوحي سيظل ينـزل على عيسى بعد نزوله، وذلك كما جاء في حديث النواس بن سمعان الذي أورده الإمام مسلم: "يقتل عيسى الدجالَ عند باب لدّ الشرقي، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم". ثم يقول بأن جبريل سيأتي عيسى بالوحي، لأنه هو الذي يأتي بالوحي إلى الأنبياء.
يتبين من هذا البحث كله أن جبريل سينـزل بالوحي على ابن مريم باستمرار إلى مدة أربعين عاما التي حدِّدت لمكوث المسيح في الدنيا بعد مجيئه. والآن لكل عاقل أن يفهم أنه كما نزل القرآن الكريم بأجزائه الثلاثين، في غضون ثلاثة وعشرين عاما، لكان من المحتّم أن ينـزل على المسيح كتاب يحتوي على خمسين جزءا على الأقل في غضون أربعين عاما. ومن الواضح أيضا أن فكرة تردّد جبريل إلى الأرض بوحي النبوة بعد خاتَم النبيين ووجود كتاب جديد من الله - وإن كان يطابق القرآن الكريم من حيث المضمون - يستلزم المحال، وما استلزم المحال كان محالا، فتدبّر.
يجب الإمعان جيدا في انقلابٍ عظيم وهو أن المسيح سينـزل - لو افترضنا نزوله جدلا - في حالة لن يكون لديه أدنى إلمام بالشريعة المحمدية، لكونها في لغة غير لغته. وسيكون بحاجة إلى أن يطّلع على تعاليم القرآن الكريم، وعلى تفاصيل أحكام الدين التي تبيِّنها الأحاديث. فباختصار، يتحتم عليه الاطلاع على كافة تعاليم الشريعة المحمدية؛ سواء كانت عقائد أو عبادات أو معاملات أو قوانين قضاء وحكم في القضايا. ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقضي عمرا طويلا - وهو طاعن في السن أصلا - وهو يتتلمذ على أيدي الآخرين. فلا بد من أن تنـزل عليه جميع تعاليم الشريعة مجددا، إذ ليس له سبيل آخر لاستعلام المجهول. لقد جرت سنة الله منذ القِدم في تعليم الرسل وإعلامهم أنه يعلِّمهم بإنزال الآيات الربانية والكلام الرحماني بواسطة جبريل . وبما أن القرآن الكريم كله وكذلك الأحاديث النبوية الصحيحة، ستُنَـزَّل على المسيح مجددا بلغته هو بواسطة جبريل، وأنه قد ورد في الأحاديث أن بعضا من أوامر القرآن الكريم المتعلقة بالجِزية وغيرها ستُنسَخ أيضا، فيتضح أن القرآن الكريم سوف يُنسَخ أيضًا - مثل التوراة والإنجيل- بعد نزول هذا الكتاب الجديد، وأن القرآن الجديد النازل على المسيح الذي سيكون مختلفا بعض الشيء عن القرآن الكريم الحقيقي سيجد رواجا ونفوذا. وسيتلو المسيح في الصلاة قرآنه الخاص به، وسيُعلِّم الآخرين أيضا هذا القرآن جبرا وقهرا. ويبدو في الظاهر أن الشهادة بأن "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" أيضا ستكون قابلة للتغيير والنسخ نوعا ما، لأنه إذا استُئصلت الشريعة المحمدية تماما - والعياذ بالله - ونزل قرآن جديد وإن كان مطابقا لقرآننا إلى حد ما، فلا بد أن تتغير هذه الشهادة أيضا.
يردّ البعض على ذلك منفعلين بشدة ويقولون بأن كل هذه الأمور بمنـزلة عيوب في الحقيقة، ولا يمكننا إنكارها، ولكن ماذا نفعل ما دام قد تم الإجماع على نزول المسيح بصفته رسول الله، ونـزول جبريل عليه إلى أربعين عاما متتالية، وهذا ما يتضح من الأحاديث أيضا. أقول في الجواب: صحيح تماما أنه إذا جاء المسيح رسول الله نفسه - صاحب الكتاب الذي كان ينـزل به جبريل- فلن يتتلمذ على يد أحد أبدا من أجل الاطلاع على قوانين الشريعة المحمدية، بل سينـزل عليه وحي الله بواسطة جبريل بحسب سنته ، وستنـزَّل عليه من جديد كافة قوانين الشريعة المحمدية وأوامرها بصورة جديدة وبأسلوب جديد وبلغة جديدة، وسيُعتبَر القرآن الكريم منسوخا مقابل ذلك الكتاب الجديد الذي سينـزل من السماء. لكن الله تعالى لن يسمح بحق هذه الأمة ذلةً وهوانا كهذا أبدا، ولن يسمح أبدا بحق نبيه الحبيب خاتم الأنبياء إساءة أو إهانة مطلقا، فضلاً عن إرسال رسولٍ يصحبه جبريل لا محالة، ثم يستأصل الإسلام نهائيا، مع أنه قد وعد بعدم إرسال أي رسول بعد النبي . إن دارسي الأحاديث قد وقعوا في خطأ فادح إذ استيقنوا بمجرد الاطلاع على اسم: "عيسى بن مريم" أن المسيح ابن مريم رسول الله نفسه سينـزل من السماء، ولم ينتبهوا إلى أن نزوله يعني زوال الإسلام من الدنيا نهائيا. هذه هي نتيجة الاعتقاد الإجماعي!! وبهذا الصدد فقد ورد في صحيح مسلم أن المسيح سيأتي وهو نبيّ. فإذا كان المراد من المسيح أو ابن مريم هو شخص من الأمة كمثيل، ويحظى بمرتبة المحدَّثية؛ فلا يحدث أيّ خلل، لأن المحدَّث أيضا نبي من وجه، ولكنه يستمد النور من سراج النبوة المحمدية، ولا يكون نبيا مستقلا بحد ذاته، بل ينال العلم ببركة نبيه، وقد ورد في الصفحة 239 من كتابي "البراهين الأحمدية" إلهام يشير إلى هذا الأمر ونصه: "كلُّ بركة من محمد فتبارك من علّم وتعلّم". أي كل بركة تنـزل على هذا العبد الضعيف في أسلوب الإلهام والكشف وغيرهما، إنما هي ببركة محمد وبواسطته. ففي الشخص الذي علّم (أي النبي ) بركاتٌ كثيرة، وكذلك فيمن تعلّم (أيْ أنا العبد الضعيف) أيضا بركات كثيرة. غير أن الاعتقاد بنـزول المسيح ابن مريم بصورة حقيقية وظاهرية يؤدي إلى مشاكل لا تعدُّ ولا تُحصى. وهناك قرائن صريحة وواضحة أنه ليس المراد من النـزول هنا النـزولُ الحقيقي قط، بل قد استُخدمت استعارةٌ ثانيةٌ نظرا إلى استعارة سبقتْ، بمعنى أنه كما أُطلقت صفة "اليهود" على أفراد هذه الأمة على سبيل الاستعارة، وذُكر أنْ تسرَّبت إليهم جميع المفاسد التي انتشرت في زمن المسيح ابن مريم؛ فمن هذا المنطلق قيل أيضا إنه سيُبعث لإصلاحكم والحُكمِ بين فِرقكم المختلفة، شخصٌ حَكَمًا من بينكم، اسمه المسيح، أو عيسى بن مريم. وفي ذلك إشارة إلى أن هذه الأمة ليست رديئة وبليدة لدرجة أن يُظَنّ أنها لا تملك إلا أن تكون نموذجا لليهود ذوي الطبائع الوحشية الذين كانوا في زمن المسيح ، بل يمكن أن تصبح مسيحا أيضا. فحين يصبح بعض الناس يهودا، سيأتي البعض بصفة المسيح ابن مريم ليُعلَم أن هذه الأمة كما تضم في طياتها بعضا من الضعفاء والماديين، كذلك فيها أناس يمكن تسميتهم عيسى بن مريم، وموسى بن عمران أيضا؛ وذلك بناء على كمالاتهم. ففي هذه الأمة كفاءات من كِلا النوعين؛ أي يمكن أن يكون فيها يهود، ويمكن أن يكون فيها المسيح أيضا.
فليكن معلوما أن عيسى بن مريم أيضا جاء لإنجاز المهمة نفسها وفي الزمن نفسه الذي كان اليهود قد افترقوا فيه إلى فِرق كثيرة مثل المسلمين تماما، وكانوا متمسكين بكلمات التوراة الظاهرية فقط، تاركين روحها وحقيقتها. ونشأت فيهم الخصومات لأتفه الأمور، وتطرّق إلى فِرقهم المختلفة البُغض والحسد نتيجة الدناءةِ وضيقِ الأفق المتبادل، لدرجةٍ ما كانت لفِرقة أن تتحمل وجود غيرها. وكانت عداواتهم الشخصية قد بلغت مبلغ العداوة بين الذئب والشاة. ولم يعد فيهم حُبّ لإخوتهم بسبب الخلاف في المعتقدات، بل انتشرت فيهم السَّبُعيّة، وفسدت الحالة الأخلاقية للغاية، وتلاشت الرحمة والمواساة المتبادلة نهائيا. فصاروا كالدواب، فلم يعودوا قادرين على معرفة الحسنة الحقيقية. كان التباغض والتحاسد على أشدهما، وقد اتُّخذت بعض العادات والتقاليد فقط دينا. فبشّر النبي أمته أن حالتكم أيضا ستؤول في الزمن الأخير إلى المآل نفسه، إذ ستنشأ فيكم فِرق كثيرة، وتطل أفكار متضاربة كثيرة برأسها، وستعتبر فِرَقٌ غيرَها كافرة كاليهود، وتُكفَّر باعتبار وجه واحد وإن وُجد فيها 99 وجها للإسلام. فبسبب التكفير المتبادل تسودكم الكراهية والبُغض والعداوة الشديدة. وبسبب الخلاف في الرأي تنتشر الضغينة والحسد والسَّبُعيّة، وتتلاشى نهائيا من بينكم الصفات الإسلامية التي تقتضي الوحدة الكاملة كوحدة الجسد الواحد، والزاخرة بالحب والمواساة المتبادلة، ويرى أحدكم الآخرَ غريبا لدرجة انقطاع العلاقات الدينية كليا. وكل حزب سيحاول تكفير غيره كما كان حال اليهود تماما في زمن المسيح ابن مريم. وبسبب الفُرقة الداخلية والبُغض والحسد والعداوة يكونون في نظر الأمم الأخرى أذلة مهانين ومحتقَرين وضعفاء للغاية، ويوشكون على الفناء نتيجة التقهقر البالغ ذروته بسبب الخصومات الداخلية، ويسعون لِيَلتَهِم بعضهم بعضا على غرار الحشرات، وبذلك يفسحون المجال لوقوع الهجمات الخارجية عليهم، وذلك ما حدث مع اليهود في ذلك الزمن، إذ ضاع ملكوتهم نتيجة النفاق الداخلي، فظلوا يعيشون كالعبيد تحت إمرة قيصر.
لقد قال الله تعالى على لسان نبيه الأكرم : إن حالتكم أيضا ستؤول في الزمن الأخير إلى المآل نفسه، حين ستبلغ عداواتكم لإخوتكم ذروتها، وستمتلئون بُغضا وحسدا وضغينةً. فعقوبةً على ذلك لن تبقى حالة دينكم ولا دنياكم ولا أخلاقكم الإنسانية على ما يرام، ولن تبقى فيكم خشية الله ولا معرفة الحق، بل ستصبحون سِباعا وظالمين وجهلاء بكل معنى الكلمة، ولن يبقى فيكم عِلم يترك في القلوب تأثيرا طيبا. وإن هذا الإلحاد وعدم تقوى الله والفتور كله سينشأ في أول الأمر في البلاد الشرقية، ومنها سيخرج الدجال ويأجوج ومأجوج، أي سيبرزون بقوتهم وشوكتهم. والمراد من البلاد الشرقية هو بلاد فارس ونجد وبلاد الهند لأنها تقع شرقيّ أرض الحجاز. وكان ضروريا، بحسب نبوءة رسول الله ، أن يخرج الكفر والكفار من هذه الأماكن بقوة، وأن يخرج الدجال في بلد من هذه البلاد، وأن ينـزل المسيح أيضا في البلاد نفسها. وذلك لأن المكان الذي يصبح محل الكفر والفتن لا بد أن يُختار هو نفسه للإصلاح وتأسيس الإيمان فيه. فلما غدت الهند أكثر هذه البلاد الشرقية كفرا وفتنا وبُغضا وضغينة فكانت أحق بأن يظهر المسيح فيها، وأن يُنظَر إليها في الزمن الأخير أيضا بنظرة الرحمة كما نُظر إليها بنظر الرحمة قبل غيرها بعد ظهور آدم.
ولقد بيَنتُ من قبل أن رسول الله قد قال بحق أمته بصراحة تامة إنكم ستصبحون يهودا بحذوكم حذو اليهود تماما، وإن هذه البلايا ستنتشر في الزمن الأخير في البلاد الشرقية، أيْ في الهند وخراسان وغيرهما أكثر من غيرها. عندها ينـزل -أيْ يُبعث- المسيح ابن مريم لاستئصال هذه اليهودية. وقال أيضا بأنه كما ستصبح هذه الأمة كاليهود، كذلك سيولَد فيها ابن مريم أيضا بصورة مثيله، وليس أن تصير هذه الأمة يهودا. أما الاعتقاد بأن ابن مريم ستكون بعثته من بني إسرائيل! ففي هذه الفكرة إساءة كبيرة لنبينا الأكرم . وكذلك تعارض هذه الفكرة آية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ[175].
هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن للصعود والنـزول، بحسب مذاق المتصوفين، معنى معيّنًا؛ وهو أنه عندما ينقطع الإنسان عن الخلق انقطاعا كليا ويتوجّه إلى الله، فهذه الحالة تسمَّى صعودا عند المتصوفين.. وعندما يعود مأمورا بإصلاح خلقه ، تسمَّى هذه الحالة نزولا. لذا فقد اختير لفظ "النـزول" من منطلق هذا المعنى الاصطلاحي. وهذا ما يشير إليه قول الله جلّ شأنه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[176].
فتبين من هذا البحث كله أن رسول الله لم يقصد من ابن مريم قط؛ ابن مريم رسول الله نفسه الذي نزل عليه الإنجيل، بل عدّ أولا الناسَ في الزمن الأخير يهودا على سبيل الاستعارة، واعتبرهم - من كل الجوانب - أمثال اليهود الذين كانوا في زمن المسيح ابن مريم، وأنبأ على سبيل الاستعارة نبوءة ثانية متوافقة مع الاستعارة الأولى، فقال بأنكم حين تصبحون يهودا على ذلك النحو؛ ستُعطَون مسيحا يكون منكم ويناسب حالكم، وسيكون حَكَمًا فيكم، ويزيل عنادكم وبُغضكم، ويجمع الذئب والشاة في مكان واحد. ويزيل من الأفاعي سُـمَّها، فيلعب الصبيان مع الأفاعي والعقارب ولن يتضرروا بسمومها. فكل هذه الأمور تشير إلى أنه عندما تزول الخلافات الدينية، سيتدفق ينبوع الحب الفطري دفعة واحدة، ويتلاشى التباغض والتحاسد، وتزول سموم التعصب كلها، وسيُحسن الأخ الظنَّ بأخيه؛ عندها تعود إلى الإسلام أيام السعادة والحبور والازدهار، ويسعى الجميع جاهدين لإنماء الإسلام وازدهاره، والإكثار من عدد المسلمين، على عكس ما يحاوله بعض الناس في الأيام الراهنة جاهدين لتقليل عددهم قدر الإمكان، وإخراجهم من دين الإسلام بأمر من المشايخ الأشرار وفتاواهم التكفيرية. وإذا وُجد فيهم مئة وجه للإسلام فيغضوا الطرف عنها، ويبحثوا لتكفيرهم عن وجه واحدٍ سخيفٍ وبلا أصل، فيعدّوهم كفارا وكأنهم أسوأ من الهندوس والمسيحيين. ولا يقومون بذلك مستغلين الشريعة أسوأ استغلال فقط، بل يتلقى الناس من هذا القبيل إلهامات مزعومة أيضا أن فلانا كافر وفلانا مسلم، وفلان جهنميٌّ وفلان غارق في كفرٍ لن يهتدي بعده أبدا. وبسبب حماس السَّبُعيّة يركزون كثيرا على اللعنات، ومن أجل اللعنات تُصدَر الفتاوى بجواز المباهلة بين المسلمين!
وإن هؤلاء المشايخ كلهم - أو قولوا بتعبير آخر؛ الحشرات التي يلتهم بعضُها بعضا - لا يصِلون إلى كنه حقيقة أن الخلافات الجزئية موجودة وجارية بوجه عام في مذاهب المسلمين، فهناك من يخطئ في شيء، والآخر يخطئ في غير ذلك. فهل من الإنسانية في شيء، أو يندرج تحت المواساة والترحم، أن يُعتبر الطريق الوحيد لتسوية الأمور هو أن أتباع الأئمة الأربعة من المسلمين وأتباع المحدثين، والمتصوفين؛ يتحفّزون في ميدان المباهلة لأبسط الخلافات وأتفهها، ويلعن بعضهم بعضا؟ والآن، لكل عاقل أن يدرك أنه إذا كان وقوع صاعقة غضب الله ضروريا على الفرقة المخطئة بعد المباهلة والملاعنة، فهل تكون النتيجة إلا أن يهلك الله المسلمين جميعا دفعة واحدة، وأن يُهلَك الجميعُ لأخطائهم الاجتهادية؟
يقول هؤلاء الجهلة إن ابن مسعود طلب المباهلة، فيُستنبَط من ذلك أن المباهلة بين المسلمين جائزة. ولكن لا يسعهم الإثبات أن ابن مسعود لم يتراجع عن قوله هذا، كما لا يسعهم أن يثبتوا أن عذابا نزل على المخطئين نتيجة تلك المباهلة. والحق أن ابن مسعود كان إنسانا عاديا، ولم يكن نبيا أو رسولا، فإذا صدر منه خطأ لحماسه المفرط، فهل من واجبنا أن نصنّف قوله في قائمة: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[177]؟ انظروا إلى مشاجرات الصحابة واختلافاتهم التي وصلت في بعض الأحيان إلى السيف والسنان. كان معاوية أيضا صحابيا، وقد هدر دماء آلاف الناس بسبب إصراره على خطأ، فإذا صدر الخطأ من ابن مسعود، فأية قيامة قامت بسببه؟ لا شك أنه أخطأ خطأ كبيرا إذا كان قد طلب المباهلة نتيجة اختلاف فرعي. وإذا كان صدور الخطأ من الصحابي ممكنا في أمور أخرى، أفلا يمكن صدوره في طلب المباهلة؟ إن وجود خلافات كبيرة بين الصحابة واضح تماما، فمنهم من كان يعتبر دجال الجسَّاسة دجالا معهودا، ومنهم مَن قال حالفا بالله إن ابن صياد هو الدجال المعهود. ومنهم مَن كان يعتقد بأن المعراج كان بالجسد المادي، ومنهم من كان يعتبره رؤيا. منهم من كان يعدُّ بعض السور مثل المعوذتين جزءا من القرآن الكريم، وغيرهم كان يعتبرها خارجه. فهل كانوا كلهم على حق؟ فإذا صدر منهم خطأ من هذا النوع، فيمكن صدور خطأ من نوع آخر أيضا. أيّ جهل هذا أن يُعتبَر صحابي بريئا من الخطأ تماما، فيؤخَذ قوله مأخذ قول النبي !
أيها المسلمون استحيوا من الله، ولا تُظهروا سيرة مشيختكم وتفقُّهكم على هذا النحو! إن عدد المسلمين قليل أساسًا، فلا تقللوهم أكثر، ولا تزيدوا عدد الكفار. إذا كان كلامي لا يؤثر فيكم شيئا، فعودوا بشيء من الاستحياء إلى عباراتكم المنشورة، وارتدعوا عن الخطابات المثيرة للفتن.
ثلاثون آية قرآنية تُثبت موت المسيح ابن مريم
فليكن معلوما أن المراد من الرفع هنا هو الموت بالعزة والإكرام، وذلك كما تدل الآية: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا[180]. التي وردت بحق النبي إدريس ، ولا شك أنه ليس معناها إلا: إننا رفعنا إدريس بعد إماتته إلى مكان أعلى، لأنه لو صعد إلى السماء بغير الموت، فلا بد من الإقرار أنه سيموت في حين من الأحيان؛ إما في السماء، أو يُعاد إلى الأرض ويموت فيها - لأن الموت أمرٌ لا مناص منه للإنسان - ولكن كلًّا من هذين الاحتمالين محال، لأنه يثبت من القرآن الكريم أن الجسم المادي يُدفن في التراب بعد الممات، ويعود ترابا، وسيُحشر من التراب. وإن نزول إدريس من السماء وعودته إلى الأرض مرة ثانية، لا تثبت من القرآن الكريم ولا من الأحاديث الشريفة. فمن المتحقق أن المراد من الرفع هنا هو الموت، ولكنه الموت الذي تصحبه العزة والإكرام، وذلك مثلما يقدَّر للمقربين؛ إذ توصَل أرواحهم بعد الممات إلى العِلِّيِّينَ كما يقول تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[181].
من المؤسف حقًّا أن بعض المشايخ حين يرون أن معنى "التوفِّي" هو الإماتة في الحقيقة، يلجأون إلى تأويل آخر ويقولون إن الوفاة التي وردت في الآية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي سوف تحدث بعد نزول عيسى. وما يبعث على الاستغراب هو أنهم لا يستحيون من اللجوء إلى تأويلات ركيكة. ولا يتأملون في أن آية فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قد سبقتها الآية: وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ...[188].
والمعلوم أن قَالَ فعل ماضٍ وقد سبقه: وَإِذْ الذي يدل على فعل ماض بوجه خاص، ويبرهن على أن هذا الحادث عند نزول الآية كان قد صار في طيات القصص الماضية، ولا علاقة له بالمستقبل. كذلك إن الجواب على لسان عيسى أيضا جاء بصيغة الماضي؛ أي: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي. والقصص التي ذُكرت في القرآن الكريم قبل هذه القصة، جاءت أيضا بالأسلوب نفسه، وتؤيد المعنى نفسه؛ ومنها مثلا: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[189]، فهل يجوز الاستنباط من هذه الآية أن الله تعالى سيسأل الملائكة في المستقبل؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم زاخر- وتصدقه في ذلك الأحاديث أيضا - بأن الأسئلة مثلها، تُطرح بعد الموت وقبل القيامة.
وإذا قال قائل بأن أهل الكهف أيضا عاشوا دون الطعام، قلتُ: إن حياتهم ليست في هذه الدنيا، وقد برهن حديث صحيح مسلم الذي يتحدث عن "مائة سنة"[194]، على موتهم بكل جلاء. لا شك أننا نؤمن بأن أصحاب الكهف أحياء مثل الشهداء، وحياتهم كاملة، ولكنهم قد نجوا من الحياة الدنيوية الناقصة والكثيفة. فما معنى الحياة الدنيا وما حقيقتها؟ قد يظنها الجاهل أمرا ذا بال، ويصنِّف تحتها كل أنواع الحياة المذكورة في القرآن الكريم، ولا يتنبّه إلى أن الحياة الدنيوية هي أدنى درجة - وقد استعاذ سيدنا خاتَم النبيين أيضا من الجزء الأرذل منها - وتصحبها مستلزمات سخيفة وكريهة، ولو حظي الإنسان بحياة أفضل من هذه الحياة السُفلى دون أن يحدث أيّ خلل في سنة الله، فلا شيء أجمل من ذلك.
إن عدم التوقف فورا وفي الحال عند سماع الآيات القرآنية، ليس من شيمة المؤمنين على الإطلاق.
ولا ينفع خصومَنا قولُهم بأنه أُحيِي بعد الممات، لأن نبوته التي تلازمه دائما ولن تنفصل عنه، تحول دون عودته إلى الدنيا وإن أُحيي.
وإضافة إلى ذلك فقد بيّنّا أن حياة المسيح بعد مماته ليست كما ظُنَّ، بل تشبه حياة الشهداء التي تُنال فيها مراتب القرب والكمال. وقد ذُكر هذا النوع من الحياة في أماكن عديدة في القرآن الكريم. فقد جاءت آيةٌ على لسان إبراهيم : وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ[210]. ليس المراد من الموت والحياة هنا هو الموت الظاهري أو الحياة الظاهرية فقط، بل هذه إشارة إلى الموت والحياة التي يواجهها السالك من حيث المراتب ومنازل سلوكه، بحيث يموت نتيجة حبه الشخصي لخلق الله، ويُحيا بحبه الشخصي لخالقه ، ثم يموت نتيجة حبه الشخصي لرفقائه ويُحيا بحبه الشخصي لرفيقه الأعلى، ثم يموت نتيجة حبه الشخصي لنفسه ويُحيا بحبه الشخصي لحبيبه الحقيقي. وهكذا يواجه أكثر من موت وأكثر من حياة، ويظل الحال على هذا المنوال إلى أن يصل إلى مرتبة الحياة الكاملة. فالحياة الكاملة التي تُنال بعد الانتقال من الدنيا السُفلية ليست حياة الجسد المادي، بل لها صبغة أخرى وشأن آخر، فقد قال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[211].
أيها المشايخ، أين توحيدكم وأين دعاويكم المعلنة بصوت عال لطاعة القرآن الكريم؟ هل منكم رجل في قلبه عظمة القرآن مثقال ذرة؟
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ[217]. المراد من هاتين الآيتين هما عُزير والمسيحُ عليهما السلام، ويتبين من الآيتين دخولهما الجنة، الأمر الذي يُثبت موتهما بكل وضوح.
بيان موجز عن إلهامات الشيخ الغزنوي والشيخ محيي الدين اللكهوكي
لقد قال ميانْ عبد الحق الغزنوي والشيخ "محيي الدين اللكهوكي" إنهما تلقّيا عني إلهاما بأن هذا الشخص من أهل النار. ولقد ورد في إلهام عبد الحق بوضوح: "سيصلى نارا ذات لهب". أما محيي الدين فقد تلقّى إلهاما مفاده أن هذا الشخص ملحد وكافر ولن يهتدي أبدا. والمعلوم أن الكافر إنْ مات على الكفر كان من أهل النار حتمًا. فهذان الشخصان- أدخلهما الله الجنة - أفتيا بكفري ودخولي جهنّم، ونشرا إلهاماتهما بكل قوة وشدة. لا أرى ضروريا أن أسهب فيما يتعلق بإلهاماتهم، بل يكفي القول بأن الإلهام إما أن يكون من الرحمن أو من الشيطان. فلو توجّه المرء إلى استكشاف أمر ما، أو إلى الاستخارة أو الاستخبار، واضعا في الحسبان أفكاره وأهواء نفسه، ولا سيما إذا كانت في قلبه أمنية كامنة أن يتلقى كلمة خير أو شر بحق أحد بحسب رغبته هو؛ لتدخلَّ الشيطانُ عندئذ في أمنيته حتما، ولجرت على لسانه كلمات شيطانية. وفي بعض الأحيان يحدث هذا التدخل في وحي الأنبياء والرسل أيضا، ولكنه يُنسَخ فورا. هذا ما يشير إليه الله جلّ شأنه في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ...[222].
كذلك ورد في الإنجيل: لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ. (رِسَالَةُ بُولُسَ الثَّانِيةُ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ 11: 14). وفي التوراة؛ ورد سِفر الملوك الأول[223] 22/19 أن أربع مائة نبيٍّ تنبأوا بانتصار ملكٍ ولكن ثبت كذبهم، إذ هُزم الملكُ، بل قُتل في ميدان القتال. وكان السبب وراء ذلك أن ذلك الإلهام كان من روحٍ شريرة، ولم يكن من ملاك نورٍ، ولكن الأنبياء خُدعوا وزعموه من الله.
إذن، ما دام تدخّل الشيطان ممكنا في الوحي والإلهام بحسب نص القرآن الكريم - وهذا ما تصدقه الكتب السابقة مثل التوراة والإنجيل أيضا - فلم يعد إلهام الولاية أو إلهامات عامة المؤمنين حجة، إلا إذا كانت تطابق القرآن الكريم. هنا ينبغي أن يتأمل القراء الكرام لأي سبب وبناء على أية علامات بيّنة يعتبر ميانْ عبد الحق وميانْ محيي الدين إلهاماتهما من الله تعالى؟ تتلخص إلهاماتهما في أن من قال بموت عيسى بن مريم ولم يسلِّم بعودته إلى الدنيا ثانية فقد كفر. ولكن القراء الكرام سيدركون كحق اليقين بعد مطالعة هذا الكتاب؛ أن الأمر اليقين الذي يتبين من القرآن الكريم في الحقيقة هو أن المسيح ابن مريم مات حقا، وانضم إلى جماعة الميتين منذ مئات السنين. وإن أبرز وأكبر علامة على كون إلهام كلٍّ من ميانْ محيي الدين وميانْ عبد الحق من الشيطان؛ هي أن القرآن الكريم يكذِّب أفكارهما ويقاومهما بسيف مسلول. فقد تبين من هنا على وجه اليقين أن إبليس المكار قد تدخّل في استخارتهما بسبب تلاؤمه الداخلي معهما، وعلّمهما خلاف تعليم القرآن الكريم. وإذا كانت إلهاماتهما صحيحة؛ عليهما أن يُثبتا لنا حياة المسيح ابن مريم من القرآن الكريم. لا نطالبهما بعشر آيات أو عشرين آية بل يكفي أن يستخرجا لنا آية واحدة تدل على حياته. والملاك الذي ألقى في أذنيهما جملتين أو ثلاث جمل سريعة بكوني من أهل جهنّم فليلتمسا مساعدته. ولا شك أنه إذا كانت تلك الإلهامات من الله تعالى فستُلقى عليهما ثلاثون آية على الأقل على جناح السرعة عن حياة عيسى ، لأني أيضا قدمت ثلاثين آية للدلالة على موته.
وليكن معلوما أن هؤلاء القوم لن يقدروا على أن يقدّموا ولو آية واحدة؛ لأن إلهاماتهم شيطانية، وإن حزب الشيطان هم المغلوبون دائما. إن الشيطان بنفسه ملعون وضعيف؛ فأنّى له أن يعِين الآخرين.
وإضافة إلى ذلك، يجدر التذكير أيضا أن الإلهامات إن كانت من الله الرحمن، فهي تُعرف بآياتها المباركة، ولا ادّعاء جدير بالقبول دون دليل. والله العليم الحكيم يعلم جيدا أني لم أعتبر إلهاماتي منه إلا بعد تحققِ مئات النبوءات كوضح النهار. فالذي يقوم إزائي؛ يجب عليه أن يتنبأ ببعض النبواءت مثلي، إثباتا لكون إلهاماته من الله تعالى، ولا سيما نبوءات دالة على فضل من الله ومننه، لأن هذا النوع من النبوءات التي تتضمن وعود نزول أفضال الله في المستقبل، هي الدليل الأمثل لمعرفة المقبولين؛ لأن الله لا يُنعم ولا يمنّ إلا على الذين ينظر إليهم بنظرة الرحمة والتحنن.
إن نبوءاتي التي يتوقف صدقي على تحققها تتلخص في أن الله تعالى خاطبني وقال ما مفاده: سوف تَغلب بعد كونك مغلوبا؛ أيْ ستغلب بعد أن تبدو حقيرا كالمغلوبين ظاهريا، وتكون العاقبة لك. ونضع عنك وِزرك الذي أنقض ظهرك. يريد الله أن ينشر توحيدك وعظمتك وكمالك. سيُظهر الله وجهك ويمدّ ظلك. جاء نذير في الدنيا، فأنكروه أهلها، وما قبلوه، ولكن الله يقبله، ويُظهر صدقه بصولٍ قويٍّ شديدٍ صول بعد صولٍ. سيُعطَى عن قريب مُلكا عظيما؛ أي سيوضع له القبول وتُستمال إليه قلوب خلق كثير. ستُفتح عليه الكنوز؛ أي تُكشف عليه كنوز المعارف والحقائق، لأن الأموال السماوية التي يُعطاها عباد الله الخواص ويوزعونها على الدنيا ليست من قبيل الدراهم الدنيوية ودنانيرها، بل هي الحكمة والمعرفة كما يقول الله تعالى مشيرا إلى هذا الأمر: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[224]. والخير هو المال، أما الحكمة فهي المال الطيب الذي يشير إليه الحديث النبوي: "إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللهُ يُعْطِي". وهذا المال هو آية من آيات المسيح الموعود. ذلك فضل الله وفي أعينكم عجيب. سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم. حجة قائمة وفتح مبين. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيُهزم الجمع ويولّون الدبر. لن أخذلك وإن خذلك الناس. سأعصمك وإن لم يعصمك الناس. إني سأري بريقي، وأرفعك من قدرتي. سلام عليك يا إبراهيم، اخترتك لنفسي. إنّ الله يصلح كلّ أمرك، ويعطيك كلّ مراداتك. أنت مني بمنـزلة توحيدي وتفريدي، وما كان الله ليتركك حتى يميز الخبيث من الطيب. زاد مجدك، ينقطع آباؤك ويبدأ منك. سأذيع اسمك إلى أكناف العالم بالعزة والإكرام، يرفع الله ذكرك. سألقي حبك في القلوب. جعلناك المسيح ابن مريم. قل: قد جئت على قدم عيسى. يقولون ما سمعنا بهذا في الأولين، قل أنتم لا تعلمون، الله أعلم. إنكم مقتنعون بالكلمات الظاهرية والإبهام، والحقيقة ليست مكشوفة عليكم. إنه لذكي من يُدرك أن أساس الكعبة مبني على حكمة إلهية لأن له نصيب من أسرار من ملكوت السماء. سيولَد أولو العزم، ويكون نظيرك في الحسن والإحسان، ومن ذريتك ونسلك. ولد صالح كريم ذكي مبارك. مظهر الحق والعَلاء، كأن الله نزل من السماء.
يأتي عليك زمان مختلف بأزواج مختلفة، وترى نسلا بعيدا ولنحيينك حياة طيبة، ثمانين حولا أو قريبا من ذلك. إنك بأعيننا، سميتك المتوكل، يحمدك الله من عرشه، كذّبوا بآياتنا وكانوا بها يستهزئون. سيكفيكهم الله ويردها إليك. لا تبديل لكلمات الله. إن ربك فعّال لما يريد. (هذه العبارات، هي نبوءات مأخوذة من إعلان 10 يوليو/تموز 1888م)
إن الأنباء التي أوردتُها هنا نموذجا؛ تكفي لاختبار صدقي أو كذبي. أما الذي يعتبر نفسه ملهَما ويعدّني كاذبا ومن أهل النار، فالطريق الأسهل له للحكم؛ هو أن ينشر في جريدة مثلاً، بعضا من إلهاماته أيضا، والتي تحتوي على نبوءات صريحة وواضحة على غرار إلهاماتي. فسيميِّز الناس عند تحققها بين المقبول عند الله والمطرود من حضرته، إذ لا يتحقق شيء بمجرد الادّعاءات الفارغة.
ومن أفضال الله الخاصة عليّ أنه وهبني علم القرآن وحقائقه ومعارفه. والمعلوم أن علم القرآن الكريم من كبرى علامات المطهَّرين؛ لأن الله تعالى يقول: لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون [225]. فمن واجب خصومي أن يبيّنوا بعضا من معارف القرآن نموذجًا، مقابل ما بينتُه في كتبي المختلفة، ويؤلفوا كتابا ويشيعوه - بشرط ألا ينقلوا من كتب أخرى - حتى يعلم الناس مدى حيازتهم على دقائق العلم والمعرفة التي يُعطاها أهلُ الله.
فليتضح للقراء أن ميانْ عبد الحق طلب المباهلة فيما سبق، ولكني لا أفهم إلى الآن كيف تجوز المباهلة بسبب مسائل اختلافية لا يصبح الخصم بسببها كافرا أو ظالما. يتبين من القرآن الكريم أن كل واحد من الفريقين يجب أن يكون - في حالة المباهلة - على يقين أن خصمه كاذب، أيْ يُعرض عن الحق عمدا وليس مخطئا حتى يستطيع كل فريق أن يقول: لعنة الله على الكاذبين. إذا كان ميانْ عبد الحق يعتبرني كاذبا، لقصور فهمه - مع أنني لا اعتبره كاذبا بل أراه مخطئا، ولا يجوز اللعن على مسلم مخطئ - فهل يجوز القول: لعنة الله على المخطئين، بدلا من لعنة الله على الكاذبين؟ فليخبرني الآن أحد: أنّى لي أن ألعن في المباهلة على خصم يعارض الحق؟ إذا قلت: لعنة الله على الكاذبين، فهذا ليس صحيحا؛ لأني لا أرى خصمي كاذبا، بل أعتبره مخطئا في التأويل، إذ يصرف النصوص من ظاهرها إلى باطنها دون إقامة قرينة عليها، بينما الكذب هو أن يعارض الإنسان متعمدًا ما يستيقن به في قرارة قلبه. فمثلا إذا قال أحد بأنه صائم، مع أنه يعرف جيدا بأنه قد أكل الطعام قبل قليل؛ فهو كاذب. فالكذب شيء، والخطأ شيء آخر. يقول الله تعالى: لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ولم يقل لعنة الله على المخطئين. لو كانت المباهلة والملاعنة مع المخطئ جائزة، لكان بإمكان أصحاب جميع فِرق الإسلام الذين يخالف بعضهم بعضا بشدة؛ أن يباهلوا ويتلاعنوا، ولكانت النتيجة أن ينمحي الإسلام عن وجه الأرض.
ثم لا بد من وجود الجماعة أيضا في المباهلة، إذ إن القرآن الكريم ينص على ضرورة الجماعة لهذا الغرض. ولكن ميانْ عبد الحق لم يعلن إلى الآن أن معه جماعة بعدد كذا وكذا من مشاهير الإسلام بمن فيهم النساء والأبناء، وأنهم مستعدون للمباهلة. فكيف يمكن المباهلة ما لم تتحقق شروطها. ومن شروطها أيضا أن تُزال الشبهات أولا، إلا إذا لم يكن هناك أدنى تردد وشك في التكذيب. أما ميان عبد الحق فلا يدنو من المناظرة قط، بل هو متشبِّث بفكرة قديمة بأن المسيح عيسى بن مريم سينـزل من السماء. فقد تمسك بهذه الفكرة، وكأن المسيح ابن مريم الذي نزل عليه الإنجيل هو الذي سينـزل في الحقيقة من السماء في زمن من الأزمنة مع أن هذا خطأ كبير؛ لأن الذي مات وثبت موته بثلاثين آية من آيات القرآن الكريم أنّى له أن يعود إلى الأرض؟ فأيُّ حديثٍ سينسخ آيات القرآن البيّنات؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ[226].
صحيح تماما أن الله تعالى قادر على الإحياء ثانيةً، ولكن ذلك ينافي قدرته ووعده؛ فقد قال وبكلمات صريحة بأن الذين يموتون لا يعودون إلى الدنيا، إذ قال سبحانه: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ[227]، وقال أيضا: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[228]، وقال: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ[229]، وقال: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ[230].
وإذا قلتم إن الأموات يُحيَون معجزةً، فجوابه أن الموت في هذه الحالة لن يكون موتا حقيقيا، بل نوع من الإغماء أو النوم، لأن من معاني "مات" نام أيضا، فإن الموتى الذين عادوا إلى الحياة لحظةً واحدة؛ هم خارجون عن نطاق الموت الحقيقي، وليس لأحد أن يُثبت أن ميِّتا حقيقيا قد أُحيي مرة وعاد إلى الدنيا، واستعاد وِرْثته المقسومة بين وَرَثته، وبدأ يعيش في الدنيا. أضف إلى ذلك أن لكلمة "الموت" المستخدمة في القرآن الكريم أكثر من معنى؛ فقد أُطلق "الميت" على الكافر أيضا بأنه ميِّت. كما أن الموت بالأهواء أيضا نوع من الموت، وكذلك يسمَّى الموشك على الموت أيضا ميّتا. وكذلك توجد ثلاثة أوجه في الحياة أيضا، أي أنّ للحياة أيضا ثلاثة أنواع. وإن الآية: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ هي من الآيات البيّنات المحكمات. وليست في القرآن الكريم آية واحدة فقط، بل عدة آيات تقول بأن الذي مات لن يعود إلى الدنيا مرة أخرى. ومن الواضح تماما أن المسيح قد مات حقيقةً.
إذن، إذا ورد في الأحاديث ذِكر نزول ابن مريم مع هذه القرينة الصحيحة فهل من المعقول الظن أن ابن مريم رسول الله نفسه سينـزل من السماء؟ فانظروا مثلا إلى أن الله جلّ شأنه يقول لبني إسرائيل في سورة البقرة: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ، ثم يقول: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ويقول: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، ويقول: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، ويقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ثم يقول ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، ويقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ويقول أيضا: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ.
قولوا الآن بالله عليكم، أليست هذه كلها استعارات؟ وإذا حُملت جميع هذه الآيات على ظاهرها، فلا بد من الاعتقاد أن المخاطَبين في هذه الآيات- الذين نُجُّوا من آل فرعون، وفُرِق لهم البحر طريقًا، وأُنزل عليهم المنّ والسلوى- كانوا كلهم أحياء إلى زمن النبي ، أو أُحيُوا بعد الممات وعادوا إلى الدنيا. هل تشرحون هذه الآيات في مساجدكم - حين تدرِّسون ترجمة معاني القرآن الكريم- بأنّ المخاطَبين في هذه الآيات كانوا أحياء إلى زمن النبي ؟ أو أُخرِجوا من أجداثهم وعادوا إلى الدنيا أحياءً؟
وإذا سألكم تلميذ: إنّ مضمون هذه الآيات يعني ظاهريا أن المخاطَبين فيها هم أولئك الذين كانوا موجودين في زمن موسى وما بَعده، فهل يجب أن نعتقد الآن أنهم كانوا أحياء كلهم في زمن النبي أو أُحيُوا وعادوا إلى الدنيا؟ أليس جوابكم على ذلك أنهم ماتوا كلهم. أما الآن، فإن المخاطَبين مجازا هم ذراريهم الذين رضوا بأعمال أسلافهم كأنهم هم. فافهموا من هنا أن هذا هو مَثل نزول ابن مريم تماما. لقد جرت سنة الله أن مراتب الوجود تعيد نفسها، وأن أرواح البعض، يعود إلى الدنيا غيرها مثيلا لها، أما من حيث الروحانية فيكونون سواسية. اقرأوا الآية: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ بإمعان، وتدّبروا جيدا ما حاجة مجيء ابن مريم في هذه الأمة؟ ولأية حكمة أو سرٍّ مكنون أُنبِئ بمجيئه وما أُنبئ بمجيء غيره مثل داود أو موسى أو سليمان عليهم السلام؟ فما حقيقة ذلك وما أصله وما هو السر الكامن فيه؟
فحين نتعمّق في ذلك ونفكر متخلين عن الأفكار السطحية ونغوص في بحر التدبر والتأمّل ونخوض هذا الغور، يقع في أيدينا جوهر معرفةِ أن المقصود الحقيقي من هذه النبوءة هو إثبات مماثلة تامة عند الله على أكمل وجه وبصراحة بين محمد حبيب الله، وموسى كليم الله، وما منّ الله تعالى على أمَّتيهما من النعم المتشابهة والمتماثلة. والمعلوم أن فسادا كبيرا كان قد تطرّق إلى اليهود في الزمن الأخير لشريعة موسى، ونشأت فيهم فِرق كثيرة، وتلاشت المواساة بينهم والحب والأخوة، وحل محلها التباغض والتحاسد والبغضاء والعداوة. وخلَت قلوبهم من عبادة الله وخشيته، ونشأت الخصومات والمفاسد وأفكار العكوف على الدنيا، كما تطرّقت أنواعُ المكر السيئ إلى كل من الزهاد والمشايخ والناس الماديين كلٍّ بحسب أسلوبه، ولم تبق في أيديهم إلا التقاليد والعادات، بدلا من الدين، وجهلوا البِرَّ الحقيقي كليًّا، وتجاوزت قسوة قلوبهم الحدود كلها. ففي هذا العصر بعث الله تعالى المسيح ابن مريم خاتَم أنبياء بني إسرائيل. لم يُرسَل المسيحُ ابن مريم بالسيف والسنان ولم يؤمَر بالجهاد، بل أُعطِي سيف الحجة والبيان فقط؛ لكي يصلح حالة اليهود الباطنية ويقيمهم على أحكام التوراة من جديد. كذلك تصبّغ معظم المسلمين في الزمن الأخير - وهو العصر الراهن - للشريعة المحمدية بصبغة اليهود، وصاروا من حيث بواطنهم يهودا كيهود زمن المسيح، فأرسل الله تعالى شخصا بصفات المسيح ابن مريم تماما لتجديد أحكام القرآن الكريم، وسمّاه أيضا المسيح عيسى بن مريم على سبيل الاستعارة، على غرار اسم عيسى الكامل الوارد في القرآن الكريم في قوله تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[231]. فلما كان المطلوب هو الإيضاحُ أنه لما وقع الفساد في الأمة في الزمن الأخير؛ أُعطِيت المسيحَ ابن مريم كما أُعطِيت أمةُ موسى، فكان ضروريا أن يُسمَّى المسيح الآتي أيضا بابن مريم حتى تتجلّى منّة الله تعالى هذه أمام أعين الجميع، ولكي تتحقق المماثلة التامة بين أمة موسى وأمة محمد من حيث كونهما محل منن الله تعالى.
أليس صحيحا أن نبينا الأكرم قد سمّى الذين يكونون قُبيل القيامة يهودا؟ وإذا سمَّى النبيُّ نفسُه شخصا بُعث لإصلاح هؤلاء اليهود "ابنَ مريم" فما الغرابة والضير والاستبعاد في ذلك؟ من قواعد البلاغة صياغة جملة على ضوء جملة سابقة. فمثلا لو قال أحد إن العالم كله صار فرعونًا، لكان من الأنسب أن يقال: يجب أن يأتي موسى لإصلاحه. ولو قيل: إن العالم كله صار فرعونا، فيجب أن يأتي عيسى لإصلاحه لكان الكلام مقيتا وفي غير محله، لأن المرتبط بفرعون هو موسى وليس عيسى. كذلك حين اعتُبرت الأمة المحمدية الموجودة في الزمن الأخير يهودا كالذين كانوا في الزمن الأخير لشريعة موسى وهم مَن أُرسل إليهم عيسى ، وذُكرت جميع صفاتهم أيضا واعتُبروا يهودا بعينهم؛ ألم يكن مناسبا أن يقال لهم بأنكم حين تصبحون يهودا، سيُرسَل إليكم عيسى بن مريم؟
الحق أن الدجالية كانت إرث اليهود التي ورثها النصارى منهم. والدجال يُطلَق على حزب الكذابين الذين ينجسون الأرض ويُلبسون الحق بالباطل. وإن هذه الصفة كانت قد بلغت ذروتها في اليهود في زمن المسيح ، ثم ورثها النصارى منهم. إذن، فقد نزل المسيح للقضاء على صفة الدجل هذه بحربة سماوية؛ ما اخترعها صنَّاعٌ من الدنيا، بل هي حربة سماوية كما يتبين من الأحاديث.
وإذا قيل إن مثيل موسى أي النبي أفضل من موسى، فلماذا جاء مثيل المسيح من الأمة؟ فجوابه أنه لو جاء نبيٌّ لإثبات عظمة نبوةِ مثيل موسى وإظهار عظمة خاتَم الأنبياء، لوقع خلل في عظمة خاتم الأنبياء. ومن الثابت المتحقق أن للمسيح المحمدي أفضلية جزئية على المسيح الإسرائيلي؛ لأن دعوته عامة، بينما دعوة المسيح ابن مريم كانت خاصة بزمن وفترة معينة. ومن أجل إزالة وساوس الفِرق المعارضة كلها؛ عُلِّم هذا المسيح بركةً وحكمةً ومعرفةً بالضرورة، ما عُلِّمهما المسيح ابن مريم؛ إذ لا يُعطَى علمٌ بغير الضرورة. وما ننـزِّله إلا بقدر معلوم.
ويتبين من القرآن الكريم مجيء مثيل المسيح في هذه الأمة في الزمن الأخير؛ حيث يقول القرآن في عدة أماكن بأن الخلافة ستقام في هذه الأمة كما أقيمت في أهل الكتاب، وسيأتي فيهم الخلفاء كما جاءوا في أهل الكتاب. والمعلوم أن سلسلة الخلفاء في بني إسرائيل انتهت بالمسيح ابن مريم الذي جاء بغير السيف والسنان. وإذ كان المسيح الخليفة الأخير لموسى ، فكان ضروريا بحسب الوعد في القرآن الكريم أن تنتهي سلسلة الخلفاء في هذه الأمة أيضا بالمسيح، وكما بدأت شريعة موسى بموسى وانتهت بالمسيح ابن مريم، كان ضروريا أن يحدث مثل ذلك في هذه الأمة أيضا، فطوبى لهذه الأمة.
ولقد كتبتُ مفصلا عن كلمة "النـزول" الواردة في الأحاديث بحق المسيح ابن مريم أنه لا يثبت منها الهبوط من السماء بصورة ظاهرية. فقد ورد في القرآن الكريم في حق نبينا الأكرم : قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا..[232]. فهل يجب أن نفهم من ذلك أن النبي كان قد نزل من السماء في الحقيقة؟ وإضافة إلى ذلك هناك آية أخرى تقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[233]. يتبين من هذه الآية أيضا أن كلّ ما يوجد في الدنيا من الأشياء ينـزَّل من السماء، بمعنى أن الأسباب الضرورية لوجود هذه الأشياء، هي من ذلك الخالق الحقيقي ، وأنها تأتي إلى الوجود بإلهامه وإلقائه وتفهيمه، وكل شيء يُكتَشف؛ إنما يتم اكتشافه نتيجة العقل والفهم الذي أعطاه للناس، ولكن لا يُكتَشف شيء يزيد عن حاجة العصر. وأن كل مبعوث من الله يُعطَى سعة في العلم أيضا بحسب ضرورة العصر. وعلى المنوال نفسه تُكشف دقائق القرآن الكريم ومعارفه وحقائقه أيضا بحسب ضرورة العصر. فمثلا؛ إن المعارف القرآنية التي نحتاج إليها - في زماننا هذا - لمكافحة الفِرق الدجالية، ما احتاج إليها الناس الذين لم يعاصروا تلك الفِرق الدجالية.
فظلت تلك الأمور خافية عليهم، ولكنها كُشفت علينا. فمثلا قد مضى كثير من الناس في انتظار عودة المسيح ابن مريم إلى الدنيا حقيقةً، ولم تكشِف الحكمة الإلهية قبل الأوان السرَّ والمرادَ من عودة المسيح. أما الآن، وقد انتشرت صفات اليهود كالوباء، وأحرز النصارى نجاحا كبيرا نشر في أفكارهم المبنية على الشرك نتيجة اعتقادهم بحياة المسيح، فقد أراد الله تعالى أن يميط اللثام الآن عن وجه هذه الحقيقة الثابتة؛ فقد كشف أن مسيح المسلمين سيكون من المسلمين أنفسهم، كما كان مسيح بني إسرائيل من بني إسرائيل أنفسهم. وأوضح جيدا أن المسيح الإسرائيلي قد مات، وبرهن أيضا أن الميت لا يعود إلى الدنيا قط. وقد ورد في "مشكاة المصابيح: باب المناقب" حديث رواه جابر بأن رسول الله قال: "قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنّهُ قَدْ سَبَقَ مِنّي أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" رواه الترمذي.
عظمة القرآن الكريم التي تتبيّن من بيان القرآن نفسه
وكل الـعـلم فـي القرآن لكن
تـقــاصر مـنــه أفـهــام الـرجــال
فليكن معلوما أن أكبر سبب من أسباب الضلال في هذا العصر هو فقدان عظمة القرآن الكريم من قلوب معظم الناس. إن حزبا من المسلمين أصبحوا يقلّدون الفلسفة الضالة لدرجة أنهم يريدون أن يحكِّموا العقل في كل شيء. يقولون إن أفضل حَكَم وجده الإنسان للحكم في التنازعات هو العقل دون غيره. كذلك حين يرى الناس أن وجود جبريل وعزرائيل وغيرهما من الملائكة كما ورد في كتب الشرائع، ووجود الجنة والنار كما يتبين من القرآن الكريم؛ لا يثبت عمليًّا على محك العقل، فيُسرعون إلى إنكارها، ويبدأون بالتأويلات الركيكة قائلين بأنه ليس المراد من الملائكة إلا القوى فحسب، وليس وحي النبوة إلا مَلَكة، وأن الجنة والنار ليستا إلا اسما آخر للسعادة الروحية أو الألم الروحي. ولكن هؤلاء المساكين لا يعرفون أن أداة اكتشاف المجهول ليست العقل وحده، بل الحق أن الحقائق العليا والمعارف البالغة ذروتها؛ تفوق مبلغ العقل بمئات الدرجات، وتثبت بواسطة الكشوف الصادقة. ولو اعتُبر العقل وحده محك هذه الحقائق، لظلت عجائب عظيمة في كائنات الله مستورة في حُجُب الخفاء، ولظلّت سلسلة المعرفة ناقصة وغير مكتملة، ولاستحال على الإنسان أن يتخلص من الشكوك والشبهات في كل الأحوال.. ولكانت النتيجة النهائية لمعرفةٍ أحاديةِ الجانب؛ أن تنشأ في القلوب وساوسُ مختلفة عن الخالق نفسه، وذلك نتيجة عدم إثبات الهداية من الله تعالى، وعدم وصول الإشارات من القوة العليا. فالفكرة أن العقل وحده يكفي لفهم الأسرار الدقيقة للخالق الحقيقي، هي فكرة ناقصة جدا، ودالة على شقاوة متناهية.
ومقابل هؤلاء القوم هناك فئة أخرى تركوا العقل كشيء عاطل نهائيا، وتمسكوا كذلك بالروايات والأقوال التي لا أصل لها، تاركين القرآن الكريم مهجورا، مع أنه هو مصدر العلوم الإلهية كلها.
فأود أن أوجّه كِلا الفئتين إلى أن عليهم أن يقدِّروا عظمة القرآن الكريم ونوره، ويستخدموا العقل أيضا في ضوء هديه. وإذا وجدوا حديثا أيضا - فضلا عن كلام أحد آخر - يخالف القرآن الكريم، فليتركوه فورا؛ عملاً بقول الله جلّ شأنه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[234]. والمعلوم أن النص القاطع واليقيني عند المسلمين هو القرآن الكريم وحده. أما الأحاديث، وإن كانت صحيحة أيضا، فإن معظمها يفيد الظن. والظن لا يغني من الحق شيئا.
تأملوا في صفات القرآن الكريم من خلال آياته، ثم قولوا عدلا وإنصافا؛ هل يجوز اتخاذ شيء آخر هاديا أو حَكَمًا بترك هذا الكلام؟ ومن هذه الآيات: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[235]، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[236]، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ... وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ[237]، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ [238]،تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[239] نُورٌ عَلَى نُورٍ[240]، شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ[241]، الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ[242]، أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ[243]، هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[244]، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ[245]، لا رَيْبَ فِيْه[246]، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[247]، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ[248]، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ[249]، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[250]، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ[251]، بمعنى أنه إذا كان هناك حديث يعارض القرآن فيجب ألا يقبل قط بل بنبغي رفضه. قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[252]. ففي الآية الأخيرة إشارة إلى أنه لا مال ولا ثروة مثل العلم والحكمة. وهو المال نفسه الذي جاء عنه في النبوءة أن المسيح سيوزعه في الدنيا حتى يسأم الناس من قبوله، ولا يعني ذلك أنه سيجمع الدراهم والدنانير التي هي مصداق قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ[253]، ويوقِع الجميعَ في الفتنة قصدا بإعطائهم أموالا هائلة. إن طبيعة المسيح الأول أيضا لم تكن راغبة في الأموال المادية؛ إذ قال بنفسه في الإنجيل إن مال المؤمن ليس الدرهم والدينار بل ماله جواهر الحقائق والمعارف.
هذا هو المال الذي يناله الأنبياء من الله تعالى، وهذا ما يوزّعونه. وإلى هذا المال أشار النبي في قوله: "إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللهُ يُعْطِي".
ولقد ورد في الأحاديث بوضوح تام أن المسيح سيأتي إلى الدنيا حين يرتفع علم القرآن من الأرض ويشيع الجهل. وهذا هو الزمن الذي أشير إليه في حديث: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من فارس." لقد أُخبرتُ عن هذا الزمن بالكشف أن كمال طغيانه سيبدأ من سنةٍ هجرية مكنونٌ ذكرُها في الآية: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [254] بحسب حساب الجمّل؛ وهي في الحساب: 1274 هـ.
تأملوا في هذا المقام جيدا ولا تمروا به سريعا، وادعوا الله تعالى أن يشرح صدوركم. تستطيعون أن تفهموا بقليل من التأمّل أنه قد جاء في الأحاديث أن القرآن سيُرفع من الأرض في الزمن الأخير، ويتلاشى علم القرآن ويتفشّى الجهل، ويزول من القلوبِ الذوقُ والحلاوة الإيمانية. كذلك هناك حديث آخر أيضا جاء فيه ما مفاده: لو استقر الإيمان عند الثريا وما بقي له أثر في الدنيا، لمدّ رجل من فارس يده، وناله من هناك.
والآن، تستطيعون أن تدركوا بأنفسكم أن الواضح من الحديث الشريف أنه حين يتفشّى في الدنيا الجهلُ والخيانة التي عُبِّر عنها بالدخان في أحاديث أخرى، ويتضاءل الإيمان الحقيقي كما لو أنه ارتفع إلى السماء، ويُهجَر القرآن وكأنه رُفع إلى الله تعالى؛ عندها سيولَد لا محالة شخصٌ من أصل فارسيٍّ، ويتناول الإيمان من الثريا ويُنـزله إلى الأرض. فاعلموا يقينا أن ابن مريم المزمع نزوله هو هذا العبد المتواضع الذي ما وَجد في زمنه - مثل عيسى بن مريم - شيخا كأبٍ روحاني يمكن اعتباره سببا لولادته الروحانية. عندها تولّاه الله تعالى بنفسه، وحمله في حضن تربيته، وسمّى عبده هذا "ابن مريم" لأنه لم يكن له أم روحانية من البشر ليجد قالبَ الإسلام بواسطتها، أما حقيقته ولُبّه فقد وجده بغير واسطة الناس. عندها رفعه الله تعالى إليه بعد تلقّيه وجودا روحانيا. لأن الله تعالى أماته عمَّن سواه ورفعه إليه، ثم أنزله إلى خلق الله مع كنوز الإيمان والعرفان. فتناول تُحف الإيمان والمعرفة من الثريا وأنزلها إلى الدنيا، وتوجّه إلى إعمار الأرض وتنويرها التي كانت خربة قفراء يسودها ظلام حالك. فهذا هو عيسى بن مريم بصورة مثيله، وقد وُلد بغير أب، فهل لكم أن تثبتوا أن له أبا روحيا؟ هل لكم أن تبرهنوا على أنه ينتمي إلى سلسلة من مذاهبكم الأربعة؟ فإذا لم يكن هو ابن مريم، فمَن هو إذن؟
فإذا كنتم لا تزالون في ريب فاعلموا أن الملاعنة مع المسلمين لخلافات جزئية ليست من عمل الصِّدِّيقين. إن المؤمن ليس لعّانا. غير أن هناك طريقا سهلا جدا وهو ينوب مناب المباهلة في الحقيقة، ومن شأنه أن يفرّق بين الكاذب والصادق، وبين المقبول عند الله والمطرود من حضرته ، فأخطّه فيما يلي، وبخطٍ عريض:
يا أيها المشايخ، إذا كنتم تظنون في أنفسكم بأنكم مؤمنون وهذا الشخص كافر، وأنكم صادقون وهو كاذب، وأنكم تتبعون الإسلام بينما هو ملحد، وأنكم مقبولون عند الله وهو مردود، وأنكم من أهل الجنة وهو من أهل الجحيم - مع أن الأمر قد بُتَّ فيه بكل وضوح في أعين المتدبِّرين بحسب القرآن الكريم، وإن قُرّاء هذا الكتاب سيعرفون جيدا من هو على الحق ومن هو على الباطل - فاعلموا أن هناك طريقا آخر أيضا للحكم، وبواسطته يمكن التفريق بين الصادقين والكاذبين.. فقد جرت سنة الله على أنه لو استنصر اللهَ المقبولون والمطرودون - نصرة من السماء - كلٌّ بمكانه، لنصر الله حتما مَن كان مقبولا عنده، ولأظهر قبول المقبولين عنده بواسطة أمر يفوق قدرة البشر.. فما دمتم تدّعون أنكم أهل الحق، وفي جماعتكم أناس يدّعون أنهم ملهَمون أيضا مثل المولوي محيي الدين وعبد الرحمن اللكهوكي، وفيكم ميانْ عبد الحق الغزنوي الذي يعتبرني كافرا ومن أهل جهنم؛ فمن واجبكم أن تروا من خلال الأسباب السماوية أيضا مَن المقبول في السماء ومن المطرود؟ وأقبل أن تتوجهوا إلى أحكم الحاكمين لعشرة أسابيع للحكم في هذه القضية، لكي تُعطَوا - إن كنتم صادقين - آية صدق أو نبوءة ذات درجة عالية يُعطاها الصادقون فقط. كذلك سأتوجه أنا أيضا. وقد أكّد لي الله تعالى أنني سأنال الفتح لو بارزتموني بهذه الطريقة. لا أريد أن ألعن أحدا في هذه المواجهة ولن أفعل ذلك. أما أنتم فلكم الخيار لتفعلوا ما تشاءون. ولو أعرضتم لعُدّ ذلك هروبا. إنني أوجِّه هذا الكلام إلى المولوي محيي الدين وعبد الرحمن اللكهوكي، وميانْ عبد الحق الغزنوي، والمولوي محمد حسين البطالوي، والمولوي رشيد أحمد الكنكوهي، والمولوي عبد الجبار الغزنوي، والمولوي نذير حسين الدهلوي. أما الآخرون فتلقائيا بهم يلحقون.
"ما كان لنا فقد صار كله لذلك الحبيب ، لقد صرنا اليوم للحبيب وصار الحبيب لنا.
نحمد الله تعالى على أننا وجدنا تلك الجوهرة النادرة، ولا بأس إذا صار قلب القوم كالحجر الصلب." [255]
الأدلة على أنني أنا المسيح الموعود
لا شك أنه لا بد لكل مؤمن - بعد ثبوت موت المسيح ابن مريم النبي الإسرائيلي - من الإيمان بأن النبي الميت لا يمكن أن يعود إلى الدنيا قط، لأن القرآن والحديث يشهدان بالاتفاق بأن الذي مات لن يعود إلى الدنيا على الإطلاق، ويرحِّله القرآن الكريم من الدنيا إلى الأبد قائلا: أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُوْنَ[256]. أما قصة "عُزير" وغيره- الواردة في القرآن الكريم - فلا تعارض هذا المبدأ، لأن كلمة "موت" استُخدمت في اللغة بمعنى النوم والغشي أيضا. (فانظروا: القواميس)
أما ما ذُكر في قصة عُزير عن كساء العظام لحمًا فهو أمر آخر تماما، وقد أُريدَ منه البيانُ كأن الله تعالى يُحيِي الميِّت في الرحم ويكسو عظامه لحمًا، ثم ينفخ فيه الروح. وبالإضافة إلى ذلك لا يثبت من آية أو حديث قط أن عُزيرا أُحيِيَ مرة أخرى ثم مات. فيتبين من ذلك بجلاء تام أن حياة عُزير الثانية لم تكن حياة دنيوية، وإلا لذُكر موتُه بعد ذلك حتما. أما ما ذُكر في القرآن الكريم عن حياة بعض الناس ثانيةً؛ فليست حياة دنيوية.
ويتبيَّن من الأحاديث أيضا بصراحة تامة أن ابن مريم النازل في الزمن الأخير هو الذي وُصف بأنه "رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ"، ويكون مسلما ويأتي لرفع الخلافات بين المسلمين، ويذكِّرهم بمغزى الشريعة التي نسوها، وأنه سينـزل حتما حين تبلغ الفتن والشرور منتهاها، إذ يأتي على المسلمين زمن الانحطاط كما أتى على اليهود في أواخر أيامهم.
إن أصحاب الثقافة الحديثة في العصر الراهن مرتابون أصلا من مجيء شخص سيأتي باسم ابن مريم، ويقولون إن هذا الشخص العظيم الذي ذُكر في الأحاديث لو أنه سيأتي حقيقةً، لكان من المفروض أن يُذكر في القرآن الكريم كما ذُكرت دابةُ الأرض والدخانُ ويأجوجُ ومأجوج. فأقول بأن هؤلاء القوم واقعون في خطأ كبير؛ فقد كشف الله تعالى عليّ في كشف صريح أن ذكر مجيء مثيل ابن مريم موجود في القرآن الكريم، وهو أن الله تعالى جعل نبينا مثيل موسى، وذلك في قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا[257]. فقد اعتبر الله تعالى في هذه الآية نبينا مثيل موسى، واعتبر الكفارَ أمثال فرعون. وقد قال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[258].. أيْ قد سبق وعدُ الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنه سيجعلهم خلفاء في الأرض كما جعل الذين كانوا قبلهم؛ أي سيجعلهم خلفاء بالطريقة والأسلوب نفسه وبقدر المدة والزمن نفسه وبالصورة الجلالية والجمالية نفسها التي جرت عليها سنَّة الله في بني إسرائيل. فسيجعل الله تعالى الخلفاء في هذه الأمة أيضا، ولن تكون سلسلتهم أقصر من سلسلة خلفاء بني إسرائيل. كذلك لن يكون أسلوب خلافتهم مختلفًا عن الأسلوب الذي قُدِّر لخلفاء بني إسرائيل. ثم يقول بأنه سيمكِّن الدينَ في الأرض بواسطة هؤلاء الخلفاء، وسيأتي بأيام الأمن بعد الخوف... ثم يفشو الكذب بعد هذه الفترة مرة أخرى. إن المماثلة التامة التي تُفهَم من الإشارة الكامنة في: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، تدل بوضوح على أن هذه المماثلة إنما هي من حيث مدة فترة الخلافة، وأسلوب الإصلاح لدى الخلفاء وأسلوب ظهورهم. فما دام من الواضح تماما أن منصب خليفة الله في بني إسرائيل قد بدأ من موسى ، ثم ظل الأنبياء يأتون فيهم على التوالي حتى انتهت هذه السلسلة بعد مدة طويلة -1400 عام- على عيسى بن مريم ، فكان عيسى بن مريم خليفة، ولكنه لم يستلم عنان الحكومة ظاهريا، ولم تكن له أيّةُ علاقة بسياسة البلاد والملكوت الدنيوي، ولم يستخدم الأسلحة الدنيوية، بل كان يستخدم سلاح أنفاسه الطيبة؛ أي بالبيان المرضِيّ الذي أُجري على لسانه والذي رافقته بركات كثيرة، وبواسطته كان يُحيي القلوب الميتة، ويفتح آذان الصمّ، ويُري الأكمهَ نورَ الحق، كان نَفَسُه هذا يقضي على الكافرين الأزليين ويُتم عليهم الحجة، ولكنه كان يهب المؤمنين الحياةَ. وقد خُلق من دون أب، ولم يملك أسبابا ظاهرية، وكان الله تعالى وليُّه وكفيله في كل شيء. وقد جاء حين لم يهجر اليهود الدين فقط، بل وكانوا متخلّين عن الصفات الإنسانية أيضا حيث تلاشت منهم الرحمة، وتعاظمت فيهم الأنانية والضغينة والبُغض والظلم والحسد وثورة النفس الأمارة بغير حق، ولم يتخلَّوا عن حقوق البشر فقط، بل قطعوا - لغلبة الشقاوة عليهم - علاقة العبودية والطاعة والإخلاص الصادق مع المحسن الحقيقي أيضا.. ولم تبق عندهم إلا بعض عبارات من التوراة كعِظام لا نخاع فيها، وبسبب غضب الله عليهم ما كانوا قادرين على أن يصلوا إلى حقيقتها، لأن الفراسة الإيمانية والفطنة كانت قد تلاشت منهم نهائيا، وغلب الجهل على نفوسهم المظلمة. فبدأت المكائد الوضيعة والأعمال المكروهة تصدر منهم. وبلغ بهم الكذب والرياء والخيانة منتهاه. ففي هذا الوقت قد أُرسل إليهم المسيح؛ الذي كان المسيح الأخير من بين مُسَحاء بني إسرائيل، وخليفةُ الله الأخير من خلفائهم، والذي جاء بغير السيف والسنان على خلاف سنَّة معظم الأنبياء. وليكن معلوما أن خليفة الله يُسمَى مسيحا في الشريعة الموسوية، وقد نال هذا اللقب رواجا في بني إسرائيل في زمن داود أو قبله بقليل.
على أية حال، ومع أنه قد جاء في بني إسرائيل أكثر من مسيح، لكن الذي كان مقدرا أن يأتي في الأخير؛ هو الذي ذُكر في القرآن الكريم باسم المسيح عيسى بن مريم. ولقد كانت في بني إسرائيل أكثر من مريم، وكان لهن أولاد كثُر أيضا. أما المسيح عيسى بن مريم - أي الذي حملَ اسمًا مركَّبًا من ثلاثة أسماء - فلم يكن في بني إسرائيل في ذلك الوقت إلا هو وحده. فقد جاء المسيح عيسى بن مريم حين كانت حالة اليهود قد فسدت كما ذكرت سابقًا. ولقد بيّنت قبل قليل - بالإشارة إلى الآيات المذكورة آنفا- بأن الله قد وعد هذه الأمةَ أنه سيكون فيهم الخلفاء على النهج نفسه الذي كانوا عليه في بني إسرائيل. وحين نتأمل في ذلك النهج لا نجد بدا من الإقرار أنه من المحتوم أن يأتي الخليفة الأخير في هذه الأمة أيضا مثيلا كاملا للمسيح ابن مريم، وأن يأتي في زمن يشبه الزمن الذي جاء فيه المسيح ابن مريم بعد موسى، أي في القرن الرابع عشر أو قريبا من ذلك، وأن يأتي بغير السيف والسنان وبغير أسلحة الحرب كما جاء المسيح ابن مريم ، وأن يأتي لإصلاح أناس يشبهون اليهود الذين فسدت بواطنهم والذين جاء المسيحُ لإصلاحهم. وعندما ننعم النظر في الآيات المذكورة آنفا، نسمع صوتا صاعدا منها؛ يقول بأن الخليفة الأخير لهذه الأمة سيظهر على رأس القرن الرابع عشر حتما، ومثيلا للمسيح ، وسيأتي بغير أدوات الحرب. إن مبدأ المماثلة بين السلسلتين هو أن تكون المماثلة التامة بين بدايتهما ونهايتهما، لأن الاطِّلاع المفصَّل على أحوال جميع الأفراد الذين تخللوا هذه السلسلة أثناء هذه المدة الطويلة، محاولة لا طائل من ورائها. فلما أنبأ القرآن الكريم بكل صراحة أن سلسلة الخلافة الإسلامية تماثل تماما وتشبه كليّا الخلافة الإسرائيلية من حيث تقدمها وانحطاطها وجمالها وجلالها، وأنبأ أيضا أن النبي الأمّي هو مثيل موسى؛ ففي ذلك نبأ قطعي ويقيني أنه كما أن مثيل موسى هو سيد خلفاء الله وهو زعيم السلسلة الإسلامية ومَلِكها ومتربع على الدرجة الأعلى في عرش العزة والإكرام، ومصدر جميع البركات، والجد الأكبر لأولاده الروحانيين؛ كذلك فإن خاتم هذا السلسلة - بسبب المماثلة التامة - هو المسيح ابن مريم، وهو من أبناء هذه الأمة الذي تصبَّغ بصفات المسيح بأمر ربّاني. بل إن وحي الله تعالى: "جعلناك المسيح ابن مريم" قد جعله هُوَ هُوَ في الحقيقة وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا[259].
و أيضًا؛ في تسمية المسيح الآتي بـ "أحمد" إشارة إلى كونه مثيلا، لأن اسم "مُحَمَّد" جلاليٌ واسم "أحمد" جماليٌ. وإن "أحمد" و"عيسى" متماثلان تماما من حيث معنى الجمال. وإلى هذا الأمر أشير في قوله تعالى- على لسان عيسى-وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ[260]. ولكن نبينا الأكرم ليس أحمد فقط، بل محمد أيضا، أيْ هو جامع الجلال والجمال معًا. أما في الزمن الأخير فقد أُرسل أحمد فقط، والذي يحمل حقيقة عيسوية بحسب النبوءة. إن ذلك الإله الحي والقيوم القادر على أن يجعل الإنسان دابة، بل شر الدواب، ألا يقدر على أن يجعل إنسانا مثيلا لإنسان آخر وهو القائل: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ[261]، والقائل أيضا: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ[262]؟ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ[263].
فلما كانت هناك حاجة - حين طرأ الفناء على حقيقة الإنسانية - إلى إنسان يتولَّد بيد الله فقط، واسمه "ابن مريم" في السماء، فأنّى لقدرة الله القادر أن تعجز عن خلق ابن مريم هذا؟ فقد رزق اللهُ تعالى ابنَ مريم هذا - بمحض فضله وبغير واسطة أب دنيوي- ولادةً روحانية وحياةً روحانية، إذ قال في إلهامه ما نصه: ثم أحييناك بعدما أهلكنا القرون الأولى، وجعلناك المسيح ابن مريم. أي جعلناك المسيح ابن مريم بعد أن تفشى الموت الروحاني بوجه عام في المشايخ والعلماء. وفي الإنجيل أيضا إشارة إلى أن المسيح سيأتي بعد سقوط النجوم.
لقد تبين من هذا البحث كله أن نبوءة مجيء المسيح ابن مريم في الزمن الأخير موجودة في القرآن الكريم. إن المدة لظهور المسيح - وهي 1400 عام - والتي حدّدها القرآن الكريم، قد سلَّم بها كثير من الأولياء بناء على كشوفهم. والآية: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ[264] التي قوّة أحرفها في حساب الجمّل هي 1274 فإنها تشير إلى ليالي السلخ بحسب التقويم الإسلامي القمري. وفي ذلك تكمن إشارة إلى طلوع الهلال المذكور بقوّة الأحرف في "غلام أحمد قادياني" بحسب حساب الجمّل. والآية: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ[265] تتعلق في الحقيقة بزمن المسيح ابن مريم هذا، لأن تحقُّق الغلبة الروحانية على الأديان كلها ما كان ممكنا إلا في زمنه هو. لذلك فقد نشأت في هذا الزمن آلاف الاعتراضات والشبهات، وشُنَّت على الإسلام أنواع الهجمات الفكرية. يقول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[266]، فهذا هو زمن ظهور كل المعارف والحقائق الكامنة في بطون القرآن التي تتغلب وتقهر الأديان الفلسفية وغيرها، لأنها لا تظهر دون حاجةٍ ماسّة. والآن حين شُنَّت الصولات المعادية من قِبل الفلسفة الحديثة؛ حان وقت ظهور تلك المعارف، ولا يمكن أن ينتصر الإسلام على الأديان الباطلة كلها دون ظهور تلك المعارف، لأن الانتصار بالسيف ليس بشيء، فإنه يختفي في طي العدم سريعا بعد الازدهار المؤقت لأيام معدودة. إنّ الانتصار الصادق والحقيقي هو ذلك الذي يأتي مع جيش المعارف والحقائق الكاملة. فهذا هو الانتصار الذي يحرزه الإسلام الآن. لا شك أن هذه النبوءة تتعلق بالعصر الراهن، وهذا ما فهمه السلف الصالح على مرّ العصور. إن الزمن الراهن يقتضي بطبيعته أن يُظهر القرآن الكريم جميع بطونه التي ظلت مكنونة فيه منذ زمن بعيد، لأن بطون معارف القرآن الكريم - التي تتبين من الأحاديث وآيات القرآن البينات - لا تظهر للعيان عبثا، بل هذه المعجزة القرآنية سوف تتجلى حين تكون الحاجة إليها ملحة. ففي هذا الزمن أصبحت هذه الحاجات ملحّة بكل معنى الكلمة. لقد تقدّم الناس كثيرا في العلوم المعادية، ولا شك أنه لو لم تظهر بطون علوم القرآن في هذا الوقت الحرج، لما أمكن للمشايخ المعاصرين أن يقاوموا الخصوم بحال من الأحوال مع التعليم التقليدي الذي يتمسكون به، بل إنهم مهددون بشدة بأن يُغلَبوا، دعْ عنك أن ينالوا الغلبة عليهم. كل فطين يستطيع أن يفهم بسهولة أنه لا شيء من خلق الله جلّ شأنه يخلو من الدقائق والغرائب. ولو تمّ البحث والتحقيق في عجائب جناح ذبابة وغرائبه، لما انتهى إلى يوم القيامة.
فلا بد من التأمل والسؤال: ألا تساوي حقائق القرآن وعجائبه في قدرها وعظمتها حتى ذبابةً؟ لا شك أنها أكثر من عجائب المخلوقات كلها مجتمعةً، وإنكارها يعني إنكار كون القرآن الكريم من الله أصلا، لأنه ما من شيء في الدنيا يصدر من عند الله دون أن تكون فيه عجائب لا نهاية لها.
أما العذر بأنه لو قبلنا دقائق القرآن ومعارفه التي لم يكتشفها الأوائل، لكان في ذلك مساس بالإجماع، وكأننا نقول بأننا علمنا ما لم يعلمه الأئمة الذين سبقونا..فإن هذه الفكرة التي يتبنّاها المشايخ فاسدة وباطلة تماما. عليهم أن يفكروا أنه إذا كان ممكنا أن تُكشف في الزمن الراهن للنباتات وغيرها ميزة ما كُشفت على الأوائل، أفليسَ ممكنا أن تنكشف الآن بعض الحقائق والمعارف اللافتة للقرآن التي لم تُكشف على مَن كان قبلنا، إذ لا حاجة لانكشافها حينذاك. إن الأمور الضرورية التي تتعلق بالإيمان والمعتقدات وذات الصلة مع الشريعة والضرورية للدخول في الإسلام؛ مذكورة في القرآن الكريم ببيان واضح لكل من أراد الاطلاع عليها.
أما الدقائق والحقائق التي تزيد المعرفة، فإنها تُكشَف بحسب مقتضى الضرورة دائما، وتنكشف المعاني الجديدة والحكيمة عندما تشرئبّ المفاسد الجديدة.
من المعلوم أن القرآن الكريم معجزة في حد ذاته، والوجه الأكبر لإعجازه هو أنه جامع للحقائق اللامتناهية، ولكنها لا تظهر إلا في وقتها المناسب تماما، بل كلما اقتضت الضرورة ظهرت تلك المعارف الخفية. انظروا كيف تتقدم في العصرِ الراهنِ المعارفُ الدنيوية التي معظمها تبدو كأنها تعارض القرآن الكريم وتؤدي بالإنسان إلى الغفلة، وكيف يُظهر الدهرُ تغييرات غريبة في العلوم الرياضية والطبيعية والأبحاث الفلسفية. ألم يكن ضروريا في هذا الوقت الحرج أن يُفتح البابُ للتقدم في الإيمان والمعرفة أيضا، حتى تكون هناك سهولة ويُسر لمقاومة المفاسد الـمُحدَثَة؟
فاعلموا يقينا أن ذلك الباب قد فُتح، وقد أراد الله تعالى أن يُظهر عجائب القرآن الكريم الخفية أمام فلاسفة الدنيا المتكبرين. والآن لا يسع خصوم الإسلام قليلي العلم أن يردُّوا هذه الإرادة الإلهية. ولو لم ينتهوا من شرورهم لأُهلكوا بغضب الله القهار ولصاروا ترابا. إن قليلي الفهم هؤلاء لا ينظرون إلى الظروف السائدة قط، بل يريدون أن يبدو القرآن الكريم مغلوبا وضعيفا وحقيرا، ولكنه سيخرج الآن كبطل مغوار. نعم، سيبرز في الميدان كالأسد ويلتهم فلسفةَ الدنيا كلها، ويُثبت غلبته، وسيحقق نبأ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، ويوصل تحقُّق نبأ: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ذروة الكمال من حيث الروحانية، وذلك لاستحالة تمكين الدين في الأرض بوجه كامل بالجبر والإكراه. إن الدين يتمكّن في الأرض حين لا يسع دينا آخر مقاومته، ويضع كل الخصوم أسلحتهم. فقد جاء ذلك الوقت، ولن يتوقف موكبه الآن بمساعي المشايخ قليلي الفهم. والآن؛ فإن ابن مريم الذي ليس له أب روحاني في الأرض إلا ذلك المعلّم الروحاني، ويماثل بذلك آدم أيضا؛ سيوزّع كنوز القرآن الكريم الكثيرة حتى يسأم الناس من قبولها، ويكونون مصداقا لـ "لا يقبله أحد"، ويصبح كل شخص قانعا على قدر وُسعه. والخلافة التي بدأت بآدم قد أنهتْها حكمة الله الكاملة غير المتغيرة على آدم أخيرا. هذه هي الحكمة في إلهام: "أردت أن أستخلف فخلقت آدم." ولما كان الوقت الحالي هو وقت استكمال دائرة الزمان كما تشهد عليه الأحاديث الصحيحة؛ فسمّى الله تعالى الخليفة الأخير باسم آدم، ليجعل كلمة الأول والأخير واحدة. فليس هناك تباين روحاني بين آدم وعيسى من أيّ نوع، بل هناك مماثلة تامة بينهما؛ إذ قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ[267].
أمّا لو أُثير الاعتراض التالي: مع أن الله تعالى قد وضّح في القرآن الكريم بأسلوب جديد أن الخليفة الأخير من خلفاء الله في الإسلام، سيأتي بصبغة روحانية لآخِر خليفة من خلفاء بني إسرائيل (أي المسيح ابن مريم)، ولكن لماذا لم[268] يذكر الله تعالى في هذه النبوءة اسم المسيح ابن مريم صراحة؟ وإن كان المراد هو هو. فجوابه أنه فعَل ذلك لكي لا يقع الناس في الابتلاء نتيجة سوء الفهم؛ فلو أنّ الله تعالى قد ذكر الاسم بوضوحٍ وقال إن الخليفة الأخير لهذه الأمة سيكون المسيح ابن مريم نفسه، لتعرّض المشايخ قليلو الفهم لبلاء بعد بلاء، ولتعاظمت آفة سوء الفهم. لذا قد اختار الله تعالى لبيانه مسلَكَين اثنين. أولا: المسلك الذي اختير في الأحاديث؛ حيث وردت تسمية "ابن مريم". والمسلك الثاني مذكورٌ في القرآن الكريم، وقد ذكرته قبل قليل. والدليل على أن المسيح الموعود الذي وُعد بمجيئه في القرآن الكريم هو أنا العبد الضعيف، سوف يتبين بجلاء لكل طالب حق، وذلك من خلال الأدلة والعلامات والقرائن التي أسجلها فيما يلي:
من جملتها أنني جئت في وقت كان يجب أن يأتي فيه المسيح الموعود، لأن الحديث: "الآيات بعد المائتين" - أيْ أنّ الآيات الكبرى سوف تظهر في القرن الثالث عشر - يدلّ بالقطع واليقين على أن يظهر أو يولَد المسيح الموعود في القرن الثالث عشر. الحق أن الآيات الصغرى بدأت بالظهور في الزمن الميمون للنبي نفسه. فلا شك أن المراد من "الآيات" هي الآيات الكبرى التي ما كانت لتظهر أثناء المائتي سنة بحال من الأحوال. لذا فقد اتفق العلماء على أن المراد من "المائتين" هو القرن الثالث عشر، والمراد من "الآيات" هي الآيات الكبرى؛ مثل ظهور المسيح الموعود، والدجال، ويأجوج ومأجوج وما شابه ذلك. والكل يستطيع أن يفهم بسهولة أنه لم يدّعِ أحد سوايَ أنه هو المسيح الموعود في هذا الوقت؛ الذي هو وقت ظهور المسيح الموعود، بل لم يدّعِ أحد من المسلمين كونه المسيح الموعود على مدى 1300 عام، غير أن بعضا من النصارى قد ادّعوا ذلك في أزمنة مختلفة. فقد ادّعى مسيحيٌّ في أميركا أنه المسيح ابن مريم. ولكن المسيحيين المشركين هؤلاء لم يقبلوا ادّعاءه. وكان ضروريا أن يقوم البعض بادّعاءٍ مثله لتتحقق نبوءة الإنجيل؛ حيث قال المسيح: فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا المسيح، ولكن المسيح الحق سيأتي بعدهم جميعا. ثم نصحَ المسيح حوارييه أن يترقَّبوا مجيئه في الزمن الأخير. أيْ الذي سيأتي باسمي علامته أن في ذلك الوقت تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ * وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وفي ذلك كله إشارة إلى أن نور العلم سيُرفع عندئذ وسيموت العلماء الربانيون، وتفشو ظلمة الكذب، عندها سيظهر ابن مريم بأمر من السماء. وهذا ما أشير إليه في سورة الزلزلة؛ وهو أن زلزالا شديدا سيقع في الأرض في ذلك الوقت، فتُخرج كنوزها ودفائنها؛ أيْ سيحدث تقدم ملحوظ في العلوم الأرضية وليس في العلوم السماوية، وذلك يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ[269].
ومن جملتها أن كشوف أكابر الأولياء تشهد بالاتفاق على أن المسيح الموعود سيظهر قبل القرن الرابع عشر، أو على رأسه، ولن يتأخر عن ذلك الموعد. وقد سبق أن ذكرت شيئا من ذلك في هذا الكتاب على سبيل المثال. والمعلوم أنه لا يدّعِي في هذا العصر أحد أنه حائز على هذا المقام إلا أنا.
ومن جملتها أن حزب الدجال قد ظهر قبل فترة، وآخِذٌ بالظهور بقوة وشدة متناهية. وإن حماره -الذي هو من صنعه - هو في الحقيقة يتجول في الشرق والغرب كما جاء في الأحاديث الصحيحة. وإن ثبوت كون الحمار من صُنع الدجال نفسه - كما وُصِفَ في الأحاديث - يتبين من دليل آخر أيضا، وهو أنه لو وُلد هذا الحمار من بطن أتان كالعادة، لكان من المفروض أن توجد حُمُرٌ كثيرة من أمثالها في هذه الأيام أيضا، إذ لا بد أن يكون الولد شبيها بوالديه في القدّ وفي السير والقوة. لذا فإن الأحاديث الصحيحة تشير إلى أن ذلك الحمار سيكون من صنع الدجال نفسه. وإذا لم يكن المراد من ذلك الحمار هو القطار، فما المراد منه إذن؟ كذلك إن أمم يأجوج ومأجوج أيضا آخذة في الخروج بقوة وشدة متناهية، وتلاحَظ دابة الأرض أيضا في كل مكان. وقد نزل من السماء دخان حالكٌ وغطّى العالم كله. فلو لم يظهر المسيح في هذا الوقت، لثبت كذب النبوءة. إذن، فالمسيح الموعود الذي أعلن ذلك؛ هو أنا العبد الضعيف.
ولو طُرحت شبهة: أين توجد علامات الدجال كاملةً في فئة القساوسة الإنجليز؟ فجوابها أنني قد أثبتّ بالتمام والكمال في هذا الكتاب أن هؤلاء القوم هم الدجال المعهود في الحقيقة. ولو تأملنا في الموضوع أكثر، لوجدنا هذه العلامات كلها متحققة فيهم، وكأنهم مسيطرون على كل شيء نتيجة صناعتهم ومهارتهم، وتدابيرهم الحكيمة، وَسَعَتهم المالية. أما العلامة أن الدجال يمكث أربعين يوما فقط، وأن بعض الأيام ستكون كسنة؛ فلا يمكن حملها محمل الحقيقة قط، لأنه قد ورد في بعض الأحاديث أربعون عاما - بل خمسة وأربعون عاما أيضا- بدلا من أربعين يوما. ولو كان بعض الأيام كسنة، لاستلزم ذلك أن يموت المسيح ابن مريم ويبقى الدجال حيا. لذا؛ فالحقيقة أن تلك الكلمات كلها قابلة للتأويل. وليس المراد من موت الدجال استئصال هذا القوم، بل المراد هو استئصال أدلة هذه الديانة وحججها. ولا شك أن الدين الذي غُلِب كليا من حيث الأدلة اليقينية وظهرت للعيان ذلته، هو في حكم الميت حتما.
يوسوس بعض الناس أن النبي ؛ ردًّا على سؤالٍ عن كيفية الصلاة حين تكون الأيام طويلة في زمن الدجال -أي يكون يومٌ كسنة أو أقصر منها بقليل- قال: فاقْدُروا للصلاة قدرها، فيتبين من ذلك أن النبي كان واثقا من حقيقة المعنى الظاهري! والجواب أن ذلك كان ردًّا افتراضيا رُدَّ به على سؤال سائل بحسب رغبته، ولم يكن المقصود بيان الحادث على حقيقته، فقد سبق أن قال النبي بوضوح تام: "سائر أيامه كأيامكم".
وبالإضافة إلى ذلك يجدر بالتذكُّر أيضا أن الأمور التي لا تُعلَّم عمليا ولا توضَّح جزئياتُها الخفية، يمكن أن يصدر فيها سهو أو خطأ من الأنبياء أيضا عند الاجتهاد. فمثلا؛ الرؤيا المذكورة في القرآن الكريم والتي تسببت في ابتلاءٍ لبعض المؤمنين والتي سافر النبي بناء عليها من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة حتى وصل تلك البلدة المباركة بعد قطع مسافة طويلة في عدّة أيام فمنعهم الكفار من الطواف بالكعبة.. هذه الرؤيا لم تتحقق في ذلك الوقت.
ومما لا شك فيه أن النبي كان قد سافر على أمل أن يتسنّى لهم الطواف في هذا السفر، ومما لا شك فيه أيضا أن رؤيا النبي نوع من الوحي. ومع ذلك لم يُنبَّه النبيُّ على خطأ حصل في فهم المعنى الحقيقي لهذا الوحي حتى وصل إلى مكة المعظمة بعد أن تجشَّم إلى عدة أيام من المصائب ما اللهُ به عليمٌ. ولو نُبِّه على ذلك، ولو في الطريق، لعاد إلى المدينة حتما. ثم -بعد نبوءة "أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي، أَطْوَلُكُنَّ يَدًا"- حين بدأت أزواج النبي بقياس طول أيديهن بحضوره، لم يُنَبَّه أيضا على هذا الخطأ فيما بعد. وكان يبدو أنه كان يرى أن أطولهن يدا في الظاهر؛ ستموت قبل غيرها. لذا حين قِسنَ أيديهن بحضوره، لم يمنعهن من ذلك، ولم يقل إن هذا العمل يتنافى مع حقيقة النبوءة. كذلك لم تُكشَف النبوءةُ عن ابن صياد أيضا بجلاء تام، فكان يظن بدايةً أن ابن صياد هو الدجال المعهود، ولكنه غيّر رأيه في نهاية الأمر. كذلك حين شارط أبو بكر على النبوءة الواردة في بداية سورة الروم، قال النبي بوضوح إن كلمة "بضع" تُطلَق في لغة العرب على عدد يصل إلى تسعة، ولم يُذكَر بوضوح في أية سنة ستتحقق هذه النبوءة في مدة السنين التسع. وكذلك النبوءة في الحديث الذي جاء فيه: "فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب" توحي بجلاء أن ما فهمه النبي محلا ومصداقا للنبوءة بناء على اجتهاده، لم يكن صحيحا.
أما نبوءات المسيح فحالها أغرب؛ إذ كثيرا ما فَهِم معاني النبوءات بطريقة وتحققت بطريقة أخرى تماما. فقد وهب ليهوذا الإسخريوطي في النبوءة الكرسي الثاني عشر في الجنة ولكنه حُرم من الجنة نهائيا. أما بطرس فقد أعطاه مفاتيح الجنة مرة، ووصفه بالشيطان مرة أخرى. كذلك يتبين من الإنجيل أن كشوف المسيح أيضا لم تكن واضحة، وأن عديدا من نبوءاته لم تتحقق كما فهمها، بيد أنها تحققت بحسب المعنى المراد. فكل هذه الأمور تؤدي إلى تأسيس مبدأ أن الأنبياء عليهم السلام أيضا يمكن أن يخطئوا أحيانا في تأويل الأنباء أو تفسيرها.
لا شك أن كلمات الوحي تكون على أعلى درجة من درجات الصدق، ولكن من سنَّة الأنبياء أنهم يفصّلونها أحيانا من عندهم شيئا ما. ولما كانوا بشرا؛ فهناك إمكانية للخطأ في التفسير في بعض الأحيان، غير أنه لا مجال للخطأ في الأمور الدينية والمتعلقة بالإيمان، لأن الله تعالى يهتم بتبليغها اهتماما خاصا، والأنبياء يُعلَّمونها عمليا أيضا. فقد أُرِيَ نبينا الأكرم الجنة والجحيم، وكُشفت له حقيقة الجنة والنار بواسطة الآيات المتواترة والمحكمة والبينة، فلم يعد هناك مجال ليخطئ في تفسيرها. إن إمكانية الخطأ هي فقط في الأنباء التي يريد الله تعالى لحكمة من حِكَمه أن يتركها مبهَمَةً ومجمَلة، ولا تكون لها أدنى صلة بالمسائل الدينية. إن هذا سرّ دقيق جدا، وبالانتباه إليه تتسنّى معرفةُ مقام النبوة الصحيحةُ، وبناء على ذلك يمكننا القول بأنه لم تنكشف على النبي حقيقة ابن مريم والدجال كاملةً لعدم وجود مثال مسبق، كما لم تنكشف عليه الكيفية الحقيقية لحمار الدجال ذي السبعين باعًا، ولم يطلعه الوحيُ الإلهي على الكنه العميق ليأجوج ومأجوج، كما لم تُكشَف ماهية دابة الأرض كما هي. ولا غرابة إذا كان الرسول قد أُفهِم هذه الأمور إجمالا بأسلوبِ الأمثلة المتقاربة والصور المتشابهة والأمور المماثلة بقدر ما كان فهْمُ الأمور الغيبية المحضة ممكنا للقوى الإنسانية. وإذ ظهرت عند تحقق مثل هذه الأمور بعضُ الجزئيات التي كانت غير معروفة من قبل، فلا يمس ذلك بعظمة النبوءة شيئا. ولقد تبين جليا بالتدبر في القرآن والأحاديث أن النبي كان واثقا بالقطع واليقين أن ابن مريم رسول الله، النبي الناصري صاحب الإنجيل؛ لن يعود إلى الدنيا أبدا، بل سيأتي سمِيُّه الذي سينال اسمه من الله بناء على المماثلة الروحانية.
ومن جملة العلامات الدالة على كوني المسيح الموعود تلك المهام الخاصة التي وُكِّلتْ إليّ على غرار المسيح ابن مريم، لأن المسيح جاء في اليهود حين تلاشى من قلوبهم مغزى التوراة وحقيقتها. وكان ذلك الزمن 1400 عام بعد موسى، حين أُرسل المسيح ابن مريم لإصلاح اليهود. فقد جاء هذا العبد الضعيف أيضا في الزمن الذي تلاشى فيه من قلوب المسلمين مغزى القرآن الكريم وحقيقته. وقد مضى إلى هذا الوقت أيضا المدة نفسها تقريبا التي مضت بعد مثيل موسى؛ أي التي مضت بين موسى وعيسى عليهما السلام.
ومن جملتها أنه كان ضروريا أن يُولَد ابن مريم الآتي في نهاية الألفية السادسة، إذ كان مقدرًا له أن يولَد كأبي البشر (أي بصورة آدم) من حيث الروحانية، وذلك بسبب انتشار الظلمة العامة والتامة، واستيلاء الفناء على حقيقة الإنسانية. و أما العلاماتُ والآيات الكبرى التي ستظهر عند ظهوره بحسب ما ورد في القرآن الكريم والإنجيل؛ فهي أن فسادا كبيرا سيحدث في العالم من حيث الروحانية، وأن دخانا سيحل محل النور السماوي وتسود العالم حُلكة الدخان، وتسقط النجوم، ويحدث في الأرض زلزال عظيم، ويقلّ الرجال الذين يبحثون عن الحق، وتكثر النساء في الدنيا؛ أي يكثر طلاب المتعة الوضيعة الذين سيُخرِجون من الأرض كنوزا ودفائن سفلية، ويكونون محرومين تماما من الكنوز الروحانية. عندئذ سيُخلَق-بغير واسطة الأيدي- آدمُ، والذي اسمه الثاني ابن مريم. وهذا ما يشير إليه الإلهام المسجَّل في "البراهين الأحمدية": "أردتُ أن أستخلف فخلقت آدم". والحق أن آدم وابن مريم يشملهما مفهوم واحد، والفرق الوحيد هو أن تسمية "آدم" تدل دلالة تامة على زمن فيه شح "الرجال"، أما تسمية "ابن مريم" فهي أقل دلالة على ذلك، ولكن الله تعالى يهدف من استخدام كِلتا التسميتين إلى مقصد وهدف واحد. وهذا ما يشير إليه إلهام آخر مذكور في "البراهين الأحمدية": "إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما. كنتُ كنـزا مخفيا فأحببت أن أُعرف." أيْ كانت الحقائق والمعارف قد اختفت، فكشفناها بإرسال هذا الشخص.
الآن، وقد تبيّن من هذا البحث كله أنه كان محتوما أن يأتي آخر الخلفاء باسم آدم، والمعلوم أن وقت ظهور آدم يقارب وقت العصر من اليوم السادس، وذلك يتبين من الأحاديث الصحيحة والتوراة أيضا، لذا لا يسع منصفا إلا الاعتراف أن ذلك الآدم وابن مريم هو أنا العبد الضعيف، لأنه أولا وقبل كل شيء؛ لم يدّعِ أحد هذا الادعاء قبلي قط، أما أنا فلا أزال أنشر هذا الإعلان منذ عشرة أعوام، وقد نُشر في "البراهين الأحمدية" منذ أمد طويل. ولقد سماني الله تعالى آدم. وإن من حكمة الله الدقيقة والكاملة أنه سماني آدم وعيسى قبل عشر سنوات من حلول طوفان هذا النـزاع ليكون آية للمتدبرين، ولكي يتلاشى التكلُّف والتأويل المتأصل في أذهان البعض من ذوي الطبائع غير الناضجة. فقد سماني الله الحكيم المطلق آدم وخليفة الله وبشّرني في "البراهين الأحمدية" بصورة واضحة قائلا: "إني جاعل في الأرض خليفة"، وبذلك وجّه الناس ليطيعوا خليفة الله آدم هذا، وألا يبقوا خارج جماعة مطيعة، وألا يتعثَّروا كإبليس، وأن ينقذوا أنفسهم من تهديد الحديث "من شَذّ شُذَّ في النار"، ويدركوا حقيقة إلهاماتهم. ولكنهم سّموا طريق العمى جماعةً، وأعرضوا عن الجماعة الحقيقية التي هي بمنـزلة "فئة قليلة" و"قليلا ما هم" في نظر أصحاب النظرة السطحية. أما هذا العبد الضعيف الذي أرسله الله تعالى بصفة آدم، فقد جعل له آية أن خلقني في الألفية السادسة، التي تمثل اليوم السادس،؛ أي في نهاية الألفية التي تماثل وقت العصر، كما يقول إذ قال : وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[270]. وكان من المقدر أن يُبعث ابن مريم - الذي سُمِّي آدم في الإنجيل والقرآن الكريم أيضا - في نهاية الألفية السادسة، وذلك على غرار آدم . إذن، فأنا الوحيد الذي ظهر في الألفية السادسة منذ ولادة آدم الأول. لقد ثبت من أحاديث كثيرة أن عمر بني آدم سبعة آلاف سنة، وأن آدم الأخير سيولَد - على غرار آدم الأول - في نهاية الألفية السادسة التي هي بمنـزلة اليوم السادس، فأنا الذي قد وُلدتُ، فالحمد لله على ذلك.
ومن جملة علامات نزول المسيح أنه سينـزل واضعا كفيه على أجنحة مَلَكينِ. وفي ذلك إشارة إلى أن يده اليُمنى واليُسرى اللتين تمثلان وسيلة الحصول على العلوم العقلية والأنوار الباطنية، تكونان مسنَدتَيْن على الموكَّلَين من السماء، وسينال المسيح العلم اللَّدُنِّي من الله تعالى، وليس من الكتاتيب والكتب والمشايخ، والله تعالى وحده سيتولّى ويتكفّل حاجاته كلها، كما نُشر في "البراهين الأحمدية" قبل عشر سنوات بحقي إلهام نصه: "إنك بأعيننا، سمَّيتك المتوكل، وعلّمناه من لدنا علمًا".
وليكن معلوما أن المراد من الأجنحة المذكورة في الحديث؛ هو الصفات والقوى الملائكية، كما يقول صاحب "اللمعات" شارح المشكاة في شرح الحديث: "عن زيد بن ثابت قال، قال رسول الله : طوبى للشام. قلنا لأيٍّ ذلك يا رسول الله؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها". رواه أحمد والترمذي.
لقد ثبت من الأحاديث الكثيرة والقرآن الكريم أن الذي يحرز مرتبة الانقطاع الكامل والتوكل الكامل، تُسخَّر الملائكة لخدمته؛ فيخدمه كلُّ ملاك بما يتلاءم مع منصبه، إذ قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[271]، وقال أيضا: وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[272]، فهل يعني ذلك في الحقيقة أن الله تعالى حاملهم في حضنه؟ كلا، كذلك لا يجوز أن يُحمَل وضعُ اليدين على أجنحة مَلَكينِ أيضا على الحقيقة.
فزبدة الكلام أني جئت بالعلامة المذكورة آنفا، وأن يديّ على أجنحة الملائكة، وتُكشف عليّ العلوم اللدنية بواسطة القوى الغيبية. فلو لم يكن المرء أعمى، لرآني من خلال هذه العلامة الصريحة، ولما وجد نظيرها في غيري.
ومن جملتها علامة أن الكافر يموت بنَفَسه. والمراد من ذلك أن خصومه ومنكريه لن يقدروا على مواجهته في أي شيء، لأنهم سيموتون أمام أدلته الكاملة. فسيرى الناس عن قريب أن الخصوم ماتوا فعلا من حيث الحجة والأدلة البينة.
ومن جملة تلك الأدلة أن المسيح سيصحح على إثر مجيئه الأخطاء في معتقدات الناس وأفكارهم؛ فقد ورد في صحيح البخاري حديث أن المسيح ابن مريم سينـزل حَكَمًا عدلا. فلكل عاقل أن يدرك من كلمتي "الحكَم" و"العَدْل" أن المسيح سيحكم بالحق والعدل، وذلك على عكس فهم الكثيرين وأفكارهم. وكما يسخط الناس قليلو الفهم عادة من الحَكَم العَدْل، كذلك يسخطون من المسيح أيضا. فلقد جئت أنا أيضا حَكَما عَدْلا، وبيّنتُ الأوهام الباطلة كلها على حقيقتها. كان الناس من قبل يظنون أن المسيح ابن مريم النبي الناصري الذي مات من قبل؛ سيعود بنفسه إلى الدنيا. فقد صحَّحتُ خطأهم هذا، وصدَّقتُ الذين كانوا يعتقدون بموت المسيح من المسلمين، وكذلك فرقة الموحِّدين من المسيحيين إذ يعتقدون بأن المسيح مات ولن يعود إلى الدنيا. وبيّنتُ أيضا أن موت المسيح ثابت من ثلاثين آية في القرآن الكريم. بل الحق أنه ما من نبي ذُكر موته في القرآن الكريم بالصراحة التي ذُكر بها موت المسيح ابن مريم. وهذا ما أستطيع إثباته من القرآن الكريم بكل تحدٍّ. وبعد إثبات موت المسيح، قد أثبتُّ حقيقة الوعد بأنه حين تصل أيام الأمة المحمدية إلى القرن الرابع عشر، سوف يمنُّ الله تعالى على أمة مثيل موسى الغافلة أيضا في زمنها الأخير كما منّ على أمة موسى في زمنها الأخير، وسيرسل من هذه الأمة نفسها أحدا بصفة المسيح ابن مريم، فسيأتي من المسلمين أنفسهم كما أتى ابن مريم الإسرائيلي من بني إسرائيل أنفسهم.
كذلك كان الناس يزعمون أن المسيح سيُدفَن بعد وفاته في قبر النبي ، ولكنهم لم يدركوا مدى إساءة الأدب في ذلك، ولم يفكِّروا مَن سيكون هؤلاء الأغبياء ومسيئو الأدب الذين سينبشون قبر النبي ؟ ما أسخفه من فعلٍ أن يُنبَش قبر النبي الأكرم وتُكشَف للناس عظامُه!! بل الحق أن في ذلك إشارة إلى المعيّة الروحانية. فعلى المنوال نفسه هناك أخطاء كثيرة أصححها.
ومن جملة تلك الآيات أن المسيح الموعود الآتي سيكون نبي الله، أيْ سيتلقّى الوحي من الله تعالى. ولكن ليس المراد هنا النبوة التامة والكاملة، لأن النبوة الكاملة قد خُتم عليها، بل أُريدت النبوةُ التي تقتصر على مفهوم المحدَّثية التي تستمد النور من مشكاة النبوة المحمدية. فقد أُعطيتُ هذه النعمة بوجه خاص. مع أن الكل ينال نصيبا من الرؤى والكشوف الصادقة إلى حد ما، ولكن لو انتاب خصومنا الشكُ والريبة؛ فلهم أن يختبروا عن طريق المواجهة أني قد أُعطيتُ من الرؤى الصالحة والكشوف واستجابة الدعاء والإلهامات الصادقة نصيبا وفيرا يقارب نصيب الأنبياء، وما أُعطيَه أحدٌ من المسلمين المعاصرين قط. وهذا هو الـمِحكّ الأمثل للاختبار؛ لأنه ما من شاهد على صدق صادقٍ مثل التأييد السماوي. إن الذي يأتي من الله، يكون الله معه بلا أدنى شك، ويأخذ بيده بوجه خاص في مواطن المواجهات. فما دمتُ على الحق، وأرى أن الله تعالى الذي أرسلني هو معي، لذا أقول عن قناعة تامة وبيقين كامل بأنه لو كذَّبني قومي كلهم - سواء أكانوا سكانَ البنجاب أو الهند أو المسلمين العرب، أو الناطقين بالشهادتين من الروم والفرس، أو المسلمين من أفريقيا أو غيرها من بلاد المسلمين الأخرى، وعلماؤهم ونُسّاكهم ومشايخهم وصلحاؤهم ورجالهم ونساؤهم - ثم أرادوا أن ينظروا؛ مَن فيه آيات القبول، أفيهم أم فيَّ، وهل تُفتح أبواب السماء عليهم أم عليَّ، وهل ذلك الحبيب الحقيقي- بإنعاماته الخاصة وعلومه اللدنية ومن خلال إلقاء المعارف الروحانية- معهم أم معي.. لانكشف عليهم بكل سهولة أن ذلك الفضل الخاص، وتلك الرحمة الخاصة -التي بسببها يصبح القلب مورد الفيوض والبركات - قد نزلا على هذا العبد الضعيف أكثر من قومه. ولا يزعمَنَّ أحد أن هذا البيان ناتج عن استكبار، بل هو من قبيل التحدُّث بالنعمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا ما تشير إليه الإلهامات التالية، والتي نصها: "قل إني أمرتُ وأنا أول المؤمنين، الحمد لله الذي أذهب عني الحزن وآتاني ما لم يؤت أحد من العالمين". أليس المراد من "أحد من العالمين" هم أُناس الزمن الراهن أو المستقبل أيضا؟ والله أعلم بالصواب.
ومن جملتها بعض كشوف المرحوم المولوي عبد الله الغزنوي الذي خلا قبل بعثة هذا العبد الضعيف. ومنها أنه قد جاءني قبل أربعة أشهر من هذا اليوم (أي في 17 يونيو/حزيران 1891م) في قاديان، رجل صالح تقي عديم الرياء، ملتزم باتباع السنَّة بشدة، اسمه الحافظ محمد يوسف وهو صديق مخلص للمولوي عبد الله الغزنوي من الدرجة الأولى، وقال لي في معرض الحديث إن المرحوم المولوي عبد الله الغزنوي تنبأ بناء على كشفٍ رآه قبل وفاته ببضعة أيام؛ أن نورا نزل من السماء على قاديان، ولكن مع الأسف الشديد؛ حرم منه أولاده.
يقول المدعو غلام نبي من مدينة "نارووال" في إعلانه المحرَّر في 2 ذي القعدة: إن هذا افتراء، وإذا لم يكن افتراء فيجب ذكر اسم شخص قال المرحوم هذا الكلام بحضوره.
أقول: ها قد ذكرنا راوي هذا الكلام ومكانته. فعلى المعترض أن يسأل الحافظَ المحترم: أهذا افتراء أم هو الصدق، ومن أظلم ممن افترى أو كذّب وأبى!
وفي فبراير 1886م روى لي في مدينة هوشيار بور السيدُ منشي محمد يعقوب المحترم - أخو الحافظ محمد يوسف- أنه سمع المرحوم عبد الله الغزنوي يقول عنك يوما: إنك ستُبعث بعده بمهمة عظيمة. ولكني لا أذكر هل قال المنشي هذه الكلمات بالتحديد، أم نطق كلمات أخرى بالمعنى نفسه.
على أية حال، فقد قيلت هذه الكلمات بحضور بضعة أشخاص بمن فيهم ميانْ عبد الله السنوري من سكان ولاية "بتياله". وأذكر أن المحاسب منشي إلهي بخش وغيره الكثيرون، قد كانوا موجودين حينذاك في محل إقامتي الذي كان منـزل السيد شيخ مهر علي المحترم. ولكن لا أذكر أسماء الموجودين بالتحديد في المجلس الذي قيل فيه هذا الكلام. غير أن ميان عبد الله السنوري ذكر لي أنه كان موجودا عندما حصل هذا وسمعه بأذنيه.
ومن جملتها كشفٌ لناسكٍ انتقل من هذا العالم الفاني قبل ثلاثين عاما أو واحد وثلاثين. والشخص الذي سمعت هذا الكشف بلسانه؛ طاعن في السن وذو لحية بيضاء، وأماراتُ الصلاح والتقوى بادية على وجهه، ويقول عنه معارفه إنه إنسان صادق القول، وورع وصالح في الحقيقة، حتى إن المولوي عبد القادر - المدرس في مدينة جمالبور في محافظة لدهيانه - وهو رجل صالح أيضا؛ كال المديح لهذا الشيخ ذي اللحية الشديدة البياض وقال: إنه رجل تقيٌّ في الحقيقة، وملتزم بالسنة ويصدق القول. ولم يقتصر الأمر على مديحه هو فقط، بل كتب أيضا أن المولوي "محمد حسن" زعيم لدهيانه - وهو شخص مرموق من حزب الموحِّدين، ورجل نبيل، ويتحلّى بمكارم الأخلاق، وحليم الطبع ومن الثقات، وكان هذا الرجل المسن ذو اللحية البيضاء صديقا قديما لوالده ومن قومه ومعارفه القدامى ومتصبِّغ بصبغة صحبته الميمونة - يقول: إن ميانْ كريم بخش (أي هذا الرجل الصالح ذا اللحية البيضاء رجل ورع وتقي وجدير بالثقة، ولا أشك فيه مطلقا).
وأنقل فيما يلي إفادة ميان كريم بخش الخطيَّة عن هذا الكشف مع كافة الشهادات المسجَّلة على تلك الورقة وهي:
اسمي كريم بخش، ابن غلام رسول، من فئة "أعوان" والمقيم في "جمالبور أعوانه" بمديرية لدهيانه. المهنة: الزراعة. أبلغُ من العمر 64 عاما تقريبا. الدين: موحِّدٌ من أهل الحديث. أقول حلفا بالله إن هذا الكلام يعود إلى 30 أو 31 عاما على وجه التخمين أي إلى عام 1817م سمت[273] حين وقعت مجاعة معروفة في عام 1817م انتقل إلى قريتنا "جمالبور" رجلٌ صالح؛ اسمه غلاب شاه، الذي أرشدني إلى طريق التوحيد، وكان معروفا جدا بسبب كمالات زهده، وهو من سكان محافظة لاهور أصلا. كان في البداية ناسكا وسالكا وزاهدا وعابدا، تصدر من فمه أسرار التوحيد. وفي النهاية استولت عليه حالة الوَجد والإغماء وصار منقطعا ومتبتِّلا. وفي بعض الأحيان كانت تجري على لسانه أمور الغيب قبل ظهورها وتتحقق كما سردها. فتنبأ ذات مرة بحدوث مجاعة شديدة، وذلك قبل حدوثها في عام 1817م، وأخبرني بها أنا أيضا قبل الآوان، فوقعت المجاعة فعلا بعد فترة وجيزة. كذلك قال لي ذات مرة إن نهرا سيجري - حيث تجري هذه القناة حاليا - أي في قرية رام بور بولاية بتياله، قرب مديرية "بائيلي"- ثم حدث أن فُجِّرت القناة في ذلك المكان المحدد بعد فترة من الزمن، وهي فرع من النهر في الحقيقة. وهذه النبوءة معروفة في قرية جمالبور كلها. وكذلك قال في إحدى المرات قبل المجاعة التي حدثت في عام 1817م بأن التجار سيربحون الآن كثيرا، فحدثت المجاعة بعد فترة وجيزة، وربح بسببها التجار كثيرا. وكانت هناك نبوءات كثيرة أخرى تنبأ بها وتحققت كلها.
وذات مرة قال لي هذا الرجل الصالح - وهذا الكلام يعود إلى ثلاثين سنة مضت - إن عيسى قد شبّ، وسيأتي إلى لدهيانه وسيُخرج الأخطاء من القرآن وسيحكم بالقرآن وسينكره المشايخ.
فسألته مستغربا: هل هناك أخطاء في القرآن الكريم أيضا؟ إنه كلام الله! قال: قد فُسِّر القرآن بشتى الطرق، وانتشرت لغة الشعراء (أي إن المبالغات تلو المبالغات قد انتشرت وغطّت وجه الحقيقة كما يبالغ الشعراء ويحجبون الحقائق). ثم قال: حين يأتي عيسى ذاك سيحكم بالقرآن. ثم أعاد هذا الزاهد الكلام نفسه وقال بأن المشايخ سينكرونه، وعندما يأتي عيسى ذلك إلى لدهيانه ستحدث مجاعة شديدة. سألته: أين عيسى الآن؟ قال: في قاديان. قلت: إن قاديان تبعد عن لدهيانه ثلاثة فراسخ تقريبا، (علما أن هناك قرية أخرى قرب لدهيانه اسمها أيضا قاديان) فلم يردّ على ذلك. وما كنت أعلم أن هناك قرية باسم قاديان في محافظة غورداسبور أيضا. ثم سألته: هل رُفع نبي الله عيسى إلى السماء وسينـزل في الكعبة؟ قال: إن عيسى بن مريم نبي الله قد مات فلن يأتي هو، وقد تفحّصنا هذا الأمر جيدا وعلمنا أنه قد مات. وأضاف قائلا: نحن ملوكٌ ولن نكذب أبدا. ثم قال: إن أهل السماء لا يمشون إلى أحد أبدا.
الــمــعــلــن
ميانْ كريم بخش، حارة إقبال غنج، لدهيانه، السبت 14 يونيو/حزيران 1891م.
وهذه قائمة بأسماء الذين سمعوا هذا البيان بآذانهم وسجّلوا شهاداتهم على إفادة ميان كريم بخش الخطية في الوقت نفسه وبحضوره:
قال ميان كريم بخش بعد ذلك: لقد أفلت مني بيانُ أمرٍ آخر وهو أن ذلك الزاهد قال لي بوضوح تام إن اسم عيسى المذكور هو غلام أحمد.
والآن أسجل شهادات الذين قالوا حلفا بالله إن ميان كريم بخش رجل صالح في الحقيقة، وذو سيرة طيبة جدا، ولم يثبت عليه كذب قط. وهؤلاء الشهود يسكنون إما في قريته أو في قرية مجاورة.
"نقول حلفا بالله إن ميان كريم بخش صادق القول، وملتزم بالصيام والصلاة بشدة. ولم نسمع في حياتنا أنه اتُّهِم بالكذب أو قال ما يخالف واقع الأمر، بل الحق أنه لم يأخذ من مزرعة أحد أبسط الأشياء مثل قصب السكر أو حبة ذرة. وكان ميانْ غلاب شاه أيضا زاهدا معروفا في هذه القرية وقد مضى على وفاته 25 عامًا تقريبا. ولقد تحقق أمام أعيننا معظم ما أنبأ به هذا الزاهد قبل الأوان."
العبد المتواضع: خيرايتي، عمدة قرية جمالبور، ونور الدين ابن دِتَّا المقيم في جمالبور
غلام محمد؛ نائب المدرس أو غلام محمد نائب؛ المدرس.
وأنقل فيما يلي رؤيا صالحة تؤيد الكشف المذكور آنفا، وقد رآها رجل صالح اسمه "محمد" يسكن في مكة؛ فهو عربيّ مكّي. ولقد حكى العبارة التالية المحتوية على الرؤيا، وقد وصلتني منه مكتوبةً، وهي كما يلي:
"أقول، وأنا محمد بن أحمد المكي من حارة شعب عامر؛ إني رأيت في المنام في سنة 1305 أن أبي قائم وأنا معه، فنظرت إلى جانب المشرق فرأيت عيسى قد نزل من السماء، وأنا أريد أن أتوضأ، فتوجهت إلى البحر ثم توضأتُ، ورجعت إلى أبي فقلت: يا أبي إن عيسى قد نزل فكيف أصلّي؟ فقال لي أبي: إنه نزل على دين الإسلام، ودينه دين النبي ، فصلِّ مثلما كنت تصلي أولا. فصليتُ، ثم استيقظت من منامي، فقلتُ في نفسي: لا بد إن شاء الله أن ينـزل عيسى في حياتي، وأنظره بعيني."
ومن جملة الآيات على كوني المسيح الموعود أن من علامات ظهور المسيح الموعود بوجه خاص أن ينـزل بعد خروج الدجال المعهود، لأنه من المسلَّم به أن المسيح الصادق والنازل بعد خروج الدجال المعهود؛ هو ذلك الذي سُمِّي بالمسيح الموعود. وقد ذُكر السببُ وراء تسميته باسم المسيح في صحيحِ مسلم وهو أنه سيمسح من وجوه المؤمنين غبار الشدة والمحنة والابتلاء الذي يكون قد علا حالتهم، أيْ سيجعلهم غالبين بالبرهان والحجة. فيقال له "المسيح" لأن هذه الكلمة مشتقة من "مسح"، ومن الضروري أن ينـزل بعد الدجال المعهود؛ فقد جئت بعد خروج الدجال المعهود. فلا شك أنه لو ثبت أن المراد من الدجال المعهود هم فئة القساوسة والمسيحيون من المتكلمين، لثبت لنا أيضا بأنه هو الذي قلَب الأمور والأوضاع رأسا على عقب بشعوذته، وهو خارج بكل قوة وشدة منذ ذلك الوقت بالتحديد الذي يُستنبَط من قوة أحرف الآية: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أي عام 1857م[274] بحسب حساب الجمّل؛ ولثبت أني أنا العبد الضعيف هو المسيح.
ولقد كتبتُ من قبل أن فئة الوعاظ المسيحيين هم الدجال المعهود دون أدنى شك. مع أنه يُفهم من كلمات الأحاديث الظاهرية أن الدجال هو شخص معيّن أعور العين، وعينه الأخرى أيضا كعنبةٍ طافية. ولكن لما كانت هذه الأحاديث المبنية على النبوءات من قبيل الكشوف التي تغلب فيها الاستعارة والمجاز بحسب سنة الله كما قال ملا علي القاري أيضا، وقد استنبط منها السلف الصالح معنى الاستعارة دائما لذا؛ لا نستطيع أن نستنتج - بسبب وجود القرائن القوية - أن المراد من الدجال هو شخص واحد فقط. لقد جرت سنة الله في الرؤى والكشوف أن يُرَى فيها شخص واحد في بعض الأحيان، ويكون المراد منه فئة. فقد رأى شخص في زمن النبي في المنام مَلِكا عربيا، فقال بأن المراد منه بلاد العرب.. أي فئة. وهناك قرينة قوية تشهد على بياني هذا وهي أن الدجال اسم جنس في اللغة، والمراد منه أناس كذابون. فقد ورد في القاموس أن معنى الدجال: حزب يَدْجُل الحَقَّ بالباطل وينجّس الأرض[275]، وقد ورد في كتاب الفتن من مشكاة المصابيح حديث يشير بصراحة تامة إلى أن المراد من الدجال هو فئةٌ[276].
واعلموا أن كبرى علامات الدجال المعهود الواردة في الأحاديث هي التالية:
إن أسباب الرفاهية والتنعم الحديثة التي أوجدتها الأمم المسيحية، وما تحل ببعض البلاد وأهلها من المحن والبلايا والفقر والمجاعة أيضا بسبب مكائدهم؛ أليس هذان الأمران نموذجين للجنة والجحيم؟
إذن، فمن أهم العلامات العشرة المذكورة آنفا للدجال المعهود؛ هي أن فتنته ستكون أكبر الفتن التي ظل الناس يثيرونها للقضاء على دين الله منذ البداية. ولقد أثبتُّ في هذا الكتاب أن هذه العلامة ملحوظة بوضوح في المراكز المسيحية.
ومن جملة كبرى علامات الدجّال حماره الذي قُدِّر طوله بسبعين ذراعا. والمعلوم أن طول عربات القطار يكون بهذا القدر من الطول تقريبا. ومما لا شك فيه أيضا أن القطار يجري بقوة البخار كما يجري السحاب بقوة الريح. فالحق أن نبينا الكريم قد أشار في هذا المقام بوضوح إلى قطار سكة الحديد. ولما كان القطار من اختراع الأمة المسيحية التي تقودها وتؤمّها هذه الفئة الدجّالة، لذلك سمي القطار بحمار الدجّال. فهل هناك برهان أكبر وأوضح من أن هذه العلامات الخاصة بالدجّال توجد فيهم؟ لقد بلغوا من المكائد والخديعة منتهاها، وألحقوا بالإسلام أضرارًا لم يسبق لها نظير منذ بدء الخليقة. وأتباع هذه الفئة يملكون حمارا يجري بقوة البخار، كما يجري السحاب بقوة الريح. وإن أتباعها هم الذين يعمرون الأرض، ولا يستولون على بقعة قاحلة من الأرض إلا يأمرونها أنْ أخْرِجي كنوزك. ثم يلجأون إلى حيَل شتى للاستيلاء على أموال تلك البقاع، حيث يُحيون الأرض المواتَ ويقيمون الأمن فيها؛ على أن تتبعهم هذه الكنوز، وتنساب تلك الأموال إلى بلادهم دون البلاد الأخرى. من الذي لا يعلم أن كنوز الهند مثلا تنساب إلى أوروبا. إن الأوروبيين أنفسهم يستخرجون هذه الكنوز، ثم يرسلونها إلى أوطانهم.
فباختصار، يتبين من التأمل في الأحاديث المذكورة كلها أن رسول الله قد أنبأ عن العصر الراهن، وسمّى هؤلاء القوم دجالا. صحيح أنه لم يُذكَر خروج الدجال في القرآن الكريم بصراحة، ولكن مما لا شك فيه أنه ذكر الدجال ضمن ذكر الدخان. ثم تناول القرآن الكريم ذكر الزمن الذي ينتشر فيه نور الله بعد الدخان. والمراد من ذلك الزمن النوراني؛ هو الزمن الذي تتوجه فيه الدنيا إلى الحسنة مجددا بعد ظهور المسيح الموعود. لا شك أن الزمن الراهن- وهو أيضًا زمن الدخان - بعيدٌ عن حقيقة الصدق أيما بُعد، وقد أثّرت فيه الظلمة الدجالية على القلوب تأثيرا قويا، وقد خرجت عشرات الملايين من خلق الله من التوحيد والحق والإيمان بإغواء شياطين الإنس.
ولو افترضنا جدلا أن النبي ما أنبأ بالدجال - الذي هو حزب القساوسة المسيحيين الذي لا نظير له في الدنيا منذ بدايتها إلى يومنا هذا- لوقع اعتراض شديد على كمالات كشوفه ؛ بأنه ما أنبأ بفتنة كبيرة مثلها كانت أمته ستواجهها؛ والتي لم ينحرف بسببها من الإسلام سبعون ألفا، بل أكثر من سبعة ملايين شخص في بلاد مختلفة. ولكن لو اعترفنا - كما هو مقتضى العدل - بأنه قد أنبأ عن هذا الدجال وحماره أيضا الذي يوصلهم إلى بلاد نائية عبر البر والبحر، وأخبر أيضا بأنهم يملكون عينا واحدة، وأخبر كذلك بجنتهم وجحيمهم وخزائن خبزهم وكنوزهم؛ لما كانت عندنا أحاديث يمكننا تقديمها في تأييد هذا الادّعاء، سوى تلك التي تتحدث عن الدجال. وإن لم نطبّق هذه الأحاديث على هؤلاء القوم، بل اختلقنا في أذهاننا دجالا مزعوما ومفترضا سيخرج في زمن من الأزمان؛ فمن أين يمكن أن نأتي بأحاديث تنطبق عليهم؟ والمعلوم أن الركض وراء الوهم والخيال وترك الموجود إنما هو كتمان الحق دون أدنى شك. فالذي بات موجودا، ورأيناه بأم أعيننا، وشاهدنا فتَنه المنقطعة النظير، وانطبقت عليه جميع النبوءات أيضا؛ إن لم نعتبره مصداقا حقيقيا لهذه النبوءات كلها، لكان معنى ذلك أننا لا نريد أن تتحقق نبوءة من نبوءات رسول الله ، مع أنه كان من عادة السلف الصالح حرصهم على تحققها كل الحرص.
لقد جاء في الحديث أن كبشا سيُذبح في الكعبة، ولكنهم لم ينتظروا ذبح الكبش ظاهريا، بل حين استُشهد عبد الله بن الزبير استيقنوا أنْ هذا هو المراد من ذبح الكبش، مع أنه لم يُذكر في الحديث اسم إنسان، بل ذُكر الكبشُ بصراحة تامة.
كذلك هناك نبوءة في صحيحي البخاري ومسلم أن أطول أزواج النبي يدا ستموت قبل غيرها، فاستيقنوا عند وفاة السيدة زينب رضي الله عنها أن النبوءة قد تحققت بالفعل، مع أنه كان المسلَّم به بالإجماع أن السيدة سودة رضي الله عنها لكونها أطولهن يدا ظاهريا، فستموت قبل غيرها. فحين رأى هؤلاء الصلحاء أن حمل ألفاظ النبوءة على الظاهر يؤدي إلى إفلات النبوءة من اليد، استنبطوا أن المراد من طول اليدين هو صفة الإيثار والصدقة. ولكن المشايخ المعاصرين يخجلون من أن يتنحَّوا عن معنى الحديث الظاهري مع وجود قرائن قوية، وأن يوفِّقوا بين القرآن والحديث فيستنبطوا أن المراد من ابن مريم هو مصداقه الروحاني، ويستحيون من القول إن المراد من كون الدجال أعور؛ هو العَوَر الروحاني، وذلك حتى يجتنبوا إنكار القرآن الكريم. إنهم لا يفكرون أن تسمية "ابن مريم" و"الأعور" أيضا خرجت من الفم الطاهر نفسه الذي خرج منه الكلام عن طول اليدين. أضف إلى ذلك أنه كان قد سبق للنبي أن صدّق المعنى الظاهري والحقيقي لطول اليدين، لأن الأيدي قد قيست بقصبة، وذلك بحضوره ، ووُجدت السيدة سودة رضي الله عنها أطولهن يدا، وتقرر أنها ستموت قبل غيرها. فلما لم يمنع النبيُّ أزواجَه حين رآهن يقِسنَ أيديهن، تقرَّر أن سودة رضي الله عنها ستموت قبل غيرها. ولكن لم تثبت صحة هذا المعنى في نهاية المطاف، فثبت بذلك أن النبي أيضا لم يعلم حقيقة النبوءة.
لو تأمل المشايخ المعاصرون وتصفحوا أوراق التاريخ وقارنوا الفتن التي أثيرت ضد الدين الحق منذ زمن آدم إلى اليوم - أي على امتداد ستة آلاف سنة تقريبا - مع الفتن والمحاولات الحالية، لاضطروا للإقرار أن المكائد والخطط لتلبيس الحق بالباطل التي ظهرت ولا تزال تظهر من الأمة المسيحية، لم يظهر جزء من البليون منها من أيّ قوم آخر قط. صحيح أنه قد خلا الكثيرون الذين سفكوا الدماء بغير حق، وأحرقوا الكتب وسجنوا الصادقين، ولكن لم تكن فتَنهم لتقلِّب القلوب رأسا على عقب، بل الحق أن المؤمنين كانوا يزدادون استقامة أكثر من ذي قبل على إثر تحمّل المعاناة على أيديهم. أما هؤلاء القوم، فإن فتنتهم تبطش بالقلوب وتنجّس الإيمان بالشبهات، ولها تأثير السم القاتل في إفساد المعتقدات.
إنه لموقفٌ جدير بالتفكير؛ فهل من نظير في أيّ زمن خلا لهؤلاء القوم الذين وزّعوا إلى الآن ستين مليون كتاب لنشر الوساوس والشبهات، ولا يزالون يواصلون تلك الحملة الشعواء بشدة وحماس؟ فإن لم يتم العثور على نظيرهم في مدة ستة آلاف عام مضت، أفلم يثبت إلى الآن - بحسب منطوق الحديث - أن فتنتهم منقطعة النظير بكل المعايير؟ إن الفتنة العظيمة التي أماط الدهرُ اللثامَ عن وجهها في نهاية المطاف هي التي أجلست مئات الآلاف من المسلمين في الكنائس، ودفعت لتأليف ملايين الكتب ضد الإسلام. فإن اعتبار هذه الفتنة كأنها لم تكن، إنما هو فعل المشايخ فقط؛ أولئك الذين لا يجدون في قلوبهم أدنى رغبة في أن يروا نبوءة رسول الله تتحقق في حياتهم.
إن بعض المشايخ من قليلي الفهم يقدمون عذرا - كنقاش عقيم - ويقولون إن من علامات المسيح ابن مريم أنه سيقتل الدجالَ المعهود، وسيؤمن به أهل الكتاب كافة، ويقدمون تأييدا لموقفهم هذا آيةً، وهي: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ[277]. فأقول: لو كانت هذه الآية تعني أن كافة أهل الكتاب سيؤمنون عند نزول المسيح؛ لما وَسِعنا القول قط بأن الدجال سيُقتَل وهو كافرٌ. وبالإضافة إلى ذلك فقد ورد بوضوح في حديث في صحيح مسلم أن سبعين ألفا من أهل الكتاب سيكونون مع الدجال، ومعظمهم سيموتون على كفرهم. وسيبقى كثيرون كافرين وملحدين بعد موت المسيح أيضا، وعليهم ستقوم القيامة. ويشهد القرآن الكريم على ذلك بكل صراحة ووضوح، فيقول: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [278]. ويتبيّن من هنا أن نسل اليهود - قليلا أو كثيرا - سيكون موجودا إلى يوم القيامة. ثم يقول تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[279]. ويتبين من هذه الآية أيضا بجلاء أن وجود اليهود سيستمر إلى يوم القيامة، لأنهم لو آمنوا بعيسى منذ البداية، لما امتدت سلسلة العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. لذا؛ لا بد من التسليم بأن الفكرة القائلة بأن من علامات نزول المسيح أن جميع أهل الكتاب سيؤمنون به؛ تخالف نصوص القرآن والأحاديث الصريحَة.
ملخَّـص الـحُــكم
إن ادّعاءنا الذي نتج عن الإلهام الإلهي، ولمع بشهادات القرآن، وتراءى لكل عين بصيرة وبتأييدات متتالية من الأحاديث الصحيحة؛ يتلخص في أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله الذي نزل عليه الإنجيل قد ارتحل من هذا العالم السفلي وغادر هذه الدنيا الفانية وانضم إلى من توفاهم الله وأصبحوا في العالَـم الأبدي. وترك مستلزمات الجسد المادي وصفاته واستمتع بالصفات واللوازم التي لا يُعطاها إلا الميتون، وحظي بالمتع التي لا توهَب إلا للذين يلقون الحبيب الحقيقي بعد عبورهم جسر الموت. ولا شك أن الذي يهجر أناسا من هذا العالم ويلتقي مَن توفاهم الله في العالم الآخر، ويتخلى عن لوازم هذا العالم وصفاته ويقبل لوازم العالم الآخر وميزاته، ويترك ملذات هذا العالم كليًّا وينال ملذات العالَم الآخر، ويهجر مؤثِّرات هذا العالم الأرضية والسماوية ويحظى في العالم الثاني بحياة لا تتبدّل، ويغيب ويختفي من هذا العالم كليا ويظهر في ذلك العالم؛ هو الذي يقال عنه بكلمات أخرى بأنه مات. ولا شك في أن التبدل والتغيّر الذي يوصف بالموت قد طرأ على حياة المسيح الدنيوية. فلم يقصِّر - من حيث هذه اللوازم - في شيء قط عن بقية إخوته الذين تركوا هذه الدنيا وما فيها. إنّ العلامات الخاصة للذين يصلون بعد موتهم إلى ذلك العالم؛ أنهم لا ينامون ولا يأكلون الطعام ولا يشربون الماء ولا يمرضون ولا حاجة لهم للتبول والتبرّز، ولا يحتاجون لتقليم الأظافر أو قصّ الشعر، ولا يحتاجون إلى الشمس أو القمر من أجل الضوء، ولا يؤثر فيهم الدهر، ولا يتنفسون الهواء ولا يرون بواسطة الضوء، كما أنهم لا يسمعون ولا يشمّون بواسطة الهواء ولا يقدرون على التوالد والتناسل.
فباختصار، يطرأ على كيانهم انقلاب كامل سُمّي بالموت. إنهم يُعطَون جسدا، ولكنه لا يملك لوازم هذا العالم وصفاته. نعم، إنهم يأكلون ويشربون في الجنة، ولكن طعامهم وشرابهم ليس من العالم الذي يحتاج إليه الجسد المادي، بل هو من النِعم التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب بشر.
والسؤال الآن هو: إذا كان المسيح لم يمت بعد، بل هو موجود في سماء من السماوات بهذه الحياة الدنيوية، فهل ترافق جسده المادي صفات ولوازم خاصة لا توجد في غيره؟ هل ينام مرة ويستيقظ أخرى، ويقوم حينا ويجلس آخر، ويأكل طعاما دنيويا ويشرب شرابًا دنيويا أحيانا؟ وهل يبول ويتبرز أيضا عند الحاجة؟ وهل يقلم أظافره ويحلق شعره أو يقصه حسب مقتضى الأمر؟ وهل هناك سرير وفراش أيضا لاستلقائه؟ وهل يتنفس الهواء ويشم به، ويسمع بواسطة الهواء ويرى بواسطة الضوء؟ أو هل شاخ بتأثير الدهر فيه؟ لا شك أن الإجابة على هذه الأسئلة كلها؛ هي أن صفات الحياة الدنيوية ومستلزماتها لم تعد ترافقه، بل هو متصبِّغ في كل شؤونه بصبغة الذين غادروا الدنيا نتيجة الموت. ولم يتصبَّغ بصبغتهم فقط، بل انضم فعلا إلى أولئك الميتين. فلا يثبت من هذا الجواب إلا موته، لأنه ما دام قد تحلّى مثل الميتين بكافة الصفات المتعلقة بالعالم الثاني - التي هي من علامات الأموات - ثم لم يقتصر على تحليه بها بل انضم إلى تلك الجماعة، وقبل لنفسه أمرَ الله تعالى: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ[280]، وصار مصداقا لقوله تعالى: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ؛ فماذا نعتبره إذن إن لم نعتبره ميِّتا؟
والمعلوم أنه ليس هناك إلا عالَمان اثنان: عالم الدنيا، وعالم الآخرة. إن العالم الدنيوي، الذي ما دام الإنسان عائشا فيه، ترافقه التغيرات الناتجة عن لوازم هذا العالم مثل الأكل والشرب واللباس والتنفس والنوم والاستيقاظ ونمو الجسد أو انحلاله، ويُعتبر حيا إلى ذلك الحين، وعندما تنفصل عنه هذه المقتضيات كليا، يقول عنه الجميع عفويا إنه قد مات، وبمجرد الموت ترافقه مقتضيات العالم الثاني. بل الحق أن حالة المرء وأوضاعه تقاس على ظروف الجماعة التي ينضم إليها، بل يُعتبر من العالم الذي هو فيه معهم. ومن غادر هذه الدنيا وانضم إلى جماعة في عالم آخر، عُدّ منهم. والآن يجب التدبر إلى أية جماعة انضم المسيح، بحيث لا بد أن تُطلق عليه أحكام الجماعة التي هو فيها؟ يقول الله تعالى في القرآن الكريم بأنه لا يمكن لأحد أن ينضم إلى حزب الأموات دون الممات. ولقد تبين من صحيح البخاري أيضا أن المسيح ابن مريم قد انضم إلى حزب الميتين، وموجود في السماء الثانية مع يحيى بن زكريا. ويقول الله تعالى أيضا بأنه لا يستطيع أحد أن يأتيه دون الممات. ومما لا شك فيه أن المسيح قد رُفع إليه ، وهذا يعني أنه مات حتما. لقد خاطبه الله تعالى في كلامه المجيد بالقول: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[281]. والمعنى العام لـ "متوفيك" والمستخدَم في القرآن والأحاديث؛ هو قبض الروح وترك الجسد بحاله. ومن التعنت تماما أن يُستنبَط من فعل "التوفِّي" معنى قبض الروح، وذلك للناس جميعا، أما إذا ورد بحق المسيح ابن مريم فيُستنبط منه معنى قبض الجسم أيضا. هل يجوز لنا اختلاق لغة جديدة لم تُستعمَل في كلام الله ولا في كلام الرسول قط، ولم يستخدمها شعراء العرب وأدباؤهم مطلقا؟ فما دام معنى "التوفي" المتداول والمتعارَف عليه؛ هو قبض الروح - سواء أكان بصورة ناقصة أو تامة - فلماذا يراد منه قبض الجسد إذن؟ والمعلوم أن الشيء الذي يُقبَض هو الذي سيُرفع، وليس أن ما يُقبض هو الروح وما يُرفع هو الجسد.
إذن، فمن الإلحاد والتحريف الصريح اختلاق معنى جديد من مصدر "التوفي" على عكس المعنى المتداول والمعروف والمستنبَط من القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته. أدعو الله تعالى أن ينقذ المسلمين من ذلك.
وإذا قيل: قد ذُكرت في كتب التفاسير معانٍ كثيرة لفعل "التوفِّي"، قلتُ: إن تلك المعاني المختلفة والمتعارضة لم تؤخَذ من النبي ، لأنه من المستحيل تماما أن يتطرق اختلاف أو تناقض إلى البيان الصادر عن عين الوحي. بل هي أقوال مختلفة للمفسرين أنفسهم، وتُثبت أنهم لم يُجمِعوا على معنى معين قط. ولو أُعطُوا البصيرة التي أُعطِيتُها، لأجمعوا حتمًا على ما أقول، لكن الله تعالى حرمهم من هذا العلم القطعي واليقيني لكي يزَّود عبده بهذا العلم الكامل، فيُظهر آية تفوُّقه في العلم مثل آدم صفي الله.
وإذا قيل بأن معظم المفسرين يقولون بموت المسيح ابن مريم، ولكنهم مع ذلك يقولون إنه قد أُحييَ بعد ذلك. أقول جوابا على ذلك: إن الصلحاء الذين يعتقدون بحياة المسيح بعد مماته، لا يقولون مطلقا بأنه نال حياة دنيوية بعد الممات، بل يعترفون جميعا بأنه قد أُعطِي بعد موته حياةً مختلفة تماما عن الحياة الدنيوية، بل كانت نوعا من أنواع حياة العالم الثاني، وذلك مثلما أُعطيها بعد الممات آدم ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام. وقد نالها بشكل أفضل وأعلى من غيره سيدُنا ومولانا النبي العربيُّ الهاشمي الأمِّيُّ، صلى الله عليه وعلى آله وإخوانه أجمعين.
وإن قال أحد: ليس الأمر كذلك، بل إن الحياة التي نالها المسيح بعد موته كانت حياة دنيوية في الحقيقة. وهنا أقول: إنْ صح ذلك، فلا بد لهذا القائل من الاعتراف أيضا أن مستلزمات الحياة الدنيوية تلازم المسيح؛ فيتنفس بواسطة الهواء مثل الأحياء في هذا العالم، وبالهواء يشمُّ، وبه يسمع الأصوات، ويأكل ويشرب، وتلزمه جميع المكاره الأخرى أيضا من قبيل التبول والتبرز وغيرها.. ولكن القرآن الكريم ينفي وجود هذه الأشياء فيما يتعلق به. وتعلن الأحاديث أيضا بأعلى صوتها أن حياة المسيح إنما هي مثل حياة جميع الأنبياء الميتين تماما. فحديث المعراج أيضا يدل على الأمر نفسه. وكذلك إن المسيحيين، ومع إصرارهم الشديد على رفع المسيح حيا بعد موته، لا يدّعون أنه يحيا في السماء كحياته في الدنيا، بل يعتبرون حياته مثل حياة موسى وداود وغيرهما من الأنبياء، لأن المسيح نفسه معترف بذلك.
وأقول هنا أيضا بأني ما اطّلعتُ على هذا المعنى لفعل "التوفي" نتيجة اجتهادي الشخصي فقط، بل هناك حديث ذُكر في باب الحشر من مشكاة المصابيح، وفي صحيحي البخاري ومسلم أيضا- برواية ابن عباس- حيث فسّر النبيُّ الآية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِيْ بكل وضوح قائلا إن المراد الحقيقي من التوفي؛ هو الموت. بل يتبين من الحديث نفسه أن هذا السؤال قد وجّهه الله تعالى إلى المسيح في عالم البرزخ بعد وفاته، وليس أنه سيوجَّه إليه يوم القيامة. وإذا ارتاب أحد في تفسير آية فسّرها النبي ، فماذا يمكننا فعله إن لم نتأسف ونستغرب من إيمانه وإسلامه؟ ولقد أورد الإمام البخاري هذا الحديث في كتاب التفسير في صحيحه، للإشارة إلى المعنى نفسه.
إن بعض الناس يقتنعون بموت المسيح بعد سماعهم هذه الأدلة الدامغة ثم يقدمون وسوسة مجددا أن الله تعالى قادر على أن يقيمه من القبر. لقد قلتُ مرارا في أثناء الرد على هذه الوسوسة إن الله تعالى تعهد في القرآن الكريم ومن خلال الأحاديث الصحيحة أن لن يُرسَل إلى الدنيا ثانيةً مَن مات مرةً وأصابته المنية الحقيقية المقدَّرة له، ولن تُنـزَلَ عليه ميتتان في الدنيا. ثم بعد سماعهم هذا الجواب يقدمون وسوسة أخرى بأنه ثابت من القرآن الكريم أن بعض الأموات قد أُحيُوا؛ مثل الميت الذي كتم بنو إسرائيل قتله، وورد ذكره في آية: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ[282]. فجوابه: لا يتبين من أية آية قرآنية تشمل قصصا مثلها أن ميتا قد أُحييَ في الحقيقة، ودبّت الحياة حقيقةً في جسده. بل كلّ ما يُثبته التأملُ في هذه الآية وما تلاها؛ هو أن جماعة من اليهود أخفَوا هذا القتل، واتّهم بعضُهم بعضا، فبيَّن الله تعالى خطة للقبض على المجرم الحقيقي، وهي أن يذبحوا بقرة، ويضرِبوا الجثة بقطعة من لحمها، وأن يضرب كل واحد من المشتَبَه بهم بدوره الجثة بقطعة اللحم، وعندما تكون الضربة على الجثة بيد القاتل الحقيقي، تصدر منها حركات من شأنها أن تؤدي إلى كشف القاتل.
لا يثبت من هذه القصة قط، بأن الجثة قد أُحيِيَت في الحقيقة. كذلك يزعم البعض أن هذا كان تهديدا فقط لكي يعترف القاتل بنفسه بالجريمة مذعورا، ولكن هذا التأويل يُظهر عجز الله العالم بالغيب، ولا يؤوِّل مثل هذه التأويلات إلا الذين ليس لهم نصيب من أسرار عالم الملكوت. الحقيقة أن هذا العمل كان نوعا من علم التِّرب (المسمرية، أو المسمريزم) التي من ميزاتها أن تُنشئ في الجمادات أو الدواب الميتة حركةً مماثلة لحركة الحيوانات، وقد تؤدي إلى معرفة بعض المشتبِهات والمجهولات. فعلينا ألا نضيع الصدق، وأن نعتبر كل حقيقة أو صفة؛ هي عين الحقيقة من الله تعالى. إن لعلم التِّرب شأنا عظيما؛ إنه قسم روحاني من علوم الطبيعة، وفيه صفات وعجائب كثيرة.. وحقيقته أنه كما أن الإنسان خليفة الله على كل شيء من حيث وجوده الكلي وقد جُعلت الأشياء كلها تابعة له، كذلك إن كل تلك الأشياء تابعة للقوى الإنسانية التي يملكها الإنسان بحيث تتأثر بها وِفق شروط مناسبة. لقد أُرسل الإنسان إلى الدنيا بقوة فاعلة، أما الأشياء الأخرى فتملك قوة منفعلة. إن أدنى تأثير لقوة الإنسان الفاعلة، هو أنه يمكن أن يستأنس به كل كائن حيٍّ لدرجة يعّد نفسه من خدامه، ويصبح مسخرا له. إن الذين وهبتهم الفطرة نصيبا أكبر من القوة الفاعلة، تصدر منهم تصرفات عجيبة ناتجة عن علم التِّرب. الحق أن الإنسان حيوان يمكن أن تتطور قواه الظاهرية والباطنية نتيجة تطويرها، فيزداد تأثير قوته الفاعلة. فمثلا إن الناس الذين يسمّون في بلادنا مشعوِذين أو سحرةً؛ لا حقيقة لهم، إلا أن ضعيفي الخِلقة - مثل الأطفال- يتأثرون إلى حد ما بنظرتهم السامة. وهناك أناس آخرون يُلقُون تأثيرات نظراتهم السامة حتى في الحيوانات المفترسة، فيتغلَّبون عليها ويصطادونها بسهولة. إن بعض الناس يلقون بأفكارهم في قلوب الآخرين لكونهم متمرِّسين في علم التِّرب.. والبعض الآخر يقدرون على أن يلقوا تأثيرهم في قلوب الآخرين بقوة العمل نفسه، كما يؤثر بعضهم في الجمادات؛ فتنشأ الحركة فيها. ففي الأيام الراهنة نرى كثيرا من الناس متمرسين في هذه الأمور. فمنهم - وعلى سبيل المثال- مَن يستطيع أن يحرك وبقوة نتيجة علم الترب رأسًا مبتورا لشاة أو غيرها؛ فتراه يرقص، وبعضهم يعثرون على السارق بالعلم نفسه، وذلك على إثر قيامهم بأعمال الشعوذة. فكل هذه الأمور فروع من علم الترب في الحقيقة، وإمكانية الأخطاء فيها واردة، وتكون نتيجة فقدان بعض الشروط الضرورية. والحق أن هذا النوع من الأخطاء قد حدث كثيرا للسبب نفسه، ولكنها لا تحط من شأنه، لأن كثيرا من التجارب الناجحة قد أثبتت حقيقته. لا شك أن تأثير حياة الإنسان وشعوره يمكن أن يقع على الأشياء الأخرى، بل إن تجلي قدرة الإنسان على الكشوف يمكن أن يقع على جماد أو دابة ميتة ويجعلها وسيلة لاستكشاف المجهول.
فالقضية المذكورة في الآية المذكورة آنفًا هي من النوع نفسه. والآية التي تليها؛ أي: كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى[283] أيضا لا تُثبت الحياة الحقيقية، بل تشير إلى تجلّي القدرة الأخرى نتيجة تحقق معجزة القدرة الأُولى. وهذا الأسلوب شائعٌ في القرآن الكريم؛ فقد قُدِّم نَبْت النباتات أيضا - وفي عدة آيات- دليلا على إحياء الموتى، وذلك بصيغٍ مشابهة للآية نفسها؛ أي: كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى.
واعلموا أن في بيان القرآن الكريم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا أيضا إشارة إلى علم التِّرب، لأن تجارب هذا العلم توحي أن الإنسان يملك قوة مغناطيسية قادرة - إن أمكنه تسخيرها- على جذب جميع كائنات الأرض إلى نفسه. ويمكن أن تتطور قوة الإنسان المغناطيسية لدرجة يتمكن بواسطتها من جذب طير أو دابة إلى نفسه، وذلك بمجرد التركيز عليها. فتدبّر ولا تغفل.
والآن أعود إلى صلب الموضوع وأقول: إن جميع المقدسين الذين خلوا من هذه الدنيا، هم أحياءٌ في العالم الآخر؛ فعندما سأل منكرو القيامة المسيحَ دليلا على قيام الأموات يوم القيامة، ردّ عليهم مشيرا إلى أن الله تعالى يقول؛ كما جاء في الإنجيل: "أنا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ". وبذلك قد أقرّ المسيح أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب كلهم أحياءٌ. كذلك اعترف المسيح بحياة إبراهيم في قصة "لعازر"[284] أيضا ولم يستطع المسيحيون أن يثبتوا إلى الآن: ما هو وجه ترجيح حياة المسيح على حياة إبراهيم؟ وما هي الصفات الخاصة في حياة المسيح التي لا توجد في حياة إبراهيم؟ ومعلوم أنه لو لم يُعطَ إبراهيم جسما، فأنّى كان لـ "لعازر" أن يجلس في حضنه؟ وبما أن المسيح قد أقر بنفسه - في الإنجيل- أن إبراهيم موجود في العالم الثاني مع الجسد، فأية ميزة خاصة توجد في جسد المسيح حتى يستيقن المنصف أن للمسيح جسدا ماديا، ولإبراهيم جسدا نورانيا. أما لو ثبت أن جسد المسيح يحتاج إلى لوازم الجسد المادي مثل الأكل والشرب والتبول والتبرّز وغيرها، بينما لا يحتاج جسد إبراهيم إلى هذه اللوازم؛ لما وسع أحدا أن يصر على الإنكار بعد هذا الإثبات. ولكن لم يستطع المسيحيون ولا أحد من المسلمين أن يثبت ذلك إلى الآن، بل جميعهم يقرّ بكل وضوح أن حياة المسيح مماثلة ومتحدة الحقيقة تماما مع حياة الأنبياء الآخرين، ولا توجد فيها خَصلة من الامتياز أو ميزة يمتاز بها عن غيره. فكيف نسلِّم إذن أن المسيح متربع في السماء مع جسد غريب مختلف الصفات، أما الآخرون كلهم فبدون جسد. يقال لنا من باب الإكراه والتحكم المحض: إن الأمة قد أجمعت على هذا الأمر. ولكن ما دمنا نرى بوضوح أن السلف والخلف ما أجمعوا على قول واحد، فأنّى لنا أن نقبل هذا الإجماع المزعوم؟ إذا كان هناك إجماع على حياة المسيح، فأخرجوا لنا قولا واحدا اعتبر فيه السلف حياة المسيح حياة دنيوية، وقبلوا أن فيه صفات الحياة الدنيوية دون غيره.. بل الحق أن السلف والخلف مُجمِعون على أن المسيح قد غادر هذا العالم وانضمّ إلى أهل العالم الثاني، وأن حياته مماثلة تماما لحياتهم دون أدنى زيادة أو نقصان. ومع أن البعض رفضوا موت المسيح لجهلهم، لكنهم مع ذلك قبلوا أنه هجر هذا العالم كالميتين، وانضم إلى الذين ماتوا وصار منهم تماما، فليسألهم عاقل: أليس هذا هو الموت بعينه؟ إن الذي ترك عالَم الدنيا ووصل إلى العالم الثاني وهجر أناسًا من هذه الدنيا وانضم إلى أموات العالم الآخر، فما عسى أن نطلق عليه إن لم نسمِّه ميِّتا؟
ولقد كتبت من قبل أن القرآن الكريم قد أعلن موت المسيح في ثلاثين آية، ويشهد على موته نصًا وإشارةً أيضا، ولا توجد فيه آية واحدة تشير أدنى إشارة إلى كونه حيا، أو إلى رفْعه حيا، غير أنه توجد بعض الأقوال السخيفة في كتب التفسير تؤيد ذلك، أو تؤيد رفع المسيح حيا وبجسده المادي، ولكنْ لم يُقدَّم في تأييدها آيةٌ قرآنية أو حديثٌ. ومع كل ذلك، إن تلك الأقوال ليست مبنية على يقين، لأن في التفاسير نفسها أقوالا تعارض بعض الأقوال الأخرى؛ فمثلا إذا ذُكر فيها مذهبُ أحدٍ بأن المسيح ابن مريم قد رُفع حيا بجسده المادي، فقد ذُكر إلى جانب ذلك مذهب بعضٍ آخرين أنه قد مات، بل القول بموته مرجَّح برواية الصحابة الثقات، كما ذُكر أن هذا هو مذهب ابن عباس .
أما الأحاديث؛ فلم يُذكر فيها قط أن المسيح ابن مريم رسول الله- الذي نزل عليه الإنجيل، وقد مات - سيخرج من بين أمواتٍ في العالَم الآخر وينضم مرة أخرى إلى أناس في هذا العالم. وقد اختِير في الأحاديث أسلوب يستطيع الفطين أن يفهم منه بكل سهولة أن المراد من المسيح ابن مريم ليس المسيح ابن مريم الحقيقي، بل المراد هو مثيله الحامل لصفاته الخاصة، لأن الأحاديث الصحيحة تتناول كِلا الجانبين، وأُريدَ الإظهارُ في جانبٍ أن الإسلام سيصيبه انحطاط شديد حتى يشبه المسلمون في ذلك الوقت يهودًا كانوا في عصر المسيح ابن مريم وكأنهم هم.. وقيل في جانبٍ آخر بأنه عندما يصبح المسلمون في وقت ذلك الانحطاط كاليهود الذين كانوا في وقت عيسى بن مريم، عندها يُرسَل المسيح ابن مريم لإصلاحهم. ولو قرأنا كِلا جزأَي النبوءة معا- اللذَين يذكران من ناحية؛ ظهورُ يهوديةٍ في هذه الأمة، ومن ناحية ثانية؛ ظهورَ مسيحيةٍ- لما بقي شك في أن كلتا الصفتين ستظهران في أفراد هذه الأمة. ويمكن التوفيق بين الأحاديث الشريفة ومضمون القرآن الكريم إذا اعتُبر وجود كلتا الصفتين في هذه الأمة؛ لأننا كما قلنا من قبل بأنه قد سبق الوعد في القرآن الكريم أن سلسلة الخلافة المحمدية تماثل سلسلة الخلافة الموسوية تماما من حيث البداية والنهاية؛ بمعنى أن قلوب أفراد هذه الأمة - الحائزين على الدرجة العليا أو الدنيا - تشبه قلوب أفراد أمة بني إسرائيل الحائزين على الدرجات نفسها؛ أي يُشبَّه الأعلى منهم بالأعلى والأدنى بالأدنى.. وإن هاتين السلسلتين تتشابهان تماما من حيث التقدم والانحطاط؛ فكما انحطت الشريعة الموسوية في أيامها الأخيرة من أوجها وازدهارها- بعد أن دامت عمرا يقارب 1400 عام - ثم تطرّق إليها الفساد في كل مجال سواء من حيث الحكومة الدنيوية أو التقوى والطهارة الدينية، كذلك تسرّب الانحطاط المماثل- وبعد المدة نفسها- إلى الشريعة الإسلامية أيضا. إن المصلح الذي بعثه الله عند انحطاط الشريعة الموسوية كان المسيح ابن مريم، كذلك كان ضروريا أن يأتي عند انحطاط الإسلام أيضا مصلح بصفات المسيح ابن مريم لتحقيق المماثلة التامة بين السلسلتين، وأن يأتي بعد مدةٍ تقارب تلك التي تطرق بعدها الانحطاط إلى الشريعة الموسوية. هذه الأمور كلها تُستخلص من القرآن الكريم نفسه؛ فعندما نتدبر القرآن الكريم نجده يعلن لنا بأعلى صوته أنْ هذا هو الصدق فاقبلوه. ولكن من المؤسف حقا أن المشايخ المعاصرين لا يكادون يقبلون الحق حتى بعد رؤيته، ويقولون: ألم يُعطَ العلماء السابقون عقلا وفهمًا أُعطِيتَه؟ ومع أنهم يقرؤون في الكتب: إن المسيح سيَستنبط بعد مجيئه من القرآن الكريم استنباطات تبدو غريبة في نظر علماء عصره، فيهبُّون لمعارضته. (المكتوبات: للإمام الرباني أحمد السرهندي؛ المجلد 2 الصفحة 107، وكتاب: آثار القيامة؛ للمرحوم المولوي صِدّيق حسن) أفَلم يكن ضروريا أن يحدث ذلك تماما؟ وفيما يلي تفصيل القرائن التي تُثبت أنه ليس المراد قطعا من المسيح ابن مريم الموعود - في الأحاديث - ذلك النبي الإسرائيلي صاحب الإنجيل.
أولا: لقد قلتُ قبل قليل بأن هذه الفكرة تعارض النبوءات التي جاء فيها أن تقدُّم الخلافة الموسوية والخلافة المحمدية وانحطاطهما مع جميع مستلزماتها؛ سيحدث على نهج واحد تماما، وقد قيل بوضوح تام بأن زمن انحطاط الشريعة الإسلامية سيُتدارَك بالأسلوب والنهج نفسه، وبمصلح له الصفات نفسها، وذلك كما تمَّ التدارك في زمن انحطاط الشريعة الموسوية. أيْ يقول الله جلّ شأنه في القرآن الكريم: إن المصلحين لهذه الشريعة الذين يكونون في هذا الدين، سيشبهون تماما ويماثلون مصلحين كانوا في الشريعة الموسوية. وكل ما قام به الله تعالى من تقديرات في زمن تقدم الشريعة الموسوية وانحطاطها، سيقوم بها نفسها في زمن تقدُّم هذه الأمة وانحطاطها. بعدما حلّ باليهود، بمشيئة الله تعالى، من كسل وضلال وفُرقة في أيام الانحطاط، أرسل الله إليهم - لإصلاح تلك الحالة - مصلحا حليما وفطينا ومؤيَّدا بروح القُدُس؛ كذلك ستظهر سنَّة الله نفسها عند تدهور حالة الإسلام أيضا. والآن، لو أُنزِل المسيح ابن مريم الحقيقي نفسه على عكس هذه المشيئة، لكان ذلك مناقضًا تماما لتعليم القرآن الكريم الصريح.
ثانيا: لقد بيَّن القرآن الكريم موت عيسى بن مريم وأعلنه بصورة قاطعة. كما ورد في صحيح البخاري - الذي اعتُبر أصح الكتب بعد كتاب الله - أن معنى فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي هو الموت. لذا فقد أورد الإمام البخاري هذه الآية في كتاب التفسير.
ثالثا: لقد صرح القرآن الكريم في العديد من الآيات أن الميت لن يعود إلى الدنيا أبدا، غير أنه سيأتي في هذه الأمة أسمياء الأنبياء.
رابعا: لا يجيز القرآن الكريم مجيء أيّ رسول بعد خاتم النبيين، سواء أكان قديما أو جديدا؛ لأن الرسول ينال علم الدين بواسطة جبريل، وإن باب نزول جبريل بوحي النبوة مسدود. ومن ناحية أخرى من المستحيل تماما أن يأتي رسول من دون أن يتلقى وحي الرسالة.
خامسا: تقول الأحاديث الصحيحة بصراحة متناهية بأن المسيح ابن مريم الموعود؛ سيأتي كأحد أفراد الأمة، لذا فقد ذُكر كواحد من الأمة، وهذا ما يتبين من حديث: "إمامكم منكم". ولم يقتصر الأمر على البيان فقط، بل فُرض عليه الاتِّباع والطاعة كما هي مفروضة على الأمة تماما.
سادسا: لقد ذُكرت في البخاري - والذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله - ملامح المسيح ابن مريم الحقيقي مختلفةً عن المسيح ابن مريم الموعود.
ومن هذه القرائن الست، يتبين بوضوح تامٍ أن المسيح الآتي؛ ليس على الإطلاق ذلك المسيح الذي نزل عليه الإنجيل، بل المراد منه هو مثيله. وقد وُعد مجيئُه حين يصبح عشرات الملايين من المسلمين مثل اليهود؛ لكي يُظهر الله تعالى كِلا النوعين من قدرات هذه الأمة، وليس أن تكون للأمة قدرة على الاتصاف بصفات اليهود النجسة فقط. وحين يصل الأمر إلى مجيء المسيح، فهل يأتي من بني إسرائيل؟! لو كان الحال على هذا المنوال، لكان في ذلك إهانة شديدة للنبي المقدس والمعلم الروحاني؛ الذي بشّر أنه سيكون في هذه الأمة أناس كأنبياء بني إسرائيل.
وإن قيل: لو كان مقدرا أن لن يأتي عيسى بن مريم الحقيقي نفسه مطلقا، بل سيأتي مثيله لكان من المفروض أن يقال بأن الآتي هو مثيله. فجوابه: إن الأسلوب الشائع والمتَّبع هو أنه إذا أراد المتكلم أن يقول بأن هناك مماثلة تامة بين المشبَّه والمشبَّه به؛ حمل المشبَّه على المشبَّه به حتى يتحقق الانطباق التام.. ومثل ذلك أنه قيل في مجلسٍ عن الإمام البخاري: انظروا، جاء أحمد بن حنبل! ومثله قولنا: هذا أسد، وهذا أنوشيروان، وهذا حاتم الطائي، أو كما يقول أحدكم لأحد: أنت حمار، أو أنت قردٌ. ولا يقول له: أنت مثيل الحمار، أو مثيل القرد؛ لأن الغاية التي يهدف إليها القائل في قرارة قلبه لبيان المماثلة التامة، تفوت باستخدام كلمة "مثيل"، فلا يسعه بيان كيفيةٍ يريدها صراحةً بتلك الكلمة، فتدبّر.
"في أمة أحمد صفتان نقيضتان مكنونتان؛ فقد يكون بعضهم مثل المسيح، وبعضهم مثل اليهود.
إن فئة أشرار القلب هؤلاء؛ مدعاة للعار، أما أصحاب الفئة الأخرى فيحتلون مكانة الأنبياء."[285]
يقول البعض بكل بساطة: قد ورد في سِفر الملوك بأن إيليا قد رُفع إلى السماء بالجسد؛ فأي ضير في رفع المسيح ابن مريم إذن؟ والجواب: من الواضح أن إيليا لم يُرفع بالجسد المادي؛ فقد أشار المسيح نفسُه إلى موته حين حطّم أمل اليهود الذي كانوا متشبِّثين به لسوء فهمهم، فقال بأن إيليا لن يعود. والمعلوم أنه لو رُفع بالجسد المادي، لكانت عودته إلى الأرض ضرورية، فقد ورد في القرآن الكريم أن الجسد المادي سيعود إلى الأرض حتما، وذلك في قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ[286]. فهل سيموت إيليا في السماء؟ أم أنه سيبقى خارج سنّة الله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ[287]؟
"لـِمَ لا تتوجّهون أيها الناس إلى الحق، فإن قلبي يحترق كمدا وحزنا على ذلك
واللهِ؛ قد مات ابن مريم، ودخل الجنة ذلك الإنسان المحترم
إن القرآن الكريم يعلن موته مرارا ويخبر بموته بالتكرار
لم يعد خارجا عن جماعة الأموات، هذا ما تثبته ثلاثون آية."[288]
لم يحدث من قبل قط أن عاد أحد من الأموات، وما أخبر القرآن بذلك مطلقا
لقد قطع الله هذا العهد دون استثناء، فتأمَّل في: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [289].
أيها الأحبة تأمَّلوا قليلا؛ هل رأيتم أحدا ناجيا من الموت؟
الدنيا ليست مكان البقاء أيها الأحبة، فقد رحل منها الأنبياء والصادقون جميعا
لا يسع أحدا أن ينجو من الموت، ومن قال ذلك فقد قال كلاما سخيفا
لماذا تصرون على الإنكار، أهذا مقتضى الدين؟ أم هي سيرة الكفار؟
لماذا هذه الثورة بخلاف النصوص؟ فكِّروا إذا كنتم بقُوى عقلية سليمة
لماذا تؤلهون ابن مريم، كيف بقي خارج السنة الإلهية؟
لماذا جعلتم له شأن الله الكبير العالم بالغيب والخالق الحي والقدير؟
لقد مات الجميع فنجا هو من الموت، وما واجه الفناءُ بعد،
وهو خالق معظم الطيور، فواها لمعرفتكم بالله!!
فيا أيها المشايخ هل هذا هو التوحيد؟ قولوا صدقا وحقا أيّ شيطان تتبعونه؟
هل هذا هو سرّ توحيد الله تعالى الذي كنتم تعتزُّون به منذ سنوات؟
هل توجد في البشر أية علامة للألوهية؟ نعوذ بالله ثم نعوذ بالله من هذه الأفكار!!
إنني أستغرب لحماسكم هذا، ولفهمكم وعقلكم وصوابكم
لماذا لا ترون طريق الصواب؟ ماهي الحُجُب التي أُسدلت على عيونكم؟
هل هذا هو تعليم الفرقان؟ عليكم بشيءٍ من تقوى الله
هل تكفير المؤمنين، هو من شِيم المؤمنين؟
إن ديننا هو دين المسلمين الحقيقيين، ونحن خُدّام خاتَم المرسَلين قلبا وقالبا
نحن بريئون من الشرك والبدعة، ونحن بمنـزلة ترابٍ في طرُق أحمد المختار
نؤمن بجميع الأوامر، ونحن فداء هذا السبيل قلبا وقالبا
لقد سلّمنا له القلب، ولم يبق إلا الجسد، ونتمنى أن يكون هو الآخَر، له الفداء
إنكم تلقِّبونني بلقب الكافر، لِـمَ لا تخافون العاقبة أيها الناس؟
لقد ثارت في الأرض ضجة كبيرة، فارحمِ الخلق يا ربي الحبيب!
أَرِهِم نموذج قدرتك، فأنت قادر على كل شيء يا ربّ الورى."
آمين.
ذِكْرُ بعض المبايعين ومناصري هذه الجماعة
والاقتراح الأمثل لنشر الإسلام في أوروبا وأميركا
لقد كتبت في كتيب "فتح الإسلام" إجمالا بأن الله تعالى بعثني في زمنِ ضعف الإسلام وغربته وعزلته، لكي أُظهر نور تعليم الإسلام في زمنٍ سلك فيه معظم الناس سبل الضلال لسوء استخدامهم العقل، وقطعوا العلاقة مع الأمور الروحانية نهائيا. أعلم يقينا أنه قد حان أوانٌ يُظهر فيه الإسلام جلاله الحقيقي ويكشف للعيان كماله الذي أشير إليه في آية: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ[290]. لقد جرت سنة الله أن تُظهَرَ كنوز المعارف والدقائق بقدر الحاجة إليها. لقد روّج الزمن الراهن آلاف المفاسد العقلية، وبذلك أظهر للعيان ما لا يُعَدّ ولا يُحصى من الشبهات، واقتضى بطبيعة الحال أن يُفتَح باب كنوز حقائق القرآن ومعارفه لدحض تلك الأوهام والاعتراضات. فلا بد من التسليم على وجه اليقين بأنه لا يوجد نظير في الأزمنة الخالية للأوهام الباطلة التي نشأت مقابل الحق في قلوب المعجَبين بالمعقولات، ولا لطوفان الاعتراضات العقلية الثائر في العصر الراهن. لذا فقد أُجِّل منذ البداية إلى العصر الراهن أمرُ إظهار تفوُّق الإسلام على الأديان الباطلة كلها- بدحض تلك الاعتراضات بالبراهين المقنعة والدامغة والمدعومة بآيات القرآن- لأن ذكر إصلاح هذه المفاسد قبل ظهورها للعيان كان في غير أوانه، لذلك فقد احتفظ الله الحكيم المطلق بتلك الحقائق والمعارف في كلامه المجيد ولم يكشفها لأحد حتى حان موعد كشفها. غير أنه تعالى كان قد أخبر بهذا الموعد من قبل في كتابه العزيز؛ وهو مذكور بكل وضوح في الآية: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى. فهذا هو الوقت المناسب الذي يحتاج فيه كلُّ امرئٍ إلى النور الروحاني. وقد أرسل الله شخصا إلى الدنيا بذلك النور. فمَن هو ذلك الشخص؟ إنما هو هذا الذي يتكلم. وقد شرحت هذا الأمر في كتيب "فتح الإسلام" بالتفصيل أن هناك حاجة إلى مساعدة أصحاب المقدرة من القوم لإنجاز هذه المهام العظيمة. وأيّ معصية أكبر من أن يرى القومُ كله الهجمات تُشَنُّ على الإسلام من كل حدب وصوب، ويرى الوباءَ الذي لم تره عينٌ من قبل منتشرا الآن باستمرار، ومع ذلك يظل القوم كله مقصِّرا عن نصرة شخص أقامه الله في هذا الوقت الحرج ليكشف للعالم كله وجه الإسلام الأغرّ والجميل ويمهد طريقه إلى البلاد الغربية، وكذلك يبقى هذا القوم صامتا واجما قاطعا العلاقات كلها معه نتيجة سوء الظن والعكوف على الدنيا. من المؤسف حقا أن كثيرا من هذا القوم يعتبرون كلَّ شخص - لسوء ظنهم - ماكرا وخادعا، فيبدو لهم مستحيلا أن يكون هناك شخص يملك حماسا روحانيا أو ذرة من الأمانة. إن كثيرا منهم عاكفون على مشاغل الحياة الدنيوية فقط، ويعتبرون الذين يذكرون الآخرة حينا من الأحيان في منتهى الغباء. إن بعضهم يجدون في قلوبهم شيئا من الرغبة في الدين أيضا ولكن بصورة سطحية فقط، وهم متورطون في أمور لا علاقة لها بالدين. ولا يعلمون ما هو الهدف الأسمى لتعليم الأنبياء، وماذا عليهم أن يفعلوا حتى يدخلوا كنف رضا الله دائمًا.
فيا أصدقائي الأعزاء، إني أؤكد لكم أن الله تعالى وهبني حماسا صادقا لمواساتكم، وقد أُعطِيتُ معرفة صادقة لزيادة إيمانكم ومعرفتكم، إنكم وذرِّياتكم بأمس الحاجة إلى تلك المعرفة، وإنني على أتم استعداد لإنجاز هذه المهمة؛ فانصُروا بأموالكم الطيبة المهمات الدينية.. فكلّ مَن أعطاه الله سعة مالية، يجب ألا يدَّخر جهدا في هذا السبيل، وألا يؤْثر أمواله على الله والرسول، كي أعمل بدوري وقدر استطاعتي، على نشر تلك العلوم والبركات التي وهبتها لي روح الله المقدسة - بواسطة المؤلّفات- في آسيا وفي البلاد الأوربية. لقد سُئلتُ: ما الذي يجب فعله لنشر تعليم الإسلام في أميركا وأوروبا؟ وهل من المناسب أن يسافر بعض الملمين بالإنجليزية من المسلمين إلى أوروبا وأميركا ويكشفوا على أهلها تعليم الإسلام بالوعظ والدعوة؟ ولكن وعلى العموم، لن أردّ بنعم، على هذا السؤال قط، لأني لا أرى مناسبا على الإطلاق أن يمثلنا أناس ليسوا مطلعين على تعليم الإسلام كاملا، بل يجهلون ميزاته السامية تماما، ولا يحيطون علمًا بالرد على النقد المنتشر في الزمن الراهن، ولا ينالون التعليم بروح القدس. لذا فإن هذا الأمر، حسب رأيي، أقرب وأسرع إلى الضرر منه إلى النفع، إلا ما يشاء الله، إذ من الصحيح تماما وبلا أدنى شك، أن أهل أوروبا وأميركا استعاروا أكبر عدد من الاعتراضات على الإسلام من القساوسة، وأن فلسفتهم وعلومهم الطبيعية أيضا لديها مجموعة أخرى من النقد والطعن. لقد اكتشفتُ أنه قد لُفّقتْ في الزمن الراهن نحو ثلاثة آلاف من الأمور المعادية التي اعتُبرتْ اعتراضاتٍ ومطاعن على الإسلام؛ ولا خوف على الإسلام من هذه الاعتراضات إنْ لم يتسبب إهمال المسلمين في نتائج وخيمة، بل كان نشوء هذه المطاعن ضروريا لانجلاء لمعان الإسلام من كل النواحي. ولكن للرد المقنع على هذه الاعتراضات هناك حاجة لشخص مختار يجد في صدره المنشرح بحرا من المعرفة، وقد وسّعت بركة إلهام الله تعالى معلوماته وعمَّقتها. وإذ من المعلوم أنه لا يمكن أن يؤدي هذا الواجب أناس لا يحيطون حتى بالأمور السماعية، فأية مهمة يمكن أن ينجزها أمثال هؤلاء السفراء لو ذهبوا إلى أميركا وأوروبا، وكيف يحلُّون المعضلات المطروحة على البساط؟ بل من الممكن أن تترك ردودهم المبنية على الجهل تأثيرا معاكسًا، وأن تؤدي إلى إزالة القليل من الشوق والحماس لتقبُّل الإسلام، والذي نشأ مؤخرا في قلوب بعض المنصفين من أهل أميركا وأروربا، فيعودوا بهزيمة نكراء، وخسارة وندامة بغير حق. لذا أنوي أن تُبعَث إلى تلك البلاد مؤلّفات قيّمة بدلا من هؤلاء الوعاظ. فلو عكف القوم على نصرتي قلبا وروحا، فإنني أودّ أن يؤلَّف تفسيرٌ ويُترجَم إلى الإنجليزية ويُرسَل إليهم. لا أستطيع أن أمتنع من القول وبصراحة: إن هذا عملي أنا، ولا يمكن لغيري أبدا أن ينجزه كما أنجزهُ أنا أو الذي هو فرع مني أو هو مني أصلا. نعم، أحب أن يُرسَل إلى تلك البلاد بضعة أشخاص - ليوزّعوا هذه الكتب ويبعثوا لنا أفكار أولئك الناس واعتراضاتهم - دون أن يدّعوا الإمامة أو المشيخة، بل عليهم أن يعلنوا بأننا مرسَلون لنوزِّع الكتب فقط، ونوضح الأمر بقدر معلوماتنا، ثم ليطلبوا - لأجل ذلك- حل المشاكل والمباحث الدقيقة من الأئمة الموجودين في الهند.
لا شك أن نور الصدق يلمع في الإسلام، وفيه من الأدلة النورانية على صدقه بحيث لو وُجّه إليها المحققون، لترسخت حتما في قلب كل ذي عقل سليم. ولكن من المؤسف أن تلك الأدلة ما أُشيعت حتى في قومنا فضلا عن نشرها في فِرق الخصوم المختلفة.. فلِنَشر تلك البراهين والأدلة والحقائق والمعارف، هناك حاجة لنصرة القوم ماليًّا، فهل من القوم مَن يسمع هذا النداء؟
منذ أن ألَّفت كتيّب "فتح الإسلام" ظل بالي مشغولا في أن حركة ستنشأ في القلوب بناء على اقتراحي الذي أوردته في الكتيب المذكور للتبرع من أجل الدين. وقد وزّعتُ نحو أربع مئة نسخة من ذلك الكتيب مجانا، واضعا هذه الفكرة في الحسبان؛ لكي يقرأها الناس ويحددوا نصيبا من أموالهم الصادرة والواردة لنصرة دينهم الحبيب. ولكن مع الأسف الشديد لم ينتبه إلى هذا الأمر سوى بعض أصدقائي المخلصين الذين سأذكرهم لاحقا. إنني لأستغرب؛ أيّة كلمات أستخدم حتى تؤثّر في قومي؟ وبأيّ خطاب أفكّر حتى يمكّنهم من إدراك حالةَ قلبي المليء حزنا؟
فيا ربي القدير ألهِم قلوبهم بنفسك، وأخرِجهم من الغفلة وسوء الظن وأَرِهم نور الحق.
أيها الأحبة، اعلموا يقينا أن الله تعالى موجود ولا ينسى دينه، بل ينصره حتى في زمن حالك الظلمة، ويصطفي أحدا للمصلحة العامة، وينـزِّل عليه أنوار العلوم اللدنية. فهو الذي أيقظني وشرح قلبي للحق. إن راحة حياتي اليومية تكمن في أن أظل عاكفا على هذا العمل. بل الحق أنني لا أستطيع أن أعيش دون أن أُظهر جلاله وجلال رسولِه وكلامِه. لا أخاف تكفير أحد ولا أبالي به قط. يكفيني أن يرضى عني الذي أرسلني. غير أنني أجد مُتعتي في أن أكشف على الناس جميعا ما كشفه عليّ، ومن واجبي أيضا أن أعطي الآخرين ما أُعطِيتُه أنا، وأشارك في ضيافة الله جميع هؤلاء الذين دُعُوا منذ الأزل. وإنني على أتم الاستعداد لتحقيق هذا الهدف، وجاهز للتضحية بالنفس في هذا السبيل، ولكن أرجو من الله القدير أن يحقق بنفسه ما ليس بوسعي. أرى أن يدا غيبية تعينني. ومع أنني ضعيف، وضعيف البنيان مثل بقية الناس الفانين؛ ولكنني أرى أنني أُعطَى قوة من الغيب، وأُعطَى أيضا صبرا يكبت قلق النفس. وأما طلبي نُصرة المتعاطفين من القوم في مهمات ربانية، فليس ذلك ناتجا عن قلة الصبر، بل أقول ذلك مراعاةً للأسباب الظاهرية، وإلا فإن قلبي مطمئن بفضل الله تعالى، وإنني لآمل أنه لن تضيع أدعيتي، بل سيحقق جميع مراداتي وآمالي. والآن أسجل أسماء هؤلاء المخلصين الذين نصروني قدر استطاعتهم في مهماتي الدينية، أو أتوقع نُصرةً منهم، أو أراهم مستعدين لذلك كلما أتيحت لهم الأسباب:
ولكنه مع ذلك دفع 1200 روبية نقدا، تأييدا للجماعة وسدِّ حاجاتها المختلفة. أما الآن فقد أوجب على نفسه أن يدفع عشرين روبية شهريا. وبالإضافة إلى ذلك هناك خدمات مالية أخرى من أنواع مختلفة يقوم بها باستمرار. وإنني لأرى على وجه اليقين أنه ما لم تنشأ علاقة كالتي بين المحب وحبيبه، فلا يمكن أن ينشأ في أحد انشراح كانشراح صدره. لقد جذبه الله تعالى إلى نفسه بيده القوية، وقد أثّرت فيه القوة العليا تأثيرا خارقا للعادة؛ فقد آمن بي دون أدنى تردد في وقت كانت فيه أصوات التكفير تكاد تصعد من كل حدب وصوب، ونكث الكثيرون عهد البيعة بعد توكيده، وتكاسل كثير منهم وتذبذبوا.. فجاءتني رسالة من المولوي المحترم الممدوح قبل غيره إلى قاديان، تصدق ادعائي بكوني المسيح الموعود، وكانت تتضمن عبارة: "آمنّا وصدّقنا فاكتبنا مع الشاهدين." ومن نماذج حسن اعتقاده وقوة إيمانه؛ أنه قد جرى الحديث عني في مجلس في كشمير بينه وبين طبيب اسمه "جكن ناتهـ" فقدم المولوي المحترم بكل قوة واستقامةٍ ادّعاءً أن الله تعالى قادر على أن يُري آية سماوية على يده (أي على يدي أنا العبد الضعيف). وحين أنكر الدكتور ذلك، قبِل المولوي المحترم - في مجلس يضم كبار أعضاء الولاية- شرطا أنه لو لم يستطع (أي أنا العبد المتواضع) - في مدة متّفق عليها من قِبل الفريقين - أن يُظهر آية سماوية، لَدفع للدكتور 5000 روبية غرامةً، أما الدكتور فقد أعلن بدوره أنه إذا شاهد آية، فسيُسلم فورا. وقد وقّع على ذلك الإقرار الخطي الشهداءُ التاليةُ أسماؤُهم:
ولكن للأسف الشديد تحايل الدكتور ولاذ بالفرار، حيث قدّم أمورًا معجزة غير جديرة بالقبول؛ فكان مما طلب من الآيات السماوية: أن يُحيَا طيرٌ ميِّتٌ، مع أنه على علم حتما أن ذلك يخالف مبدأنا. إن مبدأنا هو أن إحياء الأموات ليس من سنة الله، إذ يقول الله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ[291]. لقد قلت للدكتور المذكور بأنه لا لزوم لأن يحدد علينا آية سماوية معنية، بل كلّ ما ثبت كونه فوق قدرة الإنسان؛ وجب اعتباره آية سماوية. وإذا كان في ذلك شكٌّ، فيجب عليك أن تُظهر أمرا آخر مماثلا؛ لتُثبت أن ذلك الأمر ليس خاصا بالقدرة الإلهية، ولكن الدكتور تحاشى ذلك أيضًا. أما المولوي نور الدين المحترم، فقد أرى من قَدم صدقٍ ما يقدم دليلا محكَما على عظمة إيمانه. أتمنى من الأعماق أن يتأسى الآخرون أيضا بأسوته. إنه نموذج للصادقين الأوائل، جزاهم الله خير الجزاء، وأحسن إليهم في الدنيا والعقبى.
(2) حبي في الله؛ الحكيم فضل دين البهيروي المحترم: إنه من أصدقاء أخي في الله؛ المولوي الحكيم نور الدين، ومتصبِّغ بصبغة أخلاقه، ومخلص جدا. أعلم جيدا أنه يحب الله ورسوله حبا صادقا، فيراني أنا العبد المتواضع خادما للدين، ويحقق شرط "الحبُّ لله". يبدو أنه أُعطِي لنشر حقانية الإسلام نصيبا وفيرا من العشق الذي أُعطِيه أخي الحبيب المولوي الحكيم نور الدين؛ فينظر إلى النفقات الدينية التي تحتاج إليها هذه الجماعة، ويفكر دائما في طريقة لتزويدها بالتبرعات وعلى أحسن وجه. فالفروع الخمسة للنفقات الدينية التي ذكرتُها في كتيب "فتح الإسلام" كانت نتيجة حثّ منه ومشورته. إن فراسته صائبة جدا. يصل إلى كنه الموضوع وإن فكره نـزيه ومُزَكًّى من الظنون الفاسدة. وقد وصلتني منه مئتا روبية في أيام طباعة كتاب "إزالة الأوهام". إن زوجته أيضا متأثِّرة بإخلاصه هذا وأنفقت في هذا السبيل كثيرا من حليِّها لوجه الله. لقد قرر الحكيم المحترم أن يدفع خمس روبيات شهريا لنصرة الجماعة إضافة إلى جميع الخدمات الأخرى التي يقوم بها بين حين وآخر. جزاهم الله خير الجزاء وأحسن إليهم في الدنيا والعقبى.
(3) حبي في الله؛ المولوي عبد الكريم السيالكوتي المحترم: إنه من الأصدقاء الأكثر إخلاصًا، ويحبني حبا صادقا وحيًّا. ولقد نذر معظم وقته الغالي لتأييد الدين. في بيانه حماس مؤثِّرٌ، إن بركة الإخلاص والنورانيةَ تترشح من وجهه، رأيه يوافق معظم ما جاء في تعليمي، ولعله لا يتّفق مع بعضه على ما أظن. ولكن أنوار صحبة أخي المولوي الحكيم نور الدين قد أثَّرت في قلبه تأثيرا نورانيا كبيرا، فتبرّأ من معظم أفكار العلوم الطبيعية المادية رويدا رويدا. والحق أنني أيضا لا أحب أن يتبع أحد الطبيعة وكأنها هي هاديتنا الكاملة، وذلك خلافا للمنطوق الحقيقي لكتاب الله. إنني أقبل من العلوم الطبيعية جزءا قَبِله مولانا وهادينا في كتابه القرآن الكريم وسماه سنّةَ الله. إنني أؤمن بربي قادرا مطلقا على وجه كامل، وأؤمن أنه يفعل ما يريد. فببركة هذا الإيمان تزداد معرفتي، ويتقدم حبي باستمرار. إنني معجَب بإيمان الصغار، وأنفر من إيمان الفلاسفة البالي. وأنا على يقين أن المولوي عبد الكريم المحترم، سيتقدم أكثر في الإخلاص بسبب عواطف حبه الطيبة، وسيعيد النظر في بعض معلوماته.
(4) حبي في الله؛ المولوي غلام قادر فصيح المحترم: هو شاب صالح وسيم مبايع على يدي. هو ذو همة عالية ومواسٍ للإسلام. لقد طبع هذا الشاب المتحمس على نفقته الخاصة كتاب "القول الفصيح" تأليف المولوي عبد الكريم، ووزّعه مجانا. إنه يملك قوة بيان جذابة وفق الأسلوب الحديث. وهو على وشك إصدار مجلة شهرية بعنوان: "الحق"، للرد بين حين وآخر على الخصوم الذين يهاجمون الإسلام. كان الله في عونه على ذلك.
(5) السيد حامد شاه السيالكوتي المحترم: إنه محب صادق وابنُ صديق مخلص لي. تتبين قدرته على البيان والشعر التي وهبها الله له بمطالعة الكتاب: "القول الفصيح".إن علامات الصدق والإخلاص والحب بادية من ملامح مِير حامد شاه المحترم. وآمل أن يؤدي خدمات جليلة للإسلام من خلال نظمه ونثره. ولا يسعني أن أقدِّر حبه النـزيه، وإخلاصه الزاخر بالحب. إنني سعيد جدا بأنه الخلف الرشيد لصديقي القديم مِير حسام الدين؛ زعيم سيالكوت.
(6) حبي في الله؛ المولوي السيد محمد أحسن الأمروهي المحترم، المشرف على فرع النفقات في ولاية بهوبال: إن المولوي المحترم يحتل درجة عالية من الإخلاص وعلاقة الحب والروحانية معي. يتبين من مطالعة مؤلّفاته أنه موهوب جدا وعالم نِحرير في العلوم العربية، يبدو أن نظرته شاملة وعميقة جدا ولا سيما في علم الحديث. لقد ألَّف مؤخرا - وتأييدا لادّعائي- كتيبا بعنوان: "إعلام الناس" بكمال المتانة وبأسلوب جميل. وسيعرف قُرّاؤه مدى كون المؤلف محققا ومدققا وواسع النظر في العلوم الدينية. لقد جمع في كتيبه أنواعا عدة من المعارف بتحقيق عميق وأسلوب بياني جميل، وهو يستحق المطالعة.
(7) حبي في الله؛ المولوي عبد الغني المحترم، المعروف بالمولوي غلام نبي الخوشابي: دقيق الفهم وعارف بحقائق الأمور. في صدره علوم عربية حديثة. كان في البداية يخالفني الرأي بشدة. حين تناهى إليه الخبر بأن هذا العبد الضعيف يدّعي أنه المسيح الموعود ويعتقد بموت المسيح ابن مريم؛ نشأ في قلبه حماس شديد نتيجة أفكار قديمة، ونشر إعلانا عاما قال فيه بأنه سيلقي خطابا بعد صلاة الجمعة ردًّا على هذا الشخص، فحضر الخطاب المئات من أهل مدينة لدهيانه، ونتيجة قوة علمه؛ أخذ المولوي المحترم يُلقي - وكالمطر الغزير- على مسامع الناس أحاديث من صحيحي البخاري ومسلم، ووضع أمامهم صورة الصحاح الستة بحسب معتقداته القديمة. فانتشرت في المدينة كلها ثورة عداوة شديدة نتيجة خطابه، لأن مرتبته العلمية وفضله كانا مترسخين في القلوب. وفي نهاية المطاف جذبته إليّ السعادة الأزلية على أجنحة الرغبة والشوق، فتاب من الأفكار المعادية وبايع. أما الآن، فإن أصدقاءه القدامى ساخطون عليه جدا، ولكنه يردد بكل صمود وثبات بيتا أُرديا تعريبه:
"إذا أتاني ناصح، فلسوف أفرش له عينيّ وقلبي، ولكن فليقل لي أحد ماذا سينصحني الناصح؟!"
(8) حبي في الله؛ نواب محمد علي خانْ، زعيم عائلة ولاية مالير كوتله: إن نواب المحترم زعيم معروف لعائلة محترمة. إن جدّه الأكبر "الشيخ صدر جهان" كان رجلا صالحا من أهل الله، وهو من فئة "بتهان سرواني" العرقية، ومن سكان جلال آباد. هاجر من وطنه إلى هذه البلاد في عام 1469م في عهد "بهلول لودهي". وقد تأثر به حاكم الوقت كثيرا حتى زوّجه ابنته، وأعطاه بعض القرى أيضا عقارا له. فعمّر الشيخ المذكور هذه البلدة التي اسمها "مالير" مكانَ إحدى تلك القرى. إن حفيد الشيخ المحترم، واسمه "بايزيد خان"؛ عمّر بلدة "كوتله" الملحقة ببلدة "مالير" في عام 1573م، والولاية تُعرف الآن باسمه. كان لبايزيد خانْ خمسة أبناء: أحدهم اسمه فيروز خانْ، واسمُ ابنِه "شير محمد خان" واسم ابن شير محمد خانْ، "جمال خان". وكان لجمال خانْ خمسة أبناء، ولكن لم يستمر النسل إلا من اثنين منهم، وهما: بهادر خانْ، وعطاء الله خانْ. إن هذا الشاب الصالح هو الخلف الرشيد لنواب غلام محمد خان، و ينحدر من نسل بهادر خان؛ قد وفّقه الله في أمور الإيمان، وجعله يتحلى بصفات جده الأكبر "الشيخ صدر جهان". لقد تلقى السردار محمد علي خانْ ثقافة حضارية بفضل الحكومة الإنجليزية ولُطفها. وإن تأثير هذه الثقافة ملحوظ بصورة بارزة في قواه الذهنية والقلبية. إن الفطرة التي وهبها الله تعالى له سليمة ومعتدلة جدا. ومع أنه في عزّ الشباب، إلا أنه لا يُرى فيه شيء من الحدة والتسرع والأهواء النفسانية قط. لقد راقبتُه حين جاء لزيارتي في قاديان، ومكث هنا إلى عدة أيام، فوجدته مهتمًّا ومتلزما جدا بالصلوات، ويصلي بتركيز واهتمام كبيرين مثل الصلحاء، ويجتنب المنكرات والمكروهات كليًّا. إنني لأغبط شخصا رُزق ابنا صالحا مثله، ومع أنه في عنفوان شبابه، فهو تقيٌّ وورع مع وجود جميع أسباب ووسائل الغفلة وإشباع الرغبات. يبدو أنه كان نافرا من تصرفات الزعماء الفارغة وعاداتهم نتيجة اهتمامه الخاص بإصلاح نفسه بتوفيق من الله. وليس ذلك فحسب، بل تخلّى أيضا بحكم نور قلبه عن كل الأفكار الباطلة والأوهام والبدعات غير الأصلية التي أضيفت إلى مذهب الشيعة، وما هم عليه من الأعمال البعيدة عن التحضر والصلاح والطهارة الباطنية. يقول في إحدى رسائله إلي: مع أنني كنت أحسن بك الظن منذ البداية، لكنه كان مقصورا على أنك لا تؤيد الفُرقة في المسلمين مثل بقية المشايخ وعلماء الظاهر، بل تتصدى لخصوم الإسلام. أما الإلهامات فما كنت مصدقا لها ولا مكذبا. ثم حين ضقتُ ذرعًا إلى حد كبير من المعاصي ولم أستطع أن أتغلب عليها، فكّرت أنك قمت بادّعاءات كبيرة ولا يمكن أن تكون كلها كاذبة. فبدأت بمراسلتك لاختبارك، الأمر الذي أدّى إلى اقتناعي شيئا فشيئا. وعندما ذهبتُ إلى لدهيانه لزيارتك- في شهر آب أو قريبًا منه- اقتنعتُ تماما ووجدتك رجلا صالحا ومن أولياء الله. ثم غُسل قلبي تماما عن طريق المراسلة مما تبقى من الشكوك والشبهات. وعندما اقتنعت تماما أن الشيعي الذي لا يسيء إلى الخلفاء الراشدين الثلاثة يستطيع أن يدخل هذه الجماعة، فإني قد بايعتُك. والآن أجدني قد تحسنتُ كثيرا مقارنةً مع ما سبق، واشهدْ بأنني أتوب عن الذنوب في المستقبل. إنني مطئمن إلى حد كبير إلى أخلاقك وسيرتك بأنك مجدد صادق ورحمة للعالم.
(9) حبي في الله؛ مير عباس علي اللدهيانوي المحترم: هو صديقي الأول الذي ألقى الله تعالى حبي في قلبه قبل غيره. وهو الرجل الصالح الذي جاء قبل غيره إلى قاديان للقائي لوجه الله فقط، وذلك بعد تحمّل عناء السفر على سنة الأبرار الأخيار وبنـزاهة تامة. لا أستطيع أن أنسى أبدا أنه أظهر الوفاء بحماس صادق، وتحمّل من أجلي معاناة كثيرة، وسمع من القوم الكثير من سيِّء الكلام. إن مير عباس المحترم ذو سيرة طيبة وعلى علاقة روحانية بي. ويكفي لإثبات مرتبته في الإخلاص أنني تلقيت مرة بحقه إلهاما: "أصله ثابت وفرعه في السماء". يعيش في هذه الدنيا الفانية عيش المتوكل. كان في أوائل أيامه موظفا حكوميا في مكتبٍ للإنجليز، إلى عشرين عاما. ولكن بسبب فقره وطيبته، فلا يُعلَم بالنظر إلى وجهه أنه يجيد الإنجليزية قط، ولكن الحق أنه رجل مثقف ومستقيم الأحوال ودقيق الفهم جدا، ومع كل ذلك فهو إنسان بسيط جدا أيضا، ولهذا السبب يحزن قلبُه بسبب وساوس بعض الموسوسين، ولكن قوته الإيمانية تدحضها بسرعة.
(10) حبي في الله؛ الحاج المرحوم المنشي أحمد جانْ: أجدني مضطرا لأن أكتب هذه القصة بقلب ملؤه الحزن الشديد؛ فصديقنا الحبيب هذا ليس موجودا في هذا العالم الآن، وقد دعاه الله الكريم الرحيم إلى جنة الفردوس، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا بفراقه لمحزونون. كان الحاج المرحوم والمغفور له "أحمد جان" مُقتدىً لجماعة كبيرة، وأمارات الرشد والسعادة واتّباع السنَّة بادية في أتباعه. ومع أن هذا الأخ قد توفِّي قبل بدئي بأخذ البيعة، لكن من خوارقه أنه كتب إليّ رسالة في تواضع شديد قبل أن يسافر للحج، وبواسطتها أدخل نفسه في البيعة من أعماق قلبه. فقد أظهر فيها توبته بحسب سنّة الصالحين، وطلب مني الدعاء ليُغفَرَ له، وقال بأنني أحسب نفسي في ظل العلاقة الربانية معك. ثم قال: إن أفضل جزء من حياتي هو أنني انضممت إلى جماعتك. ثم شكا أيامَ حياته السابقة -تواضعا منه- بكلمات ملؤها الرقة المتناهية التي تثير البكاء. إن رسالته الأخيرة المليئة ببيان رقيق جدا ما زالت موجودة. ولكن للأسف الشديد غلبه المرض الشديد عند العودة من سفر الحج، فلم يتسن له لقائي كونه يقيم بعيدًا عن قاديان، وقد وصلني نعي موته بعد بضعة أيام من وفاته، وفور سماعنا خبر وفاته صلينا عليه صلاة الغائب في قاديان مع لفيف من أفراد الجماعة. كان المرحوم شجاعا جدا في بيان الحق. لقد منعه بعض من قليلي الفهم من البقاء على علاقة الإخلاص معي قائلين له بأن ذلك يحط من شأنك، ولكنه قال: لا أبالي بأيّ شأن ولا حاجة لي للمريدين. وكذلك أيضًا فإن نجله الأكبر "الحاج افتخار أحمد" مخلص لي من الدرجة الأولى مثله تماما، وإن علامات الرشد والصلاح والتقوى بادية على وجهه. وهو خادم من الدرجة الأولى مع أسلوب عيشه المتسم بالتوكل، وهو حاضر في هذا السبيل قلبا وروحا. متّعه الله تعالى بالبركات الظاهرية والباطنية.
(11) حبي في الله؛ القاضي خواجه علي المحترم: إن القاضي المحترم من أصدقائي المختارين. إن أمارات الحب والإخلاص والوفاء والصدق بادية في وجهه. إنه يقوم بالخدمة في كل حين وآن، ومن السابقين الأولين الذين منهم أخي في الله مير عباس علي، فهو مشغول في الخدمة دائما. يتحمّل بطيب خاطره معظم نصيب مسؤولية الضيافة طيلة أيام مكثي في لدهيانه التي تمتد أحيانا إلى ستة أشهر، ولا يقصِّر في كل نوع من المواساة والخدمة قدر استطاعته. وإضافة إلى أنه مخلص صادق جدا، فإني أراه قد جُذب إليّ الآن أكثر من ذي قبل. وأرى أن نور الحق يرزقه التقدم باستمرار في إخلاص عفيف وحب لله. ونتيجة ذلك التقدم؛ يبدو أنه حاز على الطهارة والنـزاهة أكثر من ذي قبل في حسن الظن، ويتغلب على الضعف الروحاني شيئا فشيئا. إن قلبي يشهد له أنه يملك فراسة صائبة ودقيقة من حيث الدنيا أيضا، وقد أُعطي بفضل الله تعالى نصيبا ملحوظا من معرفة هذا العبد المتواضع الروحانية، وحاز على النـزاهة في آداب الإخلاص والوفاء باستمرار، ويخطو بخطى حثيثة في مجال قلة الاعتراضات وحسن الظن. وقد اجتاز في رأيي المراحل التي يُخشى فيها زلَّة خطيرة.
(12) حبي في الله؛ مرزا محمد يوسف بيك السامانوي المحترم: هو شقيق المرحوم مرزا عظيم بيك الذي ورد ذكره في كتيب "فتح الإسلام". إن مرزا محمد يوسف أيضا مصداق لجميع الكلمات والإخلاص الذي ذكرته في "فتح الإسلام" بحق أخي في الله؛ المرحوم والمغفور له مرزا عظيم بيك. إنني لأستغرب دائما من هذين الأخوين الكريمين حين أفكِّر أيهما أعتبره أكثر أخلاقا وحبا من غيره. إن الميرزا المحترم هو على علاقة الحب والإخلاص وحسن الظن بي من الدرجة العليا بكل المعايير. ولا أجد كلمات أعبّر بها عن مراتب إخلاصه، فيكفي أن أقول إشارة: "هو رجل يحبنا ونحبه، ونسأل الله خيره في الدنيا والآخرة."
لقد نذر المرزا المحترم لسانه وماله وشرفه في سبيل هذا الحب لوجه الله. إن اعتقاده المبني على الحب كالمريدين، متقدم لدرجةٍ لا أرى بعدها مرتبة أخرى للتقدم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
(13) حبي في الله؛ ميانْ عبد الله السنوري: هذا الشاب الصالح قد جُذب إلي نتيجة انسجامه الفطري. إنني على يقين بأنه من الأصدقاء الأوفياء الذين لا يمكن أن يهزّهم ابتلاء. لقد مكث في صحبتي في أوقات مختلفة إلى شهرين أو ثلاثة أشهر أو أكثر، فتفحّصت حالته الباطنية بإمعان، والذي توصلتْ إليه فراستي بعد الوصول إلى كنهه، هو أن هذا الشاب يملك في الحقيقة حماسا خاصا لحب الله ورسوله. ولا سبب لعلاقة حبه بي إلى هذا الحد إلا أنه موقن في قرارة قلبه بأن هذا الشخص من الذين يحبون الله والرسول. ولقد شاهد هذا الشاب بأم عينه بعض ما أُعطيتُ من الله تعالى من الخوارق والآيات السماوية، وبسببها قوي إيمانه كثيرا.
باختصار، إن ميان عبد الله رجل طيب جدا ومن محبيَّ المصطفَين، ومع أن دخله محدود - إذ يعمل موظفا في تحصيل الضرائب الزراعية- فإنه يؤدي خدمة مالية دائما بحسب إمكانياته. وقد فرض على نفسه الآن أيضا تبرعا قدره 12 روبية سنويا. إن السبب الأكبر لازدياده في الإخلاص والحب هو أنه كان يمكث في صحبتي ببذل ماله الخاص أيضا، وكان يرى بعضا من آيات الله. وبذلك تقدم في الأمور الروحانية. ما أجمله لو اتبع المخلصون الآخرون أيضا هذه السيرة!
(14) حبي في الله؛ المولوي الحكيم غلام أحمد المحترم، المهندس في ولاية جامون: إن المولوي المحترم ذو طبع بسيط، مخلصٌ وطيب الباطن. إن قلبه معطَّر بعطر الحب والإخلاص، وهو جاهز للخدمات الدينية بصدق كامل. وهو متمرس جدا في معظم العلوم والفنون، وتلاحَظ في وجهه أنوار الاستقامة والشجاعة. قد قرر بطيب خاطره أن يتبرع بروبيتين شهريا لخدمة الجماعة. جزاهم الله خير الجزاء.
(15) حبي في الله؛ السيد فضل الله شاه اللاهوري المحترم، من سكان ولاية جامون أصلا: طيب الباطن، قلبه مليء بالحب والإخلاص، ومنوَّرٌ بنور الاعتقاد الكامل، وجاهز للخدمة بالمال والنفس. يتحلّى بالأدب وحُسن الظن، والذي هو من ضرورات هذا السبيل. تواضُعه عجيب، وهو - وبصدق القلب - يرتبط معي بعلاقة الإخلاص النـزيه والكامل، وهو حائز على درجة عليا في العلاقة والحب لله. وتلاحَظ فيه صفات الإخلاص والوفاء بصورة بارزة. وأيضًا؛ إن شقيقه "نصر شاه" مبايع على يدي، وكذلك أيضًا؛ إن خاله "المنشي كريم دين" صديقٌ مخلصٌ لي.
(16) حبي في الله؛ المنشي محمد أرورا المحترم، المحرر في المحكمة: إنه يملك قلبا رحيبا في الحب والإخلاص، يعشق الصدق ويدركه بسرعة. يقوم بالخدمات بنشاط كبير، بل هو دائم التفكير ليل نهارَ فيما يمكن أن يؤديه من خدمة. ما أعجبه من رجل منشرح الصدر وجاهز للتضحية دائما! أرى أنه يعشقني. لعله لا يفرح بأي شيء أكثر من أن يتمكن من أداء خدمة بكل ما يملكه من إمكانيات، ومضحيًّا بالنفس والنفيس. هو وفيٌّ قلبا وروحا، ومستقيم الأحوال وشجاع، فجزاه الله خير الجزاء، آمين.
(17) حبي في الله؛ ميان محمد خانْ المحترم: موظف في ولاية كبورتهله. يملك طبيعة بسيطة، طيب الطبع، دقيق الفهم، محب للصدق. لا يسعني أن أقدّر ما يكنّه لي من الإخلاص والحب وحسن الظن. لا أخال أن يحدث خلل في درجة إخلاصه، بل أخاف أن يتجاوز الحدود. هو وفّيٌّ صادق ومخلص ومستقيم الأحوال، كان الله معه. وأيضًا؛ إن أخاه الشاب سردار علي خانْ منخرط في سلسلة بيعتي. وإن هذا الشاب أيضا سعيدٌ ورشيدٌ جدا مثل أخيه، حفظهما الله.
(18) حبي في الله؛ المنشي ظفر أحمد المحترم: إنه شاب صالح، قليل الكلام، مليء بالإخلاص، دقيق الفهم، وأمارات الاستقامة وأنوارها بادية عليه، وعلامات الوفاء وأماراته واضحة فيه، يفهم الحقائق الثابتة جيدا، ويستمتع بها. يكنّ حبا صادقا لله والرسول. يتحلى بكِلتا الصفتين: الأدب الذي عليه مدار الفيوض والبركات كلها، وحسنُ الظن الذي هو مرْكَب هذا السبيل، جزاهم الله خير الجزاء.
(19) حبي في الله؛ السيد عبد الهادي المحترم، المراقب: إنه يملك نصيبا وفيرا من صفات التواضع والإيمان وحسن الظن والإيثار والسخاء. فهو وفيٌّ وجاد الطبع، لا يتخلّى عن الاستقامة عند الابتلاء. صادق الوعد والعهد. إن صفة الحياء المحمودةَ غالبة عليه، كان أيضًا يراعي مقتضيات الأدب قبل انضمامه إلى حلقة بيعتي كما هو الحال الآن. إن منّة الله عليه خاصة؛ أنه ينال توفيقا من الله جل شأنه للقيام بالحسنات. إن طبعه متلائم مع الزهد. وقد قرر أن يتبرع بروبيتين شهريا لخدمة الجماعة. ولكن الأمر لا يقتصر على هذا التبرع فقط، بل يقوم بالخدمة بحماس مفرط. لا أرى التصريح بخدماته المالية هنا مناسبا، لأني أظن أن ذلك سيؤلمه، فهو يتجنب كثيرا أن يتطرق شيء من الرياء إلى أعماله، إذ يتوهم أن أجر العمل يضيع بإظهاره.
(20) حبي في الله؛ المولوي محمد يوسف السنوري المحترم: هو خالُ ميانْ عبد الله السنوري، وهو ذو طبيعة صادقة، وحَسَن الظن وطيب الأفكار. مثابر على حبي والوفاء والإخلاص.
(21) المنشي حشمت الله المحترم، المدرس في مدرسة السنور، والمنشي هاشم علي المحترم، محصل الضرائب الزراعية، مديرية برناله: كلاهما من المخلصين الصادقين لي. كان الله في عونهما.
(22) حبي في الله؛ صاحبزاده سراج الحق أبو اللمعان محمد سراج الحق الجمالي النعماني بن الشاه حبيب الرحمن، المقيم في سرساوه، محافظة سهانبور: هو من أولاد قطب الأقطاب؛ الشيخ جمال الدين أحمد الهانسوي، ومن كبار مخلصيَّ. طيب الباطن، مخلص، متحمس في سبيل الله، ونشيط، وساعٍ في إعلاء كلمة الحق قلبا وروحا. إن المناسبة التي خلقها الله تعالى لانضمامه إلى هذه الجماعة تتضمن حكاية ممتعة كما يتبين من إحدى رسائله التي يقول فيها: كنت أعتبر العصر الراهن زمنا أخيرا، وكنت أسمع من العلماء والنُّسّاك بشارات ظهور المسيح ابن مريم وظهور الإمام المهدي، فأدعو الله تعالى دائما أن يوفقني لرؤية أيّ منهما؛ سواء في حالة الشباب أو الشيخوخة. وعندما وصلت أدعيتي هذه منتهاها، ظهر تأثيرها بأني بدأت أتلقى في الرؤى بين فينة وفينة بشارات في هذا الموضوع. ففي إحدى المرات كنت في مدينة "جنيد" أثناء السفر، فرأيتني في عالم الرؤيا أتوضأ في مسجد، ويأتي إليه - من زقاق ملحَق به - أناسٌ؛ بمن فيهم الهندوس والمسلمون والنصارى. فسألتهم: من أين أنتم قادمون ؟ قالوا: كنا قد ذهبنا إلى رسول الله . فتوضأت على جناح السرعة واندفعت إلى ذلك الزقاق. فرأيت في غرفة أناسا كثيرين، ورسول الله خاتم الأنبياء محمدا أيضا موجودا هناك مرتديا لباسا أبيض ناصعا، وشخصا متربعا أمامه مظهرا أدبا مفرطا. أردت أن أسأله أن في العلماء والمشايخ اختلافا في تقبيل قدمَي المرشد، فما هو الحق في ذلك؟ فتكلم شخص كان جالسا أمام النبي بصورة عفوية وقال: لا، لا. عندها نهضت دون تكلُّفٍ وجلست على مقربة من النبي . فرآني النبي ومدّ إلي قدمه اليمنى المباركة. فقبّلت القدم المباركة وألصقتها بالعينين. فخلع جرابا مصنوعا من الصوف من قدمه المباركة وأعطانيه. وقد استمتعتُ طويلا بهذه الرؤيا المباركة كثيرا.
ثم اتفق بعد عامَين أن جئتُ إلى لدهيانه وسمعتُ عنك (أيْ عني) وحضرتُ إليك ليلا، ووجدت المجلس هُوَ هُوَ، ورأيت ازدحام الناس كما سبق أن رأيته في الرؤيا التي رأيت فيها النبي . وحين رأيت وجهك، إذ به الوجه نفسه الذي رأيت عليه النبي في الرؤيا. فتيقّنت أني كنت رأيتك أنت في المنام، وقد أظهرك الله عليّ بصورة النبي لكي تنكشف عليّ الحقيقة بعينها التي تنشأ ببركة الاتباع. ثم حين قابلتك في قاديان بعد خمسة أو ستة أشهر، تعاظم اعتقادي كثيرا وأيقنت بيقين كامل بأنه قد حصلت لي مرتبة عين اليقين بأنك مجدد الوقت، وغوث الوقت دون أدنى شك. وانكشف لي بمعرفة تامة بأنك أنت المصداق لرؤيايَ. ثم ظلت الأمور الأخرى أيضا تنكشف علي في النوم وفي غير النوم. وذات مرة استخرتُ في شأنك، وخرجتِ الآية: مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[292]. عندها تشرّفتُ بالبيعة بصدق القلب. هذا وإن الأحوال التي انكشفت عليّ وشاهدتها، سأدوّنها في كتاب بإذن الله.
(23) حبي في الله؛ مير ناصر نواب المحترم: تربطني به علاقة قربى بالإضافة إلى علاقة روحانية، فهو حمو هذا العبد الضعيف. وهو مخلص جدا وطيب الباطن، وقلبه يتحلى بتقوى الله، ويقدّم طاعة الله والرسول على كل شيء. ويقبل الحق بعد تبيانه بشجاعة القلب ودون أدنى تردد. إن سيرة المؤمنين "الحب في الله والبُغض في الله" غالبة عليه. ولو ثبت صدق أحد، لما قصّر في التضحية من أجله بحياته أيضا، وإذا وجد أحدا على غير حق، لما بقي على علاقة معه على سبيل المداهنة على الإطلاق. كان في بداية الأمر يحسن الظن بي إلى درجة كبيرة، ولكن حسن ظنه هذا اهتز فيما بعد ابتلاءً. ولكن لما كان سعيد الطبع، فأخذت العناية الإلهية بيده مرة أخرى، فتاب عن أفكاره ودخل نظام البيعة. يبدو أن تحوَّله إلى حسن الظن دُفعة واحدة، وقبوله الحق بحماس ملؤه الإخلاص؛ كان بجذب من الغيب. يقول عني في إعلانه المنشور بتاريخ 12 نيسان/أبريل 1891م بأني كنت مسيئا به الظن، فالله أعلم بما أخرجتْه النفسُ والشيطان من فمي بحقه بين حين وآخر، الأمر الذي أتأسف عليه اليوم. مع أن قلبي قد أخجلني مرارا في تلك الأثناء، ولكن هذا الوقت كان مقدرا لإظهار ذلك. كلّ ما قلت بحق المرزا المحترم -بناء على سوء الفهم- كان تصرفا سيئا جدا مني، فأتوب من ذلك، وأعلن توبتي حتى لا يقع أحد في ابتلاء بسبب اتباعه لي في ذلك. فلو طبع أحد عبارة من كتاباتي أو أقوالي وأراد استغلالها، فأنا بريء منها عند الله. وإذا كنت قد قلت شيئا بحق المرزا المحترم لصديق من أصدقائي أو شكوتُه، فأسأل الله تعالى أن يعفو عني.
(24) حبي في الله؛ المنشي رستم علي، نائب مراقب الشرطة في سكك الحديد: هذا الشاب الصالح المليء بالإخلاص، صديق من الدرجة الأولى. إن علامات المسكنة والإخلاص والتخلي عن النفسانية بادية في وجهه. لم أجده يتزلزل في أيّ ابتلاء. إن قوة الإخلاص التي توجَّه بها إليّ لا يوجد فيها قبضٌ ولا كآبة، بل هي في تزايد مستمر. ويتبرع بروبيتين شهريا لهذه الجماعة، جزاهم الله خير الجزاء.
(25) حبي في الله؛ ميانْ عبد الحق خلف السيد عبد السميع: هو صديق مخلص من الدرجة الأولى، ومتعاطفٌ صادق ومحبٌ لوجه الله، ومسكين الطبع. إن للدين انسجاما مع المساكين والغرباء منذ البداية، لأن الغرباء لا يستكبرون، بل يقبلون الحق بكل تواضع.
أقول صدقا وحقا؛ إن قلةً قليلةً من الأثرياء من يمكنهم أن ينالوا عُشر معشار السعادة التي يحظى بها الفقراء كاملة، وكما قال رسول الله "فطوبى للغرباء". إن ميانْ عبد الحق يخدم باستمرار كعاشق صادق لوجه الله مع فقره وقلة ذات يده. إن خدماته تجعله مصداقا لآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[293].
(26) حبي في الله؛ الشيخ رحمة الله الغوجراتي المحترم: إنه شاب صالح ومخلص، وهو بطبيعته مطيع ومخلص وحَسَنُ الظن، فببركة ذلك يمكنه أن يتقدم كثيرا في هذا السبيل. إن طبعه يتسم بالمسكنة والأدب إلى حد كبير. وعلامات السعادة بادية في ملامحه. يعكف على الخدمات قدر الإمكان. أدعو الله تعالى أن ينقذه من المكروهات ويرزقه حظا وافرا من حلاوة حبه، آمين ثم آمين.
(27) حبي في الله؛ ميانْ عبد الحكيم: شاب صالح، أمارات الرشد والسعادة واضحة على وجهه. رجل فطين وفهيمٌ، متمكِّن في اللغة الإنجليزية. آمل أن يُتمّ الله تعالى على يديه كثيرا من خدمات الإسلام. ومع أنه يمر حاليا بفترة التلمذة والتشتت، فهو يتبرع للجماعة بروبية واحدة شهريا. وكذلك صديقه البار خليفة رشيد الدين؛ هو أيضًا رجل موهوب ومتصبِّغٌ بصبغته، ويتبرع بالقدر نفسه شهريا، وذلك بحماس حب الله فقط، جزاهم الله خير الجزاء.
(28) حبي في الله؛ بابو كرم إلهي المحترم، أمين السر في راجبوره، ولاية بتياله: إنه رجل جاد الطبع ومخلص. يقول في إحدى رسائله: "مع أن بعض المشايخ قد تورطوا في وساوس مختلفة بعد مطالعة كتبك، ولكن، والحمد لله، لم تتطرق إلى قلبي ذرة من الشك. فلا يسعني أن أؤدي حق شكر الله على ذلك، لأن اجتناب الشكوك والشبهات في مثل هذا الطوفان ليس بوسع البشر. إن راتبي زهيد جدا، ومع ذلك سأدفع روبية واحدة على الأقل شهريا لنصرة جماعتك، لأن الاشتراك في الخدمة - وإن قلَّ- أفضل من الامتناع الكلي". انتهى كلامه. وصار يرسل روبية واحدة كل شهر بكل إخلاص وحب. جزاهم الله خير الجزاء.
(29) حبي في الله؛ المولوي عبد القادر الجمالبوري: هو شاب صالح تقي، مستقيم الأحوال. لقد ظهرت من المولوي عبد القادر استقامة كبيرة في وقت الابتلاء الذي ثار فيه المشايخ كالطوفان نتيجة سوء الفهم وغلبة سوء الظن، فكان مِن أول المؤمنين، بل ظل يدعو إلى الحق. إنه يعيش على راتب زهيد، ولكنه مع ذلك يرسل لنصرة الجماعة ثلاثة أرباع الروبية تقريبا كل شهر.
(30) حبي في الله؛ محمد بن أحمد المكي، من حارة شعب عامر: هو عربيٌ ويسكن في مكة. إن أمارات الصلاح والرشد والسعادة بادية في وجهه. فقد جاء زائرا وسائحا إلى هذه البلاد من وطنه مكة المعظمة، زادها الله مجدا وشرفا. ففي تلك الأيام وشى إليه المعاندون أمورا كثيرة تنافي الحق، بل ألصقوا بي أمامه تهما كاذبة من عند أنفسهم، وقالوا بأني أدّعي النبوة، وأُنكر النبي والقرآن، وأقول بأني ذلك المسيح الذي نزل عليه الإنجيل. فاشتعل قلب هذا الأخ العربي بسماع هذه الأمور غيرةً للإسلام. فبعث إلي رسالة بالعربية جاءت فيها الفقرات التالية: "إن كنتَ عيسى بن مريم، فأنزل علينا مائدة أيها الكذاب. إن كنتَ عيسى بن مريم فأنزل علينا مائدة أيها الدجال." ولكن لا أدري في أيّ وقت سعيد قام بهذا الدعاء واستُجيب دعاؤه، فجذبه الله القدير في نهاية المطاف إلى المائدة التي أرسلني بها. فجاء إلى لدهيانه وقابلني وبايع. فالحمد لله الذي نجّاه من النار وأنزل عليه مائدة من السماء.
قال لي: حين كنتُ متورطا في الظنون السيئة والفاسدة عنك، رأيت في تلك الأثناء شخصا قال لي: "يا محمد؛ أنت كذَّاب". وقال لي أيضا: إني رأيت في الرؤيا قبل ثلاث سنوات أن عيسى نزل من السماء، وقد قلت في نفسي: سأرى عيسى في حياتي بإذن الله.
(31) حبي في الله؛ صاحبزاده افتخار أحمد: هو شاب صالح، والخلف الرشيد لمحبي الصادق والمخلص حاجّ الحرمين، المرحوم والمغفور له؛ المنشي أحمد جان: إنه يجمع في نفسه جميع محاسن والده، وهو كما يقال "الولد سرٌّ لأبيه". فيه قوة متزايدة تُدخل الإنسان في جماعة الفانين. أدعو الله أن يرزقه الله حظا وفيرا من الأغذية الروحانية، ويجعله نشوانا بحلاوة ذوق عشقه وحبه، آمين، ثم آمين.
(32) حبي في الله المولوي السيد محمد عسكري خان، المفوّض الإضافي والمتقاعد حاليا: هو من سكان محافظة "إله آباد"، يحبني من الأعماق، بل إن قلبه مليء بالحب كزجاجة العطر. إنه صديق عزيز، طيب الباطن ومخلص. معلوماته واسعة، وهو عالم متمكن وجدير بالتقدير. ولكنه مريض في هذه الأيام، شفاه الله عاجلا، آمين ثم آمين.
(33) حبي في الله؛ المولوي غلام حسن البشاوري المحترم: هو موجود عندي حاليا في لدهيانه، وقد جاء بُغية اللقاء فقط. إنني على يقين أنه وفّيٌ ومخلص، وينطبق عليه قوله تعالى: لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ، يدفع للجماعة روبيتين شهريا، مدفوعا بحماس المواساة. آمل أن يتقدم سريعا في سبل الله والمعارف الدينية، لأنه يملك فطرة نورانية.
(34) حبي في الله؛ الشيخ حامد علي: هذا شاب صالح وينحدر من عائلة صالحة، ويخدمني منذ سبعة أو ثمانية أعوام. وأعلم يقينا أنه يحبني ويكنّ الإخلاص لي. ومع أن الوصول إلى دقائق التقوى عمل العارفين والصلحاء الكبار، لكنه عاكف على اتِّباع السنة ومراعاة التقوى على قدر فهمه. أراه ملتزما بالصلوات الخمس بشدة حتى في مرض شديد أصابه وكاد يهلكه، بحيث صار كالميت نتيجة الضعف والإنهاك. وفي الحالات الحرجة - التي تصل إلى حد الإغماء- أيضا كان يصلي كلما تيسر له. أعلم أنه يكفي النظر إلى التزام المرء بالصلاة بُغية تقدير مدى خشيته لله. وإنني على يقين أن الذي يؤدي الصلوات باهتمام لائق، ولا يمنعه الخوف والمرض وظروف الفتنة من الصلاة؛ فإنه يؤمن بالله إيمانا صادقا دون شك. ولكن هذا الإيمان قد أُعطِيه الفقراء، أما الأغنياء الحائزون على هذه النعمة فقلة قليلة. لقد شاهد الشيخ حامد علي بفضل الله تعالى كثيرا من آياتي. فلما كان يرافقني دائما في الحِلِّ والترحال؛ هيأ الله تعالى له أسبابا جعلته يرى بأم عينيه كيف تنـزل عليّ أفضال الله تعالى، وكيف ظهرت الآيات الخارقة لاستجابة الأدعية.
لقد أُخبر الشيخ مهر علي- زعيم هوشيار بور- برسالة؛ بحلول الابتلاء ونـزول البلاء عليه قبل الأوان بستة أشهر، ثم أُخبر بحسن عاقبته أيضا - وذلك حين كان قد حكم عليه بالموت - فيشهد الشيخ حامد علي على كل هذه الأمور شاهدَ عيان. بل إن بعضا من قليلي الفهم قد خاصموه أيضا في هذه النبوءة وقالوا بأن تحققها مستحيل.
كذلك يعرف حامد علي النبوءة عن فشل "دليب سنغ" في إرادته زيارة البنجاب، وغيرها من النبوءات والآيات التي تحققت كفلق الفجر، وقد جعله الله تعالى شاهدا عليها. والحق أن الآيات التي أُريَها تكفي لتقوية إيمان طالب الحق بحيث لا حاجة لأكثر من ذلك. لا شك أن حامد علي شخص مخلص، ولكن توجد فيه حدة الطبع أكثر من اللازم، وما زالت عادة الصبر والتحمّل فيه قليلة. ولا يطيق الصبر على الكلام القاسي الصادر من فقير أو أجير بسيط، فيظهر منه شيء من الجبر والقسوة مثل الجبابرة.
ما زال عنده كثير من التكاسل والتهاون، غير أنه رجل ملتزم وتقي ووفِيٌّ. أزال الله ضعفه هذا، آمين.
إنه يتقاضى مني ثلاث روبيات فقط كراتب شهري، ويتبرع منها بربع روبية للجماعة لوجه الله بطيب خاطره وبرغبة قلبية. وإن عمَّه- حبي في الله- الشيخ جراغ علي؛ يشاركه في جميع محاسنه، وهو مخلص وشجاع.
(35) حبي في الله؛ الشيخ شهاب الدين موحد: هو مسكين الطبع، ومخلصٌ وطيب الأفكار. يقضي أيام حياته في هذه الدنيا الفانية في عُسر وضيق مالي شديد. من المؤسف أن معظم الأثرياء لا يؤدون الزكاة أيضا، لذا فإن أمر الشريعة الإسلامية: "يؤخذ من الأغنياء ويُردُّ إلى الفقراء" مُهْمَلٌ. ولو توجّه الأغنياء إلى أداء فريضة الزكاة فقط دون أن يمنُّوا على أحد، لأمكن أن تُجمع آلاف الروبيات لمواساة الإسلام والقوم. ولكن حين يدخل البخيل الترابَ، يُستعاد ماله من التراب.
(36) حبي في الله؛ ميران بخش بن بهادر خان كيروي: رجل مخلص وقوي الاعتقاد. لقد ذكر أن أكبر سبب كان لتقوية اعتقاده - كما بيّنه هو بنفسه - هو أن ناسكا أخبره أن عيسى المنتظَر مجيئُه هو هذا العبد المتواضع. وكان قد تلقّى هذا الخبر قبل ادّعائي بعدة سنين، وكان قد اشتهر بين مئات الناس.
(37) حبي في الله؛ الحافظ نور أحمد اللدهيانوي المحترم: هو شاب صالح جدا، ومحب ومخلص وذو اعتقاد قوي من الدرجة الأولى. يخدم بماله دائما. جزاهم الله خير الجزاء.
(38) حبي في الله؛ المولوي محمد مبارك علي المحترم. هو ابن أستاذي. إن أباه السيد المولوي فضل أحمد المحترم كان رجلا صالحا ملتزما وعالما عاملا، وكنت أحبه كثيرا، لأنه بالإضافة إلى كونه أستاذا لي، كان رجلا من رجال الله، وطيب الباطن وذو قلب رحيب وتقيا وورعا جدا. وقد لقي رفيقه الأعلى في حالة الصلاة. ولأن الإنسان يحظى بحالة التبتل والانقطاع أثناء الصلاة، لذا فإن حادث موته مما يُحسد عليه، ندعو الله تعالى أن يكتب هذا النوع من الموت للمؤمنين جميعا. إن المولوي مبارك علي المحترم هو الخلف الرشيد للمرحوم ونجله الأكبر، ويشبه أباه المحترم كثيرا سيرة وصورة. وهو صديق مخلص ومتحمس جدا. ويتحمل كل نوع من الابتلاء في هذا السبيل. لقد ألّف ونشر كتيبا بعنوان: "قول جميل" حول وفاة عيسى بن مريم . وقد ورد فيه ذكر هذا العبد الضعيف أيضا عدة مرات. ولأن للمولوي المحترم نظرة واسعة في التفسير والحديث، فإنه قد أعدّ هذا الكتيب على أحسن وجه على غرار المحدثين. إن المشايخ الذين يخالفوننا الرأي، وليسوا معتادين على التدبر والتفكير الرصين، بل ويصدرون الفتاوي جزافًا؛ يجدر بهم أن يطالعوا الكتيب المذكور لصديقي العزيز المولوي محمد مبارك علي المحترم بالإضافة إلى كتابي "إزالة الأوهام". وكذلك يجب أن يقرأوا بتدبر كتاب "إعلام الناس" لصديقي العزيز المولوي محمد أحسن المحترم، ولا ييأسوا من أن يهديهم الله، مع أن حالتهم خطيرة جدا، بل وقريبة من الميئوس منها، ولكن الله تعالى قادر على كل شيء. إن حُجُب المشايخ ليست أغلظ من حُجُب الكفار، فلماذا ييأسون من عين الرحمة هذه، فالله على كل شيء قدير؟
(39) حبي في الله؛ المولوي تَفَضُّل حسين المحترم: إنه يكنّ لي إخلاصا وحبا بقلب صادق ومخلص. حين تفرّست ما في قلبه، علمتُ أنه طيب السجية في الحقيقة ومن السعداء، وفيه القوة القابلة للترقّي. ولو اختلج في قلبه شيء بمقتضى البشرية، فلا أتوقع أنه سينطوي عليها، لأن فطرته نـزيهة وله حظٌّ من فراسة الإيمان ونور الإسلام، وإذا اشتبه عليه أمر فلديه القدرة للوصول إلى قرار صائب، ويجدر بالذكر بأنه لو بقي في صحبتي لبعض الوقت، لتقدم في السبل العلمية والعملية كثيرا. إن المولوي المحترم هو الخلف الرشيد لرجل صالح عارف بالله، ويحمل في نفسه نور أبيه، ويُتوقَّع أن تغلبه تلك الروحانية في وقت من الأوقات. حين سافرت إلى عليغره كان المولوي المحترم هو الدافع وراء السفر. وقد قام بخدمة لا يسعني أن أؤدي حق شكره. ومع أنه يشغل منصب المسؤول في المديرية وعليه عبء نفقات عائلة كبيرة ويساعد المعارف والأقارب القريبين والبعيدين بل والأصدقاء أيضا بماله، فإنه قرر أن يدفع روبيتين شهريا تبرعا لهذه الجماعة. وهو مضياف ويؤانس الدراويش والنساك والفقراء بطبعه. يملك طبيعة بسيطة، وهو ناصح طيب الباطن ويواسي الجميع. ومع كل ذلك فيه حماس شديد لمواساة الإسلام. جزاهم الله خيرا. وفيما يلي أسماء بعض المبايعين:
*حبي في الله؛ المنشي محمد جلال الدين المحترم *حبي في الله؛ مير محمود شاه السيالكوتي.
*حبي في الله؛ المنشي إله بخش المحترم *حبي في الله؛ الشيخ فتح محمد الجاموني.
* حبي في الله؛ المولوي عنايت علي المحترم *حبي في الله؛ الشيخ بركت علي.
*حبي في الله؛ عبد المجيد خان أورنغ آبادي *حبي في الله؛ المنشي أحمد شاه النور بوري.
*حبي في الله؛ المنشي فياض علي المحترم *حبي في الله؛ المولوي شير محمد الهنجني.
*حبي في الله؛ ميانْ غوهر علي المحترم *حبي في الله؛ المنشي محمد حسين المراد آبادي.
*حبي في الله؛ ميان عبد الكريم خان المحترم *حبي في الله؛ المنشي هاشم علي المحترم.
*حبي في الله؛ المنشي حبيب الرحمن المحترم *حبي في الله؛ المولوي محمود حسن خانْ المحترم.
*حبي في الله؛ المولوي الحكيم محيي الدين عربي.
*حبي في الله؛ المولوي غلام جيلاني.
*حبي في الله؛ سردار خانْ أخو السيد محمد خان *حبي في الله؛ السيد أمير علي المحترم. *حبي في الله؛ السيد خصلت علي المحترم *حبي في الله؛ مرزا خدا بخش المحترم. *حبي في الله؛ مير عنايت علي المحترم *حبي في الله؛ المنشي غلام محمد السيالكوتي. *حبي في الله؛ ميان عطاء الرحمن الدهلوي *حبي في الله؛ المولوي محمد دين السيالكوتي. *حبي في الله؛ المولوي تاج محمد السيرماندي *حبي في الله؛ المولوي نور دين البوكهري. *حبي في الله؛ المولوي محمد حسين المحترم، المقيم في منطقة ولاية كبورتهله *حبي في الله؛ مفتي محمد صادق البهيروي *حبي في الله؛ الشيخ جراغ علي التهوي *حبي في الله؛ المولوي محيي الدين البهوبري المحترم *حبي في الله؛ الشيخ أحمد شاه المنصور بوري *حبي في الله؛ ميانْ عبد الحق المحترم، من بتياله *حبي في الله؛ المولوي نور محمد المانغتي.
كل هؤلاء، أصدقاء مخلصون، وهم على حسب المراتب؛ بعضهم يحتل المرتبة العليا من الإخلاص، مثل الإخلاص الذي يوجد في أصدقائي المختارين. ولولا خوف الإطالة لكتبت أحوال إخلاص كل واحد منهم على حدة، ولسوف أكتبها في مكان آخر بإذن الله القدير.
والآن أنهي هذا الذكر بدعاء:
ياربي القدير: صدِّق ظني الذي أكنُّه في جميع أصدقائي، واخلقْ في قلوبهم غصونا خضراء مثمرة بثمار الأعمال الصالحة، أزلْ عنهم ضعفهم، وابعِدْ عنهم كسلهم، ورسِّخْ عظمتك في قلوبهم، وباعِد بينهم وبين نفوسهم، واجعلْهم يتحدثون من خلالك أنت، وليسمعوا من خلالك، ولينظروا من خلالك، ولتكن كل حركتهم وسكونهم بواسطتك. أعطِهم قلوبا خاضعة لحبك، ومعرفة تجذبهم إليك. ياربي الكريم: هذه جماعتك، فبارك فيها، وانفُخ فيهم روح بركة، فلك القدرة كلها، آمين.
أسماء بعض المتبرعين الآخرين مع تفصيل التبرع السنوي
(1) ميان عبد الله، محصل الضرائب الزراعية، قرية غوث غره: 12 روبية.
(2) المولوي محمد يوسف المحترم، المدرس في مدرسة السنور: 6 روبيات.
(3) المنشي حشمت الله المحترم، المدرس في مدرسة السنور: 6 روبيات.
(4) المنشي هاشم علي المحترم، محصل الضرائب الزراعية، مديرية برناله: 6 روبيات.
(5) المنشي إبراهيم المحترم، محصل الضرائب الزراعية، مديرية بانغر: روبيتان.
(6) المنشي عبد الرحمن المحترم، محصل الضرائب الزراعية، مديرية سنام: روبيتان.
(7) المنشي أحمد بخش المحترم، محصل الضرائب الزراعية، مديرية بانغر: روبية واحدة.
(8) المنشي إبراهيم الثاني المحترم، محصل الضرائب الزراعية، مديرية سرهند: روبيتان.
(9) المنشي غلام قادر المحترم، محصل الضرائب الزراعية، في المديرية: روبيتان.
(10) المنشي محمد فاضل المحترم، المقيم في النسور: روبية واحدة.
(11) أخي المحترم؛ الحكيم فضل دين البهيروي: 5 روبيات.
(12) ميان إله الدين المحترم، المحرر في المحكمة، بواسطة الحكيم فضل دين المحترم: روبية واحدة.
(13) ميان نجم الدين عبد الريانه، المقيم في بهيره، إمام الجامع "دهركهانا نوالي": روبية واحدة.
(14) أخي الحكيم غلام أحمد، المهندس في ولاية جامون: روبيتان.
(15) أخي المولوي الحكيم نور الدين، الطبيب في ولاية جامون: 20 روبية.
(16) أخي السيد عبد الهادي، المراقب في مدينة كجه: روبيتان.
(17) المولوي السيد تفضُّل حسين المحترم، مسؤول المديرية في عليغره: روبيتان.
(18) أخي المحترم المنشي رستم علي المحترم، المراقب في قسم السكك الحديدية: روبيتان.
(19) أخي؛ المنشي ظفر أحمد: روبية واحدة.
(20) أخي ميان محمد خانْ: روبية واحدة.
(21) المنشي عبد الرحمن المحترم: روبية واحدة.
(22) المنشي حبيب الرحمن المحترم: نصف روبية.
(23) المنشي فياض علي المحترم: نصف روبية.
(24) المنشي عبد القادر المحترم، المدرس في جمالبور بمحافظة لدهيانه: أكثر من ربع روبية تقريبا.
(25) المنشي محمد بخش المحترم: ثُمن روبية.
(26) المنشي جراغ علي المحترم المقيم في تهـ غلام نبي: ربع روبية.
(27) المنشي محمد كرم إلهي المحترم، أمين السر في راجبوره بولاية بتياله.
(28) المولوي غلام حسن المحترم، المدرس في مدرسة ميونسبل بورد بشاور: 3 روبيات.
(29) القاضي محمد أكبر خانْ المحترم، نائب مسئول المديرية بمدينة صوابي: روبية واحدة.
الخــــــــــاتمة
نصائح للإخوة الداخلين في نظام البيعة
"أيها الأعزة، لا يجد أحد الطريق بدون الإخلاص والصدق،
فلتكن القطرة نقية حتى تتحول إلى جوهرة" [294].
يا أحبائي الذين دخلتم في سلسلة بيعتي، وفَّقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى. إنكم اليوم قليلون ويُنظَر إليكم بنظرة التحقير، وتمرون بفترة الابتلاء بحسب السُّنَّة الجارية منذ القِدم. ستكون المحاولات من كل حدب وصوب لتتعثَّروا. سوف تؤذَون بكل الطرق الممكنة، ولسوف تضطرون لتسمعوا أقوالا مؤذية. وكل من يؤذيكم بلسانه ويده سوف يظن أنه يعضد الإسلام. وسيحل بكم شيء من الابتلاءات السماوية أيضا لتُبتَلُوا من كل باب. فاسمعوا مني الآن بأنه ليس السبيل إلى انتصاركم وغلبتكم أن تستخدموا منطقكم الجاف أو تقابلوا السخرية بالسخرية، أو تسبوا مقابل السباب، لأنكم لو سلكتم أيضا المسلك نفسه لقست قلوبكم، ولن يكون في يدكم إلا الكلام الفارغ فقط الذي يبغضه الله ويكرهه. فلا تجمعوا على أنفسكم لعنتينِ، لعنةَ الخلق ولعنة الخالق أيضا.
اعلموا يقينا أن لعنة الناس ليست بشيء إن لم ترافقها لعنة من الله. لن نُبادَ بيد أحد ما لم يشأ الله إبادتنا، ولَئنْ صار هو عدوا لنا، لما وسِع أحدا أن يجيرنا. فكيف نُرضي الله؟ وكيف يمكن أن يكون معنا؟ الجواب الوحيد الذي أتلقاه منه على ذلك مرارا وتكرارا هو: بالتقوى. فيا إخوتي الأعزاء، اسعَوا جاهدين لتكونوا متقين. الكلام وحده دون العمل كلام فارغ كله، ولا يُقبل عمل دون الإخلاص. فالتقوى أن تخطوا إلى الله تعالى مجتنبين جميع أنواع الخسارة، وتراعوا أدق سبل الورع والتقوى. أولا وقبل كل شيء؛ يجب أن تخلقوا في قلوبكم التواضع والصفاء والإخلاص. كونوا فعلا حُلَماء القلب مسالمين ومساكين، فإن بذرة كل خير أو شرٍّ تنبت في القلب أولا. فإن كان قلبك نـزيها من الشر لتنـزَّه منه لسانك أيضا، وكذلك عينك وجملة أعضائك. إن كل ظلمة أو نور ينشأ في القلب أولا، ثم يحيط بالجسد كله رويدا رويدا. فافحصوا قلوبكم دائما كما يقلّب آكِل الـ "ﭘان"[295] أوراقه، ويقطع منها الأجزاء الرديئة ويرميها بعيدا. كذلك عليكم أن تقلّبوا أمام أعينكم دائما أفكار قلوبكم الخافية، وعاداتكم الكامنة، وعواطفكم المكنونة، وقدراتكم الخفية، وكلما وجدتم فكرة أو عادة رديئة فاقطعوها وارموا بها بعيدا، حتى لا تنجّس قلبكم كله فتُقطَعُوا.
ثم حاولوا بعد ذلك أن تسألوا الله تعالى القوة والعزيمة- حتى تظهر وتكتمل مرادات قلوبكم الطيبةُ وأفكارُكم الطاهرة، وعواطفُكم النبيلة، وأمانيكم المقدسة - بواسطة جوارحكم وكل قواكم، لكي تصل حسناتكم ذروة كمالها، لأن الأمر الذي يصدر من القلب ويبقى مقتصرا على القلب، لا يمكن أن يوصلكم إلى أية مرتبة. فرسِّخوا عظمة الله في قلوبكم واجْعلوا جلاله نصب أعينكم دوما. واعلموا أن في القرآن الكريم قرابة 500 حُكم، وقد دعاكم إلى مائدة نورانية بالنظر إلى كل عضو من أعضائكم، وكل قوة من قواكم، وكل حالة من حالاتكم، وكل فترة من أعماركم، وكل مرتبة من مراتب الفهم ومراتب الطبيعة ومراتب السلوك والمراتب الفردية والجماعية. فاقبلوا هذه الضيافة شاكرين، وكلوا جميع الأطعمة التي أُعِدَّت لكم واستفيدوا منها جميعا. أقول صدقا وحقا؛ إن الذي يرُدُّ حُكما واحدا من تلك الأحكام، أقول له صدقا وحقا بأنه سيكون جديرا بالمؤاخذة يوم الدين.
إذا كنتم تريدون النجاة فاختاروا دين العجائز، واحملوا نير طاعة القرآن الكريم على رقابكم بالمسكنة، فإن الشرير يُهلَك والمتمرد يُلقى في جهنم. أما الذي يُخضع رقبته بالمسكنة فسيُنقَذ من الموت. لا تعبدوا الله بشرط الحصول على بحبوحة دنيوية، لأن أفكارًا مثلها تقابلها هوةٌ، بل عليكم أن تعبدوه واضعين في الحسبان أن العبادة حقٌّ واجب عليكم للخالق. فلتكن العبادة هي حياتكم، وينبغي أن يكون الهدف من وراء حسناتكم أن يرضى بكم ذلك الحبيب والمحسن الحقيقي، لأن الأفكار الأدنى منها مدعاة للعثار.
إن الله تعالى ثروة عظيمة، فكونوا مستعدين لتحمل المصائب بُغية الحصول عليه . إنه لمرادٌ عظيم فضحُّوا لنيله بحياتكم.
يا أيها الأعزة، لا تنظروا إلى أحكام الله باستخفاف، فلا يؤثِّرنّ فيكم سم الفلسفة المعاصرة. امشُوا تحت أوامره كطفل صغير. الصلاةَ الصلاةَ، فإنها مفتاح كل سعادة. عندما تقومون للصلاة فلا تصلُّوها وكأنكم تؤدون طقسا محضا، وإنما عليكم أن تقوموا بوضوء باطني كما تقومون بوضوء ظاهري قبل الصلاة، فاغسلوا جوارحكم من التفكير في غير الله تعالى، ثم بهذين الوضوءين قوموا للصلاة، وادعُوا فيها كثيرًا، وتَعوَّدوا على البكاء والابتهال فيها لكي تُرحَموا.
الصدقَ الصدقَ، لأن الله ينظر إلى قلوبكم. هل يسع إنسانا أن يخدعه ؟ وهل ينطلي عليه غشٌّ أو خداع؟ إنه لشقيٌّ جدا ذلك الإنسان الذي أوصل أعماله الفاسقة إلى درجة كأن الله ليس موجودا، فإنه يُهلَك سريعا ولا يعبأ الله به.
أيها الأعزة، إن منطق الدنيا المحضُ شيطانٌ، وإن فلسفتها إبليس يقلل نور الإيمان كثيرا، ويخلق الوقاحة، ويوصل إلى درجة تقرُب من الإلحاد. فأنقِذوا منها أنفسكم واخلقوا فيكم قلبا يتسم بالتواضع والمسكنة، وامتثِلوا للأوامر دون تردد وانقباض كما يمتثل الولد لأوامر أمه.
إن تعاليم القرآن الكريم تهدف إلى الإيصال إلى الدرجة العليا من التقوى، فاصغوا إليها واجْعلوا أنفسكم وفقها.
القرآن الكريم لا يقول لكم مثل الإنجيل ألا تنظروا بشهوة إلى النساء غير المحرمات أو الذين يمكن أن يكونوا مدعاة للشهوة كالنساء، بل إنّ تعليمه الكامل يقتضي ألا ترفع نظرك إلى غير المحرم دون ضرورة حقة، لا بالشهوة ولا بغير الشهوة. بل عليك أن تغضَّ بصرك وتُنقذ نفسك من العثار لكي لا تختلَّ طهارة قلبك. فاذكروا أمر ربِّكم هذا جيدا وأنقذوا أنفسكم من زنا الأعين، واتقوا غضب الله الذي يمكن أن يهلك غضبُه في لمح البصر. يقول القرآن الكريم أيضا أن أنقذْ أذنك من سماع ذكر غير المحرمات، وكذلك من كل ذِكر غير مباح.
لا أرى هنا حاجة لأنصحكم بألا تسفكوا دمًا، لأنه ما من أحد يُقدِم على سفك الدم بغير حق إلا من كان شريرا. وإنما أقول: لا تقتلوا الحق بالإصرار على عدم الإنصاف، واقبلوا الحق وإن وجدتموه عند طفل صغير. وإذا وجدتم الحق عند خصمكم فاتركوا منطقكم الجاف فورا وقوموا على الحق واشهدوا شهادةَ حقٍّ. يقول الله جلّ شأنه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[296]، أي اجتنبوا الزور، لأنه ليس أقل من رجس الأوثان. كلّ ما يصرف وجوهكم من قِبلة الحق فإنه وثنٌ في سبيلكم. فاشهدوا شهادة حقٍّ ولو كانت على أبويكم أو إخوتكم أو أصدقائكم، ولا تمنعنَّكم عداوة عن العدل والإنصاف.
اتركوا البخل والضغينة والحسد والفتور فيما بينكم، وكونوا متحدين. إن في القرآن الأمرينِ الأهمَّين؛ أولهما: وحدانية الله عزّ اسمه، وحبه وطاعته. وثانيهما: مواساة إخوتكم وبني جلدَتكم. وقد قسم هذين الأمرين على ثلاثة أقسام -كما أن القدرات أيضا على ثلاثة أقسام - فيقول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى[297]. فمن المنطلق الأول تعني الآية أن عليكم أن تراعوا العدل في طاعة خالقكم ولا تكونوا من الظالمين. فكما لا يستحق غيره العبادة قط، كذلك ما من أحد يستحق العبادة والتوكل من دونه، لأن كل ذلك من حقه هو وحده من حيث الخالقية والقيومية والربوبية الخاصة. كذلك لا تشركوا به أحدا في عبادته وحبه وربوبيته. فلو فعلتم ذلك فهذا هو العدل الواجب عليكم رعايته.
وإذا أردتم أن تتقدموا على ذلك فهناك مرتبة الإحسان؛ وهي أن تعتقدوا بعظمته وتأَدَّبوا في عباداتكم في حضرته، وتفنوا أنفسكم في حبه كأنكم رأيتم عظمته وجلاله وحسنه الأبدي. ثم تأتي درجة إيتاء ذي القربى؛ وهي أن تكون عبادتكم وطاعتكم منـزّهة ومبرأةً تماما من التكلّف والتصنّع، وتذكروه بعلاقة قلبية كذكركم آباءكم، وأن يكون حبكم له كحب الولد لأمه الحبيبة.
ومعنى الآية من المنطلق الثاني أيْ من منطلق مواساة البشر، هو أنِ اعدِلوا مع إخوتكم وبني البشر بوجه عام، ولا تتعرّضوا لهم أكثر من حقكم، وتمسكّوا بالعدل.
أما إذا أردتم أن تتقدموا أكثر من هذه الدرجة أيضا فهناك درجة الإحسان بعدها؛ وهي أن تحسن إلى أخيك الذي أساء إليك، وتريحه مقابل إيذائه لك، وتأخذ بيده مواساة له وإحسانا.
ثم تأتي درجة إيتاء ذي القربى؛ وهي أن كلّ ما أحسنتَ إلى أخيك وإلى بني البشر، يجب ألا يكون نابعا من نية المنَّ عليهم، بل ينبغي أن يصدر بصورة طبيعية دون أن يكون هناك مطلب مستقبلي في الحسبان، بل ينبغي أن يصدر منك على غرار إحسان قريب إلى قريبه نتيجة حماس ناتج عن قرابة متينة.
إذن، فهذه هي ذروة كمالاللتقدم الأخلاقي؛ ألا يكون للإنسان مصلحة شخصية أو مطلب أو غرض شخصي في مواساته الخلائق، بل ينبغي أن ينمو حماسُ الأُخُوة والقرابة الإنسانية على مستوى عالٍ، بحيث تصدر من الإنسان الحسنةُ تلقائيا بحماس فطري دون أدنى تكلُّف، وبغير أن يتوقع شكرا أو دعاء أو عوضا من أي نوع في المستقبل.
فيا أيها الأحبة؛ أحبِّوا حبا خاصا، دون استثناءٍ، الإخوةَ من الجماعة الذين سجّلت أسماؤهم في هذا الكتاب، إلا الذي يطرده الله تعالى فيما بعد. وما لم تجدوا أحدا خرج من الجماعة بسبب فعله أو قوله المعادي، فاعتبروه منكم. ولكن الذي يعيش بالمكر السيئ والتحايل ويؤذي أخاه بنقض العهود أو بنوع من الجَور والجفاء، أو لا يتوقف عن نشر الوساوس والتصرفات المنافية لعهد البيعة، فإنه يخرج من هذه الجماعة بسبب سوء أعماله، فلا تعبأوا به.
فلتتراءى في جبينكم من أثر السجود صورةُ الإسلام الذي فيكم، ولتترسَّخْ عظمة الله في قلوبكم. ولو رأيتم عالَـمًا من الأدلة العقلية والنقلية ضد القرآن الكريم والأحاديث، فلا تقبلوها أبدا، وتيقَّنوا أن العقل تعرّضَ للزَلَّة. استمسِكوا بالتوحيد بقوة، والتزِموا بالصلوات، وقدّموا أوامر مولاكم الحقيقي على كل شيء، وتحمَّلوا جميع المصائب من أجل الإسلام. وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[298].
الشهـــادات الــخـارجــيــة
بعد إنهاء الكتاب وجدتُ بعض الشهادات ورأيت من المناسب إلحاقاها به.
هذه الشهادات وصلتنا بعد إكمال الكتاب. كذلك هناك اعتراض آخر قد أثير بعد إكمال الكتاب؛ وهو أنه إذا كان المراد من حمار الدجال هو القطار، ويركبه الصالحون والطالحون على حد سواء، بل يركبه المدّعي أنه المسيح الموعود أيضا، فكيف أصبح القطار حمار الدجال؟
وجوابه: أُطلِق عليه حمار الدجال من حيث كونه مِلكا للدجال وتحت تصرفه التام، ولكونه من اختراع حزب الدجال. ولو استفاد منه أحد مؤقتا، فلن يُعَدَّ مالكه أو مخترعه. إن إضافة الحمار إلى الدجال إنما هي إضافة مِلكية فقط؛ فأيّ ضير لو نفع اللهُ تعالى المؤمنين بممتلكات الدجال ومصنوعاته؟ ألا ينتفع الأنبياء بممتلكات الكفار ومصنوعاتهم؟ كان النبي كثيرا ما يركب البغلة، مع أنه يبدو من الأحاديث أن إيقاع الحمار على أنثى الخيل ممنوع. وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل.
وإضافة إلى ذلك؛ ما دام المسيح قاتِلا الدجال قتلا روحانيا، فكل ما كان للدجال صار مِلكا للمسيح بحسب منطوق الحديث: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا"[299].
وأضف إلى ذلك أنه قد وردت في حديثٍ في صحيح مسلم برواية أبي هريرة علاماتُ عيسى الآتي كما يلي: "لينـزلَنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنـزير، وليضعنّ الجزية، ولتُتركنّ القلاص فلا يسعى عليها". فليكن واضحا هنا أن في ترك القلاص[300] إشارة إلى القطار الذي أغنى الناس عن كافة أنواع المراكب تقريبا، وقد تجوّل في سبعين ألف ميلا في الدنيا، وستة عشر ألف ميل في الهند. ولما كانت المركبة المثلى لدى العرب - التي من شأنها أن تحمل بيت العربي بكامله - هي القلاص، وهي أفضل المراكب لقطع المسافة ونقل البضائع، لذلك فقد أشار النبي إليها فقط؛ ليشمل ذِكرُ المركبةِ الأعلى، مراكبَ أدنى تلقائيا. فقال بأن تلك المراكب كلها سوف تفقد أهميتها في زمن المسيح الموعود، ولن يتوجّه إليها أحد، أي ستُكتَشف في الدنيا مركبةٌ جديدة تقضي على أهمية المراكب الأخرى كلها. فلو لم يركب الناس القطار بوجه عام لبقيت النبوءة ناقصة.
والمعلوم أيضا أنه يتبين من حديث فاطمة بنت قيس الوارد في صحيح مسلم أن الدجال سيخرج من الهند[301]، وأن حماره سيجري بقوة البخار كسحاب استدبرته الريح. كذلك إن المسيح أيضا سيظهر في البلد نفسه، غير أنه سينـزل فيما بعد إلى بلاد أخرى أيضا؛ فينـزل في دمشق وغيرها. إن كلمة "نزول" المقرونة مع دمشق، تدل بحد ذاتها على أن قدومه إلى دمشق سيكون على غرار المسافرين فقط. أما ظهوره الحقيقي فسيكون في بلد آخر. والواضح أنه لا بد من ظهور المسيح في بلد يخرج منه الدجال، لأن المسيح قد أُرسل لمقاومة الدجال. ويتبين من الحديث نفسه أيضا أن الدجال لن يخرج بنفسه، بل سيخرج مثيله. وجاء في الحديث عن مكان خروج الدجال: "ألا أنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو.." وأومى بيده إلى المشرق، رواه مسلم.
يتبين من هذا الحديث أن تميما الداري كان يظن أن الدجال في بحر الشام، أي في جزيرة ما في تلك الناحية، لأن تميما كان يسافر إلى الشام بكثرة حين كان نصرانيا، ولكن النبي دحض هذه الفكرة وقال بأنه سيخرج من جانب معين من الشرق. والمعلوم أن الهند من بلاد الشرق. هنا لا بد من التذكير أيضا أن النبي لم يقل في تصديق كلام تميم الداري ما من شأنه أن يدل على أنه كان موقنا بوجود الدجال الذي ذكره تميم الداري، بل في تلك الكلمات تصديق أن الدجال لن يدخل المدينة المنورة ولا مكة المعظمة. ولا يثبت أيضا أن ذلك التصديق مبني على الوحي. ويعرف العارفون جيدا أن تصديق النبي للأخبار والحكايات لا يكون بالضرورة مبنيًّا على الوحي. بل كان في كثير من الأحيان يصدّقها بناء على ثقته بالمخبر. لذا لا بد أن يكون قد حدث أكثر من مرة أن اعتبر النبي خبرَ مخبرٍ صحيحا، ولكن ثبت كذبه فيما بعد. بل حدث في بعض الأحيان أن ظُنّ اعتمادا على مخبر أن العدو على وشك الغزو، فَغُزيَ استباقًا، ولكن ثبت في نهاية المطاف أن الخبر كان خطأ.
فالحق أن الأنبياء لا يُفصَلون كُليًّا عن مقتضيات البشرية وإن كانوا محفوظين ومعصومين في تبليغ وحي الله النازل عليهم. فلا يثبت قط من قصة تميم الداري التي سمعها النبي أنه صدّقها بناء على الوحي، ولا توجد في الحديث كلمة واحدة تدل على هذه الفكرة. فمن الواضح أن تصديق النبي لقصة تميم الداري ليس مبنيا على الوحي قط، بل هو من حيث العقل بسبب الثقة بالراوي، لأن تميما الداري كان مسلما عند سرده القصة، ولكونه مسلما كان بيانه جديرا بالاحترام والأخذ بعين الاعتبار. والله أعلم بالصواب. وهذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الباب، والحمد لله أولا وآخرا وإليه المرجع والمآب.
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي
التماسٌ مهم من الإخوة المستعدين للبيعة
أيها الإخوة المؤمنون، أيدكم الله بروح منه. فليعلم جميع الذين يريدون أن يبايعوني ابتغاء لوجه الله خالصةً[302]، أنني علمتُ بإلقاء من الرب الكريم الجليل - الذي يريد أن يخلّص المؤمنين من أنواع الخلافات والغِلّ والحقد والنـزاع والفساد الذي حرَمَهم من البركة وعطّلهم وأضعفهم، وأن يجعلهم مصداقا لــ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[303]- أن بعض الفوائد والمنافع للبيعة المقدَّرة لكم تتوقّف على أن تُسجَّل أسماؤكم المباركة في كتاب مع ذكر اسم الوالد ومكان الإقامة الدائمة والمؤقتة؛ مع شيء من التفصيل إن أمكن. وإذا بلغت الأسماء المسجلة عددا معقولا فلتُعَدَّ لها قائمة، ولتُطبع وتُبعَث نسخة منها إلى كل مبايع. ثم إذا صارت هناك فئة أخرى لاحقا من المبايعين الجدد، فلتُطبع قائمة أخرى بأسمائهم، وهكذا دواليك إلى أن تصل المشيئة الإلهية قدرها المقدر. ولقد أُعجب الله تعالى كثيرا بهذه الخطة التي بسببها سينخرط حزب كبير من المتقين في سلك واحد، وستتجلى على خلق الله بصورة الوحدة الاجتماعية، ويصوِّبون إلى صوب واحد أشعة صدقهم المنبعثة من جهات مختلفة. ولأن إنجاز هذه الخطة بسهولة وصواب، لا يمكن إلا إذا كتب المبايعون بأنفسهم - بخط جميل وواضح- أسماءهم مع العنوان بحسب التفاصيل المذكورة آنفا وأرسلوها إلينا، فإني أكلِّف كل مَن كان جاهزا للبيعة بصدق القلب والإخلاص التام، أن يُطلعني خطيا على اسمه الكامل، مع ذكر اسم والده وعنوانه المؤقت والدائم، أو يملي هذه المعلومات عند حضوره هنا.
والمعلوم أن تدوين هذا الكتاب الذي سيشمل أسماء جميع المبايعين وعناوينهم سيكون مدعاة للخير والبركات الكثيرة بإذن الله. ومن جملتها أمرٌ عظيمٌ؛ وهو أن المبايعين سيتعرف بعضهم على بعض بسرعة، وتتيسر أسباب للمراسلة والإفادة والاستفادة فيما بينهم، وسيذكرون بعضهم بعضا في دعائهم بالغيب. وبسبب التعارف فيما بينهم سيقدرون على مواساة بعضهم بعضا بحسب مقتضى الحاجة مثل الرفقاء المخلصين والأصدقاء الصادقين. وسيعلمون عند الاطلاع على أصحاب عقيدتهم مدى انتشار إخوتهم الروحانيين في الدنيا، وما يتحلون به من الفضائل التي وهبهم الله إياها. وهذه المعرفة ستظهِرُ لهم كيف أعَدّ الله تعالى هذه الجماعة بصورة خارقة للعادة، وكيف نشرها في العالم بسرعة هائلة.
هنا يبدو من المناسب تسجيل وصية أيضا أن على كل واحد أن يعامل إخوته بكمال المواساة والحب، ويقدّرهم أكثر من أشقائه، وليصالحهم سريعا، وينفض الغبار عن قلبه، وينـزّه باطنه، وألا يكنّ لهم أدنى شحناء وبُغض. أما إذا خالف أحد عمدا الشروط المذكورة في إعلان 12-1-1889م، ولم يتوقف عن تصرفات غير لائقة، فسيُعتبر مطرودا من الجماعة.
إن نظام البيعة لا يهدف إلا إلى تكوين جماعة من المتقين، لكي تترك هذه الجماعة المكوَّنة من المتقين تأثيرها الحسن على الدنيا[304]، ليكون اجتماعهم مدعاة للخير والبركة والنتائج الحسنة للإسلام، ولكي يُستخدَموا لأداء الخدمات النبيلة والمقدسة للإسلام ببركة إجماعهم على كلمة واحدة، ولكيلا يكونوا مسلمين كسالى وبخلاء لا فائدة منهم، وليس كمثل هؤلاء الجهال الذين ألحقوا بالإسلام أضرارا فادحة بسبب تفرُّقِهم وتشتتهم، ووصموا وجهه الجميل بسبب تصرفاتهم الفاسقة، وليس كمثل النساك الغافلين والمنطوين على أنفسهم، الذين لا يعرفون شيئا عن حاجات الإسلام، ولا يهتمون بمواساة إخوانهم شيئا، ولا يجدون في أنفسهم أدنى حماس لإيصال الخير إلى الناس. بل يجب عليهم أن يكونوا متعاطفين مع الأمة؛ حتى يصبحوا للفقراء ملاذا ولليتامى كالآباء ويظلوا جاهزين للتضحية في سبيل خدمة الإسلام مثل العاشق المشغوف. ويبذلوا قصارى جهدهم لتنتشر بركاتهم العميمة في الدنيا، ويتفجر من كل قلب ينبوع طاهر لحب الله ومواساة عباده، ثم تتلاقى في مكان واحد وتتراءى مثل البحر الزاخر. لقد أراد الله أن يجعل - بفضله البحت، ورحمته المحضة- أدعية هذا العبد الضعيف وتوجهاته المتواضعة، وسيلةً لظهور قدراتهم الطيبة. ولقد وهبني ذلك القدوس حماسا مفرطا لأربّيَ هؤلاء الباحثين تربية روحانية، وأن أسعى ليل نهار لإزالة أدرانهم، ولأبحث لهم عن نور يتحرر الإنسان بسببه من عبودية النفس وعبودية الشيطان، فيحب سبل الله تعالى بطبيعته. وأن أطلب لهم روح القدس التي تتولد عند اجتماع الربوبية الكاملة والعبودية الخالصة. وأن أتحرى لهم النجاة من الروح الخبيثة التي تنجم عن علاقة قوية بين النفس الأمارة والشيطان. فبتوفيق من الله تعالى لن أتكاسل ولن أتوانى ولن أُغفل أمر تحري إصلاح الأحبة الذين اختاروا الانضمام إلى هذه الجماعة بصدق طويتهم، بل لن أخشى الموت من أجل حياتهم. ولسوف أطلب لهم من الله تعالى قوة روحية يجري تأثيرها في كل ذرة من وجودهم مثل التيار الكهربائي. وإنني على ثقة بأن هذا ما سوف يحصل بالضبط للذين ينتظرون بالصبر والمثابرة بعد انضمامهم إلى هذه الجماعة، لأن الله تعالى قد أراد أن يخلق هذه الجماعة ثم يهبها تقدما، ليظهر جلاله ويري قدرته، لكي ينشر في الدنيا حب الله تعالى والتوبة النصوح والطهارة والبر الحقيقي والأمن والصلاحية ومواساة البشر. فهذه الجماعة ستكون جماعته المختارة التي سوف يهبها القوة بروحه الخاصة، ويطهرهم من الحياة القذرة، وسوف يحدث تغييرا طيبا في حياتهم. وكما أنه قد وعد في أنبائه المقدسة؛ فإنه سوف يجعل هذه الجماعة تزدهر، ويدخل فيها ألوفا من الصلحاء. ولسوف يرويها بنفسه ويكتب لها الازدهار، حتى إن كثرتها وبركتها سوف تبدو غريبة للأعين. وسوف ينشرون ضوءهم إلى جميع أرجاء الـمعمورة مثل المصباح الموضوع في علٍ، وسيكونون نموذجا للبركات الإسلامية. إنه، جل جلاله، سوف يهب للأتباع الكاملين لهذه الجماعة غلبةً على الفئات الأخرى كلها في مجال كل نوع من البركات، ولسوف يكون في هذه الجماعة إلى يوم القيامة أناس يوهبون القبول والنصرة. هذا ما أراد الله الرب الجليل، إنه لقادر يفعل ما يريد، له القوة وله القدرة كلها. فالحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا أسلمنا له، هو مولانا في الدنيا والآخرة، نعم المولى ونعم النصير.
العبد المتواضع
غلام أحمد، لدهيانه، الحارة الجديدة، المتصل ببيت أخي في الله؛
المرحوم والمغفور له، المنشي الحاج أحمد جان في 4 آذار/مارس 1889م
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي
تكميل التبليغ
لقد نشرت موضوع التبليغ في إعلان 1-12-1888م دعوت فيه طلاب الحق للبيعة، وفيما يلي بيان شروطها المجملة:
أولا: أن يعاهد المبايع بصدق القلب على أن يتجنب الشركَ حتى الممات.
ثانيا: أن يجتنبَ قولَ الزور، ولا يقرب الزنى وخيانةَ الأعين، ويتنكب عن جميعَ طرق الفسق والفجور والظلم والخيانة والبغي والفساد؛ وألا يَدَعَ الثوائرَ النفسانية تغلبه مهما كان الداعي إليها قويًّا ومغريا.
ثالثا: أن يواظب على إقامة الصلوات الخمس بلا انقطاع تبعًا لأوامر الله ورسوله، وأن يداوم جهدَ المستطاع على أداء صلاة التهجد، والصلاةِ على النبي ، والاستغفارِ وطلبِ العفو من ربه على ذنوبه كل يوم؛ وأن يذكُرَ نعمَ الله ومِنَنَه بخلوص القلب كل يوم، ثم يتخذ مِن حمده وشكره عليها وِردًا له.
رابعا: ألا يؤذيَ، بغير حق، أحدًا من خلق الله عمومًا والمسلمين خصوصًا من جراء ثوائر النَّفْس، لا بيده ولا بلسانه ولا بأي طريق آخر.
خامسا: أن يكون وفيًّا لله تعالى وراضيًا بقضائه في جميع الأحوال: حالةِ التَرَح والفَرَح، والعسرِ واليسر، والضنكِ والنعم؛ وأن يكون مستعدًّا لقبول كل ذلة وأذى في سبيله تعالى، وألا يُعرِضَ عنه عند حلول مصيبة، بل يمشي إليه قُدُمًا.
سادسا: أن يكُفَّ عن اتِّباع التقاليد والأهواء النفسانية والأماني الكاذبة، ويقبَلَ حكومةَ القرآن المجيد على نفسه بكل معنى الكلمة، ويتخذَ قولَ الله وقولَ الرسول دستورًا لعمله في جميع مناهج حياته.
سابعا: أن يُطلّق الكبرَ والزهو طلاقًا باتًّا، ويقضيَ أيامَ حياته بالتواضع والانكسار ودَماثة الأخلاق والحلم والرِّفق.
ثامنا: أن يكونَ الدِّينُ وعزُّه ومواساةُ الإسلام أعزَّ عنده من نفسه وماله وأولاده ومن كل ما هو عزيز لديه.
تاسعا: أن يظلّ مشغولاً في مواساة خَلْق الله عامةً، خالصةً لوجه الله تعالى، وأن ينفع أبناءَ جنسه قدر المستطاع بكلَّ ما رزَقه الله من القوى والنعم.
عاشرا: أن يعقِدَ مع هذا العبد عهدَ الأخوة خالصًا لوجه الله، على أن يطيعني في كل ما آمره به من المعروف، ثم لا يحيد عنه ولا ينكُثه حتى الممات، ويكون في هذا العقد بصورة لا تعدِلها العلاقاتُ الدنيوية سواء كانت علاقات قرابةٍ أو صداقةٍ أو خدمةٍ.
هذه هي الشروط الضرورية لكل مبايع ولم تُبيّن في الإعلان المنشور بتاريخ 1-12-1888م. وفيما يلي الإلهامات التي تلقيتها إلى اليوم بهذا الصدد:
"إذا عزمت فتوكل على الله. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا. الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم." ثم عندما وقع الناس في ابتلاء شديد بسبب إعلاني بكوني مسيحًا موعودًا، تلقيت الإلهامات التالية:
"الذين تابوا وأصلحوا أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم. أمم يسّرنا لهم الهدى وأمم حق عليهم العذاب. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين، ولكيد الله أكبر. وإن يتخذونك إلا هزوا. أهذا الذي بعث الله؟ قل أيها الكفار إني من الصادقين. فانتظروا آياتي حتى حين، سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم. حجة قائمة وفتح مبين. إن الله يفصل بينكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. نريد أن ننـزل عليك أسرارا من السماء ونمزق الأعداء كل ممزق ونري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون. سلّطنا كلابا عليك وغيّظنا سِباعا من قولك وفتناك فتونا. فلا تحزن على الذي قالوا. إن ربك لبالمرصاد. حكم الله الرحمن لخليفة الله السلطان، يؤتى له الملك العظيم، ويُفتح على يده الخزائن وتشرق الأرض بنور ربها، ذلك فضل الله وفي أعينكم عجيب."
أيْ ستُفتَح على يده كنوز العلوم والمعارف. وليس المراد من الحكم هنا هو الحكم الدنيوي، كذلك ليس المراد من الخلافة هي الخلافة الدنيوية، بل كل ما أُعطِيتُه هو حُكم مُلك الحبِّ وكنوز المعارف الإلهية التي سأوزّعها بفضله تعالى بكثرة حتى يسأم الناس من قبولها.
المناظرة في لدهيانه[305] بتاريخ 31-7-1891م
وإعلان المولوي أبي سعيد "محمد حسين البطالوي"
خلافا للأحداث الواقعة
لقد وقع ناظري على إعلان نشره المولوي محمد حسين البطالوي في 1-8-1891م، وتأسفت لمطالعته كثيرا لأنه قد ملأ إعلانه هذا بالافتراءات والأكاذيب الكثيرة بمنتهى التجاسر. فقد اتهمني بحذلقة متناهية بنقض الشروط، ولكن الحقيقة التي يعلمها الله جيدا؛ أن المولوي محمد حسين بنفسه لم يلتزم بالشروط المحددة ولا يوما واحدا، فكان يخطّ مضمون المناظرة بيده أولا، ثم يطلب من غيره أن ينسخه له، ثم يضيف إليه وينقص منه، فكان يقدم العبارة المكتوبة ثانية على عكس الشروط المتفق عليها. ولو قورن بين عبارته الأولى والثانية، لتبين بجلاء تام أنه قام بتصرف كبير في العبارة الثانية، الأمر الذي كان بعيدا كل البُعد عن الصدق والأمانة. هذا أول مثال لنقضه العهد، وقد ظل يظهر منه ذلك إلى النهاية. والمثال الثاني على نقضه العهد هو أنه اعتاد منذ البداية أنه أثناء قراءة ما كتبه يتجاوز المكتوب ويقول بلسانه على سبيل الوعظ ما لا يوجد له أثر فيما كتبه دون أن يكون لهذا الكلام أيّ علاقة بالعبارة المكتوبة. فعندما أنهى قراءة مقالته التي حوتْ 76 صفحة، بدأ يستطرد في الحديث ناقضا الشروط كلها. وكان من كلامه الشفوي هذا قوله: إني أستطيع أن أزيل التعارض في الأحاديث في لمح البصر، بل أستطيع إزالته حالا. وأضاف إلى ذلك قدرا لا بأس به من الكلام القاسي وغير المؤدب والحذلقة، وكان الهدف منه أن يُظهرني بالتكرار على أني شخصٌ بليد وغبي وجاهل. ولكني صبرت على كلامه المؤذي كله ولم أر التعرض لنقضه العهد أيضا مناسبا، حتى لا يجد عذرا للفرار وإرجاء المناظرة.
فليقل حالفا بالله - ولو فعل ذلك لقبلتُ كلامه - هل ظهر مني ولو مثقال ذرة من شيء يخالف العهد المتفق عليه قبل أن ينقضه هو؟ ومع أنني كنت أعلم جيدا أن نقاشا عقيما لا طائل من ورائه قد طال جدا، ومع أني قد رددتُ ردًّا شاملا على الأمور المستفسر عنها، ولكنه مع ذلك أطال الأحاديث التمهيدية بُغية التهرب من صلب الموضوع. فخِفتُ أنني لو قلتُ شيئا لاتخذه المولويُّ عذرا للهروب. يستطيع الحضور الذين شهدوا النقاش الدائر بيننا أن يشهدوا لوجه الله بأنني صبرت كثيرا مقابل كلامه النابي الذي كان يتفوّه به في مواجهتي. وكلما سمّاني بليدا وجاهلا قلتُ في نفسي: هذا صحيح نوعا ما، إذ ما من أحد يستحق أن يُدعى عالما سوى الله العليم المطلق. وإذا ناداني بالمفتري علّلتُ نفسي قائلا: هذا ما قيل لأنبياء الله الأطهار من قبل أيضا. وإذا دعاني بالكاذب عرضتُ على قلبي آيات القرآن الكريم وخاطبت نفسي قائلا: لقد اعتُبر الذين خلوا من الصادقين أيضا كاذبين.
باختصار، فقد قضيت أحد عشر يوما بالصبر على هذا المنوال، وقد اشتهرت في المدينة بذاءة لسانه. وفي اليوم الذي قرأ جوابه المحتوي على 76 صفحة وتكلّم طويلا - بمنتهى التجاسر - خارجا عن الكلام المكتوب، قلتُ له أمام الحشد الكبير الذي ضم صديقه الخاص، المولوي "محمد حسن" زعيم لدهيانه، بأنك نقضت العهد اليوم أيضا إذ خرجت عن الكلام المكتوب باستطرادك في الكلام، والآن يحق لي أيضا أن أقول شيئا إضافيًا عند قراءة مقالي. ومع أن هذا كان من حقي، ولكني مع ذلك ما استعملت حقي هذا عند إلقاء جوابي أكثر من أن أقول كلمة أو كلمتين فقط.
وحين ذهبتُ لإلقاء جوابي بتاريخ 31 تموز/يوليو 1891م وجدت في الحال مزاج المولوي محمد حسين متغيرا تماما. كان الاعوجاج باديا في كل كلمة من كلامه، ولم يعرف سوءُ خُلقه أية حدود. حين شرعتُ في إلقاء جوابي على الحضور بدأ المولوي يتدخّل بغير حق؛ فقال على سبيل المثال، ومن فضوله المحض: إنك أخطأت في بيان اسم كتاب.
والله أعلم أنني ما أخطأت في ذكر أي اسم، ولكن لما كان المولوي عاقدا العزم على التباهي الفارغ وإظهار مرتبته العلمية، فنقض مرارا عهد الامتناع عن الاستطراد في الحديث مندفعا بذلك الحماس. وكما يتدفق الماء بقوة هائلة عند هدم السد، كذلك عيل صبره وتدفق سيل أهوائه النفسانية. لقد قلتُ له مرارا بأنك ملزَمٌ بالسكوت في أثناء إلقائي كلمتي كما التزمتُه أنا أثناء خطابك، ولكنه ما استطاع معي صبرا، لأن القلق الناتج عن رعب الحق كان مسيطرا عليه بسبب كتمانه الحق، حتى أصبحت حالته في لمح البصر تنذر بالخطر، ولكني أشكر الله على أنني تمكّنت من إلقاء المقال في هذه الأثناء.
لقد جاء في نهاية المقال أن النقاش التمهيدي قد انتهى الآن، لأن الردود المفصلة على الأمور المستفسَر عنها قد اكتملت. وقيل له أيضا بأنه إذا كانت هناك أمور أخرى تختلج في صدره فله أن ينشرها في مجلته.
كان السبب وراء وضع حدٍ للنقاش التمهيدي هو أن إفادات الفريقين طالت كثيرا حتى بلغت عشرة مجلدات، وطال ذلك النقاش التمهيدي البسيط وحده 12 يوما. ظل المولوي المذكور أثناءه يكرر ويعيد سؤالا: هل تؤمن بكتاب الله والحديث أم لا؟ وقد أجبتُ عليه أكثر من مرة بالتفصيل والإسهاب بأنني أؤمن بكتاب الله دون أيّ شرط، أما الحديث فبشرط. وشرحت له عن استفساره المتكرر بأنني أقبل جزء الحديث المتعلق بالأخبار والمواعيد والقصص والأحداث السابقة بشرط عدم تعارضه مع أخبار القرآن الكريم. ولكنه ظل يكرر في إفاداته بأنه لم يتلقّ الجواب عن سؤاله. مع أنه ما كان من حقه إلا أن يقتصر على الاستفسار عن مذهبي. وعندما شرحت مذهبي لم يعد له الحق مطلقا أن يعيد السؤال نفسه الذي أجبت عليه مرارا من قبل. ولقد تضايقَ الناس كثيرا من هذا الموقف، وخاصة أولئك الذين جاءوا من بعيد للاستماع إلى النقاش الموضوعي حين لم يروا للنقاش الموضوعي أيّ أثر إلى اثني عشر يوما؛ فضاقوا ذرعا على أن أيامهم تلك ضاعت دون جدوى. فاضطررنا لإنهاء هذا النقاش انطلاقا من حديث: مِن حُسْن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه. مع أن المولوي المحترم لم يكن راغبا قط في العودة إلى النقاش الحقيقي وأن ينهي هذا النقاش العبثي، بل لوَّح قائلا بأن لديه أصولا موضوعية أخرى أيضا، وسيطرحها على بساط النقاش فيما بعد. وكان الناس يحترقون كمدا ويقولون تبًّا لأصولك الموضوعية، لماذا لا تعود إلى صلب الموضوع؟
من هنا يمكن أن يدرك القراء الكرام مدى سخف شكوى المولوي بأنني ما أعطيته مقالي للرد عليه. ومن الواضح أنني ما دمت قد أنهيت النقاش التمهيدي، نزولاً عند رغبة الرأي العام، فلم تكن هناك حاجة ليُعطى المولوي محمد حسين فرصة للرد عليه ردًّا خطيا. فلو كتبَ الجواب على الجواب، لكان لزاما عليّ أيضا أن أرد عليه كذلك. ففي هذه الحالة؛ كيف ومتى كانت ستنتهي هذه السلسلة؟ وأضف إلى ذلك أنني لم أقطع النقاش التمهيدي في وقت غير مناسب، بل أضعت اثني عشر يوما حتى أوصلته إلى عشرة مجلدات، ثم اضطررت لأنهيهُ نظرا إلى شكاوى الناس، وفي الوقت نفسه قلت للخصم أن يبدأ بالنقاش في صلب الموضوع، وأنا مستعد للخوض فيه. ولكنه خاف من ذلك خوفَ الطفلِ من الأسد.
ولما كان السؤال الأول قد طرحه المولوي محمد حسين، فكان من حقي أن ينتهي النقاش على جواب مني، فتكتمل بذلك ست مقالات من طرفه وست مقالات من طرفي أنا.
ولكن لم تكن نية محمد حسين صالحة؛ فكان الحماس المفرط الذي أبداه، والخشونة المتوحشة التي أظهرها لدى سماعه عن نهاية النقاش، واضحة لجميع مَن حضر المجلس. كذلك يعلم الحضور جميعا الكلمات المنافية للتحضُّر التي تفوه بها أثناء ثوَرانه. وقد قام بحذلقة أخرى؛ فكتب في إعلانه أسماء أفراد جماعته شهودا، ليظن الناس أنه صادق فعلا فيما يقول، لذلك صدّق بيانه كثير من الشهود. ولكن ما أشنعها من خيانة أن يقدِّم شهودًا؛ أفرادَ جماعته ومؤيديه ومناصريه المشتركين في مطلب واحد. لا شك في أنه كان في المجلس أناس محايدون أيضا دون أن تكون لهم علاقة بالفريقين، بمن فيهم الخواجة أحسن شاه حاكم الشرف وزعيم لدهيانه، وهو شخص مرموق ومحترم في المدينة وزعيم منتَخَبٌ ورجل مستقيم وصادق القول. وكذلك المنشي ميران بخش؛ المحاسب الذي يشغل منصبا محترما وهو جادّ الطبع ويساوي المفوض الإضافي منصبا وراتبا، والحاج شاهزاده عبد المجيد خانْ المحترم، والدكتور مصطفى علي المحترم، والخواجه محمد مختار شاه المحترم زعيم لدهيانه، والخواجه عبد القادر شاه المحترم، والمدرس جراغ الدين المحترم، والمنشي محمد قاسم المحترم، والمدرس قادر بخش المحترم، وميانْ شير محمد خان المحترم من ولاية جهجر وغيرهم الكثيرون من أناس محترمين. فلماذا أُهمل كل هؤلاء الزعماء والضباط والأشراف عند الشهادة، ولم تُسجَّل شهاداتهم؟ مع أن شهادة الخواجه أحسن شاه - الزعيم الأعلى- وحده تعدلُ شهادة ألف شخص من عامة الناس. لا شك أن السبب الوحيد وراء ذلك هو أنه كان من شأن شهادات هؤلاء الكرام أن تميط اللثام عن حقيقة الأمر.
ومن المؤسف حقا أن المولوي محمد حسين أورد في إعلانه كذبا سوقيا آخر بغير حق مع أنه عديم الصلة بموضوع النقاش أصلا، وذلك بالإضافة إلى الأكاذيب المذكورة آنفا ذات الصلة بالموضوع؛ فقال عني في الإعلان بأنني خرجتُ من المجلس وركبتُ العربة عند الباب، وفررتُ على جناح السرعة، حتى إن رفقائي خرجوا راكضين خلف العربة، وركبوها وهي تسير. لا أدري بماذا أرد على افترائك هذا إلا أن أقول: لعنة الله على الكاذبين، أو أعيدَ إليك كلامك المذكور في إعلانك بأن على الكاذب خمس مئة لعنة إن لم تكن ألف لعنة.
يا مسكين؛ إن العربة التي كانت بالباب هي للمحاسب، منشي ميران بخش الذي كان في الجلسة، وقد جاء في هذه العربة للاشتراك فيها، والناس في السوق كلهم شاهدون على ذلك. فاسأل المنشي المحترم: مَن ركب العربة بعد نهاية الجلسة؟ وفيما إذا جئتُ إلى المنـزل مشيا بخطوات بطيئة، أو أنني قد وضعت حتى قدمي في العربة؟ كان معي عندئذ ثلاثون شخصا تقريبا، ومشوا معي كلهم. وعندما وصلنا قرب المنـزل، وصلت عربة المنشي ميران بخش أيضا، واعتذر مني على أنه جاء راكبا وجئت أنا مشيا. ما أشنعه من ظلم الافتراء إلى هذا الحد! هل الافتراء والكذب أصبح من نصيب المشايخ وحدهم؟
لقد قلتُ من قبل: إن نقضك العهدَ أمر مؤسف جدا. أنت تعترف بأنك اتفقت على شرط ألا تقالَ كلمة واحدة شفهيا، بل يجب أن يُقرأ كل شيء من الكلام المكتوب كما سبق أن كتبت في إعلانك أيضا. وتعلم أيضا أنك نقضت هذا الشرط عمدا. وعندما نقضتَه وتحدثتَ شفهيا أيضا بدلا من قراءة المكتوب على عكس العهد المتفق عليه، قلتُ لك بأنه يحق لي الآن أيضا أن أقول شيئا شفويا. فلو قلتُ بضع جملٍ بعد إلقاء المقال المكتوب، فهل كان ذلك نقضا للعهد أم هو عِوَضُ نقضك العهد؟ وقد وعدتُ بذلك من قبل. فلو أقسم المولوي محمد حسن - الذي هو زعيم وصديق حميم لك، ونقضتَ العهد في بيته - وأنكر هذا البيان أمامي، لسحبتُ كلامي، وإلا فأرجو ألا تستاء من القول بأنك قد ارتكبت جريمة نقض العهد مرارا، وإن حماسك الناتج عن الزهو ظل يحرّضك على ارتكابها. ولقد صدر منك الأمر نفسه في اليوم الأخير أيضا بالإضافة إلى غيظك وغضبك الشرس، الأمر الذي أوجب عليّ الإعراض الكامل عنك بحكم الآية: أَعْرِضْ[306]، ولذلك لم أعطِك نُسخة ردِّي.
يا مسكين، إن كل حرف من كلامك مليء بالزهو والاستكبار، وتفوح منه رائحة أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ فهل من اللباقة اتهام الآخر بأنه أخطأ في ذكر اسم كتاب اتهاما باطلا كما يفعله المشايخ ذوو الطبائع الدنيئة. لو أردتُ لفضحتُك في زعمك بعلوّ كعبك في علم الصرف والنحو في ذلك الوقت، ولكن صدور هذه الدناءة مني كان مستحيلا. إني أرى وعلى يقين بأنك لو لم تتب من هذا العناد والأفكار المنحطة، لفَضَحَ الله حقيقة علمك كما جرت سنّته منذ القِدم، ولكشَفَ وجهك الحقيقي. حينما كنت تقول عني، أنا العبد المتواضع، بأن هذا الشخص يعوزه العلم، وهو بليد وجاهل ومفترٍ، لم تقصد من هذه الوقاحة إلا أن تُرسّخ في أذهان الناس أنك عالم كبير وتملك ناصية العلم والمعرفة، وصادقُ القول. والمعلوم أنه لا يمكن لأحد أن ينال مرتبةً ما بمجرد الكلام ما لم يرافقه نور من السماء. والعلم الذي لا يصحبه نور سماوي ليس علمًا بل هو جهل، وهو ليس نورا بل ظلام، وليس لبًّا بل عظمٌ. إن ديننا قد نزل من السماء، فلا يفهمه إلا الذي جاء من السماء. ألم يقل الله تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ[307]. لن أقبل ولا أصدّق أنه يمكن أن يدرك الأرضيون من تلقاء أنفسهم العلومَ السماوية وأسرارها الباطنة وغوامضها الخفية المتراكمة. إنْ هم إلا دابة الأرض، وليسوا مسيحا من السماء. إن مسيح السماء ينـزل من السماء، وتـنـزل أفكاره بعد أن تمسح السماء. وينـزل عليه روح القدس، فيرافقه نور من السماء. أما دابة الأرض فترافقها أرجاس أرضية، ولا تملك صورة إنسانية كاملةً، بل تكون بعض أعضائها ممسوخة، لهذا السبب قلت لك: أرجو ألا تستاء.
إنك تجهل علم الدين الحقيقي. والله تعالى سيمزّق كل نوع من استكبارك، وسيُريك وجهك الحقيقي. ومن المؤسف أن كلامك غير الناضج لا يُخجلك! فلا تزال مصرا على ادّعائك بعلم الحديث، مع أنك لا تطيق جوابا مطلقًا.
لقد قلتَ: ليس المراد من "الدجال" هو "المسيح الدجال" بوجه خاص، بل أطلِق الدجال "في الصحاح" على الدجالين الآخرين أيضا. ولكن حين قلتُ لك بأنك مخطئ في قولك هذا خطأ فادحا، إذ لا تملك العلم الحقيقي بأحاديث رسول الله ، ولو أثبتَّ إطلاق هذه الكلمة في الصحاح الستة على غير الدجال المعهود لأعطيتُك خمس روبيات غرامةً، لجأتَ إلى السكوت المطبق ولم يُسعفك جواب. وهذه عقوبة الكبر والغرور. أهذا هو الجهل بعينه أم أن الجهل شيء آخر؟ فقد استنبطتَ معنى خاطئا من حديث رسول الله المتعلق بالدجال، واختلقتَ معنى مختلفا تماما كذبا وافتراء منك؟ هل هذا ما يسمّى علم الحديث؟
ثم ادّعيتَ أنك تستطيع أن تزيل التعارض بين الصحيحين، فقلتُ لك في الجواب بأنك لو رضيتَ لأمكننا أن نعيِّن بعض المنصفين، ونقدم لك بعض الأحاديث المتعارضة لتوفِّق بينها، ولو أزلتَ التعارض بينها بعلمك الغزير لأُعطِيت 25 روبية، ولصارت مرتبتك العلمية أيضا مسلَّما بها. ولو لجأتَ إلى السكوت لظهر إفلاس علمك. ولكنك لجأتَ إلى الصمت والوجوم.
فأكرر وأقول: مع أنك تدّعي وتتباهى كثيرا بعلوّ كعبك في علوم الدين بسبب جهلك المركّب، عليك أن تتذكر جيدا بأن ادّعاءك هذا سيبقى بلا أصل ودون دليل ما لم يثبت صدقك في جميع الاختبارات. وتذكّر أيضا أنك لن تلقى عاقبة حسنةً قط في هذه الاختبارات. وهذه عقوبة الاستكبار التي يعاقب الله بها المتكبر دائما. إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[308].
إن حماسك، الذي بناء عليه طلّقت زوجتَيك بشرط، مثيرٌ للضحك في نظر كل عاقل، لأنه قد قُرئ عليك جزء من النص الوارد في "التلويح"،[309] الذي أشير فيه إلى ذلك الحديث. والمعلوم أن صاحب "التلويح"، قدّم نفسه شاهدا، وقال بأن الحديث المتعلق بعرض الحديث على القرآن موجود في صحيح البخاري. ثم القول بعد ذلك بأن هذا الحديث لا يوجد في نُسخ صحيح البخاري المطبوعة في الهند يدلّ على جهل مُطْبِق، لأن عدم العلم لا يستلزم عدم وجود الشيء. فما دام زعيم من زعماء المسلمين يشهد كشاهد عيان بوجود الحديث المذكور في صحيح البخاري - ومن ناحية ثانية لا تدّعي ولا يسعك أيضا ذلك بأنك تصفّحتَ كافة النسخ الموجودة في العالم لصحيح البخاري، سواءً أكانت مخطوطة أو غيرها - فما أسخفه من تصرُّف أن تطلَّق النساء البريئات بالاعتماد على بعض النسخ فقط!
فمثلا إذا وُجدت مخطوطة ووُجد فيها هذا الحديث فماذا عسى أن يكون وضعك؟ إن شهادة المؤمن مقبولة في الشرع، إذ إن شهادة مؤمن واحد برؤية هلال رمضان توجِب الصيام على المؤمنين في العالم. ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار شهادة العلامة التفتازاني سخيفة وجديرة بالإهمال. وأضف إلى ذلك أن هناك اختلافا في بعض الكلمات في نسخ صحيح البخاري المطبوعة أيضا. ففي هذه الحالة؛ مَن يسعه أن يضمن المخطوطات المنتشرة في العالم كله؟ إذن، فإن إنكارك وجود الحديث لا يجدي شيئا.
اعلمْ يا مسكين؛ أن بيان المثبِت مرجَّح في قواعد البحث والتحقيق على بيان النافي، لأن فيه زيادة علم؛ فلو لم تُخرج لنا المخطوطات المنتشرة في العالم كله، وما لم تُثبت كذب صاحب التلويح، فقد وقع الطلاق من حيث الإمكانية بناء على شهادته المقبولة عند الشرع. فاسأل العلماء عن ذلك.
والمعلوم جيدا أنه إذا كان صاحب التلويح كاذبا في رؤيته، للقي الشجب والتشنيع على لسان علماء عصره، ولطُلب منه الجواب. ولما لم يُطلَب منه الجواب على كلامه، فهذا يشكِّل دليلا آخر على أن رؤيته كانت صادقة حتما. وإن سكوتهم جميعا - كشهود - يقوي أكثر فكرة أن صاحب التلويح قد رأى هذا الحديث في البخاري في الحقيقة. ولما كان الإمام البخاري يحفظ ثلاث مئة ألف حديث، أَوَليس أقرب إلى الفهم في هذه الحالة أن يحدث نقص أو زيادة في إدراج الأحاديث في بعض النسخ. ولو نشرت الإعلان عن الطلاق المذكور، لكان عملا عبثيا فقط، ولن يثبت منه شيء إلا أنك معتاد على الطعن والنقد الفارغ.
أنت تعلم أن من حق كل شخص بوجه عام أن يطلّق زوجته إذا كانت ناشزة ومتمردة أو سليطة اللسان أو غير مهتمّة أو تملك طبيعة غير مستقيمة وغير متلائمة، فإن الأنبياء أيضا طلقوا زوجاتهم لمثل هذه الأسباب. أما لو كان الرجل في خصام مع الآخرين ثم يطلّق بغير حق زوجاته الغافلات والبريئات تحت ثورة الغضب، لكان فعله هذا وحشيةً وهمجية ومخالفا لمقتضى التحضر بكل المعايير. هل من المناسب أن يصدر الذنب من شخص ويُعاقَب عليه شخص آخر؟ هل يوجد مثال ذلك في سنَّة النبي ؟
ومن أكاذيبك أيضا قولك بأنك ما أسأتَ إلى الإمام أبي حنيفة. فلو قيل لك إنك بليد في موضوع معين، كم ستثور ثائرتك؟ أما أنت فقد أظهرت الإمام أبا حنيفة كأنه كان شبه محروم من أحاديث النبي . أليست هذه إساءة؟ وسيعدل العلماء الأحناف بيني وبينك.
ثم زعمتَ في إعلانك أن قولي بإجماع الصحابة على كون ابن صياد دجالا، هو من الأكاذيب. سامحك الله! ألا يثبت من بيان ابن صياد نفسه المذكور في صحيح مسلم - الذي أدلى به بعد إسلامه - أن الصحابة كانوا يعتبرونه الدجال المعهود. هل يخرج من نطاق هذا الحديث صحابي لم يكن يعتبره دجالا معهودا؟ وهل رُوي عن صحابي إنكارُه بعد ذيوع هذا الخبر؟ فإذا كان الأمر كذلك فسَمِّهِ لي. ألا تعلم أن من أنواع الإجماع - من حيث أصول الفقه - الإجماع السكوتي أيضا؟ ألا تعلم أن عمر حلف عند النبي على أن ابن صياد هو الدجال المعهود، فلم ينكر ذلك النبي ولا أحد من الصحابة الموجودين في المجلس؟ أليس هذا الحديث موجودا في صحيح مسلم؟ إن قولك بأن "الدجال" ليس اسما خاصا بالدجال المعهود فقط، يشكل أقوى دليل على بلادتك وعدم علمك.
يا أيها الشيخ المحترم؛ لو أثبتَّ لي من صحيح البخاري أو مسلم أو من أيّ حديث صحيح آخر بأن الصحابة قد أطلقوا "الدجال" على غير الدجال المعهود أيضا، لقدمّتُ لك خمسين روبية بدلا من خمس روبيات. لماذا تفضح نفسك بنفسك. عليك أن تلتزم الصمت، فالحقيقة معروفة!
ولقد افتريت عليّ في إعلانك افتراء آخر وكأنني أعتبر بعض الأحاديث الواردة في صحيح البخاري ومسلم موضوعة فعلا بناء على علمي القطعي واليقيني. مع أنني لا أقول ذلك. لا أدري لماذا تفتري عليّ افتراءات إلى هذا الحد! فمنذ متى تدرَّبتَ على الكذب والزيف!؟
كلّ ما أقوله هو أنه لو لم تُستنبَط من بعض أحاديث البخاري ومسلم المبنية على الأخبار معانٍ توافق أخبار القرآن الكريم، لاعتُبرت تلك الأحاديث موضوعةً، لأن الأصل في الفقه هو: "إنما يردّ خبر الواحد من معارضة الكتاب". متى قلتُ بأنني أعتبر حديثا ما في صحيح البخاري أو مسلم موضوعا بالقطع واليقين!؟
يا أيها الشيخ المحترم؛ إن الحياء من الإيمان! فاتقوا الله وكونوا من المؤمنين.
ثم وأنت شبه منكرٍ المنامَ المتعلقَ بجفاف رِجْلِك تكتب: إن هذا النقل لا يخلو من كذب وافتراء. فأقول: إن جملتك "القانونية!" هذه تدل بوضوح على إقرارك -إلى حد ما- بصدق هذا البيان، لأن قصدك الخفيّ هو أن الأسلوب الذي نُقل به هذا المنام لا يخلو من افتراء، لأنك لم تقل بأن ما ذُكر كذب محض، بل قلتَ: إن هذا النقل عني لا يخلو من افتراء. مما يدل على أن وراء الأكمة ما وراءها. ولا بد أنك قد رأيتَ مناما مثله، سواء أكان دالا على ضمور الرِجل أو اليد أو يشمل أمورا إضافية أخرى.
لا بد أنك، يا مسكين، قد رأيتَ مناما كهذا حتما، لأن جملتك "المعْوجّة!" هذه تدل على ذلك. وإلا فلتحلفْ- إذا استطعتَ- بأنك ما رأيت شيئا من هذا القبيل، وأنا أتنبأ بأنك لن تحلف أبدا، لأن ذلك كذب بحت وعقيم. إذا كنتَ صادقا فلتعقِدْ جلسة في لاهور، واحلِفْ أمام الحضور بأنك ما رأيتَ شيئا، وسيكون في الجلسة أناس ذوو صلة بهذه الرواية. حينما تخبرني باستعدادك على الحلف سأحضر للتو حتى أشهد أمانتك وصدقك، وأرى إلى أيّ مدى تجتنب الكذب والافتراء. ولك أن تطمئن، لأن الحقيقة سوف تنكشف تماما، وسيتجلّى صدقك على تلاميذك أيضا. أما بضعة الأحلام التي ذكرتَها بحقي أنا، فليس تأويلها كما فهمتَه، وذلك إذا كانت صحيحة أصلا. بل في كثير من الأحيان يرى المرء شخصا آخر في المنام ويُراد منه نفسه هو. لقد قال المعبِّرون إنه لو رأى أحد في المنام نبيًّا بصورة شخص أعمى أو مجذوم أو على شكل دابة من الدواب، لكان المراد من ذلك أن الرائي بنفسه مصاب بهذه الآفات. فمثلا لو رأى أحدٌ أحدَ القديسين أعورَ، فتأويله أن الرائي هو الناقص دينا، وإذا رآه مجذوما كان التأويل بأن الرائي بنفسه واقع في الفساد، ولو رأى نبيا ممسوخ الصورة، لكان معناه أن دينه هو الممسوخ، لأن مَثل القديسين كمثل المرآة، والفارق الذي يراه الإنسان في صورتهم وشكلهم في رؤياه يكون المراد منه أن هذه العيوب توجد فيه هو. كذلك العمل السيئ الذي يراه الرائي في نبيٍّ، يكون المراد منه أن الرائي بنفسه يرتكبه. يجب الانتباه إلى هذا الأصل المحكم في تعبير رؤية الأبرار.
قبل فترة ذكر لي أحدٌ أنه رأى إبراهيم أعمى، والعياذ بالله. قلتُ له إنك تنكر سُنَّة إبراهيم وعميت عليك رؤيتها. كذلك ذكر لي عجوز هندوسي أنه رأى المسيح مجذوما، والعياذ بالله. ففسرتُ ذلك أن خيانتك غير قابلة للعلاج، فلن تُشفى حتى على يد مَن له نَفَسُ عيسى. كذلك سرد لي أحد آخر بأنه رأى النبي متأزرا إزارا أزرق، أما بقية جسمه فعارٍ، ويأكل العدس والخبز. فأوّلت ذلك أن الرائي سيصاب بالحزن والفقر، ولن يكون هناك أحد ليأخذ بيده. وكذلك كان.
ذات مرة قال لي أستاذي المرحوم المولوي فضل حسين بأن شخصا رأى النبي في المنام جالسا كالمسجونين في حجرة فيها نار ودخان كثير، وهناك مسيحيون واقفون حول الحجرة كالحراس، على ما أذكر. أرعبَ التأويلُ المولويَ بشدة. فألقى الله تعالى في قلبي على الفور أن هذه صورة حالة الرائي قد أُظهرت عليه؛ وأنه سيموت محروما من الإيمان، ويكون مصيره جهنم وينضمَّ إلى المسيحيين في نهاية المطاف. فسُرّ المولوي المحترم بسماع هذا الكلام كثيرا وانفرجت أسارير وجهه وقال: لقد تحققت الرؤيا تماما، إذ تنصّر صاحب هذه الرؤيا بعد فترة من رؤيتها.[310]
فباختصار، عندي تجربة شخصية في هذا المجال، فعلى المولوي محمد حسين أن يخاف ويتوب إلى الله، لأن البوادر لا تبشره بالخير. إن رؤاه الأخيرة كلها تؤيد رؤياه السابقة. أما أنا فإن اختبار صدقي أو كذبي سهل جدا. ولكن لا يمكن أن أُدان بناء على أحلام سخيفة فقط. لو قيل على سبيل الافتراض إن كافة رؤى محمد حسين تشير إلي، فمما لا شك فيه في تلك الحالة أيضا أن العدو يرى في الرؤيا عدوه - بسبب ثوران العداوة - كثعبان أحيانا، وبصورة بهيمة أحيانا أخرى، هذا هو ناموس الطبيعة الذي يعمل فيه عمله. فيمكن أن يرى عدوه بصورة ثعبان أو بصورة حيوان مفترس، لأن الطبع المعادي يرسم صورا كهذه تلقائيا في حالة العداوة، وليس أن صورة الإنسان المقدس تكون كذلك. لقد رأى بعض الأنبياء السابقين المسيحَ في صورة الخروف، كما رأى نبيُّنا أصحابَه على شكل بقرات.
أما ما قلتُه قبل قليل بأن اختبار صدقي أو كذبي أمر سهل، فتفصيله بأنني ادّعيت - بإعلام من الله وإفهامه - بأنه لو كان الناس من الدنيا كلها في جانب واحد، وكنت أنا في جانب آخر، وأراد الفريقان اكتشاف الأمور السماوية لاختبار قربهما من الله ووجاهتهما عند الله، لأمكنني القول حلفا بالله: إنني على يقين كامل بأنني سأكون غالبا. أقول حلفا بالله العليم الحكيم بأنه قد ظهرت عليّ مئات الآيات السماوية إلى اليوم، وإن كثيرا من الذين رأوها بأم أعينهم ما زالوا موجودين.
كنت قد أعلنتُ على الملأ عند قراءتي خاتمة هذه المقالة بتاريخ 31 تموز/يوليو 1891م بوجود شهود عيان على آياتي في هذا المجلس، فإذا شئتم فاطلبوا منهم شهادة مقرونة بالحلف، ولكنكم لم تنبسوا ببنت شفة. ثم أعلنت بصوت عالٍ في مجلس ضمّ ثلاث مئة شخص- بمن فيهم بعض المسيحيين ومدير مجلة "نور أفشان"- بأنه إذا كان المولوي محمد حسين يزعم بأنه من أهل الباطن، فليبارزني في مجال التوجّه إلى الله تعالى إلى أربعين يوما، وإن لم أتغلّب عليه في انكشاف الأمور السماوية وظهور الآيات، فليذبحني بأية حربة يشاء، ولكنك لم تنبس ببنت شفة جوابا على ذلك أيضا. فإذا كنتَ أنت أيضا ترى رؤى صادقة - وليست أضغاث أحلام - وهي جديرة بالاعتماد، فلماذا التزمتَ الصمت أمامي؟ هل من دليل أكبر من ذلك على كذبك العقيم؟ أما أنا فما زلت مستعدا وواقفا في الميدان.
واعلم يقينا أن النور الذي نزل من السماء لن ينطفئ بنفخات فمك. بل عليك أن تنتبه إلى فمك، فقد يتأجج لهيبا أثناء نفخك ويمسخ وجهك. ألا تذكر حديث "من عادى"[311] الذي كنتَ تكتبه إلي بعقيدة مخلصة؟ أما الآن فقد اعتبرتَني مفتريا وكذّبتني وسميتَني مكّارا ودجالا، ولم تعد تذكر عبارات تقريظك التي كتبتها في تعليق رقم 6 مجلد 7 على كتابي "البراهين الأحمدية". فقد قلتَ مدحا وثناء في الصفحة 248 من كتابك المذكور:
"قلّما يكون من معاصرينا مَن يعرف أحوال مؤلف "البراهين الأحمدية" وأفكاره بقدر ما نعرفه نحن. إن المؤلف المحترم مواطننا، بل زميلنا في المدرسة منذ أوائل العمر، والمراسلة بيننا وسلسلة لقاءاتنا جارية منذ ذلك الوقت إلى اليوم." (ص284)
"إن مؤلف البراهين الأحمدية - والله حسيبه - قائم على الشريعة المحمدية بحسب تجربة المعارضين والموافقين ومشاهدتهم، وهو تقيٌّ وصادق." ( 169)
"إن البراهين الأحمدية (أيْ تأليف هذا العبد المتواضع) كتاب لم يؤَلَّف نظيره في الإسلام إلى اليوم. إن مؤلفه قائم على نصرة الإسلام بالمال والنفس والقلم واللسان والحال والقال بحيث قلّما وُجد نظيره في الكتب السابقة. يارب، ويا هاديَ طالبيك، ارحَمْه أكثر من نفسه ومن آبائه، وأكثر من الراحمين في العالم كله، وانفُخ حُبَّ هذا الكتاب في قلوب الناس، وأشبعهم ببركاته. وارزقني أنا العبد المتواضع الخَجِل والمذنب بفيوضك وإنعاماتك وبأخص بركات هذا الكتاب، آمين. وللأرض من كأس الكرام نصيب." (ص348)
ففكِّر الآن جيدا يا مسكين وأجبني بعد تفكير رصين: هل هذه العبارات التي في حقي هي منك أو من غيرك؟ وكُن على يقين أن الله تعالى أرحم بي من غيري كما دعوتَ. واعلَم يقينا أنه لن يضيعني. أما أنت فكان في نصيبك عثارٌ فتعثَّرتَ. والكأس التي كانت مقدّرة لك منذ الأزل قد اضطررت لشربها. ألم أخبرك بكل هذه الأمور قبل الأوان بأنه من المقدَّر لك أن تـَهُبَّ للمعارضة وستهجر الصدق والحق؟ إنه لشقيٌّ جدا مَن يعتبر الصادق مكّارا، وشقيٌّ أشد الشقاوة ذلك الذي يعُدّ الصِّدِّيق كذّابا!
لقد أكّدتَ في نهاية إعلانك بأنني أنكر صحيح البخاري ومسلم، وادّعيتَ أنك ستبين ذلك في مجلة "إشاعة السنة". فأقول: مع أنني أتوقع كما يتوقع كل عاقل بأنك ستبقى تسوِّد أوراق مجلتك "إشاعة السنة" هادرًا الوقت، ولن تتشجع على دخول صلب موضوع النقاش، ولكن إلصاقك تهمة إنكار الصحيحين بي لن يجديك شيئا. تأمَّلْ قليلا؛ هل ينكر عاقلٌ كتبا تؤيد ادّعاءه بالدرجة الأولى؟ هذا لا يفعله حتى الغبي. ولو لم أكن معتقدا بصحة صحيح البخاري ومسلم، فأنّى لي أن أقّدمهما مرارا تأييدا لادّعائي؟ فقد قدّمت منهما أحاديث كثيرة في هذا الجزء من الكتاب "إزالة الأوهام" نفسه تأييدا لادّعائي، وإن كنتُ قد اقتبست من صحيح البخاري أقل نسبيا.
فأوضّح هنا أكثر - من أجلك أنت - حتى يستبين لك جيدا أن صحيح البخاري أيضا حاميني وناصرني، ولن تجده مؤيدا لك قط ولو بذلتَ كل ما في وسعك. بل هو أيضا يقدم أدلة قاطعة مثل القرآن الكريم على ادّعائي وعلى ما أهدف إليه.
فيا مسكين، إن هذه الكتب هي بمنـزلة شهود لي يثبت بواسطتها ادّعائي، فإلى أين أتوجّه لو أنكرتُـها؟
وإليك الآن بعض الأدلة من صحيح البخاري، وإن كنتَ تجد في نفسك حماس الإنكار فحاولْ دحضها، وإذا كنت سعيدا فاقبلْها، وطوبى للسعداء.
إفادات البخاري
لقد قلتُ من قبل في هذا الجزء من الكتاب بأن الأسلوب العام والشائع في القرآن الكريم في استخدام فعل "التوفِّي" هو أنه كلّما استُخدمت فيه هذه الكلمة -من بدايته إلى نهايته- فقد جاءت بمعنى الموت وقبض الروح. وحينما تتبّعتُ قدر الإمكان شعرَ العرب القديمَ والحديث، والقصائدَ والكلام المنظوم والمنثور، وحقّقتُ فيه بعمق، ثبت أنه كلما جاء فعل "التوفِّي" بحق ذوي الروح أيْ بحق الإنسان، وكان الله هو الفاعل، فقد استُنبط منها معنى الموت وقبض الروح دائما. ولن تجدوا كلمة "التوفِّي" في شعر العرب القديم أو الحديث ولا في نثرهم استُعملت مرة واحدة بحق ذوي الأرواح حين كان الفاعل هو الله لفظا أو معنًى - أيْ ما كان الفعل صادرا عن العبد، بل كان من الله تعالى فقط - ثم أُريدَ منها معنى آخر غير قبض الروح. يعرف المطلعون على كتب اللغة -مثل القاموس، والصّحاح، والصّراح- أنه لا يوجد فيها تعبير حتى في أمثال العرب حيث نُسب فعل "التوفِّي" إلى الله تعالى بحق ذي روحٍ، ثم استُنبط منه معنى آخر. بل قد استُنبط منه دائما معنى الموت وقبض الروح فقط، وما تُرك باب أية إمكانية أخرى مفتوحا.
ثم رجعتُ إلى الأحاديث لأعلم بأيّ معنى كان الصحابة.. بل النبي في زمنه، يستخدم فعل "التوفِّي" بحق ذوي الأرواح؟ ولأعلَم أيضا هل كان يُستعمَل في معانٍ مختلفة في محاوراتهم اليومية؟ أو أنه كان مستعملا بمعنى قبض الروح والموت فقط..؟ فقد تجشمت في هذا البحث والتحقيق جهدا كبيرا، وبعد أن تصفحّتُ صحيح البخاري ومسلم، وسنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود والنسائي والدارمي، والموطأ، وشرح السُّنّة وغيرها من كتب كثيرة، صفحةً صفحةً -بما فيها المشكاة- تبين لي أن كلمة "التوفِّي" قد وردت فيها 346 مرة، غير أنه من الممكن أن يكون قد سقط مني إحصاء بعضها، ولكنها لم تسقط مني قراءةً. وكلما وردت هذه الكلمة في تلك الكتب، سواء أقالها النبي أو أحد من الصحابة، جاءت بمعنى الموت وقبض الروح فقط. وما دمتُ قد راجعت هذه الكتب كلها بجهد جهيد وقرأتها سطرا سطرا، فأقول بكل تحدٍّ وقوة بأنه كلما وردت كلمة "التوفِّي" في كتب الأحاديث، لم ترد إلا بمعنى الموت وقبض الروح فقط. فقد ثبت من هذه الكتب بالاستقراء أنه لم يستخدم فعل "التوفِّي" بأيّ معنى آخر سوى الموت وقبض الروح منذ بعثته إلى آخر لحظة من حياته، وما جرت على لسانه المبارك بأي معنى آخر قط. ولا شك أن الاستقراء أيضا من الأدلة اليقينية، بل الحق أن الدعم الذي تلقيناه من الاستقراء لإثبات الحقائق، ما تلقيناه من أيّة طريقة أخرى. فمثلا؛ إن الأمور اليقينية التي قد توصلنا إليها - مثل يقيننا أن لكل شخص لسانا وعينينِ، وأن عمر الإنسان لا يتجاوز عادةً حدَّ كذا وكذا، وأن لحبة الحمّص أو القمح شكلا كذا وكذا - فقد توصلنا إليها بالاستقراء فقط. فمن أنكر هذا الاستقراء، كان من واجبه أن يذكر لنا أين استخدم النبي فعل التوفي بمعنى غير الموت وقبض الروح.
لقد وجّه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري بدوره الأنظار - في صحيحه - إلى نقطة دقيقة تبيِّن أن النبي قد استخدم فعل التوفي سبعة آلاف مرة على الأقل منذ بعثته إلى يوم وفاته، وكان بمعنى الموت وقبض الروح دائما. فهذه النقطة التي بيّنها الإمام البخاري من جملة النقاط التي يجب أن يشكره عليها طلاب الحق. ومن جملة إفادات البخاري التي يجب أن نشكره عليها؛ أنه قد أصدر قرارا قاطعا لا يمكن أن يُتصوَّر أقوى منه؛ وهو أنه قد أطلق على كثير من أجزاء صحيحه تسمية "كتاب" مشيرا إلى أسباب هامة لهذه التسمية. وقد أطلق على جزء منه "كتاب التفسير"، لأن الهدف الحقيقي من وراء تدوين هذا الجزء هو ليورد تفسير الآيات التي فسرها النبي أو أشار إليها في أحاديثه. ولهذا الغرض أورد الإمام البخاري رحمه الله الآية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[312] في كتاب التفسير، وذلك ليوضح للناس أن التفسير الصحيح لكلمة تَوَفَّيْتَنِي هو ذلك الذي أشار إليه النبي ، أيْ أماته الله أو توفَّاه. والحديث المشار إليه هو: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ... إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ (صحيح البخاري، كتاب التفسير)
ففي هذا الحديث شبّه النبي قصته بقصة المسيح ابن مريم واستخدم الكلمة نفسها أيْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بحقه أيضا. ومن ذلك يُفهم بكل وضوح أنه أراد من: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي الموت فقط. والمعلوم أنه لا يختلف أحد في أن النبي قد مات، وضريحه المبارك موجود في المدينة المنورة. فلما ثبتت وفاة النبي مما فسّر به عبارة: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي - علما أن المسيح أيضا قال الكلام نفسه - ثم قال النبي أيضا بصراحة تامة بأنه سيقول تماما كما قال المسيح ابن مريم؛ تبيَّن من ذلك بكل جلاء أن المسيح مات، وكذلك النبي ، وكِلاهما بمفهوم الآية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي. لهذا السبب قد أورد الإمام البخاري آية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي في كتاب التفسير قصدا، لكي يبين حقيقة مذهبه عن المسيح ابن مريم بأنه قد مات في الحقيقة.
إنه لمما يدعو إلى التدبر والتأمل لماذا أورد الإمام البخاري آية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي في كتاب التفسير؟ ويتبين بأدنى تفكير أنه أراد البيان، كما هي عادته، أن المعنى الحقيقي لـ: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي هو ذلك الذي أشار إليه النبي ، وأطلقه على نفسه.
وليكن معلوما أيضا أن الإمام البخاري باختياره هذا الأسلوب لم يُظهر مذهبه هو فقط، بل بين أيضا أن النبي قد فهم من آية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي المعنى نفسه، ولذلك استخدم عبارة: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بحق نفسه دون أيّ تغيير وتبديل. وبالإضافة إلى ذلك قام الإمام البخاري في هذا المقام بعمل ذي بال آخر أيضا؛ وهو أنه فسّر - من أجل التأكيد على المعنى المذكور - آية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي[313] بالمعنى نفسه، فيقول: "وقال ابن عباس: متوفيك: مميتك". فقد أورد الإمام البخاري، قول ابن عباس تأييدا لموقفه، ليُعلَم أن الصحابة أيضا كانوا يعتقدون أن المسيح ابن مريم قد مات حقا. ثم قام الإمام البخاري بعمل جبار آخر وهو أنه أورد في صحيحه- في مناقب ابن عباس- أن ابن عباس قد روى بنفسه أن النبي ضمّه إلى صدره ودعا له: "اللهم علِّمه الحكمة وعلِّمه الكتاب". ولأن دعاء النبي مجابٌ، فإن بيان ابن عباس بأن المراد من "توفِّي عيسى" المذكور في القرآن الكريم هو إماتته، جدير بالقبول، وكذلك المعنى الذي استنبطه من الآية الكريمة المذكورة لأن الدعاء بتعليمه القرآن قد استُجيب في حقه.
ثم أورد الإمام البخاري آية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي في كتاب الأنبياء أيضا لبيان المعنى نفسه. وبذلك قد بيّن أن هناك شبَهًا بين النبي والمسيح ابن مريم من هذا المنطلق. فقد أورد حديثا آخر أيضا برواية أبي هريرة: "أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد عَلاّت". كذلك أورد البخاري في كتاب المغازي بذيل كتاب النبي حديثا آخر برواية السيدة عائشة رضي الله عنها.
ومن جملة إفادات البخاري التي يجب أن نشكره عليها أنه لم يكتفِ بإثبات موت المسيح فقط، بل أثبت أيضا بواسطة الأحاديث النبوية أن الذي يموت لا يعود إلى الدنيا أبدا. فقد وردت في صحيح البخاري رواية عن عائشة رضي الله عنها جاء فيها: حين توفِّي النبي قال البعض لم يُتوفَّ ، وقال البعض بأنه تُوُفِّي، ولكنه سيعود إلى الدنيا ثانية. وفي هذه الأثناء جاء أبو بكر إلى بيت عائشة ووجد النبي قد مات، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى ثُمَّ قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَاللهِ لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ. ثم خرج على الناس وبيّن وفاة النبي ، ثم تلا تأكيدا على وفاته وعدم عودته إلى الدنيا آية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[314].
فليكن معلوما أن "الـ" في مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ يفيد الاستغراق ويشمل جميع الأنبياء الذين سبقوا، وإلا لبقي الدليل ناقصا، لأنه لو بقي فرد واحد من الأنبياء خارج نطاق الآية، لما تحقق منها الاستدلال الذي يهدف إليه القرآن الكريم. فبتقديمه هذه الآية؛ أثبت أبو بكر أنه ما من نبي مضى إلا مات، وأثبت أيضا أن الذي يموت لا يعود إلى الدنيا أبدا لأن كلمة: "خلا" أو "خلَتْ" تطلَق في لغة العرب على الذين ماتوا ولن يعودوا أبدا. فلقد استخدمت الكلمة "خلتْ" بحق الأنبياء في الآية المذكورة آنفا للإشارة إلى أنهم خلوا جميعا، ولن يعودوا إلى الدنيا أبدا. فلما قبَّل أبو بكر الصديقُ النبيَّ بعد وفاته وقال: طبتَ حيًا وميتًا، ولن يجمع الله عليك موتتين.. أيْ لن تعود إلى الدنيا قط، فقدّم الصدِّيقُ تأييدا لقوله؛ الآية التي تتلخص في أن جميع الرسل الذين سبقوا النبيَّ قد خلَوا جميعا، والذين خلَوا لن يأتوا إلى الدنيا ثانية، لأنه كما أُطلقت في القرآن الكريم كلمة "خلا" أو "خلت" على الناس الميتين الآخرين، كذلك استُخدمت الكلمة نفسها بحق الأنبياء أيضا. وهذه الكلمة خاصة بمعنى الموت، لأنها تتضمن شرطَ عدم العودة إلى هذا العالم مرة أخرى بعد الخلُوِّ منه.
وباختصار، فإن الإمام البخاري رحمه الله أورد هنا أولا للدلالة على عدم رجوع الأنبياء الأموات قول أبي بكر الصديق الذي يبيّن أن الله لن يجمع على النبي موتتين، لأن الرجوع ثانيةً يستلزم موتا ثانيا أيضا. ثم قدّم في هذا الصدد آية من القرآن الكريم، وأثبت أن كلمة "خلا" تعني عدم العودة. فمن هذا التحقيق والتدقيق، تتبين كمالات الإمام البخاري جزاه الله خير الجزاء، وأدخله في الجنات العليا.
ومن جملة إفادات الإمام البخاري أنه أورد في صحيحه خمسة أحاديث، وأثبت بمختلف الطرق والأسانيد أن المسيح ابن مريم لحق بالأموات بعد موته، وانضم إلى أنبياء الله الأطهار الذين خلَوا من الدنيا، وقد رآه النبي ليلة المعراج في جماعة الميتين.
ولقد جاء في هذه الأحاديث أيضا أن هؤلاء الأنبياء، وإن كانوا قد ماتوا من حيث الحياة الدنيوية وهجروا الجسد المادي ومستلزماته، ولكنهم حائزون على حياة جديدة يمكن أن تُدعَى حياة روحانية. كذلك تماما يجمع المسيح وغيره على حدّ سواء مستلزمات الحياة الجديدة في أنفسهم. وهذا هو المفهوم الذي تتضمنه رسالة بطرس الأولى في الإنجيل، حيث يقول عن المسيح: "مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ" (رِسَالَةُ بُطْرُس الأُولَى 3: 18) أي حاز المسيح بعد الممات حياة روحانية ليست مادية. كذلك ورد في الرِّسَالَةُ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ 9: 27: "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً". وبالإضافة إلى ذلك فقد ورد في عدة أماكن في الكتاب المقدس أنه ليس للصادقين إلا موت واحد، ثم الحياة الأبدية. والآن، لو قبلنا جدلا فرضية رجوعه إلى الدنيا بعد عودته إلى الحياة - بعد الثبوت أن المسيح مات في الحقيقة وانضم إلى الأرواح الميتة - لبقي نزوله من السماء غير مسلَّم به على أية حال، لأنه قد ثبت أنه لم يصعد إلى السماء بعد مماته، إنما هي روحه فقط التي انضمت إلى الأرواح الأخرى. وفي هذه الحالة، وبعد هذا الافتراض؛ لا بد من القول بأن قبره سوف ينشقّ يوما وسيخرج منه، وهذا ما لا يعتقد به أحد.
وإضافة إلى ذلك فإن فكرة الموت الثاني لنبيٍّ عظيم الشأن بعد موته الأول تنافي كتب الله كلها. والذي يعتبر المسيح مات مرةً، ويعتقد بعودته إلى الدنيا قرب القيامة، فكأنه يريد أن يصيب الجميع موتٌ واحد، أما المسيح فلا بد أن يكون له موتتان. كلّ ما وُلد في الدنيا جسدًا وصورةً لا يمكن أن ينجو من الموت. (انظروا رسالة بطرس الثانية 3: 10).
ومن جملة إفادات الإمام البخاري؛ أنه أصدر قراره القاطع بأن المسيح ابن مريم قد مات وانضم إلى الأموات، ثم أقام ثلاث قرائن قوية في النبوءة القائلة بنـزول ابن مريم، وبذلك أثبت أن ابن مريم الآتي ليس مطلقا ذلك المسيح ابن مريم الذي نزل عليه الإنجيل...
فقد أقام القرينة الأولى بإيراد قول النبي : "لا نبي بعدي"، والقرينة الثانية هي أنه قد قال بحق المسيح المقبل: "إمامكم منكم". وبذلك وضّح بجلاء أن المسيح المقبل ليس بالمسيح الحقيقي، بل هو إمامكم أنتم، وسيُبعث منكم. ولم يذكر وجود أيّ إمام مع المسيح قط، بل سمَّى المسيح الموعود "حَكَمًا" و"عَدْلا" و"مُقسِطا"، لكونه إماما. وإن لم يكن إماما فكيف يمكن أن تُطلَق عليه الصفات التي تخصّ الإمامة. وإن قلتم بأن المراد من الإمامة هو الإمامة في الصلاة فقط- كحال وجود المشايخ في كل مسجد لإمامة الصلاة - فهذه الفكرة تدل على عقلية غريبة، لأنه من المستحيل تماما أن يكفي للمسلمين المنتشرين في العالم كله- والذين يربو عددهم على مائتي مليون- إمامٌ واحد ليؤمهم في الصلوات الخمس. كما لا يكفي إمام واحد للجيوش الكبيرة المتفرقة في أماكن مختلفة بحكم المصالح الحربية. فكما يؤم الصلاة في هذا العصر مئات الآلاف من الناس، فلا بد من الحاجة إلى العدد نفسه في كل عصر، ولا يمكن أن يسدها شخص واحد. بل المراد من الإمام هو المرشد والمقتدى والخليفة الذي من صفاته؛ حَكَم، عدْل، مُقسط. والآن يجب الانتباه بعيون بصيرة: هل تنطبق هذه الصفات - بالنظر إلى سياق الكلام في الأحاديث الواردة في صحيح البخاري - على المسيح الموعود أو غيره؟
يا عبادَ الله، اتقوا الله قليلا؛ إن ضميركم أنتم سوف يدينكم على أنكم تكتمون الحق.
يا أيها الناس؛ اتقوا ولا تنحرفوا عمدا عما قاله الله والرسول، وانتهوا من الإلحاد والتحريف! لماذا تحرّفون كلمات الله والرسول عن مواضعها؟ وقد حرّفتم وأنتم تعلمون.
أما القرينة الثالثة التي أقامها الإمام البخاري، فهي أنه بيّن اختلاف ملامح المسيحِ المقبل والمسيحِ ابن مريم في كل مكان وبالتزام شديد. فكلما ذكر ملامح المسيح ابن مريم الحقيقي قال بأنه أحمر اللون. أما المسيح المقبل فكلما بيّن ملامحه قال إنه آدم اللون، ولم يترك هذا الالتزام في أيّ مكان قط. فقد أورد الإمام البخاري حديثينِ؛ أحدهما برواية أبي هريرة والثاني عن ابن عمر، وقد جاء في كِليهما أن النبي رأى ليلة المعراج عيسى الحقيقي ووجده أحمر اللون. ثم هناك رواية بعد ذلك عن أبي سالم تقول إنه رأى المسيح الآتي في الرؤيا، وقال في ذكر ملامحه بأنه آدم اللون. ثم أورد رواية عن ابن عمر أن النبي رأى المسيح الآتي في المنام آدم اللون، ورأى الدجال أحمر اللون (وفي ذلك إشارة إلى أنه سيخرج من قوم لونهم أحمر) ثم هناك رواية عن عبد الله بن عمر تقول إن النبي رأى ابن مريم الآتي آدم اللون. وبذلك قد التزم الإمام البخاري في صحيحه بتبيان ملامح المسيح الحقيقي برواية رواة ثقات بأنه أحمر اللون، وبيّن ملامح المسيح الآتي أنه آدم اللون، وبذلك قد أثبت أن المسيح الآتي غير المسيح الأول. وقد بيّن الإمام البخاري في صحيحه - في كتاب اللباس- ملامح المسيح المقبل بأنه آدم اللون.
ومن جملة إفادات الإمام البخاري أنه أورد الحديث: "ما من مولود يولَد إلا والشيطان يمسه، حين يولَد، إلا مريم وابنها"، والحديثَ: "بإصبعيه... غير عيسى" مع الأحاديث المتعارضة، وبذلك لفت الأنظار إلى أن المراد من ابن مريم كلّ مَن يحمل صفاته ومتصبِّغ بصبغته. وتلك الأحاديث المتعارضة هي في الصفحة 464 و 776 [315]وكذلك هناك حديث ينتهي على "لم يضره شيطان".
وبالإضافة إلى ذلك فإن قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ[316]، وقوله تعالى عن يحيى سَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ[317]، يدلان بصراحة تامة أن الحماية من مسِّ الشيطان ليس خاصا بابن مريم فقط. أما طعن الزمخشري - بأن الحديث عن حماية مريم وابنها من مس الشيطان الذي أورده الإمام البخاري في صحيحه لا يخلو من العيب، وفي صحته كلام كما قال بنفسه - فلا معنى له، لأن الإمعان في الموضوع يبيّن أن الإمام البخاري قد أشار بنفسه أن المراد من ابن مريم وأمه، هو كل مَن يجمع في نفسه صفاتهما، فلا تناقض ولا تعارض.
وما دام قد أُطلق "عيسى" أو "ابن مريم" على غير عيسى الحقيقي أيضا، فإن هذا الأسلوب من البيان يؤيد موقفنا أكثر. من الأسلوب الشائع والمتداول في الأحاديث النبوية أن يطلَق اسم شخص في الظاهر على شخص آخر بالنظر إلى بعض الصفات. كما ورد في صحيح البخاري حديث: "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ." (صحيح البخاري، كتاب الأنبياء). والمعلوم أن المحدَّثية ليست مقصورة على عمر ؛ فمعنى الحديث أنه كلما كان هناك محدَّث، فكأنه "عمر" تماما من حيث صفاته الروحانية. كذلك أُطلق في الحديث اسم خاص على دابة الأرض أيضا، ولكن التعمق في الأحاديث يُبيّن أن هذا الاسم أيضا عام من حيث استخدامه؛ ففي صحيح مسلم، ذُكرت دابة الأرض من ناحية بأنها جساسة الدجال ورفيقةً له وتقيم معه في جزيرة، ومن ناحية ثانية أُعطيت مكانا تحت الصفا في حرم مكة المعظمة، وكأنها توجد في تلك الأرض المقدسة وليست مع الدجال، وقيل أيضا بأنها ستخرج منها. يبدو أن المراد من هذه الاستعارة أن دابة الأرض في الحقيقة اسم جنس يُطلَق على مشايخ ذوي اتجاهين. فمن ناحية لهم علاقة مع الدين والحق، ومن ناحية أخرى مع الدنيا والدجل. وإن خروج مشايخ أمثالهم في الزمن الأخير مذكور عدة مرات في صحيح البخاري. فقد جاء أن هؤلاء الناس سيقرؤون أحاديث خير البرية ويتلون القرآن الكريم أيضا ولكنه لن يُجاوز تراقِيَهم. فالعصر الراهن هو عصر الافتراق الذي حذّرنا النبي من أهله وقال: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ (صحيح البخاري، ص509، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام) مع أن الله جلّ شأنه ورسولُه يعلنان وفاة المسيح ابن مريم بكل وضوح، ولكن هؤلاء القوم لا يعتمدون على ما قاله الله والرسول، مع أنهم قد أُمروا: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[318]. وفي صحيح البخاري: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق." وفيه: "ما عندنا شيء إلا كتاب الله"، وجاء أيضا: "حسبكم القرآن".
إلى هنا قد انتهينا من إفادات البخاري التي ذكرناها على سبيل المثال. والواضح من الإفادات المذكورة آنفا أن الإمام البخاري شاهدٌ على دعاوينا ومؤيدها من الدرجة الأولى، ولا يمكن لخصومنا أن يقدموا ولو حديثا واحدا من صحيح البخاري تأييدا لأفكارهم. فالحق أنهم هم الذين ينكرون صحيح البخاري ولسنا نحن.
وفي النهاية أريد القول بأنني طلبتُ من المولوي محمد حسين البطالوي: إن كنتَ تعتبرني مكّارا وغير مسلم، فتعالَ وبارزْني في أن نتوجّه إلى الله تعالى لظهور آية القبول في حضرته، ليُعرف عند الناس - من خلال قبوله عند الله - مَن تحالفه النصرة الإلهية وتظهر له من الله تعالى آيات القبول من السماء، وليتخلّص الناس ويرتاحوا من شد الكاذب وجذبه كل يوم. فكتب المولوي المحترم ردًّا على ذلك في إعلانه بتاريخ 1 آب/أغسطس 1891م: إن طلبك هذا سيكون جديرا بأن يُلتفتَ له بعد أن تثبت أولا أن معتقداتك هي معتقدات إسلامية بعينها، لأن المسلمين لا يلتفتون إلى غير المسلم مهما أظهر من آيات سماوية.
والآن، ما دمتُ قد قدمتُ هذا الطلب ليستبين أي الفريقين مسلم صدقا وحقا، فليقل لي القرّاء عدلاً وإنصافًا: أيُّ نوع من الإسلام والأمانة اعتبار مسلمٍ غيرَ مسلم ومناداته: "لستَ مسلمًا" دون دليل، خاصة إن كان هذا المسلم يشهد الشهادتين "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" ويؤمن بهما؟
بالإضافة إلى ذلك؛ إذا كنتُ كافرا في زعم المولوي محمد حسين فهذا شأنه، ولكن فليعلم بأن كلَّ ما سيظهر مني، إنما هو استدراج. ففي هذه الحالة يجب أن تظهر منه كرامةٌ مقابل هذا الاستدراج. والمعلوم أن الكرامة تغلب الاستدراج دائما، والمقبولون عند الله هم الذين يحظون بنصرة سماوية. فإذا كنتُ مردودا على حسب زعمه وهو مقبول عند الله، فلماذا هذا الخوف من مقاومة المردود؟....وإذا كنتُ قادرا إلى إراءة شيء مع كوني كافرا - كما يقول - فهو أجدر بأن يُريَه لكونه مقبولا!! إن كلام المقبول لا يُردّ قط، وقال تعالى – كما جاء في الحديث- "ومن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب". إذا كان ابن صياد قد أظهر شيئا، أفلم تَظهَر مقابله معجزات من النبي ؟ أَليست آياتُ عيسى مرويةً مقابل أعمال الدجال الساحرة؟ فَفِرُّوا. أين تفرُّون!
الحاشية المتعلقة بالصفحة 616، [319]
إن الآية الـمُشار إليها هي: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[320]. لقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أفعال له بالترتيب وهي:
(1) يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ. (2) وَرَافِعُكَ إِلَيَّ. (3) وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. (4) وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. والمعلوم أن هذه الجمل الأربع قد ذُكرت بحسب الترتيب الطبيعي، لأنه ما من شك في أن الذي يُدعى إلى الله تعالى، ويصله نداء: "ارجعي إلى ربك"، فلا بد له من أن يموت أولا، ثم يُرفع إلى الله تعالى بحسب الآية: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ[321] والحديثِ الصحيحِ. وإن رفع روح المؤمن إلى الله تعالى بعد موته أمر محتوم يشهد عليه القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة. ثم قال الله تعالى لعيسى : وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وفي ذلك إشارة إلى أن اليهود أرادوا أن يقتلوه على الصليب ويُدينوه بحسب العقوبة المذكورة في التوراة في سِفر التثنية بأن الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ ومحروم من رحمة الله، فلا يُرفع إلى الله بالإكرام. فقد بشّر الله تعالى عيسى في هذه الآية بأنك ستموت موتا طبيعيا، ثم تُرفع إليّ بإكرام، وبأن أعداءك الذين يسعون لقتلك على الصليب سيفشلون في مساعيهم، وسأبرِّئك وأنزِّهك من التهم التي يريدون إثباتها عليك، أيْ سأُنقذك من الصلب ونتائجه الوخيمة؛ وهي اللعنة والحرمان من النبوة والرفعِ. وفي كلمة "التوفِّي" أيضا إشارة دقيقة للإنقاذ من الصلب لأن المفهومَ الغالبَ على معنى "التوفي" هو الإماتة بموت طبيعي، أي الموت نتيجة المرض فقط، وليس بالضرب أو السقوط وغيره. لذلك فقد قال المفسرون - مثل صاحب الكشاف وغيره - في تفسير "متوفيك": "إني مميتك حتف أنفك". وهناك إشارة أوضح إلى ذلك في الفقرة الثالثة للآية، أي: مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. فكما جاءت جملة: مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا في المرتبة الثالثة في الترتيب القرآني، كذلك تحتل المقام الثالث في الترتيب الطبيعي أيضا، لأنه ما دام عيسى قد رُفع إلى الله تعالى بعد الموت الطبيعي كالأنبياء والمقدسين، فلا شك أنه قد أُنقذ من مكائد الكفار وتهمهم. والجملة الرابعة: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ جاءت في المقام الرابع في الترتيب القرآني، كذلك وردت في المقام الرابع في الترتيب الطبيعي أيضا، لأن غلبة متّبعي عيسى حصلت بعد كل الأمور المذكورة من قبل.
فزبدة الكلام أن هذه الفقرات الأربع وردت في الآية المذكورة بحسب الترتيب الطبيعي، وهذا ما يليق ببلاغة القرآن الكريم، لأن إيراد الأمور القابلة للبيان بحسب الترتيب الطبيعي هو كمال البلاغة وعين الحكمة، لذلك رُوعِي الترتيبُ الطبيعي في القرآن كله. فانظروا إلى سورة الفاتحة مثلا، فقد ورد فيها رَبِّ الْعَالَمِينَ أولا، ثم الرَّحْمنِ، ثم الرَّحِيمِ ثم مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ثم أوصل سلسلة الفيوض بحسب الترتيب الطبيعي بدءا من الفيض الأعم إلى الفيض الأخصّ.
وباختصار، فقد وردت في الآية الكريمة المذكورة قبل قليل الفقرات الأربعة بالترتيب الطبيعي في القرآن الكريم بحسب أسلوب معروف وكامل البلاغة. ولكن المشايخ المتعصبين المعتادين على: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[322] كاليهود، يبذلون كل ما في وسعهم لإثبات حياة المسيح ابن مريم، وعازمون على التحريف والتبديل في كلام الله، وينكرون بتكلف كبير ترتيب الله لجملتين من الجمل الأربعة، فيقولون: مع أن العبارة: مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ووَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وردتا بحسب الترتيب الطبيعي، لكن العبارة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ووَرَافِعُكَ إِلَيَّ لم تردا بحسب الترتيب الطبيعي، بل إن العبارة: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ متقدمة على: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ في الحقيقة. أقول مع الأسف الشديد بأنهم مسخوا كلام الله - أحسن المتكلمين جلّ شأنه - البليغَ بتحريفهم إياه عن مواضعه وترتيبه الطبيعي، إذ سلَّموا بالترتيب الطبيعي لجملتين من الجمل الأربعة واعتبروا جملتين منها خارجتين عن الفصاحة والبلاغة وعدّلوهما من عند أنفسهم؛ أيْ قدّموا المؤخَّر وأخّروا المقدَّم، ومع ذلك لم ينالوا نجاحا مع هذا القدر من التحريف على غرار اليهود، لأنه لو اعتُبرت الجملة: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ متقدمة على: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ على سبيل الافتراض المحال، لما نفع ذلك المحرِّفين شيئا، لأنه سيكون المعنى في هذه الحالة؛ أن يا عيسى إني رافعك إليّ أولا ثم مميتك. وهذا المعنى باطل بالبداهة لأنه يستلزم موت عيسى في السماء. والسبب في ذلك أن الإماتة مذكورة بعد الرفع ولا يتخللهما ذكر النـزول قط. فتبين من ذلك بجلاء أن عيسى سيموت في السماء حتما. غير أنه لو اختُرعت جملة ثالثة ووضُعت بينهما وقيل: يا عيسى إني رافعك ومنـزّلك ومتوفيك لاستقام المعنى. ولكن هذه العبارات لن تكون كلام الله تعالى بعد كل هذه التحريفات، بل إنها بسبب تدخّل الإنسان والتغيير والتبديلِ والتحريفِ الصريح فيها، ستُعدُّ كلام المحرِّف الذي قام بهذا التحريف بوقاحته وتجاسره. ولا شك أن هذه العملية إلحاد سافر وخيانة صارخة بكل معنى الكلمة.
وإذا قلتم بأننا لا نقوم بهذا التحريف والتبديل بغير ضرورة، بل نرتكب هذه الفعلة الجائرة بناء على حاجة ملحة لتتوافق آياتُ القرآن الكريم مع بعض الأحاديث، فجوابه الأول أن المبدأ المتَّبع عند المحدثين والمفسرين في حالة التعارض بين الآية والحديث هو أن يؤوَّل الحديثُ قدر الإمكان ليوافِق القرآن الكريم. فقد وردت في صحيح البخاري -كتاب الجنائز- رواية عن السيدة عائشة رضي الله عنها "أن الميت يعذَّب في قبره ببكاء أهله" ولكنها تتعارض مع الآية: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[323]، فأُوِّل الحديثُ على أنه لا يتعلق بالمؤمنين، بل بالكفار الذين كانوا راضين ببكاء أهلهم، بل وكانوا يوصونهم بذلك[324]. ثم هناك حديث آخر في صحيح البخاري جاء فيه: "قال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا"؟ ولكن السيدة عائشة رضي الله عنها لم تقبله بمعناه الحرفي والظاهري، بل قالت: إنه يعارض قول الله تعالى في القرآن الكريم: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى[325]، فرفضت حديث ابن عمر المذكور لسبب وحيد، وهو أن هذا المعنى يعارض القرآن الكريم. كذلك أوَّلَ المحققون حديثا ورد في صحيح البخاري: "ما من مولود يولَد إلا والشيطان يمسه حين يولد، إلا مريم وابنها"، لأنهم رأوه يخالف آيات القرآن الكريم: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[326] وقوله: إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ[327]، وقوله: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ[328]، فقالوا إن المراد من مريم وابن مريم هم أناس يحملون صفاتهما، كما قال شارح البخاري في شرح هذا الحديث: "قد طعن صاحب "الكشّاف" في معنى هذا الحديث وقال: إنْ صحّ، فمعناه كل من كان في صفتهما؛ لقوله تعالى إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ."
وبالإضافة إلى ذلك، فإن كل حديث يعارض آية قرآنية صريحة، جدير بالردّ بحسب الآية: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[329] والآية: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ[330]. وكانت وصية النبي الأخيرة بأن عليكم بالتمسك بكتاب الله، كما ورد في صحيح البخاري: "أوصى بكتاب الله". ثم مات على هذه الوصية. كذلك ورد في البخاري حديث آخر: "وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم، فخذوا به تهتدوا". وحديث آخر في البخاري: "ما عندنا شيء إلا كتاب الله". وكذلك: "حسبكم القرآن"، وحديث آخر في البخاري نفسه: "حسبنا كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء الله أحق". وهذا هو الأصل المحكم الذي تمسك به الأئمة الكبار. فقد جاء في "التلويح": "إنما يُردّ خبر الواحد من معارضة الكتاب". فلما كان خبر الواحد - بما فيه أحاديث البخاري ومسلم أيضا - جديرا بالرد في حال معارضته كتاب الله، فهل من الأمانة في شيء إذا عثر المرء على تعارض آيةٍ مع حديثٍ أن يتوجّه إلى قلب الآية رأسا على عقب دون التوجه إلى تأويل الحديث؟
لقد قلتُ قبل قليل بأنه كان من عادة الصحابة والسلف الصالح أنهم كلما وجدوا تعارضا واختلافا بين حديث وآية، انصرفوا إلى تأويل الحديث. أما الآن فقد جاء وقتٌ يحب الناس فيه الأحاديث أكثر من القرآن، واعتُبرت فيه كلمات الحديث محفوظة أكثر من القرآن الكريم أيضا! وحين يرون أدنى تعارض لحديثٍ مع القرآن، وإن كان في أبسط الأمور، لا ينتابهم أي شك في الحديث، بل يشرعون في تحريف القرآن كاليهود، فيحرفون الكلم عن مواضعه، ويضعونه في مواضع أخرى، حتى يضيفون بعض الكلمات من عند أنفسهم أيضا، ويجعلون أنفسهم مصداقا لـ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ويشترون لأنفسهم لعنة نزلت على اليهود من قبل نتيجة الأعمال نفسها.
ويقوم بعضهم بتحريفٍ من نوع آخر؛ إذ يقدّمون جملةَ مُتَوَفِّيكَ كما هي، ولكن يضيفون بعدها "إني محييك" من عند أنفسهم، ولا يخطر ببالهم مطلقا أن الله تعالى لعن المحرفين. ولقد كتب الإمام البخاري في نهاية صحيحه بأنه كان من أسلوب أهل الكتاب في التحريف أنهم كانوا يحرفون كلمات الله عن مواضعها عند القراءة. ولكن الحق أنهم كانوا يقومون بالتحريف من كلا النوعين، أي في الكتابة والقراءة أيضا، أما المسلمون فقد تشبَّهوا بهم من حيث التحريف في القراءة. ولولا الوعد الصادق: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[331] ومنعُه التحريف في الكتابة، لما كان مستبعدا أن يبدأوا بالتحريف في الكتابة أيضا رويدا رويدا، ولقدّموا رَافِعُكَ وأخّروا إِنِّي مُتَوَفِّيكَ في الكتابة.
وإذا سُئلوا أية مصيبة حلّت بكم حتى بدأتم قلب القرآن رأسا على عقب وتحريفه؟ قالوا: نفعل ذلك ليتوافق القرآن الكريم بشكل من الأشكال مع الأحاديث التي يبدو القرآن معارضا ومخالفا لها. ولا يذهب وهْل هؤلاء المساكين قط إلى أنه إذا عارض الحديثُ القرآنَ فيجب أن نؤوِّل الحديثَ وليس القرآنَ، لأن أحرف القرآن موضوعة في أماكنها المناسبة كالجواهر المرصّعة، وأن كل حرف من القرآن الكريم ونقطة منه، منـزّهة عن تصرّف الناس وتدخّلهم، وذلك على عكس الأحاديث؛ فهي ليست محفوظة الألفاظ، كذلك لم يُهتَم مثل القرآن الكريم بحفظ كلماتها ووضعها في أماكنها، لذلك يوجد فيها تعارض داخلي، وهذا يدل على أن ذاكرة الرواة خانتهم في أماكن التعارض.
وأقتبس فيما يلي بعضا من الأماكن المتعارضة من صحيح البخاري؛ الذي يُعتبَر أصح الكتب، بل هو الأصح حقيقةً بعد كتاب الله.
فمنها حديث جاء فيه: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا. وقد ورد في البخاري نفسه على عكس ذلك: أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَرُزِقَا وَلَدًا، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ.
كذلك هناك تعارض بين الأحاديث الواردة في الصفحة 464 و 26[332]. وهناك حديث آخر جاء فيه أن النبي سُئل عن الفترة الزمنية بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فقال: أربعون سنة،[333] مع أنه ثابت برواية صحيحة أن باني الكعبة هو إبراهيم وباني البيت المقدس هو سليمان ، والفاصل الزمني بينهما يربو على ألف عام. لذلك علّق ابن الجوزي على هذا الحديث قائلا: "فيه إشكال؛ لأن إبراهيم بنى الكعبة، وسليمان بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة." كذلك هناك تعارض كبير بين أحاديث المعراج أيضا. وقد ورد في كتاب الصلاة: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا." ولكن لم يُذكر فيه مصير الطست الذهبي الذي أُعطيه في اليقظة تماما، ولمن سُلِّم.
على أية حال وصل السماءَ، ومرّ بإبراهيم في السماء السادسة. ومرّ بآدم قبل غيره، ثم مرّ بإدريس، ثم بموسى ثم مرَّ بعيسى بعدهم ثم مرّ بإبراهيم، ثم رأى الجنة بعدهم كلهم وعاد. وفي كتاب بدء الخلق حديث يقول فيه النبي ما مفاده: كنت بين النوم واليقظة عند البيت إذ جاءني ثلاثة أنفار على هيئة رجال ثم جيء بدابّةٍ دون البغل وفوق الحمار، ثم عُرج بي إلى السماء، ورأيت يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في الرابعة، ورأيت هارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وحين جاوزتُ مقام موسى بكى. وحين وصلت السماء السابعة وجدت إبراهيم هنالك.
ثم ورد في البخاري نفسه حديث آخر جاء فيه ما مفاده أنه رأى إبراهيم ليلة المعراج في السماء السادسة، ولم يُذكَر البراقُ في هذا الحديث. بل كلّ ما ورد فيه هو أن جبريل أخذه إلى السماء آخذا بيده. وورد في الحديث نفسه أنه رأى آدم أولا ثم إدريس ثم موسى ثم عيسى ثم إبراهيم.
وقد ورد في كتاب المناقب: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا، إِذْ أَتَانِي آتٍ... فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي.. ثُمَّ حُمِلْتُ على الْبُرَاقُ حَتَّى أَتَيتُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا.. ووجدت يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارونَ في الخامسة، وموسى في السادسة وإبراهيمَ في السابعة.
وقد ورد في كتاب التوحيد والرد على الجهمية في صحيح البخاري أنه قد أتى النبي في الكعبة ثلاثة نفرٍ، وذلك قبل أن يُبعث نبيا، أيْ كان ذلك قبل نزول الوحي والبعثة، فكان نائما في المسجد الحرام حين عُرج به. وقد ورد في كتاب الحديث نفسه أنه كان قد بُعث نبيا قبل أن يُعرج به، ثم أتى السماء بغير البراق، ووجد إدريس في السماء الثانية، وهارون في السماء الرابعة وإبراهيم في السماء السادسة وموسى في السماء السابعة. فلما مرّ بموسى وجاوز السماء السابعة قال موسى: "ربِّ لم أظن أن يُرفع عليَّ أحد". وهذا هو الرفع نفسه الذي أشير إليه في الآية: رَافِعُكَ إِلَي. وجاء في نهاية هذا الحديث: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي المسْجِدِ الْحَرَامِ.
لقد جاء في الأحاديث الخمسة المذكورة دون استثناء أنه قد فُرضت خمسون صلاة أثناء المعراج بدايةً، ثم طلب النبي تخفيض عددها إلى أن بقيت خمسٌ فقط.
إن الاختلاف في هذه الأحاديث الخمسة لجدير بالانتباه بوجه خاص. لقد ورد في حديثٍ ذكرُ "البُراق"، وجاء في حديث آخر أن جبريل أخذه بيده إلى السماء، وجاء في حديثٍ أن ذلك حدث في اليقظة، وجاء في غيره أن ذلك كان أثناء نومه . وورد في حديثٍ أنه كان مستلقيا في حجرة، وجاء في آخر أنه كان في الكعبة. وذُكر في حديثٍ أن جبريل جاءه وحده، وفي حديث آخر أنه جاءه ثلاثة نفر. ذُكر مرة أنه رأى عيسى ويحيى بعد آدم، وجاء في غيره أنه رأى إدريس بعد آدم. ذُكر في حديثٍ أنه وجد عيسى في السماء الثانية وموسى في السادسة، ثم ورد في غيره أنه رأى موسى أولا ثم رأى عيسى. وقد ورد في حديثٍ أنه وجد إبراهيم في السماء السابعة، وورد في حديثٍ آخر أنه وجد فيها موسى، ووجد إبراهيم في السماء السادسة.
فباختصار، هناك اختلافات كثيرة، وإنّ ذكرها بالتفصيل يحتاجُ إلى أوراق كثيرة. فلو تمكّن كل راوٍ من الاحتفاظ بصحة الكلمات التي خرجت من فم النبي بالضبط، لما وُجد هذا الاختلاف والتعارض في رواياتهم. لا شك أن بعض الرواة قد نسوا بعض الكلمات بسبب الضعف في الذاكرة، أو نسوا محلها ومناسبتها؛ الأمر الذي أدّى إلى هذه الاختلافات الصريحة.
فما دام هذا هو الأسلوب لضبط كلمات الحديث في كتاب هو أصح الكتب بعد كتاب الله، ففي هذه الحالة إذا وُجد حديث يعارض القرآن الكريم بصراحة تامة، أو يحتوي على أمور تخالف إشارات النص، فلماذا يُسلَّم بمعناه الذي يخالف القرآن الكريم بكل وضوح؟ إذا كان التخلي عن مفهوم الحديث مقابل مفهوم القرآن عند تعارضهما شاقا على أحد، فعليه أن يلقي نظرة على التعارض الداخلي بين الأحاديث نفسها، ثم ليعدل. أين مجال المقارنة بين القرآن والأحاديث من حيث الحفظ، وذلك إضافة إلى صفة القرآن الكريم المتميزة بكونه وحيا متلوًّا. فكما لا يوجد للقرآن الكريم نظير في البلاغة والحقائق والمعارف، كذلك لا يوجد له مثيل من حيث صحته الكاملة وحفظه وكونه لا ريب فيه، لأن الله تعالى قد ضمن حفظ ألفاظه وترتيبها.
وبالإضافة إلى ذلك، سواء أكان حديثا أو قول صحابي، فقد اهتم به على أية حال بشرٌ ليسوا معصومين من السهو والنسيان. فلا يسعهم أن يجعلوا الأحاديث والأقوال مثل القرآن من حيث الحفظ التام والصحة الكاملة. وإن عجزهم في هذا المجال مذكور في إعجاز ذكرتْه الآية: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[334]. فما دام الإتيان بمثل القرآن الكريم في كل شيء مستحيلا، فكيف يسع هؤلاء الناس أن يجعلوا الأحاديثَ مِثل القرآن من حيث الصحة والحفظ؟
لقد أجاب البعض بُغية إزالة التعارض الموجود بين أحاديث المعراج في البخاري أن المعراج لم يكن مرة واحدة، بل كان خمس مرات؛ أحيانا في اليقظة وأحيانا أخرى في النوم. وكان بعضها بعد أن بدأ نزول الوحي وبعضها قبل بداية نزوله. وكان بعضها في بيت الله وبعضها في حجرة بيته ، ولذلك حدث الاختلاف في رؤية الأنبياء أيضا؛ إذ رآهم في سماء مرة ورآهم في سماء غيرها مرة أخرى.
وليكن واضحا أن هذا الجواب لرفع الاختلاف ليس صحيحا، حتى لأنه لو أقررنا بحدوث المعراج خمس مرات، فإن الاختلاف في رؤية الأنبياء مازال قائما؛ لأنه يثبت من الأحاديث نفسها أن للأنبياء مقامات محددة في السماوات. فحديث المعراج الذي أورده البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، يعلن بأعلى صوته أن كل نبي مستقر في مقامه المحدَّد له في السماء ولا يتعدّاه، لأنه قد ورد أيضا في الحديث نفسه أن النبي رأى موسى في السماء السابعة، وحين جاوزها قال موسى: "ربِّ لم أظن أن يرفع علي أحد". والمعلوم أنه إذا كان بوسع موسى أن يتنقّل بين السماوات فينتقل إلى السماء الخامسة مرة والسادسة أو السابعة مرة أخرى لـمَا ابتهل وبكى، إذ كان بإمكانه أن يتجاوز إلى ما فوقها أيضا كما تجاوز السماء الخامسة ووصل إلى السماء السادسة أو السابعة. ولكن يتبين من القرآن الكريم أنه لا يسع أحدا أن يتجاوز في معراجه نقطته النفسية.
إضافة إلى ذلك هناك طامّة أخرى نواجهها عند التسليم بحدوث المعراج خمس مرات، وهي أننا عبثًا ومن دون مبرر، نضطر للاعتراف بالنسخ في القرآن الكريم وفي أوامر الله تعالى الدائمة وغير القابلة للتبدّل، وكذلك نضطر للاعتقاد أيضا أن الله الحكيم المطلق قد ارتكب نسخا عبثيا لا مبرر له، ثم عاد متحسِّرًا إلى أمره الأول؛ لأنه إذا كان المعراج قد حدث خمس مرات، فلا بد من الاعتراف أن خمسين صلاة فُرضت عند المعراج الأول ثم أُنقصت إلى خمس. فمثلا لقد فُرضت خمسون صلاة في المعراج الأول ثم ظل النبي - كما تؤكد الأحاديث الخمسة الواردة في البخاري - يتردد على الله تعالى وعلى موسى بُغية تخفيض عددها حتى بقيت خمس صلوات في نهاية المطاف. وقرّر الله تعالى أن الأمر بخمس صلوات لن يُغيَّر الآن إلى الأبد، وقد نزل القرآن أيضا يأمر بخمس صلوات، وبدأ العمل بأداء خمس صلوات بحسب آيات القرآن المحكمات، وأُخبِر الجميع أيضا بفرضية الصلوات الخمس إلى الأبد. ثم حدث معراج ثانٍ بعد فترة وجيزة وأُلغيت القرارات السابقة كلها، وقدِّمت القضية كلها مرة أخرى ففرض الله تعالى خمسين صلاة مرة أخرى دون أن يراعي الأمر الوارد في القرآن الكريم من قبلُ، بل نسخه نهائيا! ثم تردد النبي على الله وعلى موسى مرارا - على غرار المرة الأولى - من أجل التخفيض من عددها، ونجح في تخفيض العدد إلى خمس صلوات، ووافق الله تعالى أيضا على خمس صلوات، وسُجل هذا الحكم غير القابل للتغير في القرآن! ولكن اشرأبّت المصيبة نفسها مرة أخرى عند المعراج الثالث، وفُرضت خمسون صلاة مرة أخرى، ونُسخت آيات القرآن غير القابلة للتبديل! ولكن النبي استطاع هذه المرة أيضا تخفيض عددها من خمسين إلى خمسة بعد أن تحمل معاناة كبيرة، ولكنها فُرضت مرة أخرى خمسينَ في المعراج الرابع! ولكنه استطاع تخفيضها إلى خمس بعد التوسلات الكثيرة والمثول أمام الله تعالى مرات عديدة كما جاء في الحديث! ثم قطع الله على نفسه عهدا صارما أن يبقى عددها خمس صلوات، ولكن فُرضت خمسون صلاة مرة أخرى عند المعراج الخامس، غير أن الله تعالى قد وافق على خمس بعد مثوله أمامه مرات كثيرة! ثم ما نزلت آية أخرى بعد آيات منسوخة.
فهل يُعقل أن تكون أوامر الله تعالى غير ناضجة وغير ثابتة ومليئة بالتعارضات إلى هذا الحد؛ بحيث يفرض خمسين صلاة أولا، ثم ينضج الأمر فيما بعد فيحدِّد خمس صلوات إلى الأبد؟ ثم يخلف وعده ويحوّلها إلى خمسين مرة أخرى، ثم يجعلها خمسا إلى الأبد رحمة منه؟ ثم يخلف وعده مرات عديدة ويَنسخ آيات القرآن الكريم مرة بعد أخرى، وذلك دون أن تنـزل آية ناسخة بحسب منطوق الآية: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[335]؟
الحق أن هذه الفكرة استهزاء بالوحي الإلهي، والذين تبنَّوها قصدوا من ورائها أن يزيلوا التعارض بوجه من الوجوه. ولكن زواله بمثل هذه التأويلات مستحيل تماما، بل يتفاقم كمُّ الاعتراضات أكثر من ذي قبل. إن الحديث الوارد في كتاب التوحيد في صحيح البخاري الذي جاء فيه: "قبل أن يوحى إليه" هو نفسه فيه تعارض، لأنه قد ورد فيه أن النبي عُرج به قبل بعثته من ناحية، ثم جاء في الحديث نفسه أن خمسين صلاة فُرضت في المعراج ثم خُفِّف عددها في نهاية المطاف فصارت خمسا إلى الأبد. والمعلوم أنه إذا كان المعراج قبل البعثة، فما علاقته بفرض الصلوات؟ وكيف نزل جبريلُ عليه قبل الوحي، ولماذا نزلت الأوامر المتعلقة بالرسالة قبل البعثة؟
فملخص الكلام أن في هذه الأحاديث تعارضا شديدا. مع أنه لا يمكن القول إنها موضوعة، بل إن القاسم المشترك بينها واجبُ التسليم به والعمل به بشرط عدم معارضته القرآن الكريم، غير أنه من الواجب أيضا أن تُقدَّم عليها نصوص القرآن البينة والقطعية. وإذا وجد محدَّثٌ - نال علما قطعيا ويقينيا بواسطة التعليمات المتواترة - وكان وحيه المبني على التحديث مطابقا ومتوافقا مع القرآن الكريم، فقدَّمه على الأحاديث المتعلقة بالأخبار والقصص والخارجة عن سلسلة التعامل، وجعل هذه الأمور الظنية تابعة لليقين الذي ناله من مصدر الفيض الذي نبع منه وحي النبوة؛ فهذا حقه، لأنَّ جعْل الظن تابعا لليقين هو عين المعرفة وسيرة المؤمنين بعينها.
وإذا قيل إن هناك تعارضا في بعض المواضع في القرآن أيضا، كما يتبين من ست عشرة آية من آياته أن الذي يموت لا يمكن أن يعود إلى الدنيا ولن ترِد على أحدٍ موتتان، وإلى جانب ذلك ذُكِر فيه أيضا أننا أَمَتْنَا قومًا من بني إسرائيل ثم أحييناهم، وأَمَتْنا النبي عُزيرا أو غيره إلى مائة عام ثم أحييناه، وكذلك قد أُحيِيَ أربع طيور بيَدِ إبراهيم، وهَلُمّ جرًّا.
فجوابه أنه لا تعارض ولا اختلاف في القرآن قط، بل الحق أن هذه شبهة نتجت عن الجهل وقلة الفهم فقط. صحيح تماما أنه يتبين من ست عشرة آية من القرآن الكريم بصراحة تامة أن الذي يموت[336] لا يعود إلى الدنيا على الإطلاق، وهذا ما يتأكّد من الأحاديث أيضا. ولكن ليس صحيحا على الإطلاق أنه كلما ذُكر الإحياء بعد الممات كان المراد هو الإحياء بعد الموت الحقيقي، بل من معاني الموت اللغوي؛ النومُ، وكل نوع من الإغماء أيضا. فما الحاجة إلى تعريض الآيات للتعارض دون مبرر؟ وإذا عادت أربعة كائنات إلى الحياة على سبيل الافتراض، فهذا لا يُعَدّ "عودة الروح"، لأنه لا بقاء لروح الحشرات أو أيّ حيوان سوى الإنسان. فلو أُحيَتْ لكانت مخلوقا جديدا.
فقد ورد في بعض جرائد عجائب المخلوقات أنه لو سُحِقت العقارب وأُغلقت في إناء بطريقة معينة، لتولّدت من خميرتها عقارب أخرى كثيرة. فهل لعاقل أن يتصور أن العقارب الميتة نفسها أُحيِيَتْ من جديد؟ بل المذهب الحقيقي الذي يتبين من القرآن الكريم هو أنه لم يُعطِ أيّ مخلوق أرضي - سوى الجِنَّة والناس - روحا أبدية. هل من المستبعد أن يخلق الله تعالى طيرا من مادة ما كما يخلق الأشياء المختلفة؟ ولكن إعادة الروح التي خرجت من الجسد نتيجة الموت الحقيقي تنافي وعد الله وسنته. يلاحَظ أنه كلما ورد في القرآن الكريم ذكر إحياء الموتى، وقيل إن قوما ما أو شخصا فلانيا أُحيِيَ بعد الممات، استُخدِم دائما فعل "الإماتة" ولم يُستخدَم فعل "التوفِّي"، والسر في ذلك أن المعنى الحقيقي "للتوفِّي" هو الإماتة وقبض الروح، أما الإماتة فليس معناها الحقيقي الإماتة فقط، بل من معانيها الإنامة والإغماء أيضا. غير أنه من الممكن والوارد تماما أن تُمزَّق دابة أو إنسان أو طيرٌ، ومع ذلك ينقذه الله تعالى من الموت الحقيقي، وتبقى روحه على علاقة مع الجسد الممزَّق كعلاقتهما في حالة النوم تماما. إن الله تعالى قادر على كل شيء، ولكنه لا يفعل ما يخالف صفاته الأزلية وعهدَه ووعدَه، ويفعل كلّ ما دون ذلك، فتدبّر في هذا المقام ولا تكن من الغافلين. منه.
رأي السيد سيد أحمد خان كي ايس آئي، في الإلهام
وبياننا واقعَ الأمر
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
ليكن معلوما أن سيّد المحترم أظهر في مجلته "عليغره غازيت" رأيا معاديا للقرآن الكريم والأحاديث. وألخص فيما يلي كلامه: كلّ ما خطر بالبال دفعة واحدة - ومهما كانت طبيعته - فهو إلهام، بشرط ألا يكون هناك تعليم أو تعريف أو بيان موجِّهًا إلى ذلك. إن هذا النوع من الإلهامات ليس بشيء غريب، بل يتلقاها أناس كثيرون. فيتلقاها المتمرس في علم المنطق في مجال المنطق، والفيلسوف في مجال الفلسفة، والطبيب في مجال الطب وتشخيص الأمراض، وكلُّ أهل الحرفة في مجال حرفتهم، وهكذا دواليك. ولا علاقة لها بكون المرء مسلما أو غير مسلم، بل هي أمر طبيعي عند الإنسان. غير أن هناك حاجة لطبيعةٍ قابلة لتلقّي الإلهام. من الممكن أن يحظى متلقي الإلهام بطمأنينة قلبية نتيجة بعض الإلهامات، ولكن لا يمكن أن يسفر ذلك عن نتيجة تنفع الآخرين أو تهبهم اليقين والسكينة، أو تُثبت حقيقة ذلك الحادث ومصداقيته. وفي معظم الحالات؛ إن لسلسلة الإلهامات علاقة مع أمور معرفية، وهي أفكار محضة، ولا دليل على كونها أمورا متحققة وثابتة. إن إلهامات الصوفيين لا تتعدى مرتبة الأفكار النفسانية، وهي سخيفة وواهية ودون جدوى، إذ لا تنفع خلق الله شيئا ولا تضرهم. لقد اكتمل الدين بقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فليس للإلهام أن يضيف إليه شيئا جديدا. والذين يعتبرون الملهَم مقرَّبا إلى الله، ليس بوسعهم أن يحكموا إذا كان ادّعاؤه بالإلهام صحيحا، أم أن في ذهن صاحبه خللا ما، أو هل وجه الاطمئنان الذي يجد نفسه مقتنعا به جدير بالاعتماد أم لا؟ لا يملك الملهَمون أو الذين يُدعَون بالصوفيين أو أولياء الله أكثر من أنهم يتشبثون بأفكارهم النفسانية المحضة التي لا أصل لها ويعدّونها صادقة. فإن تقدمهم في سبل السلوك ليس إلا تقدُّما في الأوهام. الحق أننا لسنا بحاجة إلى الإلهام أو الملهَم من أجل الدين، ولا للمَعَاد ولا للتقرب إلى الله ولا للتمييز بين الحق والباطل، حتى وإن اجتمع الناسُ حول ملهَم كما يجتمع عبدة الأوثان حول الوثن.
فملخص الكلام أن الإلهام شيء لا جدوى منه ولا برهان على صحته. فافهَم، هذا ما ألهمني ربي. تم كلامه.
لدحض وساوس السيد المحترم؛ أرى من المناسب أن أبين أولا وقبل كل شيء أن كل ما قاله عن الإلهام بأنها أفكار نفسانية بحتة، واختلقتها أذهان الملهمين؛ فإن رأيه هذا يدل على أنه لا يزال يجهل ذلك التعليم الذي قدَّمه الله جلّ شأنه ورسولُه عن الإلهام.. أي الوحيِ.
فليكن واضحا أنه لم تُستخدَم في القرآن الكريم كلمة الإلهام للتعبير عن المكالمة الإلهية، وقد وردت في مكان واحد فقط وذلك بمعناها اللغوي فحسب، وذلك في قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[337]، ولا علاقة لها بما نحن فيه، بل إنما تعني أن الله تعالى، ولكونه عِلّة العلل؛ يمدُّ الأشرار بحسب حالهم، كذلك يؤيد الصالحين بالأفكار والتدابير والسبل المطلوبة بحسب حالهم وعلى قدر عواطف نفوسهم أو حماس تقواهم بحكم ناموس الطبيعة الذي سنّه هو . أيْ يهديهم إلى الأفكار الجديدة والخطط المطلوبة، أو يزيد في حماسهم أو عواطفهم، أو يُظهِر للعيان بذرتها الخافية. فمثلا؛ يفكّر اللص في طريقة ناجحة للنقب، فيُطلَع عليها، أما المتقي فيتمنى أن يجد سبيلا لنيل قوة لسبل الحلال، فيُهدَى إليها. فهذا يُسمَّى إلهاما عموما، وهو ليس خاصا بسعيد أو شقي، بل يستفيد من هذا النوع من الإلهام جميع البشر على قدر علاقتهم بعلّة العلل.
ولكن هناك نوع آخر من الإلهام، وهو يفوق ذلك بكثير، وقد ذكره الله تعالى في كلامه المقدس بلفظ "الوحي" وليس بلفظ "الإلهام". وهو اسم لتجلّي الله تعالى الخاص، وينـزل بكثرة على الخواص والمقرّبين فقط. وعلته الغائية؛ هي تجلِّي الله تعالى بأسلوب المكالمة والمخاطبة والكلامِ الحلو اللذيذ للإخراج من ورطة الشبهات والشكوك أو للاطلاع على أمر جديد أو مكتومٍ، أو الإخبار برضا الله أو عدمه، أو الإنباء بإرادته ، أو ليهب الأمن في موطن الخوف ويبعث الاطمئنان أو يبشر بشيء. وحقيقته أنه إلقاء من الغيب بالكلمات التي تُدرَك في غالب الأحيان في حالة غيبوبة عن الإدراك؛ وذلك بصورة سماع صوت ما، أو جريان كلمات على اللسان، أو رؤيا ما، ولا دخل فيها للنفس أو الأفكار النفسانية قط. بل هو صوت طبيعي ينتج عن الإرادة الإلهية والنفخ الرباني الذي تكتشفه القوة الحاسة لمتلقي الوحي.
عندما تتطهر الروح من شوائب النفس بصبغة حقيقة الإسلام على الوجه الكامل، وتضع رأسها على عتبات الله الغني الصمد بالرضا الكامل والوفاء التام، وتستعد لحب الله وعشقه بعد التضحية الصادقة التي يراد منها التضحية بالنفس والمال والشرف والمستلزمات الأخرى المحببة إلى النفس، وتنعدم جميع حجب النفس التي كانت تُباعد بينه وبين ربه، فإنه يحدث انقلاب عظيم وتغيّر كبير في صفات هذا الإنسان وحالته الأخلاقية وجميع ظروف حياته، وتحدث له ولادة جديدة وحياة جديدة، ويغيب وجود الغير كليا في نظره، عندها يصبح مثل هذا الإنسان جديرا بأن يحظى بمكالمة الله تعالى بكثرة. والفائدة من المكالمة الإلهية هي أن يترقى الإنسان من المعرفة المحدودة والمشتبهة، ويصل إلى درجة الشهود وكأنه رأى الله تعالى. فهذا هو المقام الذي تنتهي عليه جميع مقامات المعرفة الإلهية. وهذه هي ذروة الكمالات البشرية التي لا يتسنى لعطاشى المعرفة أكثر منها في هذه الدنيا قط. أما الأنبياء والمحدَّثون؛ فالطريق الطبيعي لهم لنيل هذه المرتبة في معظم الحالات هو أنه عندما يريد الله تعالى أن ينـزل على أحد منهم كلامه، يُلقي عليه نوعا من الوجد والغَشْي الروحاني دون توسط أسباب مادية. عندها يفنى وجود هذا الإنسان نهائيا، ويخوض عميقا بجذب خاص من الله دون أن يكون له أيّ خيار في ذلك. وعندما يستفيق، يجد في ذاكرته كلامًا حلوًا لذيذا، وهو الوحي الإلهي.
الكلام الذي ينـزل على أحباء الله تعالى والمقدسين ليس أمرا موهوما أو مبنيا على أفكار خيالية محضة يمكن لنفس الإنسان أن تخلقه من عندها، بل هو في الواقع والحقيقة كلام ذات لا يُدرَك، فيشكل هذا الكلام نفسه في نظر العارفين الدليل الأمثل والأعلى على وجوده. إن القرآن الكريم والأحاديث النبوية تكفي للمسلم دليلا على سنّة الله في إنزال كلامه على عباده. إن كلام الله تعالى مع أنبيائه وإنزاله كلامَه على أوليائه؛ مثل وحيه إلى أم موسى، وتشريفه الخضر بكلامه، وكلامه مع مريم الصديقة بواسطة الملاك إنما هو من الأمثلة الكثيرة الموجودة في القرآن الكريم بحيث لا حاجة للخوض في تفاصيلها.
وفي صحيح البخاري حديث جاء في باب مناقب عمر وهو: لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ.
كذلك لقد ظل مشاهير الأولياء جميعا يشهدون بناء على تجاربهم الشخصية أن أولياء الله يحظون بمكالمات الله ومخاطباته، فيسمعون كلاما حلوا لذيذا من ربهم بكثرة عند الدعاء وغيره أيضا. ويجب الانتباه إلى كثرة ما يشهد به السيد عبد القادر الجيلاني في كتابه "فتوح الغيب" على أن كلام الله تعالى ينـزل حتما على أوليائه المقربين. ويكون كلاما حقيقيا وليس إلهاما فقط. وكذلك يقول مجدد القرن الثاني عشر[338] في "المكتوبات" المجلد الثاني الصفحة 99، ضمن مكتوب إلى المدعو "محمد صديق" ما يلي:
"اعلم أيها الصديق أن كلامه سبحانه مع البشر قد يكون مشافهة وذلك لبعض من الأنبياء، وقد يكون ذلك لبعض الكمّل من تابعيهم، وإذا كثر هذا القسم من الكلام مع واحد منهم سمِّي محدَّثا، وهذا غير الإلهام وغير الإلقاء في الروع وغير الكلام الذي مع الملَك. إنما يخاطب بهذا الكلام الإنسان الكامل. والله يختص برحمته من يشاء."
يتبين من هذه العبارات أن الإلهام شيء، والمكالمة الإلهية شيء آخر. كذلك يعترف سيد أحمد خان بصراحة تامة بالكلام المذكور آنفًا في الصفحة 7 من كتابه "تبيين الكلام". فعلى القراء الكرام أن يقرأوا تلك الصفحة ليعلموا أن سيد أحمد المحترم قد أقرّ هذه الأمور من قبل، أما الآن فينكرها لمصلحة ما.
أما قوله بأنه لا جدوى من الإلهام فهو كلامٌ بلا جدوى بحد ذاته، لأنه إذا كان "الإلهام" الذي ذكره هو في مقاله بلا جدوى، فليكن، ولكن كلام الله ليس بلا جدوى، وكيف يمكن أن يكون بلا جدوى، والعياذ بالله؛ لأنه هو الوسيلة الوحيدة للحصول على المعرفة الكاملة التي بسببها يؤمن الإنسان بوجود الله تعالى في هذه الدنيا المُغبَّرة بسبب أفكاره المختلَقة، فيسمع من فم ذلك الحيّ القيوم صوت "أنا الموجود"، ويصل إلى درجة حق اليقين للإيمان بالمتكلِّم نتيجة مئات الأنباء الخارقة للعادة، والأسرار العالية التي تنكشف بسبب هذا الكلام. ولا يشقى جليس هذا الشخص أيضا من المنافع والفوائد الروحانية، بل ينال قوة اليقين رويدا رويدا وكأنه يرى الله .
فلو أعلن سيد أحمد في جريدة ما بأنه لا يؤمن بأن الإنسان يمكن أن يحظى بمرتبة المكالمة مع الله تعالى، وأنه يُنكر جميع الشهادات التي قدمها أصحاب التجارب الروحانية والرسلُ والأنبياءُ والأولياء، لكان من واجبي أنا العبد المتواضع أن أوجّه إلى سيد أحمد دعوة مفتوحة للاختبار - بواسطة جريدة - بأسلوب يفوق العادة وقد سنّه أنبياءُ الله الأطهار. وإذا كان سيد أحمد طالب حق، سيقبل هذه الدعوة الروحانية بكل سرور وسعادة بالغة. والسلام على من اتبع الهدى.
الإعلان عن جائزة ألف روبية حول مفهوم "التوفِّي" و"الدجال"
فليتضح للمسلمين جميعا أنه قد تبيّن من القرآن الكريم وأحاديث النبي بكل جلاء أن المسيح ابن مريم قد مات بعد قضاء حياته المادية على الأرض بحسب الآية: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ[339]. يتبين من ست عشرة آية قرآنية وكثير من الأحاديث الواردة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح، أن الذين يموتون لا يُرسَلون إلى الدنيا للسكن والعيش فيها مرة ثانية. كما لا تصيب أحدا موتتان على وجه الحقيقة والواقع، ولا يوجد في القرآن الكريم قانونُ توريثٍ للعائدين إلى الدنيا بعد الموت. ولكن مع كل ذلك يُصرُّ المشايخ المعاصرون بشدة متناهية على أن المسيح ابن مريم لم يمت، بل رُفع إلى السماء حيا، وما زال موجودا فيها بالحياة المادية والدنيوية. ويقولون بكل تجاسر ووقاحة بأن فعل "التوفّي" الذي ورد في القرآن الكريم بحق المسيح لا يعني الموت، بل معناه الأخذ كاملا؛ أيْ قبض الجسد أيضا مع الروح. ولكن هذا الاستنباط افتراء سافر منهم. إن الأسلوب الشائع والمتداول في القرآن الكريم بالتزام عام هو أنه قد استخدم هذا الفعل دائما وفي كل مرة بمعنى قبض الروح والإماتة. والأسلوب نفسه ملحوظ في كافة أحاديث النبي وأقواله أيضا. منذ أن عُمرت جزيزةُ العرب في الدنيا وجاءت اللغة العربية إلى حيّز الوجود، لا يثبت من أي قول من أقوال أهلها القديمة أو الحديثة استخدام فعل "التوفي" بمعنى قبض الجسد. بل كلّما استُخدم فعل "التوفّي" بحق الإنسان وكان الفاعل هو الله، فقد جاء دائما بمعنى الإماتة وقبض الروح فقط، وليس بمعنى قبض الجسد قط. ولا يخالف هذا المبدأ أيّ كتاب من كتب اللغة على الإطلاق، ولا يعارضه مَثَلٌ أو قولٌ من أقوال أهل اللغة؛ أي لا توجد أدنى إمكانية لمخالفة هذا المبدأ. وإذا استطاع أحد أن يقدّم- من القرآن الكريم أو حديث رسول الله ، أو من أشعار العرب وقصائدهم، أو من منظومهم ومنثورهم القديم أو الحديث- استخدام فعل التوفي بحق ذوي الأرواح - حين يكون الفاعل هو الله تعالى- بأي معنى سوى قبض الروح والإماتة؛ فها أنا أُقرّ قرارا صادقا وشرعيا حلفا بالله جلّ شأنه بأنني سأدفع له ألف روبية نقدا ببيع جزء من أملاكي، وسأعترف أيضا بعلوِّ كعبه في علم القرآن والحديث. وكذلك إذا أثبت المولوي محمد حسين البطالوي - أو مَن كان مِن شيعته - أن كلمة "الدجال" قد وردت في صحيح البخاري ومسلم بحق أيّ دجال سوى الدجال المعهود؛ فأقول حلفا بالله الذي نفسي بيده إنني سأدفع له أيضا ألف روبية نقدا، غرامةً عليّ كيفما تيسَّر. فليأخذوا مني عهدا خطيا أو يكتبوا شهادة على أوراق رسمية. إنني أخاطب في هذا الإعلان بوجه خاص المولوي محمد حسين البطالوي الذي ادّعى كبرا وغرورا أنّ فعل التوفّي الوارد في القرآن الكريم بحق المسيح قد جاء بمعنى الاستيفاء.. أي الأخذ بالكامل.. أي رفع الجسد والروح معا على هيئتهما، وعدم ترك أيّ جزء من الوجود المكوَّن من الجسد والروح، بل قبضه بالكامل حيا وسالما على هيئته الموجودة. وإنني أنشر هذا الإعلان مقرونا بالشرط رافضا هذا المعنى.
كذلك قد ادّعى المولوي محمد حسين ادّعاء كبيرا - بناء على أهوائه النفسانية، وجهلا منه بأن كلمة "الدجال" التي أُطلقت على الدجال المعهود مرارا في صحيح البخاري ومسلم - قائلاً بأن "الدجال" ليس اسما خاصا بالدجال المعهود، بل قد أُطلق في تلك الكتب على دجالين آخرين أيضا. وعند ادّعائه هذا أعلن أيضا بكل قوة وشدة علوَّ كعبه في علم الحديث. فنشرت هذا الإعلان المقرون بالشرط رافضا هذا المعنى الواسع لكلمة "الدجال"، ومدّعيا أن هذه الكلمة قد أُطلقت على الدجال المعهود حصرا، واختُصَّتْ به كعَلَم.
فلو تمّكن المولوي محمد حسين- ومَن كان على شاكلته من المشايخ- من إثبات ادّعائهم المذكور والمتعلق بفعل "التوفِّي" و"الدجال" لاستحقوا ألف روبية، وسأنشر أيضا في بضع الجرائد إقرارا عاما بأن المولوي محمد حسين وأقرانه الأفاضل محدِّثون ومفسرون كبار فعلا، ومطلعون على أسرار القرآن الكريم والأحاديث النبوية ودقائقهما. وإن لم يثبت ذلك، فسيستبين أنهم عاجزون عن فهم معاني القرآن والحديث السطحية أيضا دَعْ عنك الدقائق والحقائق، بل هم أغبياء وخبثاء وأعداء الله والرسول في الخفاء، مختلقين، إلحادا منهم، معانيَ جديدة من عند أنفسهم، ومعرضين عن المعاني الحقيقية. كذلك لو أثبت أحد أن الآيات القرآنية والأحاديث التي تصرح بعدم عودة الأموات إلى الدنيا ليست قطعية الدلالة، ولو أثبت أيضا أن فعل التوفي قد استُخدم بمعنى آخر سوى الموت والإماتة، وأن للتوفي عدة معانٍ عديدة مثل النوم والغشي والكفر والضلالة والاحتضار أيضا، ولو أخرج معنى التوفي، مثل: توفاه الله مائة عام ثم بعثه، لأعطيتُه أيضا ألف روبية نقدًا دون أدنى تردد.[340]
الــــمُــــعْــــلِــــن
العبد المتواضع
غلام أحمد، حارة إقبال غنج، لدهيانه
التماسٌ من الأصدقاء ذوي الهِمَمِ العالية
ما دامت طباعة كتاب "إزالة الأوهام" اقتضت أموالا أكثر من المعتاد، وهناك حاجة للنقود لتسوية الحساب مع صاحب المطبعة والناسخ أيضا، لذا ألتمس من جميع الأصدقاء المخلصين أن يسارعوا بالمساعدة قدر الإمكان بواسطة شراء الكتاب. والإخوة الذين يستطيعون أن يشتروا أكثر من نسخة فليشتروا بقدر ما وهبهم الله تعالى من السعة. وهنا لا بد من ذكر مساعدة حديثة من أخي في الله؛ المولوي الحكيم نور الدين، الطبيب في ولاية جامون، الذي أرسل عدة أوراق نقدية، فجزاه الله خيرا.
كذلك أرسل أخي في الله؛ الحكيم فضل دين البهيروي، مائة روبية بالإضافة إلى ثلاثمئة روبية أرسلها من قبل. يُسعدني جدا أن الحكيم فضل دين المحترم متصبّغ بصبغة سيده المولوي الحكيم نور الدين؛ فتصدر منه أعمال صالحة من الدرجة العليا، ناتجة عن عزم صميم وعاطفة إيثار. فقد أرسل المائة روبية الأخيرة ببيع بعض الحلي ابتغاء لمرضاة الله فقط، جزاهم الله خير الجزاء.
كذلك يجدر هنا ذكر أخي في الله؛ المولوي مردان علي المحترم، المحاسب الأعلى في مكتب حاكم ولاية حيدر آباد دكن. لقد طلب المولوي المحترم أن يسجَّل اسمه في قائمة المبايعين، فسُجِّل. إن عباراته تتضمن حبا وإخلاصا كبيرينِ. يقول فيها "إنني نذرتُ لك خمس سنوات من عمري بحسن النية، فأدعو الله تعالى أن يقطعها من عمري ويضيفها إلى عمرك."
أدعو الله تعالى أن يجزيه على إيثاره هذا بأن يمد عمره. لقد وعد هو وأخي في الله؛ المولوي ظهور علي، والمولوي غضنفر علي بكمال الإخلاص أن يتبرع كل واحد منهم بعشر روبيات شهريا، وقد أرسلوا 72 روبية مساعدة، جزاهم الله خير الجزاء. والصلاة والسلام على نبينا ومولانا محمد وآله وأصحابه وجميع عباد الله الصالحين.
الـــــــــراقــــــــــم
العبد المتواضع: غلام أحمد من لدهيانه، حارة إقبال غنج
الإعــــلان
نور الأبصار، صادق الآثار
لهداية السادة المسيحيين
يا أيها المتنصرون؛ ما كان عيسى إلا عبدا من عباد الله، وقد مات ودخل في الموتى، فلا تحسبوه حيا، بل هو ميت، ولا تعبدوا ميتا وأنتم تعلمون.
يا أيها السادة المسيحيّون؛ لو قرأتم هذا الكتاب: "إزالة الأوهام" بتعمق، لتبين لكم بأدلة واضحة أن عيسى ليس حيا الآن، بل قد مات وانضم إلى أسلافه الكبار من المتوفِّين. غير أن الحياة الروحانية التي نالها إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل - ونالها بصورة أعلى وأفضل من الجميع؛ سيدنا ومولانا محمد المصطفى من حيث الرفع الروحاني - قد أُعطيها نفسَها عيسى . لا يوجد في الكتاب المقدس أدنى دليل على أن المسيح ابن مريم نال حياة مختلفة، بل إن الأنبياء كلهم مشتركون في مستلزمات تلك الحياة، غير أن النبي يحتل المكانة الأقرب إلى الله من حيث الرفع.
فيا أيها السادة النصارى؛ لا تصروا الآن ولا تتعنَّتوا بغير حق. كان المسيح عبدا متواضعا قد مات وانضم إلى الأموات. فَخَيْرٌ لكم أن تتقوا الله ولا تسيئوا عاقبتكم بتأليهكم مخلوقا متواضعا. تأملوا قليلا؛ بماذا يتفوق المسيح على غيره في العالَم الآخر؟ ألا يشهد الإنجيل أن إبراهيم حيٌّ، بل "لعازر" أيضا؟ فبماذا يفوق المسيح لعازر من حيث حياته؟ لو ألقيتم نظرة فاحصة على الأسفار لاضطررتم للاعتراف بأنه لا يتميز عن غيره بشيء. وإذا أردتم أن تناقشوني في هذا الموضوع فإني أقول - حلفا بالله الذي نفسي بيده- بأني لو غُلبتُ، لدفعتُ بقدر استطاعتي أيّ غرامة تقترحونها أنتم، بل إني مستعد لأن أضحّي بحياتي أيضا في هذا السبيل.
لقد كشف الله عليّ أن عيسى بن مريم قد مات حقا، وانضم إلى جماعة الأنبياء الأموات. فتعالَوا وأسلِموا، واختاروا دينا يُعبد فيه حيٌّ لا يموت ولا يُعبد ميتٌ، وباتباع هذا الدين الكامل يمكن لكل محبٍّ صادق أن يصبح المسيحَ ابن مريم بنفسه. والسلام على من اتبع الهدى.
الــــمـــــعـــــلــــــــــــن
غلام أحمد القادياني في 3 أيلول/سبتمبر 1891م
خطاب أخي وحبي في الله؛ المولوي الحكيم نور الدين، ردّا على سائل
يا عزيزي؛ حفظك الله وسلّم، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد بعثتَ إلي رسالة طويلة عن ادّعاءات الميرزا المحترم. فأقول في الجواب أن "فلا تستعجلون"، أمرٌ من الله تعالى قد وُجّه إلى خصوم سيدنا خاتَم الأنبياء وأصفى الأصفياء مولانا أحمد المجتبى محمد المصطفى فداه أمي وأبي. ونوجِّه الأمر نفسه بصورة ظلّية إلى خصوم سيدنا الميرزا المحترم؛ مجددِ الوقت، ظلِّ خاتم الأنبياء ونائبه وخادم دينه. فيا أيها المعارضون؛ انتظروا بصبر ومثابرة ولا تستعجلوا.
لقد قال الميرزا المحترم لبعض أصحابه بحضوري بأنه إذا خاصمكم الناسُ فاقرأوا عليهم الأمر الإلهي: إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[341].
يا عزيزي؛ اسمع وتدبَّر، لقد وُجدت في الماضي جماعة تقول: "أنا اللهُ" ولا زالت، والحذرون من الناس يحبون أن يكفّوا لسانهم عن تكفيرهم وتفسيقهم، ويعتبرونهم جماعة صلحاء وأولياء.
فيا عزيزي؛ لماذا هذا الشغب والضجيج على قائل: أنا المسيح، أنا عيسى بن مريم؟ العدلَ! العدلَ!! العدلَ!!!
لقد قال حبي في الله؛ المحدّث الدهلوي عليه الرحمة في "الدر الثمين": "بلغني عن سيدي العم أنه قال: رأيت النبي في النوم، فلم يزل يُدنيني منه حتى صرتُ نفسه." والكلام نفسه قاله الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله عن ابن حزم الظاهري، وهذا مشهد قول: "أنا محمد". آه، لماذا إذن هذا الغضب والغيظ على قولِ: أنا المسيح، وأنا ابن مريم الموعود؟
يا عزيزي؛ إن الإخفاء إلى حد ما ضروري في الأمور الإيمانية. وإذا اتضح الأمر تماما، فلِمَ الإخفاء؟ هناك سباق بين الظهور والخفاء. لذلك فإن الإيمان بالشمس والقمر الماديين لا يدخل في الأمور الإيمانية. لذا؛ فإن التكاليف الشرعية ستُرفع يوم القيامة بوجه عام. فآمِن بهذه النبوءات، ولا تدّعِ المعرفة في فهمها. إن الحادث الذي حدث قبل سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء ، والمذكور في نهاية الجزء الخامس عشر وبداية الجزء السادس عشر من القرآن الكريم، جدير بالتدبر؛ وهذا الحادث يتناول ذكر سيدنا موسى ، وهو مسلَّم به عند اليهود والنصارى والمسلمين كرسول من أولي العزم وصاحب شريعة. لقد قال هذا النبي المقدس: "أنا أعلم" - كما ذكر إمام المحدثين؛ الإمام البخاري رحمه الله - فدلّتْه غيرة الله على عبده الحبيب سيدنا الخضر . وحين لقي موسى هذا العارفَ، لم يبلغ كنه علومه وأسراره الصادقة. فقال له الخضر : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وقال أيضا: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا[342]. فمن مقتضى آداب الله الالتزامُ بالصمت على الأقل بشأن مثل هؤلاء العباد، إلا أن يرى الناس كفرا صريحا في قضية الميرزا المحترم. فلا تأخذ عدمَ صبرِ موسى حجةً قط، لا تأخذه حجة بحال من الأحوال، لأن سيد ولد آدم يقول: "ليت موسى سكت حتى يقص الله علينا."
لا تسئ الظن بكلامي هذا، أنا مسلم، وقد أكرم الله المسلمين بإنعامات بحيث لو قال أحدهم في حالة الوجد في حضرة الله: "أنت عبدي وأنا ربك" لما كان جهنميا بفضل الله، مع أن الحق هو: إلهي؛ أنت ربي وأنا عبدك.
تذكّرت بالمناسبة قصة نقلها محمد بن يحيى التادِفي في "قلائد الجواهر"، فتدَبَّرْ فيها. يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: جاءني أبو العباس الخضر يمتحنني بما امتحن به الأولياء من قبلي، فكشف لي عن سريرته، ففتح علي بما خاطبته به. ثم قلت له وهو مطرق أن يا خضر؛ إن كنت قلت لموسى إنك لن تستطيع معي صبرا، فإنك لن تستطيع معي صبرا. يا خضر؛ إن كنتَ إسرائيليا، فإنك إسرائيلي وأنا محمدي، فها أنا وأنت، وهذه الكرة وهذا الميدان. هذا محمد وهذا الرحمن. وهذا فرسي مسرج ملجم، وقوسي موتر وسيفي شاهر. رضي الله عنه.
سبحان الله، ما أجملها من مساجلة بينهما! اسمع جيدا، لا يوجد ذكر عودة المسيح في القرآن الكريم قط، كذلك لا يثبت من القرآن الكريم عروجه إلى السماء بجسده حيا. وإذا سألتَ من أين جاءتْ هذه القصة؟ فقد يقول قائل بأنها مذكورة في الأحاديث. ولكنها ليست مذكورة فيها أيضا. فهل في الأناجيل؟ ليس هناك أيضا. فأين إذن؟ فالجواب هو: في أفكار المسيحيين الساذجة. لأن متّى ويوحنا ساكتان عن هذا الموضوع، أما لوقا ومرقس - وهما من التابعين لا من الصحابة- فيقولان ذلك جزافا دون شهادة عين. أو هل ذِكْرُ هذه القضية موجود في الروايات الإسرائيلية وحكاياتهم الشائعة بين المسلمين التي لا يؤيدها القرآن الكريم ولا الأحاديث الصحيحة؟ لأن القرآن الكريم قد ذكر موت المسيح الإسرائيلي عيسى بن مريم في مواضع مختلفة، ولا يوجد ذكر نزول المسيح عيسى بن مريم النبي الإسرائيلي في الأحاديث الصحيحة. وإذا كان فيها هذا الذكر فقد جاء على سبيل التشبيه، إذ يجوز إطلاق اسم المسيح عيسى بن مريم مجازا على مثيل المسيح عيسى بن مريم نبي الله الإسرائيلي. غير أن هناك حديثا في صحيح البخاري ونصه" كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم". ولقد بيّن الميرزا المحترم معنى هذا الحديث وحقيقته في كتبه. فإذا كان أحد يريد النقاش في معناه وحقيقته كالطلاب، فليعلم أن حرف الـ"واو" يفيد التفسير أيضا، فاقرأوا كلمات القرآن الطيبات: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (الحجر:2) و تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ (الرعد: 2).
يا عزيزي، إن التحريض الداخلي إضافة إلى التحريض الخارجي أمر نادر، والأمرُ الذي كتبت خطابي هذا من أجله صار قضية عامة الآن، ولم تعُد هناك حاجة لذكره في المراسلات الشخصية. لقد وعدني المولوي محمد حسين البطالوي أنه لن يراسلني من الآن بشأن الميرزا المحترم، ولكنه حين كتب إلي مخلفًا وعده، أجبت عليه أن هذا الأمر لم يعد جديرا بالذكر في المراسلات الشخصية، فانتظر أنت أيضا حُكْما عاما. تعرف جيدا أن هناك ثلاثة أشخاص في البنجاب متحمسون جدا لمعارضة الميرزا المحترم. ولكن القرآن الكريم يؤكد على انتصار الصادقين فيقول: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ؛ فانتظر لبعض الوقت بالصبر والمثابرة والاستقامة.
يا عزيزي، قد أُخبرت أنا العبد المتواضع أنه لم يقبل أي قوم قصة المسيح دون تأويل أو حملها على المجاز والاستعارة، فلا تعتبر قولي هذا كلاما سطحيا. فانظر على سبيل المثال كيف يُؤوِّل معظم المفسرين آية: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ في قضية المسيح بقلب الأمور رأسا على عقب. لقد كتب ميانْ عبد الحق الغزنوي في الصفحة الثانية، السطر الأخير من إعلانه الثاني: "الله أكبر، خربت خيبر". والجدير بالانتباه أن المراد من "خيبر" الذي ذكره ميان عبد الحق، ليس "خيبر" الحقيقي. فلماذا إذن، هذا الخوف والشغب والضجيج على اعتبار قاديانَ دمشقَ؟
لقد كتب المولوي عبد الرحمن اللكهوكي إلى العزيز الغالي عبد الواحد حفظه الله: "إن الاختلاف مع الصحابة في تفسير القرآن العظيم إلحاد وضلال. وإن رضا الله رب العالمين يكمن في اتّباعهم." ويقول في الرسالة نفسها: "وقوله تعالى: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة (أي الملة المحمدية)، ثم يفسر "الملة الآخرة" بـ الملة المحمدية، في "إنْ هذا إلا اختلاق" على عكس ما فسر به الصحابة والتابعون وجميع المفسرين!
لقد جاء أحيانا في الأحاديث، في بيان ملامح المسيح أنه: أحمر، رجِلُ الشعر، وجاء أحيانا أخرى، " آدَمُ أسمر، سَبِط الشعر"، فهناك تأويلات للتوفيق بين هذين القولين. وكذلك إن استخدام التمثيلات والاستعارات والمجاز في كلام الله في أمور أخرى أيضا مسلَّم به عند المسلمين. ولكن لو استُخدمت التأويلات والتمثيلات والاستعارات والمجاز في كل مكان، لأمكن لملحد ومنافق ومبتدع أن يفسر كلمات الله الطيبات بحسب رأيه الخاطئ وأفكاره الباطلة، لذا لا بد من وجود أسباب قوية وموجبات حقة لاستنباط معانيَ أخرى إضافة إلى المعاني الظاهرية.
توجد في كلمات الله الطيبات استعارات كثيرة، ولكن هل يمكننا بناء على ذلك أن نتشجع على استخدام الاستعارة والمجاز في كل مكان؟ كلا. هل يمكن أن نستخدم الاستعارات في العبادات والمعاملات وأمور التمدن والعِشرة، وفي أحكام الأخلاق والسياسة أيضا؟ كلا. بل قد بيّن لنا رسولُ الله وأصحابه هذه الأمورَ عمليًّا، وقد بلغتنا صورتها العملية بتعامُل الأمة، فجزاهم الله أحسن الجزاء.
أما ما ذُكر في النبوءات، وما نراه في كُشوف الأنبياء عليهم السلام وفي الرؤى الصالحة، فلا شك أنه يحدث في عالم الأمثال. كذلك إن بعض أخبارهم الماضية والحقائق الكونية وأشكال عالَم الأمثال وأساليبه تختلف جذريا عن أشكال العالم المادي وأساليبه. ففي مثل هذه المواضع ستُحوِّل العلومُ الضروريةُ واليقينيةُ، والإلهاماتُ الصادقة ومشاهداتُ واقع الأمور وحقائقُها والقواعدُ الشرعية، تلك النصوصَ من الظاهر إلى معنى آخر لا محالة. فمثلا رأى سيدنا يوسف الشمس والقمر والكواكب له ساجدين، ولكن كان المراد من الشمس والقمر والكواكب في العالم المادي هو أبواه وإخوته. كذلك وردت في القرآن الكريم قصة مَلِك رأى في المنام بقرات سمانٍ وسنبلات خضر، وكان المراد منها في العالم المادي هو القحط والرَخص. لقد رأى سيدنا ومولانا في رؤيا صالحة أن في معصمه سِوارينِ من ذهب فنفخهما فطارا، وكان المراد منهما في العالم المادي هو مسيلمة والأسود العنسي ودمارهما. كذلك قال النبي لأزواجه: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا"، فبدأن يقسن أيديهن، ولكن برهنت الأحداث الواقعة وكشفت المشاهدة أن الصحابيات أخطأن في فهم النبوءة على ذلك النحو. فكيف يتجاوز الناس إذن حدود الإيمان في فهم النبوءة عن المسيح والدجال ويدّعون المعرفة، ويقومون ضد العارف؟ أنا أستغرب كثيرا حين يقولون ويشيعون أن الميرزا يخالف الإجماع مع أن الذين يعارضون الميرزا المحترم بشدة يذكرون دائما قول الإمام أحمد بن حنبل إن ادّعاء الإجماع كذبٌ. إن العقل ومشاهدة العالَم وحالة العلماء المنتشرين في الشرق والغرب والجبال والبحار تشهد أن ادّعائهم بالإجماع لا يتعدّى إلا الخيال فقط.
يا عزيزي، لقد أطلق الميرزا المحترم على نفسه ابن مريم وسمى نفسه في أحد المواضع "مريم"، وسمّى ابنه - مثيل المسيح - عمانويل أيضا. عندما بلّغتُ إلى الميرزا المحترم رسالة من المولوي محمد حسين البطالوي قال: لقد أعلنتُ كوني مثيل المسيح، ويمكن أن يأتي أكثر من مثيل للمسيح وقد يكون هناك أحد مصداقا ظاهريا أيضا للنبوءات والعلامات التي طبّقتُها على نفسي روحانيا نتيجة الإلهام، فلا حدود لأفضال الله، ولا يعوزه شيء. قلتُ: لماذا إذن يتورط الناس في المعضلات بسبب الأحاديث؟ يا للعجب!!
يا عزيزي، تأمل في قوله تعالى: أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[343]. اسمعْ وانتبِه جيدا إلى أن لتحقُّق الأنباء مواعيد مقدَّرة كما كتبتُ مفصلا في الرد على ثلاثة أسئلة، وقد نشرته منظمة "أنجمن حماية الإسلام، لاهور". فمثلا كان الكفار في مكة يقولون للنبي : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا[344]. لماذا طلب منه منكروه هذا الأمر؟ كان السبب الوحيد وراء ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الكلمات الظاهرية فقط في فهْم نبوءة سيدنا ومولانا محمد ، وكانت نظرتهم سطحية جدا. تلك النبوءة مذكورة في سِفر إِشَعْيَاءَ (43 : 19) الذي ورد فيه أن سيدنا خاتَم الأنبياء سيجعل فِي الْبَرِّيَّةِ طَرِيقًا، فِي الْقَفْرِ أَنْهَارًا. والمعلوم أنه ما جرت قناة زبيدة في مكة ولا قناة بني زرقا في المدينة في زمن النبي ، فتعثّر البعض لعدم فهمهم عاقبة الأمور.
يا عزيزي، إن إلهامات كهذه تأتي لتزيد القلوب ترهيبا وترغيبا ولتقوية القلوب والهمم، وقد جاء ذكرها في الآية: إذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا[345] مع أن الكفار في غزوة بدر كانوا أكثر من المسلمين بكثير، فلماذا جاء هذا الإلهام؟ ثم يذكر الله تعالى سببا من وراء ذلك فيقول: وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ فتأمَّلْ وتدبَّر!!
يا عزيزي، رحم الله المولوي محمد حسين، إنه يعتزّ كثيرا بعلمه وفضله، والله لا يحب المستكبرين. يجب ألا تعثرَ بمعارضة جماعةٍ مُلهَمةٍ. لقد رُدّ عليه في كتاب: "إزالة الأوهام" ردًّا عجبًا. أقول نصيحةً لله: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ[346] وهناك آية أخرى- تتعلق بكل رسول ونبي- عن التمنِّي: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[347]، فعليك أن تتدبر في الموضوع دائما.
يا أخي، إن الميرزا المحترم مجدد هذا القرن، والمجدد يكون مهدي عصره والمسيحَ للمصابين بأسقام خطيرة، وهذا أمر تمثيلي تماما كما قال الميرزا المحترم في بيتين تعريبهما: "لماذا ترتابون في الإيمان بهذا المسيح وقد بيّن الله ذاتُه مُماثلتَه للمسيح الأول فأنتم أيضًا تخاطبون الطبيب الماهر بهذا، حتى إنكم تسمّون الجميلَ مسيحًا". والآن أنهي هذ الخطاب. أما أفضال الله التي ستنـزل نتيجة ما نشره المولوي محمد حسين فسيأتي ذكره لاحقا، وإلى اللقاء.
وفي الختام أسمعك بيتا وأنهي كلامي بعد هذا التوجيه: "ليت أحدا يصبح ابن مريم فيداوي أسقامي".
رحابة صدر المشايخ المعارضين لنا
لقد أراد الله أن يجلِّي قدرته فقدّر أن نصطدم مع شيخ معروف ذائع الصيت في البنجاب، بل في الهند كلها، بعُلُوِّ كعبه في العلوم وقوته على الفهم والإدراك، وطلاقة لسانه وفصاحة بيانه. وقد أعطته حكمة الله تعالى مقابل هذا العبد الضعيف حماسا، فوقع في سوء الظن، ولم يدّخر في سوء الظن والصولات المعادية جُهدا لكي يُظهِر ذلك الأمر الخارق للعادة الذي قدّره الله تعالى. إن هذا الشيخ ينفخ بقوة وشدة متناهية ليطفئ نور الله. والآن سنرى هل ينطفئ هذا النور فعلا أو تظهر معجزة أخرى لقدرة الله تعالى.
لقد استخدم في رسالته المؤرخة في 9 -4-1891م والموجَّهة إلى صديقي المولوي سيد محمد أحسن عبارات التحقير الغريبة، فقد كتب إليه: لماذا آمنت بهذا الشخص بسرعة؟ كان عليك أن تتحرّى أمره أولا. لقد أراد الشيخ المذكور أن يُظهر من خلال هذه الجملة، وجملة أخرى كتبها بالعربية، أن هذا الشخص بليد وغبي ومحروم تماما من الكفاءات العلمية والعملية، وأنه شخص لا يُذكَر، ولو رأيتَه لكرهتَه.
ولكن، والله، هذا صدقٌ وحقٌّ تماما، وأقسم بالله الذي نفسي بيده أني فعلا لا أملك أية كفاءة علمية أو عملية أو ذكاء أو كفاءة عقلية، وأنا لست بشيء على الإطلاق. بل هناك يد غيبية تساندني، ونور باطني ينوِّرني، وروح سماوية تقوّيني. فمن سرَّه أن يكرهني فليفعل ليسعد المشايخُ. واللهِ، إن نظري مركَّز على ذات واحد. ألا يكفيني ذلك الذي أرسلني؟ أعلم يقينا أنه لن يضيِّعَ الدعوة التي أتيت بها. فيمكن للشيخ أن يُخرج كل ما في جعبته من أجل تنفير الناس مني. وعليه ألا يدخّر جهدا في هذا السبيل، وليستمِرَّ فيما قاله عني مرارا في مجلته وخطاباته من أنّ هذا الشخص غبي وجاهل وضالٌّ ومفترٍ ومخادع وملحد وكافر، ويجب ألا يمهلني قط، لأنني أنا أيضا أتوق لأرى تجليات القدرة العجيبة لمن أرسلني. أما ما يبعثني على الاستغراب فهو أنني جاهل في نظر هذا الشيخ - بل كتب أيضا في رسالته المذكورة بيقين تام بحسب زعمه بأنني لست ملهَما بل مفتر، وأن ما ادّعيتُه بديهي البطلان في نظره، ولا يوجد له أثر في القرآن والحديث - ومع ذلك يسيطر عليه الرعب والخوف؛ حيث يدعوني للمناظرة أولا، ثم يتحاشاها.
يعرف القراء جيدا أنه أرسل إليّ بتاريخ 16-4-1891م برقية بكل اعتزاز وزهو، دعاني فيها للمناظرة، فقال: تعالَ على جناح السرعة لمناظرتي، وإلا ستُعتبَر مهزوما. فسعدتُ بذلك كثيرا على أن الشيخ قد توجّه إلى هذا الأمر في نهاية المطاف، واشتقتُ لأرى أيّ دليل سيقدمه على رفع المسيح ابن مريم إلى السماء مع الجسد حيا، أو ماذا يمكن أن يستنبطه من القرآن أو الحديث على حياته بعد الممات. فقد شاع في مدينة لدهيانه بوجه عام أن الشيخ قد دعاني للمناظرة. كذلك بعث الرسائل بخط يده إلى مدينة سيالكوت أيضا قال فيها بأنه أرسل برقية إلي يدعوني فيها للمناظرة. ولكن حين أبديتُ استعدادي لها وأرسلت إليه رسالة بهذا الخصوص، تحاشاها قائلا بأنه لن يخوضها ما لم يُنشر كتاب "إزالة الأوهام"، ولم يخطر بباله عندئذ أنه كان قد أرسل برقية يدعوني فيها للمناظرة. وكتب أيضا في إحدى رسائله بأنه لا حاجة له لقراءة "إزالة الأوهام"، وقد أكّد مرارا في حقي أن هذا الشخص على الباطل. فلماذا احتاجَ الآن لقراءة "إزالة الأوهام"؟ إن قوله في البرقية "تعالَ للمناظرة، وإلا سوف تُعتبَر مهزوما"، وتوجيهه تهمة بغير حق إلى حبي وأخي في الله؛ الحكيم نور الدين أنه فرّ من مواجهته، وتذكُّره "إزالة الأوهام" عندما قبلتُ المناظرة، إنما هو نوع عجيب من العدل والإنصاف. كان الشيخ المذكور مطلعا على ادّعائي من قبلُ، وكان قد قرأ كتابيَّ "فتح الإسلام" و"توضيح المرام"، وكانت المناظرة المزمعة ستُبنى على القرآن الكريم والأحاديث، ولكن الشيخ قد تحاشاها بعد أن وعد بخوضها.
إطلاع
لقد وصلتني رسائل من بعض الإخوة مفادها أنه كما طُرد المولوي أبو سعيد محمد حسين البطالوي من مدينة لدهيانه بعد المناظرة، كذلك صدر الحكم نفسه بحقي أنا أيضا. فليكن واضحا للجميع بأن هذه إشاعة باطلة تماما. وإنما الصحيح أن المولوي محمد حسين البطالوي قد طُرد من مدينة لدهيانه مغبة أسلوبه المتوحش في النقاش، ولم يصدر أيّ حُكم من هذا النوع بحقي أنا. فأنقل فيما يلي بهذا الخصوص ترجمة رسالة نائب المفوض في مدينة لدهيانه:
"من مقر مستر دبليو جئوس نائب المفوض، لدهيانه:
إلى الميرزا غلام أحمد زعيم قاديان
لقد تلقيت رسالتك البارحة، وأقول في الجواب بعد قراءتها واستيعابها بأن لك - بحسب قانون الحكومة الإنجليزية - حقوقا للمكوث في لدهيانه مثل أي مواطن عادي خاضع لقانون الحكومة الإنجليزية.
حرّر في 6-8-1891م
توقيع نائب المفوض
[1] إن تعليم معاني القرآن الكريم وترويج الكتب الدينية والأحاديث النبوية مترجمةً إلى الأردية أو الفارسية تقليدا ورياء فقط، أو الشروع في أساليب جافة ومبنية على البدعات - كما اعتاد عليه معظم المشايخ المعاصرين - ليست بالأمور التي يمكن اعتبارها تجديد الدين كاملا وحقيقةً. بل الطريق الأخير هو بمنـزلة تجديد سبل الشيطان وسرقة الدين. لا شك أن نشر القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة عمل محمود ولكن القيام بذلك تقليدا وتكلُّفًا دون أن تكون نفس المرء مورد الحديث والقرآن الكريم إنما هي خدمة ظاهرية بلا مغزى يمكن أن يقوم بها أي شخص ذي علم بل هي جارية دائما ولكن لا علاقة لها بالتجديد. كل هذه الأمور تعدُّ عند الله كبيع العظام الرميمة وليس أكثر من ذلك. يقول الله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف: 3-4) وقد قال أيضا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: 106) أنّى للضرير أن يهدي الضريرَ طريقا، وأنّى لمجذوم أن يشفي الآخرين. إن تجديد الدين حالة مقدسة تنـزل بثورة العشق أولا على قلبٍ طاهر وصل درجة مكالمة الله، ثم تسري إلى الآخرين عاجلا أو آجلا. إن الذين ينالون من الله قوة على التجديد لا يكونون بائعي العظام الرّميمة بل هم نُوَّاب رسول الله حقا وخلفاؤه الروحانيين. يجعلهم الله تعالى ورثة كافة النِعم التي يُعطاها الأنبياء والرسل. ويكون كلامهم نابعا عن الحماس الحقيقي وليس مبنيا على السعي البحت، ويكون مصحوبا بالأعمال الصالحة والتجربة الشخصية وليس مبنيا على بيان علم نظري فقط. إن الإلهام من الله تعالى يتجلى على قلوبهم. وتعلِّمهم روح القدس في كل وقت عصيب ولا تشوب كلامهم أو عملهم شائبة من عبادة الدنيا لأنهم يكونون مطهَّرين كُليًّا ومجذوبين بالتمام والكمال، منه.
[2] المزمل: 16
[3] إن هذا الزمن الذي نعيشه ينتشر فيه الرياء والبُعد عن المغزى والحقيقة والحرمانُ من الأمانة والإخلاص ونبْذُ الصدق والطهارة الخُلقية، والخوضُ في الطمع والبخل وحب الدنيا كما كان منتشرا في اليهود عند ظهور المسيح بن مريم. فكما كان اليهود في ذلك الزمن يجهلون البِرّ الحقيقي جهلا تاما وكانوا يعُدُّون التقاليد والعادات حسنةً، وكانت الأمانة والإخلاص والطهارة الباطنية والعدالة قد تلاشت منهم كليا، ولم يبق فيهم للمواساة الصادقة والرحمة الحقيقية أي أثر مطلقا، وحلت عبادة أنواع المخلوقات محل المعبود الحقيقي، كذلك قد ظهرت في هذا الزمن أيضا تلك الآفات جميعا. لا يُستخدَم ما هو حلال بالشكر والامتنان المتسم بالتواضع، ولم تعد هناك كراهية ولا نفور من ارتكاب الحرام. وتُرَدّ أوامرُ الله العظام بالتأويلات. لا يختلف حالُ معظم علمائنا عن الكتبة والفريسيين في ذلك الزمن إذ يُصَفُّونَ عن الْبَعُوضَة وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ، ويغلقون ملكوت الله على الناس فلا هم يدخلونه ولا يسمحون أن يدخلهُ الداخلون. يطيلون الصلوات ولكن لم يعد فيها للمعبود الحقيقي حبٌّ ولا عظمة. يلقون مواعظ مؤثرة على المنابر ويقومون في الخفاء بأعمال تغايرُها تماما. إن عيونهم غريبة حقا إذ بها قدرة خارقة على البكاء مع تمردٍ في قلوبهم وفساد في إراداتهم. وعجيبة ألسنتهم إذ تدّعي المعرفة مع شدة المغايرة في القلوب. كذلك تلاحَظ خصال اليهود منتشرة في كل حدب وصوب. لقد تضاءلت التقوى وخشية الله إلى حد كبير. لقد أفتَر ضعفُ الإيمان حبَّ الله تعالى. الناس يرزحون تحت حب الدنيا. وكان ضروريا أن يحدث ذلك لأنه قد سبق أن تنبأ سيدنا ومولانا محمد أنه: ليأتين على هذه الأمة زمان تحذو فيه حذو اليهود بالتمام وتفعل كل ما فعله اليهود حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلوه؛ عندها يولَد من أصل فارسي شخص يعلِّم الإيمان، ولو كان الإيمان بالثريا لناله. إنها نبوءة تنبأ بها النبي وقد كشف الإلهام الإلهي حقيقتها عليّ وأظهر كيفيتها بكل وضوح. ولقد كشف الله عليّ بإلهامه أن المسيح بن مريم أيضا كان يعلِّم الإيمان في الحقيقة وقد وُلد بعد موسى بـ1400 عام في الزمن الذي كانت فيه حالة اليهود الإيمانية قد ضعفت إلى حد كبير. وبسبب الضعف في الإيمان كانوا قد تورطوا في جميع أنواع المثالب التي هي فروع الإلحاد. فلما مضت على هذه الأمة أيضا قرابة 1400 عاما بعد بعثة نبيها تفشت فيها أيضا آفات تفشت في اليهود لتتحقق النبوءة التي أُنبئ بها في حقهم. فأرسل الله لهم أيضا بقدرته الكاملة معلِّم الإيمان مثيلَ المسيح الأول. فالمسيح الذي كان مقدرا مجيئه هو أنا، فاقبلوا إن شئتم. وليسمع من كانت له أذن واعية. إنه فعل الله تعالى وفي أعين الناس عجيب. ولو كذّبني أحد فقد كُذِّب أيضا الصادقون من قبل. لم يؤمن اليهود بيوحنا أي يحيى بن زكريا قط مع أن المسيح الناصري قد شهد له بأنه هو الشخص نفسه الذي كان قد رُفع إلى السماء، وجاء وعد نـزوله من السماء ثانية في الصحائف السماوية. إن من سنة الله أن يستخدم الاستعارات دائما مُطلِقًا اسم شخص على غيره وفقا لتوافق الطبائع والصفات والقدرات. مَن كان قلبُه كقلبِ إبراهيم فهو عند الله إبراهيم، ومن كان قلبه كقلبِ عمر الفاروق فهو عند الله عمر. ألا تقرأون حديثا جاء فيه أنه إذا كان في هذه الأمة محدَّثون يحدِّثهم الله فهو عمر. فهل يعني هذا الحديث أن الـمُحَدَثيَّةَ قد انتهت على عمر؟ كلا، بل معنى الحديث أن مَن كانت حالته الروحانية مثل حالة عمر الروحانية سيكون محدَّثا عند الضرورة. ولقد تلقيتُ أنا أيضا بهذا الصدد ذات مرة إلهاما نصه: "فيك مادة فاروقية". فبالإضافة إلى مماثلتي الفطرية مع الصلحاء الآخرين - المذكورة في البراهين الأحمدية بالتفصيل - هناك مماثلة خاصة مع فطرة المسيح الناصري . وبناء على هذه المماثلة الفطرية أُرسلتُ باسم المسيح لكي تـمـزَّق العقائد الصليبية إربا.
فقد أُرسلتُ لكسر الصليب وقتل الخنـزير. لقد نزلتُ من السماء والملائكة الأطهار على يميني وعلى يساري فأنزلهم الله تعالى معي على قلوب مهيأة لإنجاز مهمتي بل لايزال يُنـزِلهم. حتى ولو سكتُّ وتوقّف قلمي عن الكتابة لما توقّف عن عملهم الملائكة الذين نزلوا معي، وفي أيديهم صوالِجَةٌ كبيرة قد أُعطُوها لكسر الصليب وتمزيق تماثيل عبادة الخلق.
لعلّ جاهلا يستغرب هنا ويقول: ما معنى نزول الملائكة؟ فليتضح أنه قد جرت سنة الله أنه كلما نـزل من السماء رسول أو نبي أو محدَّث لإصلاح خلق الله ينـزل معه ملائكةٌ حتما يلقون الهداية في القلوب المتحمسة ويرغِّبونهم في الحسنة ويستمر نزولهم ما لم تنمحِ ظلمة الكفر والضلال وينبلج صبح الإيمان والحق كما يقول جلّ شأنه: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر 5-6) فإن الملائكة وروح القدس تنـزل من السماء حين ينـزل إلى الأرض رجل عظيم لابسا خلعة الخلافة ومشرَّفا بمكالمة الله. ويوهب هذا الخليفةُ الروحَ القدسَ بوجه خاص، وتتنـزّل الملائكة التي معه على القلوب السليمة من أهل الدنيا. فحيثما وُجد أشخاص متميزون من هذه الناحية نزل عليهم ذلك النور ويغطِّي العالم كله. وتنشأ في القلوب أفكار حسنة تلقائيا بتأثير الملائكة الطيب ويُحبَّب إليهم التوحيد، وتُنفخ في القلوب الصادقة روح حب الصدق والبحث عن الحق ويُرزَق الضعفاء قوةً، وتهب رياحٌ تدعم هدف ذلك المصلح وتخدم غايته. وينجذب الناس إلى الصلاح تلقائيا بجذب يد من الغيب، فتحدث في الأقوام حركة. عندها يظن عديمو الفهم من الناس أن أفكار الناس ميّالة إلى الصدق تلقائيا ولكنه في الحقيقة عمل الملائكة التي تنزلُ من السماء مع خليفة الله ويرزقون الناس قوى خارقة لفهم الحق وقبوله. إنهم يوقظون الرقودَ ويعيدون السكران إلى الصواب ويفتحون آذان الصم وينفخون روح الحياة في الأموات، ويخرجونهم من القبور. عندها يبدأ الناس بفتح عيونهم دفعة واحدة وتنكشف على قلوبهم أمور كانت خافية من قبل. والحق أن هؤلاء الملائكة ليسوا منفصلين عن خليفة الله بل هم نور وجهه وعلامات جليّة لعزيمته ويجذبون إلى أنفسهم كل ذي طبيعة ملائمة بقوتهم المغناطيسية سواء أكان قريبا جسديا أو بعيدا، وسواء أكان من المعارف أو من الأغيار تماما وإن كان يجهل حتى الاسم.
فباختصار، إن الحركة إلى الحسنة التي تنشأ في ذلك الزمن، وألوان الحماس الذي يتولد لقبول الحق سواء أكان في الآسيويين أو في سكان أوروبا أو أميركا إنما يظهر بحثٍّ من الملائكة الذين ينـزلون مع خليفة الله. هذه هي سنة الله التي لن تجدوا فيها تحويلا أبدا، وهي واضحة تماما وسريعة الفهم. ومن شقاوتكم إن لم تتدبروها. فما دمتُ قد جئت من الله تعالى بالصدق والحق، لتجِدُنَّ آيات صدقي في كل حدب وصوب. والوقت الذي سترون فيه نزول الملائكة من السماء أفواجا على قلوب أهل آسيا وأوروبا وأميركا ليس ببعيد بل هو على الأبواب.
لقد علمتم من القرآن الكريم أن الملائكة تنـزل مع نزول خليفة الله حتما ليوجِّهوا القلوب إلى الصدق، فانتظروا هذه الآية. وإن لم ينـزل الملائكة، ولم تشاهدوا في الدنيا تأثيرات نزولهم بصورة بارزة ولم تجدوا حركة القلوب إلى الحق أكثر من المعتاد فاعلموا أنه لم ينـزل من السماء أحد. ولكن لو ظهرت كل هذه الأمور فعليكم أن تكفوا عن الإنكار حتى لا تُعَدّوا عند الله قوما متمردين.
والآية الثانية هي أن الله تعالى قد خصّني بالأنوار التي يُعطاها العباد المصطَفون ولا يسع أحدا أن يبارزهم فيها. فإن كنتم في شك فتعالوا للنزال، واعلموا يقينا أنكم لن تقدروا على ذلك. لكم ألسِنةٌ دون قلوب، ولكم أجسامٌ لا أرواح فيها. ولكم مُقلة عينٍ لا نور فيها؛ فأدعو الله تعالى أن يرزقكم نورا لتروا.
الآية الثالثة هي أن النبي المصطفى المقدس، الذي تدّعون الإيمان به، قد شَهِدَ لي في الصحاح الموجودة عندكم ولكنكم لم تتدبروا في قوله أدنى تدبر. فإنكم أعداء النبي في الخفاء إذ لا تفكرون في تصديقه بل في تكذيبه. إن كثيرا منكم سيُفتون الآن بتكفيري بل لو أمكنهم لقتلوني، لكن هذه الحكومة التي تحكم البلاد ليست في أيدي الذين يشتعلون غضبا، والمقصرين جدا في فهم الأمور، والمتخلفين من حيث الحلم والتسامح الأخلاقي لدرجة تذكّر بأعمال اليهود، لن تتيح لهم أن يقوموا بأعمالهم. مع أن هذه الحكومة محرومة من فضائل الإيمان وبركاته لكنها أفضل بكثير من حكومة "هيرودس" الذي واجهه المسيحُ بن مريم . وأفضل أيضا من الدول الإسلامية الحالية من حيث استقرار الأمن ونشر الرفاهية العامة والحرية والحماية وتربية الرعية وضبط القانون والعدالة ومعاقبة المجرمين. فكما أن حكمة الله العميقة لم تبعث المسيح الناصري في عهد حكم اليهود وتحت إمرتهم كذلك رُوعيت الحكمة نفسها بشأني لكي تكون آية للذين يفقهون. وإن استهزأ بي المنكرون في هذا الزمن فإن ذلك ليس مما يدعو للأسف لأن الذين سبقوهم قد عاملوا أنبياء عصورهم بأسوأ من ذلك. لقد استُهزئ بالمسيح عيسى أيضا مرارا. وذات مرة أراد أشقّاؤه أن يثبتوا جنونه ويزجّوا به في السجن. أما الأغيار فقد أرادوا قتله عدة مرات، وقد رشقوه بالحجارة وبصقوا في وجهه مُهينين. بل قتلوه أيضا على الصليب على حسب زعمهم. وحيث لم تُكسَر عظامه فقد نجا بمساعدة شخص صالح سليم الاعتقاد به ورُفع إلى السماء بعد أن قضى بقية أيام حياته. الحق أن مريدي المسيح وأصدقاءه ورفقاءه الذين كانوا يرافقونه ليل نهار تعثَّروا أيضا إذ أخذ أحدهم ثلاثين قطعة فضية كرشوةٍ مقابل تسليمه، وآخر لعنه قُدّامه مشيرا إليه. أما غيرهما من الحواريين الذين كانوا يدّعون الصداقةَ المتينة ففروا مولِّدين في قلوبهم أنواع الشكوك في المسيح . ولكن لما كان المسيح صادقا فقد أحيا الله تعالى مهمته بعد الممات. إن المراد الحياة الثانية للمسيح المترسخة في قلوب المسيحيين، ففيها إشارة إلى حياة دينه في الحقيقة. كذلك فقد بشّرني الله تعالى أنه سيهبني أيضا الحياة بعد الممات. وقال إن المقربين عند الله يُحيَون من جديد بعد الممات. وقال ما تعريبه: "إني سأري بريقي خمس مرات، وأرفعك من قدرتي." فالمراد من حياتي ثانيةً هو إحياء أهدافي، ولكن قليلٌ من يفقهُون هذه الأسرار. منه
[4] هنا يجدر ذكرُ قصة ممتعة؛ أنه حدث لي ذات مرة أن سافرت إلى مدينة "عليغره"، وما كنت قادرا - بسبب نوبة الضعف الدماغي التي أصبت بها في قاديان قبل مدة - على الحديث الطويل أو الجهد الذهني، وما زال الحال على المنوال نفسه بحيث لا أقدر إلى الآن على إطالة الكلام كثيرا أو على التفكير المجهد. ففي هذه الحالة قابلني شيخ من مشايخ "عليغره" اسمه محمد إسماعيل والتمس بتواضع مفرط أن ألقي كلمة وقال بأن الناس مشتاقون لك منذ مدة طويلة، فمن الأفضل أن يجتمع الجميع في مكان واحد فتخطب فيهم. ولما كنت أعشق دائما وأرغب من الأعماق أن أظهر الحق على الناس فقبلت طلبه بسرور القلب، وأحببت أن أبيّن حقيقة الإسلام في اجتماع عام لأُفصّل لهم حقيقة الإسلام وكيف يفهمه الناس في هذه الأيام. وقلت أيضا للشيخ المذكور بأني سأبين حقيقة الإسلام بإذن الله. ولكن حدث بعد ذلك أن منعني الله تعالى من ذلك. وإنني واثق من أن الله تعالى لم يرد أن أبذل جهدا ذهنيا مضنيا فأُصاب بمرض جسدي إذ إن صحتي ما كانت على ما يرام أصلا لذا منعني الله تعالى من الخطاب.
ومرة؛ قد حدث من قبل أيضا أن قابلني في الكشف نبيٌّ من الأنبياء السابقين وأنا في حالة الضعف فقال لي مواسيا وناصحا: لماذا تقوم بجهد ذهني إلى هذا الحد، قد تمرض بسببه. على أية حال، كان ذلك منعٌ من الله، فاعتذرت للشيخ بسببه. وكان العذر صحيحا فعلا. إن الذين شهدوا نوبات مرضي الشديد هذا وشاهدوا أيضا بأم عينهم سرعة ثورة هذا المرض بعد كثرة الكلام أو التفكير والتدبر لا بد وأن يستيقنوا أني مصاب بهذا المرض في الواقع، وإن كانوا لا يوقنون بإلهاماتي لعدم علمهم بالموضوع. إن الدكتور محمد حسين خان - الذي يشغل منصب مفوَّض الشرف في لاهور ولا يزال يعالجني - ينصحني دائما أن أجتنب المشقة الذهنية ما بقي المرض. وهو أول شاهد على حالتي. وكذلك معظم أصدقائي بمن فيهم أخي في الله المولوي الحكيم نور الدين، الطبيب الحكومي في ولاية جامون الذي يعكف على مواساتي قلبا وروحا ومالا، والمحاسب منشي عبد الحق الذي يسكن ويشتغل في لاهور، وقد أدّى حق الخدمة أثناء مرضي الحالي لدرجة لا يسعني بيانها، كل هؤلاء المخلصين شاهدون على حالتي هذه. ولكن الأسف كل الأسف أنه مع أن كل مؤمنٍ مأمورٌ بحسن الظن لم يأخذ الشيخ المذكور عذري هذا مأخذ الظن الحسن بل حمله محمل الكذب ظانًّا بي ظنا سيئا إلى أبعد الحدود. فأكتب فيما يلي تعليقه الكامل مع الجواب الذي نشره في الناس بإذنه صديقُه المدعو الدكتور جمال الدين:
قوله: طلبتُ منه (أي طلب مني في مدينة عليغره) أن يخطب غدا يوم الجمعة. فوعد بذلك، ثم وصلتني صباحا وريقة جاء فيها أنه قد مُنع من الخطاب إلهاما. أظن أنه قد رفض إلقاء الخطاب بسبب عدم قدرته على البيان والخوف من الامتحان.
أقول: إن زعم الشيخ مبني على سوء الظن وهو مما نُهي عنه بشدةٍ شرعًا، ولا يليق ذلك بذي طبع سليم إذ لا أصل له ولا حقيقة. لو ادّعيت الإلهام بهذه المناسبة وحدها وبعد مجيئي إلى عليغره لكان لديه عذر لإساءة الظن، ولكان ممكنا أن يُظَنّ أني خفتُ نظرا إلى علوّ كعب الشيخ في العلوم وارتعبتُ لعظمة كمالاته وهيبتها فحاولت التخلص بتقديم العذر واختلاق الحِيَل، ولكن الحق أنه قد سبق لي أن نشرتُ في البلاد كلها إعلاني عن تلقي الإلهام، وذلك قبل السفر إلى عليغره بست أو سبع سنوات، وإن كتابي "البراهين الأحمدية" يزخر بذلك. لو كنت عاجزا عن الخطاب لما خرجتْ من قريحتي الناضبة ونطقي الضعيف كتبٌ مثل "الكحل لعيون الآريا" التي حُرِّرت حين ألقيتها في الاجتماعات على مسامع آلاف من الموافقين والمعارضين، ولما جرت إلى اليوم سلسلة خطاباتي الجليلة حيث أضطر دائما لتحمل عناء شديد في النقاش مع مئات الناس من ذوي طبائع مختلفة وقدرات متباينة.
من المؤسف جدا أن نار الحسد أكلت معظم المشايخ المعاصرين من الداخل. إنهم ينصحون الناس دائما بالتحلي بخصالِ الإيمان والمعاملة الأخوية وحسن الظن فيما بينهم، ويعتلون المنابر ويتلون عليهم آيات القرآن الكريم في هذا الموضوع ولكن لا ينفذونه بأنفسهم.
يا مسكين، فتح الله عينيك، أليس ممكنا أن يمنع الله تعالى عبده الملهَم من عمل لحكمة ما؟ وقد يكون السبب الآخر لهذا المنع أن تُمتحن خصائلك الباطنية، وأن تظهر بذلك للعيان موادَّ خبيثة توجد فيك وفي أشياعك ومن كان على شاكلتك. أما القول بأني خفتُ مرتبتك العلمية فاعلمْ جوابا على ذلك أن الذين يستولي عليهم الظلام وظلمات النفس لا أهمية لهم في نظري أكثر من دودة ميتة وإن اجتمعت فيهم علوم الفلسفة والطبيعة من الدنيا كلها، غير أنك لا تحتل تلك المرتبة أصلا بل لستَ إلا شيخا جافا يملك أفكارا بالية، وفيك الدناءة نفسها التي توجد في المشايخ ذوي الأفكار المظلمة. وتعلم أنه يأتيني كثير من المحققين والعلماء في مختلف المجالات، وأصحاب المعلومات الواسعة ويستفيدون من المعارف والدقائق بحيث لو أطلقتُ عليك مقابلهم كلمة "تلميذ" فقط لكان مدعاة لتكريمك الذي لا تستحقه.
ولو لم تزلْ أوهامك ولم تقلّل من سوء ظنك إلى الآن فإني بفضل الله تعالى ورحمته جاهز للخطاب مقابلك. لا أستطيع أن أسافر طويلا بسبب المرض ولكنك لو رضيتَ لأرسلتُ لك نفقات السفر إلى مدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب حتى تقوم بهذا العمل وتُمتَحَن. وأتعهد بذلك بعزم صميم. وأنا في انتظار الجواب منك.
قوله: إن هذا الشخص بليد محض لا يملك قدرة علمية.
أقول: يا مسكين، لا أدّعي حكمة أو حصافة دنيوية، ماذا أفعل بحِكَم هذه الدنيا وشطاراتها فإنها لا تنوِّر الروح، ولا تزيل الأرجاس الباطنية، ولا تخلق التواضع والانكسار بل تزيد الصدأَ فوق الصدأ وتضيف الكفرَ إلى الكفر. يكفيني أن رحمة الله أخذت بيدي وأعطاني علما لا يُحَصَّل في المدارس الدنيوية بل يُنال من المعلِّم السماوي فقط. فلو سُمِّيت أُمِيًّا فهذا لا يحط من شأني بل هو مدعاة للاعتزاز لأن مقتداي ومقتدى خلق الله كله الذي أُرسل لإصلاح الخلق كله كان أيضا أُمِيًّا. لا أرى جديرا بالتقدير رأسا يعتزّ بالعلم والظلامُ يحيط به ظاهرا وباطنا. إقرأ القرآنَ وتدبّرْ مَثلَ الحمار، أليس فيه كفاية؟
قوله: لقد طرحت عليه بعض الأسئلة عن الإلهام فردّ عليها بما لا معنى له وسكت.
أقول: أذكر جيدا أني قد أجبت أجوبة مقنعة جدا وكانت فيها كفاية لمن يملك شيئا من العقل والعدل، ولكنك لم تفهمها. فمن فُضِحَ في ذلك؟ أنت أم غيرك؟ فانشرْ تلك الأسئلة في جريدة وجرِّبْ حظك مرة أخرى.
قوله: لا يمكنني أن أستيقن أن هذا الشخص هو المؤلف لمثل هذه الكتب القيمة.
أقول: أنّى لك أن تستيقن ذلك، فلم يحظ باليقين الكفار الذين رأوا النبي بأم أعينهم، ولم تنكشف عليهم كمالاته لكونهم محجوبين بحجبٍ غليظة. فظلوا يقولون إن الكلمات البليغة التي تخرج من فمه، والقرآن الذي يتلوه على خلق الله إنما هي عبارات من تأليف أشخاص آخرين تُتلى عليه سرًّا صباحَ مساء. قد صدق أولئك الكافرون وخرج الصدق من فم هذا الشيخ أيضا من وجه حيث أن القرآن الكريم لكونه كلاما بليغا وحكيما للغاية يفوق كثيرا قدرة النبي الذهنية، بل هو أعلى وأسمى من قدرة الخلق كلهم، ولا يمكن أن يكون كلام أحد إلا الله العليم القدير. كذلك الكتب التي ألَّفتها ونشرتها إنما هي نتيجة نصرة من الغيب وتفوق قدرة هذا العبد المتواضع واستطاعته العلمية. نشكر الله تعالى على أنه قد تحققت نتيجة طعن هذا الشيخ نبوءة وردت في البراهين الأحمدية جاء فيها أن بعض الناس سيقولون بعد قراءة هذا الكتاب بأنه ليس من تأليف هذا الشخص بل أعانه عليه قوم آخرون. (انظروا البراهين الأحمدية ص 239)
قوله: إن السيد أحمد عرب الذي أثق به قال لي مباشرة إنه مكث عند هذا الشخص إلى شهرين في زمرة الموثوق بهم عنده، وتحرّى الأمر بين حين وآخر وفي كل مناسبة هامة بنظرة التجسس والامتحان فعلم أن لديه أدوات تنجيمٍ يستخدمها.
أقول: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران: 62) هذا هو جوابي الذي أكتُبُه بناء على آية قرآنية. ولا أذكر قط من هو السيد أحمد عرب هذا الذي مكث عندي شهرين. إن مسئولية إثبات ذلك تقع على هذا الشيخ فعليه أن يقدمه أمامي ليُسأل عن الأدوات التي رآها عندي. ثم ما دمتُ حيا أُرزق فليمكث هذا الشيخ عندي ليتحرّى الأمر بنفسه ولا حاجة لتوسُّطِ عربي أو أعجمي.
قوله: لا أتيقن قط عند التدبر في فقرات الإلهامات أنها إلهام.
أقول: لم يستيقن قبلك أولئك الذين يقول الله تعالى عنهم: كذَّبوا بآياتنا كِذَّابًا (النبأ: 29). لم يستيقن فرعون، ولم يستيقن الكتبةُ والفريسيون من اليهود، ولم يستيقن أبو جهل وأبو لهب، وإنما استيقن الذين كانوا مساكين قلبا وطيبين نفسًا: فقد جاء في بيت فارسي: "هذا الشرف لا يُنال بالقوة ما لم يهبه الله الوهاب."
قوله: القيام بالادعاء يخالف الكرامات، والقول بأن الذي لديه شك عليه أن يأتيك ويرى بنفسه هو ادعاء باطل.
أقول: إن هذه الأمور ليست من تخطيط الإنسان بل هي ممن هو مطلِّع على كل ادّعاء يقوم به أحد. فأيّ صادق يستطيع أن يكذِّبها بعد ذلك؟ صحيح أنه لا يسع حتى نبيا أن يدّعي أمرا فوق القدرة، ولكن ألا يجوز لله تعالى أن يعلن أمرا كهذا بواسطة نبي أو رسول أو محدَّث؟
قوله: فقدتُ الاعتقاد به تماما نتيجة مقابلتي معه. وأرى أن كل موحدٍ يقابله لن يبقى معتقدا به. إنهم يؤدون الصلاة في الوقت الأخير ولا يهتمون بالصلاة جماعةً.
أقول: لا أبالي بسوء اعتقاد الشيخ، غير أنني في غاية الاستغراب من كذبه وافترائه وسوء ظنه البالغ منتهاه. يا رب ارحم أمةً اعتُبر المشايخُ مثله مرشدين وهداةً وزعماء لها.
على القراء الكرام أن يتأملوا بأنفسهم في اعتراض تفوّه به الشيخ نتيجة ثورة البخل والحسد. والمعلوم أنني مكثت في مدينة "غليغره" لبضعة أيام كمسافر فقط، وأعتبر الإعراضَ الدائم عن الرُخَص التي رخّصتها الشريعة الإسلامية إلحادا. فكان واجبا عليّ أن أراعي تلك الأمور كلها، ففعلتُ ما كان يجب فعلُه. ولا أنكر أنني عند نزولي هناك لبضعة أيام جمعتُ في بعض الأحيان بين صلاتين بطريقة مسنونة. وأحيانا أخرى صليتُ الظهر والعصر في وقت متأخر لصلاة الظهر. أما الإخوة الموحِّدون فيصلون جمعا في بيوتهم أيضا في بعض الأحيان، عاملين بـ "بلا سفر ومطرٍ".
ولا أنكر أيضا أنني ما التزمت تماما بالحضور في المسجد في أثناء هذه الأيام القليلة، ومع ذلك لم أتخلّ عن الحضور تماما مع اعتلال صحتي وكوني مسافرا. لعل الشيخ يذكر أني قد صليتُ وراءه صلاة الجمعة غير أنني أصبحت أشك في صحتها. صحيح تماما أني لا أحبذ الحضور في المسجد دائما أثناء أسفاري ولكن ليس كسلا أو استخفافًا بأوامر الله، والعياذ بالله، بل السبب الحقيقي وراء ذلك أن حالة أكثر المساجد في عصرنا الراهن في تدهور وتبعث على التأسف، وإذا قصدتُها وأردت الإمامة استشاط الذين يحتلون منصب الإمامة غضبا إلى حد لا يطاق. وأما إذا اقتديت بهم فأشك في صحة الصلاة أصلا لأنه ثابت عنهم بكل وضوح أنهم اتخذوا الإمامة مهنة. لا يحضرون المساجد لأداء الصلوات الخمس بل قد اتخذوها محلا يفتحونه خمس مرات، ويعيشون هم وأهلهم على ما يدِرّ عليهم هذا المحل. وفي حالة العزل أو التعيين في هذا المنصب يصل الأمر إلى رفع القضايا في المحاكم، فيرفعون مرافعة تلو مرافعة لكسب قضية الإمامة. الحق أنها ليست بالإمامة بل هي طريقة بغيضة لأكل الحرام. ألستَ أنت أيضا متورطا في هذه العقدة النفسية؟ فكيف إذن يمكن للمرء أن يضيّع إيمانه بعد رؤية ذلك بأم عينه؟ إن اجتماع المنافقين في المساجد مذكور في الأحاديث بأنه من علامات الزمن الأخير، وتشير هذه النبوءة إلى هؤلاء المشايخ المزعومين الذين يقرؤون القرآن الكريم بلسانهم واقفين في المحراب ولكنهم في قرارة قلوبهم يعدُّون الأرغفة. ولا أدري متى مُنع الجمع بين صلاة الظهر والعصر أو المغرب والعشاء في حالة السفر؟ ومن أفتى بحرمة تأخير الصلاة؟ من الغريب حقا أن أكل لحم الأخ الميت حلال عندك ولكن الجمع بين الظهر والعصر في السفر حرام قطعا. اتقوا الله أيها الموحِّدون فإن الموت قريب والله يعلم ما تكتمون. منه.
[5] لقد رُوي أن مؤسسة "British And Foreign Bible Society" قد وزّعت منذ تأسيسها أي منذ 21 سنة ماضية أكثر من سبعين مليون نسخة من كتبها الدينية مجانا ونشرتها في الدنيا تأييدا للمسيحية. فعلى المسلمين المقتدرين المتكاسلين أن يقرأوا بنظر التدبر والحياء مقالا نُشر في الجرائد في تشرين الأول 1890م. فهل انتشرت هذه الكتب على أيدي البائعين؟ أم وزّعتها مجانا مؤسسة قوم متحمسين لنصرة دينهم؟ منه.
[6] إن للمولوي المحترم باعا طويلا في علوم الفقه والحديث والتفسير، وإن علمه في مجال الفلسفة وعلوم الطبيعة القديمة والحديثة غزير جدا. وهو طبيب حاذق، وقد أحضر الكتب في جميع المجالات من مصر وبلاد العرب والشام وأوروبا وجهّز مكتبة نادرة الوجود. وكما أنه فاضل جليل في العلوم الأخرى كذلك له نظرة واسعة وشاملة في المناظرات الدينية أيضا. وهو مؤلِّف كتب مفيدة جدا. وقد ألّف مؤخرا كتابا بعنوان: "تصديق البراهين الأحمدية" وهو أثمن من الجواهر في نظر كل باحثٍ. منه.
[7] آل عمران: 93
[8] بيت فارسي مترجم. (المترجم)
[9] بيتان فارسيان مترجمان. (المترجم)
[10] ترجمة بيت أردي. (المترجم)
[11] هل تكون تلك الأقمشة من قبيل الحرير والاستبرق والسندس وما إلى ذلك من الأقمشة الفاخرة والثمينة والفاخرة المتنوعة؟ ومن نسجها ومن خاطها على السماء؟ لم يخبرنا بذلك أحد المسلمين أو المسيحيين إلى الآن، منه.
[12] إنجيل لوقا: الإصحاح 23، العدد: 43
[13] الحجر: 49
[14] يقول : فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ (المائدة:118)، ووَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ (النساء:160)، وإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (آل عمران: 56) منه.
[15] يس: 27
[16] الفجر: 31
[17] الكلمات التي تحتها خط مترجمة من الأردية. (المترجم)
[18] الأحزاب: 41
[19] أبيات فارسية مترجمة. (المترجم)
[20] ليس المسيح الناصري وحده الذي قال عن سيدنا ومولانا المقدس خاتم النبيين إن مجيئه في الدنيا إنما هو مجيء الله تعالى في الحقيقة. بل قال الأنبياء الآخرون أيضا كلاما مثله في نبوءاتهم عن النبي وعدّوا مجيئه مجيء الله على سبيل الاستعارة. بل سموه باسم الله لكونه مظهرا أتم للألوهية. فقد ورد في الزبور: "أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ (أي جعلك خاتم الأنبياء) تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا الْجَبَّارُ، جَلاَلَكَ وَبَهَاءَكَ. وَبِجَلاَلِكَ اقْتَحِمِ. ارْكَبْ. مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالْبِرِّ، فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ. نَبْلُكَ الْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ. شُعُوبٌ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ. كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِدُهْنِ الابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ." (الْمَزَامِير 45 : 2-7)
من المعلوم أن فقرة الزبور: "كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ" استعارة محضة، والمراد منها أن تُظهَر عظمة محمد الروحانية. كذلك ورد في سِفر النبي إشعياء أيضا الأمر نفسه حيث ورد فيه: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ." (إِشَعْيَاءَ 42 : 2-4)... الرَّبُّ كَالْجَبَّارِ يَخْرُجُ. كَرَجُلِ حُرُوبٍ يُنْهِضُ غَيْرَتَهُ. يَهْتِفُ وَيَصْرُخُ وَيَقْوَى عَلَى أَعْدَائِهِ. (المرجع السابق العدد: 13)
من الواضح أن الفقرة: "الرَّبُّ كَالْجَبَّارِ يَخْرُجُ" تشير على سبيل الاستعارة إلى ظهور النبي بالهيبة. وإضافة إلى ذلك فقد استخدم كثير من الأنبياء الآخرين أيضا هذه الاستعارة لبيان مرتبة النبي . ولكنني أكتفي بهذا القدر، لأن ذكر تلك الأماكن كلها يطول كثيرا. أما ما ذكرتُ من مراتب القرب والحب الثلاثة، وأثبَتُّ أن النبي يحتل المرتبة الثالثة منها، فإن هذه الفكرة ليست مبنية على اجتهادي الشخصي بل، كشفها الله عليّ إلهاما، منه.
[21] إن الملائكة يسمَّون ملائكةً لأنهم ملاك الأجرام السماوية وملاك الأجسام الأرضية، بمعنى أنهم بمنـزلة الروح لقيامها وبقائها. وأيضا يسمَّون ملائكة لأنهم يقومون بأعمال الرسل أيضا، منه.
[22] إبراهيم: 34
[23] إبراهيم: 34- 35
[24] البقرة: 30
[25] التين: 5
[26] الأحزاب: 73
[27] ص: 72- 75
[28] الشمس 2- 16
[29] الحاشية: اقتضت حكمةُ الله الكاملة أن ترمز الشمس إلى 730 وظيفة تقوم من خلالها بتأثيراتها المختلفة على الدنيا. وتُعطى اسما معينا نظرا إلى كل وظيفة؛ إذ إن أيام الأسبوع مثل الاثنين والثلاثاء والأربعاء وغيرها ما هي في الحقيقة إلا أسماءً للشمس بحسب وظائفها ولوازمها وتأثيراتها الخاصة. وعندما لا نضع في الاعتبار هذه الوظائف الخاصة؛ نسميها "الشمس" فقط، ولكن عندما نشير إليها واضعين في الاعتبار صفاتها الخاصة وتأثيراتها ومقاماتها نسميها نهارا أحيانا، أو نطلق عليها الليل أحيانا أخرى، كما نطلق عليها الأحد أو الاثنين أو تموز أو آب أو أيلول وهلمّ جرا.
فباختصار، كل هذه هي أسماء الشمس في الحقيقة. كذلك إن نفس الإنسان أيضا تُسمَّى بأسماء مختلفة من منطلق المقامات والأوقات والحالات والظروف المختلفة. ففي بعض الأحيان تسمَّى "النفس الزكية"، وأحيانا تسمى "النفس اللوامة" أو "النفس المطمئنة". فلها أيضا أسماء كما للشمس أسماء، ولكن أكتفي بهذا القدر من البيان خوف الإطالة. منه.
[30] الشمس: 9-10
[31] الشمس: 10-11
[32] المرآة المقعّرة تعكس الأجسام بصورة مُصغّرة، أما المرآة المحدّبة فتعكسها مُكبّرة. (المترجم)
[33] الشيخ المتصوف محيي الدين بن عربي. (المترجم)
[34] طه: 75
[35] الإسراء: 37
[36] ص: 63
[37] ترجمة أبيات فارسية. (المترجم)
[38] قصة البركة وردت في الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا، كان يضطجع عندها "جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ. لأَنَّ مَلاَكًا كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَانًا فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلًا بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ". (يوحنا 5)، ثم يشير النص أن المسيح شفى أحد المرضى الذي لم يستطع أن ينزل أولا. وقد ذكرها المسيح الموعود في كتاب "البراهين الأحمدية" وكتب هناك ما يلي: ومن الواضح أن منكر نبوة عيسى ومعجزاته حين يقرأ هذه العبارة من إنجيل يوحنا ويطلع على البِركة التي وُجدت في بلاد عيسى منذ القِدم وكانت تتحلى بميزة من زمن قديم بأن مجرد نزول أحد فيها كان يضمن إزالة أمراضه أيا كان نوعها ومهما كانت قاسية، سيخطر بباله بكل قوة لا محالة أنه إذا أظهر المسيح بعض الخوارق العجيبة فلا بد أن يكون سببها عائدا إلى أنه كان يظهر بشيء من التصرف على ماء البِركة، لأنه قد وُجدت في الدنيا دائما أمثلة كثيرة لمثل هذا الاقتباس ولا تزال موجودة في الوقت الراهن أيضا. وصحيح عند العقل والأقرب إلى الفهم تماما أنه إذا شُفي العميان والعُرْج على يد عيسى فلا بد أن يكون قد أخذ هذه الوصفة من البِركة المذكورة حتما، ثم أشاع بين الجهلاء والبسطاء الذين لا يصلون إلى كنه الأمور وحقيقتها بأنه ينجز هذه الأمور بمساعدة روح. ومما يؤكد على هذه الفكرة أكثر أنه ثابت أن المسيح كان يتردد على تلك البِركة كثيرا... (البراهين الأحمدية، ج4). (المترجم)
[39] هنا يقع اعتراض شديد على أخلاق المسيح لأنه يقول في (إنجيل متّى 23: 2): "عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ." أي أنهم صلحاء كبار، وكان يعرف أيضا أنهم يُعّدُّون أسياد اليهود وكانوا يُجلَسون في بلاط قيصر باحترام كبير مع الرؤساء. ومع ذلك خاطبهم المسيح بكلمات غير لائقة تماما. واللافت في الموضوع أن أشراف اليهود استخدموا كلمات لينة جدا ملؤها الأدب وقالوا للمسيح بكل تواضع: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً. ولكن المسيح خاطبهم في الجواب بكلمات قاسية وقال:جيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً. ثم لم يكتف بذلك بل ظل يذكر هؤلاء الأشراف بكلمات نابية دائما. ففي بعض الأحيان سماهم: أَوْلاَدَ الأَفَاعِي (مَتَّى 23: 33)، وأحيانا أخرى سماهم عميانا (متّى 15: 14) وقال بأنهم: المرائين (متّى 23: 13) كما استخدم في حقهم كلمات فاحشة أخرى وقال: إنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ (مَتَّى 21: 31)، وسماهم الخنازير والكلاب، كما أطلق عليهم: "الجهال" (مَتَّى 23: 17) وسماهم من أهل جهنم أيضا، وسماهم أيضا المرائين (مَتَّى 23: 15) وذلك مع أنه بنفسه كان ينصح بالحِلم والخلق الحسن. بل قال أيضا بأن الذي قال عن أخيه إنه أحمق استحق نار جهنم (متّى 5: 22). ولسوف أرد في باب المطاعن على اعتراض وجّهه إليّ بعض من قليلي الفهم حول الأدب والتحضُّر. منه.
[40] الأنبياء: 99
[41] التوبة: 73
[42] الفتح: 30
[43] مع أن محتوى قصة أبي طالب هذه كلها مذكور في الكتب ولكن ما كتبته إنما هو إلهام أنزله الله تعالى على قلبي، إلا أنني قد أضفتُ من عندي جملة هنا أو هناك بُغية التوضيح. إن مواساة أبي طالب وحرقته واضحة جلية من هذا الإلهام. ولكن من المتحقق تماما وبكل يقين أن هذه الاستقامة نشأت فيه بعد مشاهدته أنوار النبوة وأمارات الاستقامة. لقد قضى نبينا الأكرم معظم فترة حياته التي سبقت نبوّته - أيْ أربعين عاما- في حالة الضعف وعدم الحيلة والقلق واليُتْم، حين لم يؤدِّ أحد من أقاربه وأعزائه في فترة العزلة حق القرابة، حتى حُوِّل ذلك الـمَلِك الروحاني في صغر سنه إلى سيدات من الأعراب والبدو مثل الأيتام الذين لا راعي لهم ولا مشرف. فقد قضى سيد الأنام أيام رضاعته في هذه الحالة من الفقر وعدم الحيلة. وحين بلغ سن الإدراك وكَّل هؤلاء البدوُ إلى مخدوم العالمين خدمة رعْي الغنم كالأيتام الذين ليس لهم راعٍ في الدنيا ولا قريب. وفي فترة الضيق هذه لم يتسنّ له طعام سوى أدنى أنواع الغلال وحليب الشياه. ثم حين بلغ سن الرشد لم يهتم بزواجه أحد من أعمامه مع كونه على مرتبة عالية من الحسن والجمال، بل عند بلوغه خمسة وعشرين عاما من عمره شاء قدر الله أن أُعجِبت به إحدى رئيسات مكة بفضل الله تعالى ورحمته وتزوجت منه. إن هذا الموقف يبعث على استغراب ما بعده استغراب أن أعمامه أيْ أبا طالب وحمزة والعباس - وهم أشقَّاء أبيه كانوا موجودين - وأضف إلى ذلك أن أبا طالب بوجه خاص كان زعيم مكة وزعيم قومه أيضا وكان يملك قدرا كبيرا من الجاه والشوكة والثروة والمقدرة الدنيوية، ولكن مع كون هؤلاء جميعا أثرياء إلى هذا الحد فقد مضت تلك الأيام من حياة النبي في صعوبة بالغة، بل في معاناة الجوع وعدم الحيلة، حتى وصل به الأمر إلى رعْي غنم البدو. وما أسال أحد دمعة واحدة على حالته الأليمة هذه. وعند بلوغه سن الشباب أيضا لم يخطر ببال أحد من أعمامه بأنهم بمنـزلة أبيه، وعليهم أن يفكروا في أمر زواجه وأمور ضرورية أخرى، مع أن الفتيات كنّ موجودات في بيوتهم وبيوت أقاربهم أيضا.
فهنا ينشأ سؤال طبيعي: لمَ ظهر منهم الفتور إلى هذا الحد؟
وجوابه الحقيقي أنهم وجدوا سيدنا ومولانا يتيم الأبوينِ، لا مال له ولا جماعة، وهو يعاني من فقر مدقع، فما الفائدة من مواساة شخص منكوب مثله؟ وتزويجه ابنةً سيكون كإلقائها في الهلاك وتعريضها للدمار. ولكنهم لم يعرفوا أنه أمير ورئيس الملوك الروحانيين الذي سيُعطى مفاتيح الكنوز كلها. منه
[44] القلم: 10
[45] الأسلوب الذي تبناه القرآن الكريم في استخدام الكلمات القاسية لا يمكن أن يجهله أيّ إنسان مهما بلغت درجة غبائه وجهله. فمثلا إن اللعن على أحد يُعدُّ شتيمة شنيعة عند المتحضرين في العصر الحاضر. ولكن القرآن الكريم يلعن الكفار مخاطبًا إياهم فيقول: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِيْنَ فِيْهَا.. (البقرة:162-163) ويقول أيضا: أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة: 160)
والمعلوم أن إطلاق كلمة "الدابة" على إنسان مسبّة أيضا، ولكن القرآن الكريم لا يذكر الكفار والمنكرين بكلمة الدابة فقط، بل يعتبرهم شرّ الدواب في العالم كله كما يقول: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (الأنفال:56). والواضح أيضا أن كيل الشتائم لأحد بذكر اسمه أو بجعله عرضة للشتيمة بالإشارة إليه، ينافي مقتضى التحضر في العصر الحاضر، ولكن القرآن الكريم سمَّى بعض الناس "أبا لهب" وبعضهم كلابا وخنازير، كما أن تسمية "أبي جهل" معروفة لدى الجميع. كذلك استخدم القرآن الكريم بحق "الوليد بن المغيرة" كلمات قاسية جدا تبدو في الظاهر شتائم سيئة فقال: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ... سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (القلم: 9-17) أي لا تطع المكذبين الذين يحبون ألا تذكروا آلهتهم بكلمات قاسية وأن لا تهجوها، فيوافقونكم في هذه الحالة الرأي في أمور دينكم. ولكن يجب ألا تهتم بكلامه المعسول لأنه يريد المداهنة... سنسمه قريبا على خرطومه الذي طال كثيرا كخرطوم الخنـزير.
من المعلوم أن المراد من الخرطوم (الأنف) هو التمسك بالتقاليد والأعراف ومقتضيات العِرض والشرف، الأمر الذي يمنع المرء من قبول الحق. (فيا ربنا القدير، اجدَع أنف بعض ذوي الأنوف الشامخة من قومنا). فيا حضرة الشيخ هل بقيت شتيمة - بحسب رأيك - خارج نطاق هذه الكلمات الشاملة؟ هناك أمر لافت آخر وجدير بالذكر هنا وهو أن "الوليد بن المغيرة" استخدم الليونة، وأراد أن يُعامَل باللين، ولكن افتُضحت أسراره كلها ردا على ذلك. وفي ذلك إشارة إلى أنه يجب ألا تتوقعوا المداهنة من المؤمنين. منه.
[46] (Melancholia) الـمَلَنْخُوليا؛ تعبير قديم يتضمن الاضطراب العقلي وهو ما يعرف بالطب الحديث بالفصام أو الاضطراب الاكتئابي. (المترجم)
[47] المائدة: 118
[48] إذا اعترض أحد هنا بأنه إذا كان صعود الجسم المادي إلى السماء مستحيلا، فكيف جاز معراج النبي بالجسد المادي؟ فجوابه أن المعراج لم يكن بالجسم المادي بل كان كشفا من الدرجة العليا، والأحرى أن يُسمى يقظة. ففي مثل هذا الكشف يتنقل الإنسان في السماوات بجسم نوارني يناله على قدر كفاءاته. فلما كانت كفاءات النبي على أعلى الدرجات وكانت بالغةً الغايةَ، فوصل أثناء معراجه إلى أعلى نقطة في هذا العالم، وتسمَّى: العرش العظيم. فذلك كان معراجًا روحانيا في الحقيقة، وكان أشبه ما يكون باليقظة، بل كان نوعًا من اليقظة بعينها. لا أعتبره حُلما قط، ولا أراه من أدنى درجات الكشف أيضا، بل هو الدرجة العليا على الإطلاق من أنواع الكشوف. وهذه الحالة أصفى وأجلى من اليقظة الكثيفة (التامة). وأنا صاحب تجربة في هذا النوع من الكشوف. لا يسع المجال هنا للإسهاب في الموضوع، وسأتناوله مفصلا في مكان آخر بإذن الله، منه.
[49] أقول بكل تحد بأنه لا توجد في الدنيا حكومة أقامت الأمن على الأرض كما أقامته حكومة بريطانيا. أقول صدقا وحقا إننا في ظل هذه الحكومة نستطيع أن ننشر الحق بكل حرية. لا نستطيع أن نؤدي هذه الخدمة جالسين في مكة المعظمة أو المدينة المنورة أيضا أبدا. لو توفر هذا الأمن وهذه الحرية وعدم التعصب في بلاد العرب في زمن بعثة النبي ، لما قُتل أولئك الناس بالسيف قط. ولو وُجد هذا الأمن وهذه الحرية وعدم التعصب في حكومات قيصر وكسرى آنذاك، لبقيت تلك الحكومات إلى الآن. منه.
[50] لا تخفى على الذين قرأوا الأحاديث الاستعارات الموجودة في مكاشفات النبي ورؤاه. فمرة رأى أنه يلبس في يديه سوارين من ذهب، فأوّلهما بكذَّابَينِ أعلنا النبوة كذبًا. ومرة أخرى رأى في الرؤيا والكشف أن بقرات تُذبَح، وكان المراد منها الصحابة الذين استُشهدوا في معركة أُحد. ومرة رأى في الكشف أنه أُعطي عنقودا من عنب الجنة لأبي جهل، ولكن تبين فيما بعد أن المراد من ذلك كان إسلام ولده "عكرمة". وذات مرة رأى في الكشف أنه مهاجر إلى أرض، فذهب وهله إلى أنها اليمامة، فإذا هي المدينة. هذا، وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل توجد في مكاشفات الأنبياء الآخرين أيضا؛ حيث كُشف لهم في الظاهر شيء، وكان المراد الحقيقي منه شيء آخر. فإن وجود الاستعارات والمجاز في كلام الأنبياء ليس أمرا شاذا أو نادر الوقوع، وليس مما يضطر المرء لاختلاقه تصنُّعا، بل من المتعارف عليه والعادة الشائعة عند الأنبياء أنهم يتحدثون في لغة الأمثلة والاستعارات مفعَمِينَ بروح القدس. ولقد اختار الوحيُ الإلهي أيضا الأسلوبَ نفسه، وهو أن ما يُنـزَّل من السماء إلى العالَم المادي يكون مليئا بالاستعارات والمجاز. ولو ألقينا نظرة على الرؤى التي قال رسول الله بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ويراها كل شخص بين حين وآخر، لما وجدنا رؤيا تخلو كليًّا من الاستعارات والمجاز إلا ما شذ وندر.
وليكن معلوما أيضا أن كلمة "دمشق" الواردة في حديث "مسلم"، حيث جاء فيه أن المسيح سينـزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق؛ ظلت تحيّر الباحثين منذ البداية، لأنه لا يُعلَم ظاهريا ما علاقة المسيح مع المنارة، أو ما الذي يربط دمشق بالمسيح، وما الذي يربط المسيح بدمشق؟ أما لو ورد أن المسيح سينـزل في مكة المعظمة أو المدينة المنورة لكان هناك ما يبرر حمل تلك الأماكن على ظاهرها، لأن في مكة يقع بيت الله، والمدينةُ عاصمة رسول الله . أما دمشق فلا توجد فيها ميزة متميزة تدفع على تخصيصها بنـزول المسيح بترك الأماكن المباركة كلها. لا شك أنه قد أُريد منها على سبيل الاستعارة معنًى مكنونا آخر لم يُكشَف. وأنا أيضا ما كنت قد انتبهت إلى البحث في هذا الموضوع والمعنى المكنون، إذ بصديقي وحبي في الله المولوي الحكيم نور الدين يحضر قاديان، ويطلب مني أن أتوجه إلى الله تعالى لكشف معاني كلمة "دمشق" وغيرها من الكلمات المجملة الواردة في حديث "مسلم". ولكن لما كنتُ معتلّ الصحة في تلك الأيام وكان الذهن أيضا غير قادر على احتمال الجهد الجهيد، فتقاصرتُ عن التوجه لتحقيق تلك البُغية، إلا أنه قد كُشفت عليّ بعد تركيز بسيط حقيقة كلمة "دمشق" وحدها. وكُشف عليّ أيضا - بواسطة كشف واضح صريح- أن النبوءة عن شخص اسمه "حارث" أي "الحرّاث" الآتي-كما ورد في سنن أبي داود- صحيحةٌ، وأن هذه النبوءة، والنبوءة التي تتحدث عن مجيء المسيح؛ هي في الحقيقة نبوءة واحدة من حيث مصداقِهما، وأن مصداقَهما شخص واحد؛ وهو هذا العبد الضعيف.
فأولا أفسِّر كلمة "دمشق" كما كُشف عليّ بالإلهام، ثم سأفصِّل نبوءة وردت في سنن أبي داود كما أُفهمتُها.
فليتضح أن الله تعالى قد كشف عليّ في تفسير كلمة "دمشق" بأنه قد سُمِّيت هنا باسم دمشق قرية يقطنها أناس ذوو طبائع يزيدية، ويتبعون عادات "يزيد" الخبيث وأفكاره، وليس في قلوبهم حب الله ورسوله، ولا شيء من عظمة أوامر الله، واتخذوا أهواءهم النفسانية معبودا لهم. ويطيعون نفوسهم الأمارة لدرجة يبدو سفك دماء المقدسين والأطهار أمرا هَيْنًا لَيْنًا عندهم. لا يؤمنون بالآخرة، وإن وجود الله تعالى في نظرهم معضلة معقّدة لا يفهمونها. وما دام من المفروض أن يأتي الطبيب إلى المرضى، لذا كان ضروريا أن ينـزل المسيح في أناس مثلهم.
فباختصار، قد كُشف عليّ أن المراد الحقيقي من "دمشق" هو المكان الذي فيه هذه الصفة المعروفة والموجودة في دمشق. وحين بيّن الله دمشق مكانا لنـزول المسيح،كانت في ذلك إشارة إلى أن المراد من المسيح، ليس ذلك المسيح الحقيقي الذي نزل عليه الإنجيلُ، بل المراد هو شخص من المسلمين يماثل - من حيث صفاته الروحانية - المسيحَ، ويماثل الإمامَ الحسينَ أيضا، لأن دمشق كانت عاصمة دولة "يزيد" حيث كان "اليزيديِّون" ينسجون مكائدهم. فكانت"دمشق" هي المدينة التي نُفِّذت فيها آلاف الأوامر الغاشمة. ولليزيديين مماثلة كبيرة مع اليهود الذين كانوا في زمن المسيح . وكذلك للإمام الحسين مماثلة كبيرة مع المسيح من حيث كونه مظلوما. فإن نزول المسيح في دمشق يدل بوضوح على أن ينـزل شخصٌ في أناسٍ يماثلون اليهود، ويكون مثيل المسيح ومثيل الإمام الحسين في الوقت نفسه، وذلك لتنبيه اليزيديين وإتمام الحجة عليهم. والمعلوم أن الأناسَ ذوي الطبائع اليزيدية يشابهون اليهود، ولكنهم ليسوا يهودا حقيقيين، لذا؛ فإن كلمة "دمشق" تبين بجلاء تام أن المسيح النازل أيضا ليس مسيحا حقيقيا، بل كما أن اليزيديين هم أمثال اليهود، كذلك المسيح النازل إنما هو مثيل المسيح، وذو فطرة حُسَينيَّةِ.
إنها نقطة دقيقة يتبين بجلاء عند التأمل فيها أن كلمة "دمشق" لم تُستخدَم إلا استعارةً فقط. ولما كان للحادث الغاشم الذي تعرض له الإمام الحسين مظلومًا، عظمة وأهمية كبرى في نظر الله، ويماثل حادث المسيح بشدة، بحيث لا مجال للمسيحيين أيضا للكلام فيه؛ فقد أراد الله تعالى أن ينبِّه أهل هذا الزمن أيضا بعظمته ومماثلته بحادث المسيح. وقد استُخدمت كلمة "دمشق" على سبيل الاستعارة حتى يمثُلَ أمام أعين القراء زمنٌ حوصر فيه فلذة كبد رسول الله على يد أشقياء دمشق وقُتل مثل المسيح دون هوادة، وبظلم وجَور بلغَا منتهاهما. والآن قد اختار الله تعالى "دمشق"، التي صدرت منها أوامر غاشمة، وكان فيها أناس ظالمون ذوو قلوب متحجرة وبواطن سوداء، وذكرها بوجه خاص ليشير إلى أن مدينة مثيلة لها ستكون الآن مركزا لنشر العدل والإيمان. ولأن معظم الأنبياء قد بُعثوا في قرى الظالمين، وظل الله تعالى يحوِّل مواضع اللعنة إلى أماكن البركة، فقد اختار الله تعالى هذه الاستعارة ليستمد منها القراءُ فائدتين اثنتينِ.
أولا: لكي تنكشف على القلوب أهمية وعظمة الحادث الأليم لاستشهاد الإمام المظلوم - الحسين - الذي أنبئ به في الحديث كنبوءة بذكر كلمة "دمشق".
ثانيا: لكي يعلم الناس يقينا أنه كما أن سكان دمشق ما كانوا يهودا على وجه الحقيقة، ولكنهم حذوا حذو اليهود في أعمالهم، كذلك المسيح النازل أيضا ليس هو المسيح الحقيقي، بل مثيله من حيث صفاته الروحانية.
الآن سيقبل كل شخص بقلب منشرح تماما - إلا الذي ليس في قلبه عظمة لائقة لحادثٍ تعرض له الإمام الحسين - خصوصية دمشق كما بيّنتُها. ولن يقتصر على القبول فحسب، بل سوف يصل إلى مرتبة حق اليقين بالإمعان في هذا الموضوع. أما تشبيه المسيح بالإمام الحسين فإنما هو استعارة في استعارة، ولسوف أتناول ذكره لاحقا.
أما الآن فأود أن أبين أولا أن الله تعالى قد كشف لي أن لقرية قاديان مماثلةً مع دمشق لأن معظم سكانها ذوو طبائع يزيدية. والمعلوم أن التطابق الكلي لا يكون ضروريا عند التشبيه، بل في كثير من الأحيان يُطلق اسم شيء على شيء آخر بناء على مماثلة من نوع أدنى أو مشاركتهما في جزء واحد فقط. فمثلا يقولون عن الشجاع بأنه أسد؛ وعند إطلاق تسمية الأسد عليه لا يُعتبَر ضروريا أن تكون لهذا الشخص مخالب كالأسد، وعلى جسمه وبرٌ، وأن يكون له ذنب، بل يُطلق عليه هذا الاسم لوجود صفة الشجاعة وحدها فيه. وهذا هو المبدأ والأسلوب المتّبع في جميع أنواع الاستعارات. فقد شبّه الله تعالى هذه القرية - قاديان - بدمشق انطلاقا من هذا المبدأ. وفي هذا الصدد تلقيت إلهاما أيضا عن قاديان جاء فيه: "أُخرِج منه اليزيديون"، أي قد خُلق فيها يزيديون. مع أنني لا أدّعي - كما لم يكشف الله عليّ بصراحة - أنه لن يكون في دمشق مثيل المسيح، بل من الممكن عندي أن يكون في دمشق بالذات أيضا مثيل المسيح في المستقبل. ولكن الله أعلم، وهو شاهد على أنه تعالى قد شبّه قاديان بدمشق. وقال عن سكانها إنهم يملكون طبائع يزيدية، أي أن معظم سكانها يشبهون اليزيديين من حيث طبائعهم. وقد تلقيت أيضا منذ مدة إلهاما نصه: "إنا أنزلناه قريبا من القاديان، وبالحق أنزلناه وبالحق نزل، وكان وعد الله مفعولا." والتأمل في هذا الإلهام يوحي أن بعثتي من الله في قاديان كانت مكتوبة من قبل نبوءةً في الصحف الإلهامية. وما دامت قاديان قد شُبِّهت بدمشق من حيث صفة معينة، فإنه يتبيّن من ذلك بجلاء أنه ستكون هناك نبوءة في الصحف السابقة بإطلاق "دمشق" عليها على سبيل الاستعارة، لأن اسم "قاديان" ليس مكتوبًا في أي كتاب من كتب الأحاديث ولا في القرآن الكريم. أما هذا الإلهام الذي سبق أن نُشر في البراهين الأحمدية فيعلِن بصراحة ووضوح أن اسم قاديان مذكور حتما بصورة نبوءة؛ إما في القرآن الكريم أو في الأحاديث. ولكنه ما دام غير موجود ظاهريا، فماذا عسى أن يخطر بالبال إلا أن يكون الله تعالى قد أورد اسم قاديان في القرآن الكريم أو في الأحاديث بأسلوب آخر حتما. أما الآن وقد بلغ الأمر مبلغ الثبوت نتيجة إلهام تلقيتُه مؤخرا بأن لقاديان مماثلة عند الله مع دمشق، فإنه يتبيّن من ذلك معنى الإلهام السابق أيضا؛ أي الفقرة التي ألقاها الله جلّ شأنه على قلبي إلهاما نصه: "إنا أنزلناه قريبا من القاديان" وتفسيره: إنا أنزلناه قريبا من دمشق بطرف شرقي عند المنارة البيضاء، لأن مسكني يقع بطرف شرقي من قاديان عند المنارة. إذن، فإن عبارة الإلهام الإلهي: "وكان وعد الله مفعولا"، تنطبق على هذا التفسير، وبذلك تتحقق النبوءة بالفعل.
وبعد وصولي إلى هذا المقام، تلقيت إلهاما نصه: قل لو كان الأمر من عند غير الله لوجدتم فيه اختلافا كثيرا. قل لو اتبع الله أهواءكم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ولبطلت حكمته، وكان الله عزيزا حكيما. قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا. قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، وكان الله غفورا رحيما."
ثم أُلهمتُ بعد ذلك ما تعريبه: "إن هؤلاء المشايخ قد غيّروا بيتي. وفي معبدي مواقِدهم. وفي مكان عبادتي موضوعة قصعاتهم وفناجينهم. ويمزِّقون أحاديث نبيِّي كالفئران. (المراد من المعبد في الإلهام؛ قلوب معظم المشايخ المعاصرين المليئة بحب الدنيا)
وبالمناسبة هنا؛ تذكرت أن اليوم ذاته الذي تلقيت فيه إلهاما ورد فيه ذكر النـزول في قاديان، رأيت في اليوم نفسه - في الكشف- أخي المرحوم ميرزا غلام قادر جالسا قريبا مني يتلو القرآن الكريم بصوت عال. وأثناء التلاوة قرأ العبارة: "إنّا أنزلناه قريبا من القاديان". وبسماع هذه الكلمات استغربتُ جدا، وقلتُ: هل اسم "القاديان" مكتوب في القرآن الكريم؟ فقال: نعم، ها هو مكتوب. فحين ألقيت نظرة علمتُ أن العبارة الإلهامية نفسها مكتوبة فعلا في منتصف الصفحة اليمنى تقريبا من القرآن الكريم. فقلتُ في نفسي، نعم! إن اسم قاديان مكتوب في القرآن الكريم في الواقع. وقلت: إن أسماء ثلاث مدن مكتوبة في القرآن الكريم باحترام، أي مكة والمدينة وقاديان. كان ذلك كشفا أُريتُه قبل عدة أعوام ورأيت فيه أخي المرحوم - الذي توفِّي قبل عدة سنوات - يقرأ القرآن الكريم، وقد سمعته يقرأ في القرآن الكريم هذه العبارة الإلهامية. إن في ذلك سرًّا مكنونا كشفه الله عليّ بأن لاسم أخي علاقة قوية مع تفسير هذا الكشف، أي أن كلمة "قادر" - التي وردت في اسمه- قد أشير بإظهارها في الكشف إلى أن هذا هو فعل الله القادر فلا تعجبوا منه، لأن عجائبه وقدراته تظهر دائما بهذا الشكل والأسلوب؛ فهو يُعِزُّ ويكرّم الفقراء والمحتقَرين، ويسوّي المعزّزين والمكرَمين وأصحاب المراتب العالية بالتراب. إن العلماء والفضلاء الكبار يحرمون أحيانا من عتبات فيوضه كليًّا، ويُختَار شخصٌ حقير مهان وأمِيٌّ جاهل ويُدخَل في جماعة المقبولين. هكذا جرت سنته منذ الأزل، وهذا ما ظل يفعله منذ القِدم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والآن أقدم للقراء الكرام حديثا أورده أبو داود في سننه، وسأوجّهُ أنظارهم إلى مصداقه أيضا. فليكن واضحًا أن النبأ الذي ورد في سنن أبي داود هو التالي: "يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النهْرِ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ (أو الحَرّاثُ) يُمَكّنُ لآلِ مُحَمدٍ، وَجَبَ عَلَى كُل مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ". وقد كُشف عليّ بالإلهام أن هذه النبوءة، إضافة إلى النبوءةَ عن ظهور المسيح الذي سيكون إمام المسلمين ويكون منهم؛ نبوءتان متحِدتان في المعنى، وأن هذا العبد المتواضع هو مصداقهما. والنبوءة التي تتناول اسم المسيح لها علامتان خاصتان فقط: أُولاهما أنه عندما يأتي المسيح ستكون حالة المسلمين الداخلية سيئة للغاية، فيصلحها بتعاليمه الصحيحة، ويزيل إفلاسهم الروحاني وضعفهم الباطني، ويقدم لهم لآلئ العلوم والمعارف والحقائق، حتى يسأم الناس من أخذ هذه الثروة، ولن يبقى بينهم أحد من طلاب الحق مفلسًا وفقيرًا روحانيًا، بل سيُعطى المتعطشون للصدق والحق غذاء طيبا وفيرًا من الصدق، ويُسقون شرابًا عذبًا من المعرفة، وستُملأ حجورهم بلآلئ العلوم الحقة، وسيعطَون زجاجات عطر مليئة بجوهر القرآن الكريم ولُبه.
والعلامة البارزة الثانية هي أن ذلك المسيح الموعود سيكسر الصليب بعد ظهوره، ويقتل الخنـزير، ويقضي على الدجال الأعور، ومَن وصله نَفَسُه من الكفار مات على الفور. فالمراد الحقيقي والمقدَّر روحانيا من هذه العلامة هو أن المسيح حين يأتي إلى الدنيا يدوس عظمة الدين الصليبي تحت قدميه، وسيقضي بأسلحة أدلته القاطعة، على الذين هم دَيُّوثُون كالخنازير، ووقِحون كوقاحتها، ويأكلون النجاسة مثلها. والذين عندهم عين الدنيا فقط، وليس عندهم عين الدين قط، بل ظهرت عندهم عين طافية بيضاء بدلا منها، فيقضي على إنكارهم وعنادهم بسيف بتّار من البراهين البيِّنة. وليس هؤلاء العورُ الذين ليست لديهم إلا عين واحدة فحسب سيهلكون، بل سيهلَك أيضًا بنَفَس جلاليةِ أدلةِ المسيح كلُّ كافر ينظر إلى دين المصطفى باستخفاف واحتقار.
قصارى القول، إن هذه العبارات كلها قد وردت على سبيل الاستعارة والمجاز، وكُشف معناها بكل وضوح على هذا العبد المتواضع، فليفهمها من أراد، وليرفضها من أراد. وفي النهاية سيتّجه الناس جميعا هذا الاتجاه يائسين من آمالهم التي لا أساس لها بعد انتظار مدة من الزمن.
في أثناء كتابة علامات المسيح تذكرت رؤيا صالحة لي، وأسجلها هنا لبَعْث السعادة إلى قلوب أصحاب الذوق السليم:
كان هناك وليٌّ صالح جدا ومن رجال الله، يحظى بشرف مكالمة الله أيضا، وكان يتّبع السُنّة إلى أقصى الغايات، ويراعي جميع مراتب التقوى والطهارة، ومن الصادقين المخلصين الذين جذبهم الله إليه. وكان معمور الأوقات إلى أقصى الحدود وغارقا في ذكر الله، بل فانيا تماما في هذا السبيل. كان اسمه الكريم "عبد الله الغزنوي". ذات مرة رأيت هذا الوليّ المبجَّل بعد وفاته في الرؤيا واقفا بكل شموخ وقوة كالجنود، ومسلَّحا كالبواسل الشجعان. فسردتُ له بعض إلهاماتي وقلت: لقد رأيتُ رؤيا فأرجو أن تفسرها لي، فقد رأيت أن في يدي سيفا، قبْضَتُه في يدي ونصله في السماء، وأضرب به يمينا ويسارا. فحين أضرب به يمينا يُقتل ألوف من المعارضين، وحين أضرب به يسارا يُقتَل كذلك ألوف من المعارضين. فسُرّ المرحوم عبد الله كثيرا بسماع رؤيايَ، وعلت وجهه أمارات البشاشة والانبساط وانشراح الصدر، وقال: تفسيرها أن الله تعالى سيوفقك لإنجاز أعمال عظيمة. وأما ما رأيتَ من أنك تضرب بالسيف يمينا ويُقتَل المعارضون، فالمراد من ذلك إتمام الحجة الذي سيتم روحانيا بالبركات والأنوار. وأما ما رأيت من قتل آلاف الأعداء بضرب السيف يسارا، فالمراد منه أن الله تعالى سيُفحم الخصم ويُسكته بواسطتك، ويتم حجته على الدنيا من كِلتا الناحيتينِ. ثم قال: حين كنتُ في الدنيا كنت أتوقع أن الله سيبعث حتما شخصا كهذا. ثم أخذني المرحوم عبد الله إلى مكان واسع فيه جماعة من الصادقين الكمَّل، وكان الجميع مدجّجين بالأسلحة كالجنود، وكانوا على أتم الاستعداد والنشاط كأنهم يترقَّبون أمرا وشيكا لأداء مَهمّة حربية. ثم استيقظتُ.
هذه الرؤيا الصالحة، وهي نوع من الكشف في الحقيقة، تدل على سبيل الاستعارة على ما ذكرتُه من قبل من علامات المسيح. أيْ أن قتل المسيح الخنـزير وقتله الكفارَ بوجه عام؛ هو بمعنى أنه سيتم عليهم حجة الله، ويقتلهم بسيف البيّنات، والله أعلم بالصواب.
وأبيّن أنه قد ذُكرَ في النبوءة التي تتحدث عن "الحارث" خمس علامات تختص به:
الأولى: سيقوّي "الحارث" طلاب الحق والجياع والعطاشى للصدق؛ بقوة إيمانه ونور معرفته المباركة، وليس بالسيف والسنان. وسيرسّخ أقدامهم بشجاعته المخلصة وشهاداته الناتجة عن قوة الإيمان، وذلك كما قوّى المؤمنون من قريش في مكة المعظمة على إثر تصديقهم النبي ، عضدَ دعوته؛ مظهرين إخلاصهم الكامل، وعلامات إيمانهم الكامل، ووطّدوا أقدام الإسلام في مكة المعظمة.
والعلامة الثانية: يخرج "الحارث" من وراء النهر؛ أي سيكون من سمرقند أو بخارى من حيث الأصل.
العلامة الثالثة: سيكون من عائلة زارعين محترمة، ويكون زارعا.
العلامة الرابعة: سيظهر في وقت يكون فيه آل محمد (أيْ أتقياء المسلمين من السادات وأشراف الملة) بحاجة إلى أن يبرز في الميدان شخصٌ ناصرٌ للدين. فبذكر أفضل وأطيب جزء الأمة من خلال كلمة "آل محمد" قد ذُكر جميع المنسجمين معهم من حيث الطهارة والنـزاهة، كما هو الأسلوب الشائع عند المتكلمين أنهم يذكرون الجزء أحيانا ويقصدون الكلَّ.
العلامة الخامسة للحارث المذكور هي أنه لن يظهر على هيئة الأغنياء والملوك وأصحاب الجماعات الكبيرة، بل سيكون محتاجا إلى مساعدة قومه لإنجاز هذه المهمة العظيمة.
والآن أنقل الحديث الذي أورده أبو داود بنصّه وفَصّه، ثم أقدم من خلاله أدلةً في حقي، إلى حد يكفي ويناسب. فنص الحديث هو: عَنْ عَلِيٍّ قال، قَالَ النَّبِيُّ : "يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ حَرَّاثٍ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَنْصُورٌ يُوَطِّئُ أَوْ يُمَكِّنُ لِآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللهِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ" أَوْ قَالَ "إِجَابَتُهُ". إن قوله "يخرج من وراء النهر" أي يكون موطنه بخارى أو سمرقند... و"سيُدعى حارثا" أي زارعا على ألسن الناس، وفي نظر تلك الحكومة أيضا بناء على مهنة آبائه. ثم يقول النبي : لماذا يُدعى حارثا؟ لأنه يكون حرَّاثا؛ أي من الزارعين المتميِّزين، ويعدُّ فردا من عائلة الزارعين المحترمة. ثم قال بأن قائدَ جيشه (أي زعيم جماعته) سيكون شخصًا موفّقا، ينادَى في السماء باسم "المنصور" لأن الله بنفسه، يكون ناصرا له ولإرادته أداء المهمة الكامنة في قرارة قلبه. هنا ذُكر ذلك المنصور قائدًا للجيش، ولكن ليس المراد هنا القتال أو الجدال الظاهري، بل سيُعطَى هذا الحارث جيشا روحانيا، فقد رأيتُ في الكشف شخصينِ على هيئة الإنسان جالسينِ في بيت، أحدهما على الأرض والثاني قرب السقف. فخاطبتُ الجالس على الأرض وقلتُ: أنا بحاجة إلى جيش قوامه مئة ألف جندي. ولكنه لزم الصمت ولم يرد عليّ بشيء. ثم توجّهت إلى الثاني الذي كان قرب السقف باتجاه السماء وقلت له: أنا بحاجة إلى جيش قوامه مئة ألف جندي. فقال بعد سماع كلامي: لن تُعطَى مئة ألف بل ستُعطى خمس آلاف جندي. قلت في نفسي: مع أن خمس آلاف قليل، ولكن القلة يمكن أن تغلب الكثرة بإذن الله. ثم قرأت الآية: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (البقرة:250)
ثم أُريتُ ذلك المنصور في الكشف وقيل: هو ميسور الحال، هو ميسور الحال. ولكن شاءت حكمة الله الخفية ألا أعرفه، غير أنني آمل أني سأراه في وقت آخر.
أعود الآن إلى شرح الجزء المتبقي من الحديث، فيقول النبي ما مفاده: حين يظهر ذلك الحارث سيهب آل محمد - وقد سبق أن شرحت آل محمد- قوة وقدرة، ويكون لهم ملاذا. أي حين يكون المؤمنون في حالة الفقر، ويكون الإسلام كمن لا حول له ولا قوة، ويكون عرضة للصولات من كل حدب وصوب؛ ينهض هذا الشخص بكل قوة لإقامة شرف الإسلام، ويهب مدفوعا بحماس الإيمان لإنقاذ المؤمنين من ألسنة الجهال، فينقذهم من صولات المعارضين متسمًا بقوةٍ من نور المعرفة. ويجمعهم جميعا في ظل حمايته، ويبوِّؤهم كما بوَّأت قريش النبي ، أي سيكون بمنـزلة جُنَّة للمؤمنين جميعا عند كل تهمة موجَّهة إليهم من قبل الأعداء وعند كل استفسار وطلب الإثبات من قِبلهم، ويكون سببا لأمن المؤمنين، ومُظهرا بركات الإسلام والاستقامة مثل الصدّيق والفاروق والحيدر رضي الله عنهم، وذلك بسبب إيمانه القوي الذي حظي به نتيجة اتّباعه النبي . ويجب على كل مؤمن أن ينصره، أو أن يؤمن به. وهذه إشارة إلى أن هذا الحارث سيكَلَّف بمشروع عظيم، فيكون محتاجًا إلى نصرة القوم، وقد ذكرنا كيفية ذلك بالتفصيل في كتابنا "فتح الإسلام" في الفروع الخمسة لهذا المشروع. ولقد أشير هنا أيضا بُغية التفهيم؛ أن ذلك الحارث لن يكون من الملوك أو الأغنياء حتى يتمكن من تحمل تلك النفقات بنفسه. ولعل في التأكيد الشديد على ذلك، إشارة إلى أن الناس عند ظهور ذلك الحارث الذي سيعلن كونه مثيل المسيح، سوف يُبتَلون، وكثير منهم ينهضون للمعارضة، ويعيقون الآخرين من النصرة، بل سيسعون لتفريق جماعته شذرَ مذرَ. لذا فقد نصح النبي منذ البداية فقال: يا أيها المؤمنون؛ إن نصرة ذلك الحارث واجبة عليكم، فلا يغويَنَّكم أحد، فتُحرموا من هذه البركة.
أما ما قاله رسول الله بأن المؤمنين يتقوَّون بظهوره، وببروزه في الميدان يجمع شمل الجماعة المتفرقة، وسيكون لهم كالجُنَّة، وسببا لإرساء أقدامهم مثلما كان كبار الصحابة سببا لإرساء أقدام المؤمنين في مكة، ففي ذلك إشارة إلى أنه لن ينصر الإسلام بالسيف والسنان، لأنه لن يُرسل لذلك أصلا، لأن نصرة النبي التي قام بها مؤمنو قريش المقيمين في مكة ولم يشاركهم فيها أيّ شخص من قوم آخرين إلا ما شذ وندر، كانت بقوة الإيمان والمعرفة، إذ لم يُخرَج من غِمده سيف، ولم تُحملْ في اليد سنانٌ، بل كانت المواجهة الظاهرية ممنوعة بتاتا. بل كان الصحابة يُظهرون للناس أسلحة لامعة من قوة الإيمان ونور المعرفة، وكانوا يُرُونهم قوة تلك الأسلحة المتمثلة في الصبر والاستقامة والحب والإخلاص والوفاء والمعارف الإلهية والحقائق السَّنِيَّة الدينية التي كانوا يملكونها. كانوا يسمعون الشتائم يُخوَّفون بتهديدات على حياتهم، وكانوا يواجهون ألوان الذلة والهوان، ولكنهم كانوا نشوانين في الحب بحيث لم يُلقوا لأي شيء بالا، وما خافوا بلاء.
ما كان النبي عندها يملك شيئا من الناحية الدنيوية حتى يخاطروا بحياتهم وأعراضهم ويقطعوا علاقاتهم القديمة والنافعة مع قومهم آملين فيه. بل كان النبي يمر بفترة من الضيق والعسر وكان منـزويا خاملا لا يعرفه ولا يسأل عنه أحد. ولم تكن هناك أية قرائن أو أمارات لعقد الآمال عليه في المستقبل أيضا. فتمسكوا في ذلك الزمن الحرج بذيل ذلك الفقير الدرويش - الذي كان مَلِكا عظيما في الحقيقة - بقلوب مفعمة بالوفاء والحب والعشق حين كان يبدو في الظاهر أن نفس البطل المصلح ستُزهق في أيام معدودة، دع عنك آمال فلاحه في المستقبل. إن علاقة الوفاء هذه كانت مبنية على قوة الإيمان فقط، فقد نهضوا للتضحية بنفوسهم منتشين بنشوتها كما يقوم العطشان شديد العطش عفويا إلى عينِ ماءٍ زلالٍ.
فيقول النبي بأن الحارث الآتي لن ينصر المؤمنين بالسيف والسنان، بل كما مرّتْ على مؤمني قريش في مكة ظروف معينة؛ ما كان فيها يحالفهم أحد من الأمم الأخرى، وما استعملوا الأسلحة، بل أبدوا بريقَ قوة الإيمان ونور المعرفة في كلامهم وسيرتهم التي أثّرت في الأعداء، كذلك يختار ذلك الحارث الأسلوب نفسه لجمع المؤمنين في ملاذه، بحيث يُفحم المعارضين بتأثير قوة إيمانه ونور معرفته وأنوارها، ويُلقي بتأثيرها على القلوب المتحمسة. وكما يتدفَّق ينبوع قوة إيمانه ونور معرفته بالشجاعة والاستقامة والصدق والصفاء والحب والوفاء، كذلك يتدفق بقوة متناهية في بيان الأمور الروحانية ولإتمام الحجج الروحانية والعقلية على المعارضين. وهذا الينبوع يماثل ينبوعا أُعطيه الصلحاء المقدسون من قريش، أي الصدِّيق والفاروق وعلي المرتضى ، الذين كان الملائكة أيضا ينظرون من السماء إلى إيمانهم بنظرة الإعجاب والاستغراب، والذين تدفقت من معرفتهم النـزيهة ينابيع العلوم والأنوار والبركات والشجاعة والاستقامة التي لا يسع الإنسانَ الإحاطة بها.
فيقول سيدنا ومولانا : عندما يأتي ذلك الحارث سيسقي أشجار القوم من نبع الإيمان وينبوع المعرفة نفسه، ويُـنضِّر قلوبهم الذابلة من جديد، ويدوس تحت أقدام صدقه كافة اعتراضات المعارضين الواهيةَ؛ وبذلك يُري الإسلامُ علوّه وعظمته السابقة، وسيُقتَل كل خنـزير وقح، وسيُعطَى المؤمنون مقعد عزة وإكرام كانوا يستحقونه.
على أية حال، هذا هو شرح الحديث كما بيّنته. وإلى ذلك يشير الإلهام الذي سبق أن نُشر في "البراهين الأحمدية" وتعريبه:
تَبَخْتَرْ فإن وقتك قد أتى، وإنّ قدم المحمديّين وَقَعَتْ على المنارة العليا." وإلى الموضوع نفسه يشير الإلهام الذي بيّنه الله تعالى بحقي أنا العبد المتواضع، وقد أشير إليه في الحديث الشريف كنبوءة في حقي، وهو منشور في "البراهين الأحمدية" بنصه وفصه كما يلي: "لو كان الإيمان معلَّقا بالثريا، لناله رجل من فارس. إن الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ردّ عليهم رجل من فارس، شكر الله سعيه. خذوا التوحيد، التوحيد، يا أبناء الفارس." لقد قيل في هذا الإلهام بصراحة وجلاء إن رجلا فارسي الأصل، ويقال له "الحارث"؛ يتحلّى بميزة هامة، وهي أن إيمانه قوي للغاية لدرجة أنه لو كان الإيمان معلقا بالثريا، لناله هذا الرجل من هناك. فالشكر لله الذي دحض جميع اعتراضات منكري الإسلام ووساوسهم، وأتم الحجة عليهم. تمسكوا بالتوحيد، تمسكوا بالتوحيد، يا أبناء الفارس؛ أي مهِّدوا طرق التوحيد وعلِّموا التوحيد، وتمسكوا بالتوحيد الذي يكاد يسقط ويغيب من الدنيا، لأنه هو الأهم من كل شيء، ولكن الناس نسوه.
لقد استُخدمت هنا كلمة "أبناء" بدلا من "ابن" مع أن المخاطَب فيه شخص واحد فقط، أيْ أنا العبد المتواضع. فقد جاءت هذه الكلمة تكريما من عند الله؛ إذ أن الحديث "لو كان الإيمان معلقا بالثريا، لناله رجل من فارس" قد ورد في روايات أُخرى: "لناله رجال من فارس"، وذلك أيضا تكريما فحسب، وعلى المنوال نفسه، وإلا فالمراد في هذه المواضع كلها هو "رجل".
فتبين من هذا البحث كله أن العلامة المميزة المذكورة في الأحاديث عن الحارث هي أنه سيأتي إلى الدنيا كمقتدى في الإيمان، ويقوّي الضعفاء ويتداركهم، مُظهرا غصون شجرة قوة إيمانه، وبأشعة صدقه يبهر عيون المعارضين ذوي الطبائع الخفاشيَّة. أما بالنسبة إلى المؤمنين، فسيكون سببا لنور عيونهم وثلج صدورهم وسكينتهم واطمئنانهم. وينشر في القوم نور الإيمان بصفته معلِّم المعارف الإيمانية.
ولقد كتبت في كتابي "فتح الإسلام" أن المسيح كان في الحقيقة معلّم المعارف الإيمانية، وبيّنت أن المسيح الموعود أيضا لن يأتي للحروب الظاهرية، بل ورد من علاماته - في صحيح البخاري- أنه "يضع الحرب"، وأنه سيقتل الكفار بنَفَسه وليس بالسيف؛ أي سيقتلهم روحانيا بالكلام المقبول. فإن اشتراك المسيح والحارث في هذه العلامات دليل قاطع على أن الحارث والمسيح شخص واحد في الحقيقة. وهذه هي العلامة الأولى للحارث الموعود التي كتبناها؛ أي أنه لن يقوّي قومه بالسيف أو السنان، بل بقوة إيمانه وأنوار معرفته، وذلك كما أرسى مؤمنو قريشٍ (أي الصديق والفاروق والحيدر رضي الله عنهم وغيرهم من المؤمنين في مكة) أسُس دين أحمد في مكة، بصفات استقامتهم.
إن إثبات العلامة الأولى في شخصي بيّن لكل متدبّر؛ إذ قمت بالدعوة إلى الإسلام مدفوعا بحماس القوة الإيمانية نفسها، وبعثتُ نحو 12000 إعلانٍ للدعوة إلى الإسلام بالبريد المسجل إلى زعماء جميع الأمم ومرشديهم والأمراء وولاة البلاد، كما أرسلتُ رسالة وإعلانا بالبريد المسجل إلى الأمير (ولي العهد) في السلطنة البريطانية، وإلى رئيس الوزراء البريطاني السيد "غليدستون" أيضا. كذلك أُرسلت إلى الأمير "بسمارك" وغيره من الأمراء المعروفين في بلاد أخرى أيضا؛ إعلانات ورسائل تملأ صندوقا عندنا. والمعلوم أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا بقوة الإيمان. لا أقول ذلك مدحا لنفسي، بل بيانا للحقيقة، لكي لا يشتبه شيء على طلاب الحق.
وإضافة إلى قوة الإيمان، فإن الأنوار التي تظهر كتأييدات غيبية خارقة للعادة، وتدل على فضل الله تعالى ورحمته وقربه ؛ قد كتبتُ عنها في الإعلانات نفسها بأني قد أُعطِيتُ كل هذه النِعم بوجه خاص نتيجة قوة إيماني وسلوكي الصراط المستقيم. ولم يُعطَ هذه المرتبة أحد من أتباع دين آخر، وإلا؛ فليبرز للمواجهة ويقارن معي بركاته الروحانية التي نالها باتباع دينه. ولكن لم ينهض إلى اليوم أحد للمبارزة. والحق أنه ليس بوسع إنسان ضعيف ومهان أن يقف بتجاسره المحض ومكائده وتعنته وتعصبه أمام هذه الجماعة التي أقامها الله تعالى بيده. وأقول صدقا وحقا بأنه لو هبّ أحد مقابل هذه الجماعة بقصد إراءة بركاته، لأسقطه الله تعالى في قعر المذلة، لأن هذه الجماعة ليست من صنع إنسان، بل هي من عند ذلك المهيمن والقوي الذي خلق بيده السماوات مع كافة أجرامها، وجعل الأرض فِراشا لساكنيها.
الأسف كل الأسف أن المشايخ والعلماء من قومنا يُسارعون لحمل الأقلام والأوراق بُغية التكفير، ولكنهم لا يفكرون قط: هل يحظى الباطل بهذه الهيبة والرعب حتى يدعو العالَم كله للمواجهة، ولا يقدر على مبارزته أحد؟ هل سبق أن شهد أحد هذه الشجاعة والاستقامة التي ظهرتْ مني أمام العالم كله في الكاذبين؟ وإن كانوا في شك من ذلك، فليطرقوا أبواب زعماء معارضي الإسلام جميعا ووُعَّاظهم ومعلِّميهم، ويُبرزوهم بحذائي للمواجهة في الأمور الروحانية ساندين إياهم بظنونهم الفاسدة؛ ولينظروا هل ينصرني اللهُ أم لا؟
يا أيها المشايخ الجافون، ويا أيها الزهاد المبتدعون؛ الأسف عليكم! لا ترى أعينكم بقدر ما ترى عيون عامة الناس أيضا، دعْ عنك أن ترى بشكل أوضح منهم. أنتم الذين تقرأون على مسامع الناس أحاديث مثل قوله : "الآيات بعد المائتين"، وتقولون إن ظهور العلامات - مثل المسيح الموعود وغيرها- بعد 1200 عاما ضروري، بل منكم المشايخ الذين ألّفوا كتبا مشروطة بشروط ونشروها أيضا: أن ظهور المسيح والمهدي الموعود في أوائل القرن الرابع عشر ضروري، ولكن حين أظهر الله تعالى آياته المقدسة كنتم أول المنكرين.
ومن علامات القوة الإيمانية التي أُعطِيتها؛ استجابة الدعاء. وقد كُشف عليّ أنه لو رُدَّ أمرٌ بدعائي أنا، لن يُستجاب بأية طريقة أخرى، وإذا فُتح باب بواسطتي، لن يُغلَق بأية طريقة أخرى. ولكن بركات القبول هذه لا تؤثر إلا في الذين هم قِمَّة في الإخلاص وقمة في العداء. إن الذي يأتي بالإخلاص الكامل، أي لا يكِنّ شائبة من الزيف الذي ليس مآله سوءُ الظن وفسادُ الاعتقاد، ولا يكمن فيه سمّ النفاق، يستطيع أن يلاحظ هذه البركات حتما، ولسوف يعرف هذا الينبوع على قدر مواهبه. ولكن الذي لا يبحث بإخلاص؛ سيُحرَم نتيجة تقصيره، وسوف يبقى غريبا لغربة في نفسه.
والثمرة الأخرى للقوة الإيمانية هي كنـز الأسرار الحقة في المعارف الدينية التي أعطانيها الله تعالى. فمن قرأ مؤلّفاتي أو مكث في صحبتي، انكشفت عليه تلقائيا حقيقة ما أعطاني الله تعالى من الدقائق والحقائق الدينية.
أما العلامة الثانية، والثالثة؛ أيْ كونُه من بخارى أو سمرقند أصلًا، وكونه زارعا ومن عائلة الزارعين المتميِّزة، فهاتان العلامتان متحققتان في شخصي بصراحة وجلاء تام.
وأرى من الحكمة أن أسجل هنا سوانح حياة آبائي باختصار. فأولا أريد أن أقول بإيجاز بأن إنجليزيًا اسمه "مستر غريفن" الذي شغل سابقا منصب نائب المفوَّض في هذه المحافظة وكان من سكان ولاية "بهوبال" و"راجبوتانه"؛ نشر قبل عشرين عاما سوانح زعماء البنجاب كمستند تاريخي، وذكر فيه والدي المرحوم ميرزا غلام مرتضى. ثم ذكر بإيجاز سوانح عائلته المزارِعة، وكونه سمرقندي الأصل أيضا. ولكني أريد أن أتناول هنا بشيء من التفصيل كل تلك الأمور التي تصدِّق الشرح الكامل للحديث النبوي الشريف الذي سبق ذكره حتى يتبيّن للناس جيدا كوني سمرقندي الأصل من البداية، وكون عائلتي عائلة مزارعين منذ البداية كما هو منطوق حديث سيدنا خاتم النبيين .
فليكن واضحا أن الأوراق والمستندات القديمة التي تركها أكابر هذه العائلة، تُثبتُ أنه في عصر الـمَلك "بابر" - الذي كان مؤسس السلطنة المغولية - وصل آباء هذا العبد الفقير إلى "دلهي" مهاجرين من سمرقند مع جماعة كبيرة لأسباب لم تُذكر. ولا يتبيّن من تلك الأوراق بوضوح فيما إذا تزامن دخولهم الهندَ مع دخول الملك "بابر" إليها، أو وصلوها بعده مباشرة. أما ما يتضح من دراسة معظم الأوراق بجلاء، هو أنه سواء أكانوا قد وصلوا البلاد معًا، أو بعده ببضعة أيام، فإنهم كانوا على علاقة متينة مع العائلة المالكة، فعُدُّوا بسببها من الزعماء المحترمين في نظر تلك الحكومة. فنالوا من مَلِك الوقت عدة قرى في البنجاب كعقارات لهم، فملِكوا أراضٍ زراعية مترامية الأطراف. وفي وسط تلك القرى عمروا قرية كحصن لسكنهم وسموّها "إسلام بور قاضي ماجهي". و"إسلام بور" هذه، معروفة اليوم باسم "قاديان". وكانت القرية محاطةً بسور يبلغ ارتفاعه إلى ما يقارب عشرين قدما، وعرضه يتسع لسير ثلاث عربات بحذاء بعضها بعضا. وكان فيه أربعة أبراجٍ كبيرة يسكنها جيش قوامه قرابة ألف بين فرسان وراجلين. وكان السبب وراء تسمية القرية بـ "إسلام بور قاضي ماجهي" أن آباءنا أُعطَوا من قِبل ملوك "دلهي" سلطةً على هذه المنطقة كلها. كذلك سُلِّم إليهم أيضًا منصب القضاء، أيْ السلطة للحكم في القضايا. وبقي الحال على هذا المنوال، إذ البنجاب خاضعة لحكم "دلهي". ثم تطَّرق فساد وفتور كبير إلى الدولة المغولية رويدا رويدا نتيجة تسرُّب الكسل والوهن واتباع الأهواء واللهو واللعب وبسبب عدم كفاءة المتربعين على عرش الدولة، وانفلتت من يدهم عدة مناطق. ففي تلك الأيام انشقت معظم مناطق البنجاب عن الدولة المغولية، وصارت كامرأة لا راعي لها. فشاءت قدرة الله أن تهب تقدُّما لقوم "السيخ" المفتقر إلى التحضر مثل القرويين. فانصرمت فترة تقدمهم وانحطاطهم في غضون خمسين عاما وصاروا في طيِّ النسيان.
فباختصار، في ذلك الزمن الذي انسحبت فيه الدولة المغولية كليًّا من الجزء المذكور للبنجاب نتيجة عدم كفاءتها وسوء إدارتها، بدأ الزارعون الكبار في تلك المنطقة بإظهار استقلالهم وإرساء دعائم سلطتهم. ففي تلك الأيام صار والد جديّ؛ المرحوم ميرزا گُلْ محمد - الذي كان زعيما مستقلا ومن طائفة الملوك - حاكما بسلطة كاملة بفضل الله ومنته على منطقته الزراعية الصغيرة التي اقتصرت حينها على 84 أو 85 قرية. وقام بإدارة شؤون ولايته المستقلة على أحسن وجه، واقتنى جيشا كافيا لدرء هجمات الأعداء. فقضى حياته كلها غير خاضعٍ لأي حاكم آخر، وما كان يدفع ضريبة لأحد، بل كان حاكما مستقلا يملك الأمر والنهي. وكان يملك جيشا قوامه ألف جندي بين فارس وراجل، مع ثلاث مدافع. وفي حاشيته ثلاث مئة أو أربع مئة شخص من العلماء وأصحاب العقول الرصينة، ونحو خمس مئة من حفاظ القرآن الكريم الذين كانوا يسكنون في قاديان وينالون منحة بانتظام. كان المرحوم يؤكّد على جميع المسلمين أن يلتزموا بالصلاة والصوم والعمل بأوامر الإسلام، وما كان يسمح للمنكرات الشرعية أن تنال رواجا في حدود سلطته. ولو قام مسلم بمخالفة شعائر الإسلام من حيث اللباس أو المظهر لنال عقابا شديدا. كانت المعونة المختصة برعاية الفقراء والمساكين والنهوض بهم، متوفرة دائما بصورة نقودٍ أو غلال، وكانت توزَّع عليهم بين فينة وفينة.
هذا ملخص المستندات التي وجدناها الآن مكتوبة، ولا تزال الشهادات الشفهية المتواترة أيضا موجودة إلى الآن. وقد ورد أيضا أن أحد وزراء الدولة المغولية اسمه "غياث الدولة" قد زار قاديان في تلك الأيام، واغرورقت عيناه بالدموع نظرا إلى صمود المرحوم ميرزا گُلْ محمد، وحسن إدارته وتقواه وطهارته وشجاعته واستقامته، وقال: لو علمتُ من قبل أن في العائلة المغولية رجلا بهذه الصفات يسكن في زاوية من زوايا البنجاب، لسعيتُ أن يعتلي هو العرش في دلهي، حتى تجتنب عائلة المغولِ الدمارَ.
قصارى القول: كان المرحوم ميرزا المحترم رجلا من أولي العزم وتقيا وفطينا متّقد الذهن للغاية وشجاعا من الدرجة الأولى. لولا معصية المسلمين الله في ذلك الوقت لكان هناك أملا كبيرا في أن يتمكن رجل شجاع وذو عزم مثله من تطهير البنجاب من تمرد السيخ الثائر، وإقامةِ دولة الإسلام المترامية الأطراف فيها. فما دام السيخي "رنجيت سنغ" قد تمكّن من بسط نفوذه في فترة وجيزة - مع عدم امتلاكه إلا أملاكا موروثةً بسيطة ما كانت تزيد على تسع قرى - لدرجة لم يعُد يُرى إلا السيخُ - بدءا من مدينة بيشاور إلى لدهيانه - وصارت جيوش السيخ منتشرة في كل مكان كالجراد؛ فهل الفتوحات من هذا النوع مستبعدة على يد رجل مثله لا زالت في حوزته 84 أو 85 قرية من عقاراته المفقودة؟ وكان له جيشا قوامه ألف جندي تقريبا، وكان معروفا بشجاعته، ويتبين من شهادات معاصريه ببداهة أنه لم يكن له نظير في تلك البلاد. ولكن شاء الله تعالى أن ينبِّه المسلمين على أخطائهم بسبب أنواع غفلتهم التي لا حصر لها؛ فما نجح ميرزا المرحوم في مواساة المسلمين في تلك البلاد.
ومن سوانح ميرزا المرحوم اللافتة أن معارضيه في الدين أيضا كانوا يعدُّونه وليًّا من أولياء الله، وأن بعض عاداته الخارقة قد نُقِشت في القلوب بوجه عام.
والمعلوم أنه من النادر جدا أن يعترف المعارض الديني بكرامات عدوه، ولكن كاتب هذه الأسطر قد سمع بنفسه بعض خوارق ميرزا المرحوم من السيخ الذين كان آباؤهم يحاربونه منضمين إلى صفوف معارضيه. يروي كثير من الناس أن الميرزا المرحوم كان في بعض الأحيان يتصدى وحده لألف شخص في الميدان وينتصر عليهم، وما كان بوسع أحد أن يقترب منه. مع أن جيش العدو كان يبذل قصارى جهده ليقتله برصاصة بندقية أو قذيفة مدفع، ولكن لم تضره رصاصة أو قنبلة. لقد سُمِعت كرامته هذه من مئات الموافقين والمعارضين، بل من السيخ أيضا الذين روَوها كابرا عن كابر من آبائهم الذين حاربوه. وهذا الأمر ليس مما يُستغرَب له بحسب رأيي، بل هناك كثير من الناس الذين يتطوّعون في الجيوش المحاربة إلى فترات طويلة، ويقضون أكثر حياتهم في الحروب، فلا يُقدّر الله أن يصابوا حتى بجرحٍ خفيف من سيف أو بندقية. فلو ذُكرت هذه الكرامة من حيث العقل؛ على أن الله تعالى بفضله الخاص ظل يحميه من صولات الأعداء، فلا غضاضة في ذلك. ولا مجال للشك في أن الميرزا المرحوم كان شجاعا باسلا مهيبا أثناء النهار، وعابدا كاملا ليلا، وكان معمور الأوقات وملتزما بالشريعة تماما.
وفي ذلك العصر كان نور الإسلام لامعا في قاديان بحيث كان المسلمون في جوارها يسمّون هذه القرية مكة. ولكن بعد عهد ولاية الميرزا گُلْ محمد، حدث انقلاب شديد دفعة واحدة في عهد ولاية جدّي الميرزا عطاء محمد. ونزلت عليه أنواع البلايا والمصائب نتيجة خيانة السيخ ووقاحتهم ونقضهم العهد الذي تصالحوا عليه بعد المعارضة على سبيل النفاق فقط، الأمر الذي أدّى إلى انفلات جميع القرى من يده، ما عدا قاديان وبعض القرى الأخرى، وقد سيطر السيخ أخيرا على قاديان أيضا، ونُفي جدي المرحوم مع ذويه جميعا. وفي ذلك اليوم حرق السيخ نحو 500 نسخة من القرآن الكريم، ومزّقوا كتبا كثيرة، وهدموا بعض المساجد، وحوَّلوا بعضها إلى بيوتٍ لهم، وحوّلوا بعضها الآخر إلى معابد للسيخ لا تزال موجودة إلى يومنا هذا.
وقد خرج من قاديان في وقت الفتنة هذا كلُّ من كان فيها من الزهاد والعلماء والأشراف والنجباء واستوطنوا بلادا وأمصارا أخرى. أما هذه القرية فقد ملئت بالأشرار وبذوي الطبائع اليزيدية، ولم يكن في بالهم إلا السوء والفحشاء. ثم سكن والدي المرحوم، ميرزا غلام مرتضى، هذه القرية مرة أخرى في زمن استيلاء "رنجيت سنغ" على البنجاب قبل عهد الدولة الإنجليزية بفترة وجيزة. ومع ذلك ظل السيخ يلدغون بحُمَّة ظلمهم وجَورهم. وفي تلك الأيام كنا أذلاء مهانين لدرجة أن العِجل الذي يُشرى بروبيتين (عملة هندية) أو أقل من ذلك، كان يُنظَر إليه باحترام أكثر منا بمئات المرات، وكان دم الإنسان يباحُ إنْ تسبب بخدش بسيط يصيب العِجل. وكان مئات الناس يُقتَلون لجريمةٍ لم يرتكبوها، وذلك إذا ظُنَّ أنهم كانوا يريدون ذبح هذا الحيوان.
من الواضح أن حكومة غبية إلى هذه الدرجة التي ترى فيها قتل الإنسان واجبا عليها مقابل قتل دابة، ما كانت تستحق أن يمهلها الله تعالى طويلا. فرفع ذلك التهديد عن رؤوس المسلمين سريعا وأتى بالسلطنة الإنجليزية من بعيد كسحابة الغيث لنا. فنسينا في ظل الحكومة البريطانية المرارة والمعاناة التي عانيناها في عهد السيخ. ووجب علينا وعلى ذريتنا أن نكون شاكرين دائما للحكومة البريطانية المباركة. ففي عهد الحكومة الإنجليزية أُعطِي والدي ثلاث قرى إضافة إلى أملاكٍ من إرث الآباء في قاديان. وكان والدي يُعدُّ من الزارعين المميَّزين في هذه البلاد، وكان يُعطَى كرسيا في بلاط الحاكم. وكان شاكرا مخلصا. وناصحا أمينا للحكومة البريطانية. وقد اشترى في أيام مفسدة عام 1857م خمسين حصانا ممتازًا من جيبه الخاص، وقدمها للحكومة مساعدةً منه مع خمسين من خيرة الشباب والفرسان. لذا كان يحظى بقبول عام عند الحكومة، وكان الحكام الكبار يعاملونه معاملة حسنة دائما، بل في كثير من الأحيان كان المفوّضون ونُوّابهم يزورونه في بيته.
فالواضح من هذا البحث كله أن هذه الأسرة (أسرة الزارعين المحترمين) تحالفها أمارات العز والشرف منذ عهد ملوك السلف إلى الآن. فالحمد لله الذي أثبت هذه العلامة إثباتا بيِّنا واضحا من عنده.
أما العلامة الرابعة، والخامسة؛ فلا أرى حاجة إلى تفصيلهما فهما واضحتان. وأما تشبيه الله تعالى قاديان بدمشق وما قال في إلهامه ما نصه: "أُخرِج منه اليزيديون"؛ فقد جاء هذا التشبيه بسبب هؤلاء الملحدين والأشرار الساكنين في القرية، لأن القرية مليئة بالذين لا يذكرون الموت قط، بل هم عاكفون على ألوان المكائد وأصناف المكر الدنيوية. ولولا منع إدارة الحكومة الإنجليزية لكانوا جاهزين - إلا ما شذ وندر - لارتكاب جميع أنواع الجرائم. ومنهم مَن ينكرون وجود الله كُليًّا، ولا يرون أي شيء محرما. أنا أعرف حالة قلوبهم؛ فلو وجدوا فرصة، لاعتبروا كل الجرائم من الزنا إلى القتل بغير حق، مجلبة للمدح، دع عنك جوازها.
أما أنا فلعلّي أسوأ عندهم من العالم كله، ولكني لا أتأسف على ذلك، لأن ذلك يذكّرني بقول أخي الروحي (المسيح ) حيث قال: لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ. (متّى 57:13)
أقول صدقا وحقا بأنهم لو وُجدوا زمن الإمام الحسين لسبقوا "يزيد"، ولو شهدوا عصر المسيح لسبقوا يهوذا الأسخريوطي في مكائدهم. لم يشبههم الله تعالى باليزيديين دونما سبب، بل نظر إلى قلوبهم ووجدها غير مستقيمة، ورأى سلوكياتهم ووجدها غير سويَّة، فخاطبني قائلا: إن هؤلاء الناس يملكون طبائع يزيدية، وإن هذه القرية تشبه دمشقَ. فأنزلني الله في دمشق هذه لأمر هام، بطرفٍ شرقيٍّ عند المنارة البيضاء من المسجد، الذي مَن دخله كان آمنا. فتبارك الذي أنزلني في هذا المقام. والسلام على رسوله أفضل الرسل وخير الأنام. منه.
[51] البقرة: 27
[52] الحجر: 49
[53] الأنعام: 165
[54] البقرة: 11
[55] الدخان: 5
[56] البينة: 2
[57] الحديد: 18
[58] الأعراف: 59
[59] بيت فارسي، مترجم. (المترجم)
[60] من هاتين النجمتين إلى النجمتين التاليتين بعد بضع صفحات ترجمة عربية لقصيدة بالفارسية. (المترجم)
[61] انظروا إنجيل متى.
[62] أأنت قلت للناس.... إلخ (المائدة: 117)
[63] الإسراء: 37
[64] البقرة: 56
[65] في كتاب فتح الباري لابن حجر شرحٌ لحديث أبي هريرة: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ...
حيث أخذ ابن حجر-كعادته - بشرح الحديث جملة جملة. ولما وصل إلى عبارة (ويضع الجزية)، وضع بدلا منها (وَيَضَع الْحَرْب)، وقال مباشرة: فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " الْجِزْيَة ". أي أن النص في بقية روايات كتاب البخاري (وَيَضَع الْحَرْب) إلا في رواية واحدة.. لذا اختار ابن حجر النص (ويضع الحرب)، ثم ذكَّر بنص (ويضع الجزية). لذا فالنص الأشهر هو (ويضع الحرب) وليس (ويضع الجزية).
ثم إن هنالك روايات تذكر عبارة (وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)، كما في سنن ابن ماجة، ومسند أحمد، ومعجم الطبراني وغيرها. ثم إنه لا فرق بين تعبير (ويضع الجزية) وبين تعبير (ويضع الحرب)، ولعل الرسول قد ذكَر النّصين معا. أو ذكَر واحدا منها كل مرة. فوَضْعُ الجزية يعني عدم العمل بها، لأنه لا مبرر لها في عصر المسيح الموعود، حيث تنتهي الحروب الدينية. فالجزية مرتبطة بالحرب الدينية، وكلاهما ينتهيان. وقد انتهيا فعلا، فالحروب الحالية اقتصادية سياسية استعمارية تسلطية.
وبالتالي سواء كان الحديث (تضع الحرب) أم (تضع الحرب أوزارها) أم (يضع الجزية) أم (توضع الجزية)، فكله صحيح، وكله يحمل المعنى نفسه. (المترجم)
[66] سقط سهوا هنا عبارة (وإمامكم منكم)، لكن المسيح الموعود عليه السلام يشير إليها مرارا لاحقا. (المترجم)
[67] اللافت في الموضوع أن الراوي الوحيد لهذه الرواية هو النواس بن سمعان دون غيره، والأغرب من ذلك أن يقال بإجماع الصحابة عليها، وسيتبيّن لاحقا أن هذه الرواية تعارضُ روايات أخرى، منه.
[68] الذي ورد في مسلم هنا "فامرؤ حجيج نفسه"، أما "فكل امرئ حجيج نفسه" فقد وردت في المستدرك، وابن ماجه ومعجم الطبراني. (المترجم)
[69] الكلمات "فإنّهَا جِوَارُكُم مِنْ فِتْنَتِه" لم ترد في صحيح مسلم، بل وردت في سنن أبي داود،كتاب الملاحم، باب خروج الدجال. (المترجم)
[70]في بعض الأحيان يكون المراد من طول الأيام؛ أيامُ المعاناة والمصاعب أيضا. فمن المصائب ما يكون أليما بحيث يبدو اليوم فيها طويلا مثل سنة، ومنها ما يبدو اليوم خلالها كشهر، وفي بعض المصائب يشعر المرء أن اليوم بطول أسبوع أيضا. ثم يصبر الإنسان رويدا رويدا فتبدو له الأيام الطويلة نفسها كأيام عادية، بل تُقصَر للصابرين، فهذه استعارة. والحق أن مَثل طول تلك الأيام كمَثَل قوله : أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا. منه.
[71] إن في تصريح ابن صياد أن الناس كانوا يعتبرونه دجالا معهودا دلالة كافية على أن جميع الصحابة كانوا يعُدّونه دجالا معهودا وليس دجالا آخر. ويتبين من هنا أن الصحابة كانوا مُجمعين على أن ابن صياد هو الدجال المعهود، منه.
[72] يس: 83
[73] لم يقصد المسيح الموعود أن هذا الحديث لا يؤخذ على الإطلاق، وإنما قصد أنه لا يُمكن أن يؤخذ على ظاهره ويجب أن يؤول. وهذا لأن الأحاديث المتعلقة بسيدنا عمر هي التي تُحمل على الظاهر بوضوح؛ والتي تقرّ بأن ابن صياد كان دجالا معهودا في زمن النبي ، ولكنه ليس الدجال الآخر الذي سيأتي زمن نزول المسيح. (المترجم)
[74] المائدة: 118
[75] كلما ورد فعل "التوفي" في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، فهذا هو المعنى المراد في كل مكان. منه.
[76] آل عمران: 56
[77] السجدة: 12
[78] النحل: 33
[79] النحل:29
[80] الحاشية: معنى الحديث هو أن قدري عند الله أكبر من أن يتركني في القبر أربعين يوما، أي سأُحيا خلال هذه المدة وأُرفع إلى السماء. يجب التدبر الآن، أية ميزة في صعود المسيح إلى السماء أكثر من حياة سيدنا ومولانا في قبره ثم صعوده إلى السماء؟ بل الحق إن حياة عيسى بن مريم أقل درجة من حياة موسى عليهما السلام أيضا. والاعتقاد الأسلم الذي يتفق عليه السلف الصالح ويشهد عليه حديث المعراج أيضا هو أن الأنبياء أحياء بحياة جسدية مشابهة للحياة الجسدية في الدنيا، وأن حياتهم أكمل وأقوى مقارنة بالشهداء. والحياة الأكمل والأقوى والأشرف من الجميع إنما هي حياة سيدنا ومولانا فداهُ نفسي وأبي وأمي. أما المسيح فهو موجود في السماء الثانية فقط مع مرشده - ابن خالته- يحيى . أما نبينا الأكرم فمتربع على أعلى مرتبة سماوية على الإطلاق، لا مرتبة فوقها.. أي عند سدرة المنتهى في الرفيق الأعلى. وإن صلاةَ الأمة وسلامها عليه توصَل إليه باستمرار. اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد أكثر مما صليت على أحد من أنبيائك وباركْ وسلِّم.
والظن أن الأنبياء يقيمون في القبور بعد أن يعودوا إلى الحياة ليس صحيحا، إلا أن علاقتهم مع القبر تبقى قائمة نوعا ما. لذا يُشاهَدون في قبورهم في الكشوف. ولكن ليس المراد من ذلك بأنهم موجودون في القبور بل يحتلون - مثل الملائكة - مكانتهم بحسب مراتبهم في السماء التي هي مكان الجنة، ويزورون في اليقظة أحيانا طاهري القلوب على الأرض أيضا. إن الكتب زاخرة بذكر زيارة النبيِّ كثيرًا من الأولياء في حالة اليقظة تماما. ولقد نال المؤلف أيضا هذا الشرف مرارا، والحمد لله على ذلك.
وإن العبارة الواردة في الحديث "أنني لن أبقى في القبر إلى أربعين يوما" تشير إلى أن كل شخص مهما كان مقدسا فإنه يكون على علاقة متقدمة نوعا ما مع قبره ومع هذا العالَـم المادي إلى بضعة أيام في البدء، بعضهم بناء على رغبته المفرطة في الخدمات الدينية والآخرون لأسباب أخرى. ثم تبدأ هذه العلاقة بالتقلص رويدا رويدا وكأن صاحب القبر يخرج منه. أما الروح فتستقر بعد الوفاة دون أدنى توقف في نقطتها النفسية في السماء.منه.
[81] ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: "إن الأنبياء لا يُتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يُصلّون بين يدي الله حتى يُنفخ في الصور" (البيهقي، حياة الأنبياء، وكنز العمال، 32230). ورُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي مِنْ أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلَاثٍ" (فتح الباري، أحاديث الأنبياء، والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير). (المترجم)
[82] آل عمران: 170
[83] إن أقرب نص وجدناه في الأحاديث بهذا المعنى، هو: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ مِنْ تَبُوكَ سَأَلُوهُ عَن السَّاعَةِ فَقَالَ رَسُولُ الله لَا تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ. (صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة). (المترجم)
[84] آل عمران: 32
[85] الفجر 28 -31
[86] النص المشار إليه هنا هو: "وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ". (اَلْمُلُوكِ الثَّانِي 2 : 11) (المترجم)
[87] النص المشار إليه هنا هو: "هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ" (مَلاَخِي 4 : 5). (المترجم)
[88] يس: 31
[89] الإسراء: 94
[90](1) وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ (الحديد:26). (2) قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا (الأعراف: 27). (3) وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ (الزمر:7). كذلك هناك العبارات التالية في التوراة: "مَنَازِلَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ" (العَدَد 10: 31)، "لا أَنزل الأُرْدُنَّ" (اَلتَّثْنِيَة 4: 22)، "مكان لنا لننزل": (التكوين 24: 23)، فتبين من الآيات المذكورة آنفا كلها أن كلمة نزول لا تدل على النـزول المادي من السماء دائما، أما إضافة "السماء" إليها، فمَثَله كمَثَل جائع يُسأل: ما مجموع 2 و 2 فيقول: أربع خبزات. منه
حاشية على الحاشية: النسخة التي اقتبس منها المسيح الموعود هذه النصوص كانت بترجمة مختلفة عما هي متداولة الآن، فنص التثنية الآن هو "لا أَعْبُرُ الأُرْدُنَّ" وليس "لا أنزل"، ونص التكوين هو: "هَلْ فِي بَيْتِ أَبِيكِ مَكَانٌ لَنَا لِنَبِيتَ؟" وليس "لننـزل". (المترجم)
[91] آل عمران: 56
[92] النساء: 159
[93] الحج: 38
[94] ترجمة بيت فارسي. (المترجم)
[95] يقول بعض من فئة الموحِّدين مشيرين إلى الآيات القرآنية إن المسيح ابن مريم كان يخلق الطيور من مختلف الأنواع والأجناس، ثم ينفخ فيها ويحييها. وبناء على ذلك قد وجّهوا الاعتراض إليّ فقالوا: ما دمتَ تدّعي أنك مثيلٌ للمسيح، فاجعلْ من الطين طيرا وانفخْ فيه الحياةَ أمامنا، لأنه ما دامت بلايين الطيور التي خلقها المسيح موجودة إلى الآن ونراها تطير في كل مكان فلا بد أن يخلق مثيل المسيح أيضا طيرا.
الجواب على هذه الوساوس الباطلة هو أن الآيات التي ورد فيها مثل هذا الكلام إنما هي من المتشابهات، والاستنتاج منها أن عيسى قد شارك الله تعالى في صفة الخَلق بإذنه وإرادته، إنما هو الإلحاد الصريح وعدم الإيمان بعينه؛ لأنه لو فوّض الله تعالى صفاته الخاصة بألوهيته إلى غيره لبطلت ألوهيته أصلا. أما قول هذا "الموحّد" المحترم بأنه لا يعتقد أن عيسى كان يخلق الطيور بقدرته هو، بل يعتقد أن الله تعالى كان قد فوّض هذه القوة والقدرة إليه بإذنه وإرادته وجعله شريكا في صفة الخلق بمشيئته، وأن لله حقا أن يجعل من يشاء مثيلا لنفسه إذ أنه القادر المطلق؛ فهذه كلها أقوال شركية وأسوأ من الكفر. لقد قلنا أيضا لهذا الموحّد المزعوم: هل تستطيع أن تميِّز بين الطيور التي خلقها الله تعالى وبين التي من نسل الطيور التي خلقها عيسى ؟ فاتّضح من سكوته أنه لا يستطيع التمييز بينها.
وليكن واضحا أن اعتقاد بعض الموحدين في الزمن الراهن أن هناك أنواعا من الطيور خلقها الله تعالى وأنواعا أخرى خلقها عيسى، إنما هو اعتقاد فاسد يكتنفه الشرك الصريح، وإن صاحبه خارج عن دائرة الإسلام دون أدنى شك. وإن قولهم بأننا لا نؤلِّه عيسى ، بل نؤمن بأن الله تعالى منحه بعضا من صفات ألوهيته؛ هو مقولة شنيعة وباطلة تماما، لأنه إذا كان الله يمنح عباده بإذنه وإرادته بعضا من صفات الألوهية، فيستطيع بلا أدنى شك أن يمنح جُلّ صفاته لشخص ما، فيجعله إلـها كاملا. ففي هذه الحالة تصبح مذاهب عبَدة المخلوق كلّها صادقة. وإذا كان لله أن يمنح أحدا من البشر بإذنه وإرادته صفة الخَلق، فله كذلك أيضًا أن يجعل أحدا بإذنه وإرادته عالم الغيب كمثله تماما، وله أن يرزقه قوة ليكون حاضرا وموجودا في كل مكان. ومن الواضح أنه لو كان توزيع صفات الألوهية على الناس ممكنا، لبطل كونه واحدا لا شريك له. لا يقول أحد من عبَدة المخلوق الموجودين في الدنيا إنهم يؤمنون بمعبوديهم كآلهة، بل يقولون كمثل هؤلاء الموحّدين تماما بأن الله تعالى قد منح معبوديهم صلاحية الألوهية. ويقولون إن الرب الأعلى والأرفع هو ذلك الإله وحده، غير أن هؤلاء المعبودين إنما هم آلهة صغيرة.
واللافت في الموضوع أن هؤلاء القوم يمنعون الآخرين من أن يقولوا "يا رسول الله" معتبرين ذلك شِركًا، ومن ناحية ثانية جعلوا إنسانا ضعيفا (أي ابن مريم) شريكا في الألوهية.
أيها الإخوة، إنكم تدينون في الحقيقة أن الألوهية أيضا قابلة للتوزيع على المخلوق، وأن الله تعالى يشرك إلى الأبد من يشاء في صفاته المختلفة مثل الخلق والرزق والعلم والقدرة وغيرها. فلماذا إذن، أنتم في صراع عنيف مع إخوتكم من أهل البِدَع؟ إذ لا يؤمن هؤلاء المساكين أيضا بأوليائهم كآلهةٍ، ولا يقولون إلا أن الله تعالى قد منحهم بعضا من قدرات الألوهية بإذنه وإرادته، فيرزقون من يشاءون ذكورا ويرزقون من يشاءون إناثا، وهم حاضرون وموجودون في كل مكان نتيجة تلك القدرات التي حصلوا عليها بإذن الله وإرادته، ويقبلون النذور ويحققون مُرادات الناس.
الآن، لو طرح طالب حقٍّ سؤالا: إذا كانت معتقداتٌ كهذه باطلة وشركيّة تماما، فما هو المعنى الصحيح لآيات الفرقان التي جاء فيها أن المسيح ابن مريم كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟
فليكن معلوما في الجواب أن معجزات الأنبياء نوعان:
(1) أولها تتعلق بأمور سماوية بحتة ولا دخل فيها لكيد الإنسان وعقله، مثل شق القمر الذي كان معجزة لسيدنا ومولانا رسول الله أراها الله تعالى بقدرته غير المحدودة إظهارا لعظمة نبي صادق وكامل.
(2) النوع الثاني يحتوي على معجزات عقلية تظهر نتيجة العقل الخارق للعادة الذي يُنال بإلهام من الله، مثل معجزة سليمان المتمثلة في: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ (النمل: 45) التي بمشاهدتها حظيت بلقيس بالإيمان.
هنا يبدو في الظاهر أن معجزة المسيح كانت عقلية فقط مثل معجزة سليمان ؛ إذ يتبين من التاريخ أن أفكار الناس في تلك الأيام كانت ميالة إلى أعمال الشعوذة الهادفة إلى افتتان الناس وإيهامهم، وكانت عديمة الجدوى في حقيقتها. والذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال في مصر في زمن فرعون ويصنعون الأفاعي والحيوانات الأخرى من هذا القبيل ويسيِّرونها كحيوانات حية، كانوا منتشرين في زمن المسيح في بلاد اليهود عموما، فتعلّم اليهود منهم كثيرا من أعمال السحر والشعوذة كما يشهد القرآن الكريم. فلا غرابة في أن يعلّم اللهُ المسيحَ من الناحية العقلية أن ألعوبة من الطين يمكن أن تطير أو تمشي بأقدامها مثل طير حيّ بالضغط على زرّ أو النفخ فيها، إذ قد مارس المسيح ابن مريم مع زوج أمه "يوسف" مهنة النجارة أيضا لمدة 22 عاما. والمعلوم أن النجارة مهنة تؤدي إلى تشحيذ القوى العقلية في مجال اكتشاف الألاعيب والأدوات المتنوعة الأخرى. فتتقدم قوى الإنسان بصورة إعجازية حسبما يملكه من كفاءات وقدرات. إن قوى سيدنا ومولانا النبي الروحانية كانت قوية وسريعة جدا للوصول إلى الدقائق والمعارف، فأعطِي بحسبها معجزة القرآن الكريم الذي هو جامع لجميع الدقائق والمعارف الإلهية. فلا غرابة إذن أن يكون المسيح قد أرى خصومه في ذلك الزمن هذه المعجزة العقلية مثل جده سليمان. وإن إراءة مثل هذه المعجزة ليس مستحيلًا عقلا لأننا نرى في الزمن الراهن أيضا أن كثيرا من الصُنَّاع يصنعون عصافير مثلا تُصدر أصواتا وتتحرك وتحرك ذيلها. وسمعتُ أن هناك من العصافير ما يطير أيضا بمساعدة هذه الأدوات. ففي مومباي وكالكوتا مثلا تُصنَع ألعاب كثيرة من هذا القبيل، كما تُصنَع في بلاد أوروبية وفي أميركا ألعاب جديدة كل عام.
وما دام القرآن الكريم زاخرا بالاستعارات لذا يمكن أن نستنتج من هذه الآيات معانيَ روحانية أيضا بأن المراد من الطيور الطينية أناسٌ بسطاء محدودو الفهم اتخذهم عيسى رفقاء له، أي أخذهم في صحبته، وجعل فيهم صفات الطيور، ثم نفخ فيهم روح الهداية، فأصبحوا يطيرون.
وإضافة إلى ذلك من الأقرب إلى الفهم أيضا أنه من الممكن أن تظهر مثل هذه المعجزات نتيجة عمل التِّرب.. أيْ المسمرية أو المسمريزم، على سبيل اللهو واللعب وليس على وجه الحقيقة. لأن عمل التِّرب الذي يُسمَّى في الأيام الراهنة بالمسمرية يضم في طياته...أمورا عجيبة وغريبة بحيث إن المتمرسين فيه يُلقون طاقتهم الحيوية على الأشياء الأخرى فتبدو كأنها حية. إن في روح الإنسان ميزة بحيث تستطيع أن تُلقي بطاقتها الحيوية على جماد لا حياة فيه قط، فتصدر من ذلك الجماد حركات مثل الأحياء.
لقد شاهد المؤلف بعض المتمرسين في هذا العلم؛ حيث وضع المتمرس يده على لوحة خشبية وأثّر فيها بطاقته الحيوية فبدأت تتحرك مثل الدواب، وركبها أناس مثل ركوبهم الحصان وما نقص من سرعتها أو حركتها شيء. فالمعلوم يقينا أن المتمرس الكامل في هذا المجال لو صنع من الطين طيرا وأراه يطير، لـما كان مستبعدا، لأن غور هذه الحرفة لم يُسبَر بعد بالكامل. وما دُمنا نرى بأم أعيننا أنه يمكن أن تتولد الحركة في جماد نتيجة هذه المهنة فيتحرك مثل الأحياء، فإن طيرانه أيضا ليس مستبعدا.
ولكن لا بد من الانتباه إلى أن الحيوان من هذا القبيل الذي يُصنع من الطين أو الخشب وتُلقَى عليه طاقة حيوية بواسطة عمل التِّرب لا يكون حيًّا في الحقيقة، بل يظل كسابق عهده جمادا دون حياة، غير أن الطاقة الحيوية للعامل المتمرس تحرِّكه كالزئبق. والجدير بالذكر أيضا أن طيران مثل هذه الطيور لا يثبت من القرآن الكريم مطلقا، بل لا يثبت تحرُّكها ولا حياتها.
وليكن معلوما أيضا في هذا المقام أن الإبراء من الأمراض أو إلقاء الطاقة الحيوية على الجمادات فروع لعمل التِّرب. لقد كان في كل زمن أناس، ولا يزالون في العصر الحاضر أيضا، يُبرئون من الأمراض بهذا العمل الروحاني، وظل المفلوجون والمبروصون والمسلولون يُشفَون نتيجة تركيزهم وتوجّههم. إن أصحاب المعلومات الواسعة في هذا المجال يستطيعون أن يشهدوا على بياني هذا في أن بعضا من الزهاد الذين يتّبعون الطريقة النقشبندية والسُهروردية وغيرهما، توجَّهوا إلى هذه التمارين كثيرا. وقد كان بعضهم متمرسًا فيها لدرجة شفائهم مئات المرضى هنا وهناك بإلقاء نظرة واحدة عليهم. وقد كان محيي الدين بن عربي متمرسا في هذا المجال بوجه خاص. إن دراسة تاريخ الأولياء والصوفيين وسوانحهم تبيّن أن الكُمَّل كانوا يتحاشون دائمًا مثل هذه الأعمال، غير أن هناك بعضا آخرين خاضوا هذه الأعمال إما إثباتا لولايتهم أو بقصد آخر.
ومن الثابت المتحقق على وجه القطعية واليقين أن المسيح ابن مريم كان ماهرا في عمل التِّرب - بإذن من الله وأمره - مثل النبي اليسع، وإن كان أقل درجة من درجة اليسع الكاملة، إذ إن جثة اليسع أيضا قد أظهرت معجزة، حيث عادت الحياة إلى ميت بلمس عظام جثته. ولكن لم تعُد إلى الحياة جثتا اللصينِ اللذَين صُلبا مع المسيح نتيجة لمسهما جسمه.
على أية حال، إن هذه الأعمال المتعلقة بعمل التِّرب التي قام بها المسيح كانت بناء على مقتضى الحال في ذلك الزمن لحكمة معينة. وليكن معلوما أن عمل التِّرب هذا ليس جديرا بالتقدير كما يزعم عامة الناس. ولولا كراهتي له واشمئزازي منه لكان هناك أمل قوي بفضل الله وتوفيقه ألا أكون أقل درجة من المسيح ابن مريم في إراءة هذه الأعاجيب، ولكنني أحب ذلك الطريق الروحاني الذي سلكه نبينا . علمًا أن المسيح أيضا لم يمارس هذا العمل المادي إلا بإذن من الله وأمْرِه نظرا إلى الأفكار المادية والسُّفْلية التي كانت مترسخة في طبائع اليهود، وإلا ما كان المسيح ليحب هذا العمل.
وليتضح أن هناك نقطة سيئة جدا في هذا العمل المادي وهي أن الذي يورِّط نفسه فيه ويبذل قواه الذهنية والدماغية لإزالة الأمراض الجسدية فإنه يضعف جدا، بل تبطل رويدا رويدا تأثيراته الروحانية التي تؤثر في الروح وتزيل الأمراض الروحية، وقليل ما يتحقق على يده تنوير الباطن وتزكية النفوس الذي هو الهدف الحقيقي. لذلك فإن المسيح ، وإن كان يُبرئ الأمراض الجسدية بواسطة هذا العمل، ولكن مستوى عمله فيما يتعلق بترسيخ الهداية والتوحيد والاستقامة الدينية في القلوب بصورة كاملة كان منخفضا لدرجة كانت قريبة من الفشل. أما نبينا الأكرم لـمّا لم يتوجّه إلى هذه الأمور المادية بل صبّ جُلّ اهتمام روحه على نفخ الهداية في القلوب؛ فقد فاق الجميع في تكميل النفوس، وأوصل آلافا مؤلفة من عباد الله إلى درجة الكمال، وأظهر في إصلاح الخلق والتغييرات الباطنية أيادي بيضاء لا نظير لها منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا. إن الأموات الذين كانوا يُحيَون بعمل التِّرب على يد المسيح ، بمعنى أن الموشكين على الموت الذين كانوا يعودون إلى الحياة من جديد، كانوا يموتون في غضون بضع دقائق دون أدنى تأخير، لأن الطاقة الحيوية والحياة كانت تدبّ فيهم بواسطة عمل التِّرب مؤقتا فقط، أما الذين أحياهم النبي فسيعيشون إلى الأبد. أما ما سميتُ به المسمرية بعمل التِّرب الذي كان المسيح متمرسا فيه إلى حد ما، فإنه اسم إلهامي، وقد كشف الله لي أنه عمل التِّرب، وقد تلقيتُ إلهاما أيضا عن عجائب هذا العمل ما نصه: "هذا هو التِّرب الذي لا يعلمون" أي هذا هو عمل التِّرب الذي لا يعرف الناس في العصر الراهن حقيقته، وإلا فإن الله تعالى واحد لا شريك له في صفة من صفاته، فلا يشركُ أحدا في صفات ألوهيته. ولا يخفى على أحد ما جاء في القرآن الكريم في هذا الموضوع من التأكيد، فيقول الله عزّ اسمه: اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (الفرقان: 3-4)
يقول الله تعالى هنا بكل وضوح إنه ما من خالق سواه. ويقول في آية أخرى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ويقول أيضا إنه لا أحد يملك الموت ولا الحياة ولا الضر أو النفع. فمن الواضح في هذا المقام أنه لو كان من سنته أن يمنح أحدا من خلقه قدرة على الإماتة والإحياء ويُشاركه في صفاته، لذكر هؤلاء على وجه الاستثناء، وما علَّمنا ذلك التوحيد الأعلى والأسمى.
ولو راودتْ أحدا وسوسةٌ أنه لماذا إذًا استخدم الله جلّ شأنه كلمة: تَخلُق حين ورد ذكر خلق الطيور في قصة المسيح ابن مريم؟ فجوابه أن اعتبار عيسى خالقا إنما هو على سبيل الاستعارة، كما يقول تعالى في آية أخرى: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: 15) أي أن الخالق الحقيقي هو الله وحده بلا أدنى شك، أما الذين يصنعون الألاعيب من الطين أو الخشب فهم أيضا خالقون، ولكن على مستوى بسيط جدا ولا حقيقة لفعلهم.
وإذا قيل: ما المانع في أن يخلق المسيح الطيور في الحقيقة معجزةً بإذن الله ومشيئته، وأن تطير تلك الطيور بنفخه المعجز؟ فجوابه: إن الله تعالى لا يُمَلِّكُ أحدا الموت والحياة والضر والنفع بإذنه ومشيئته. إن الأنبياء أيضا يطلبون المعجزات بالدعاء والتضرع، ولا يملكون في إراءة المعجزة قدرةً كقدرة الإنسان على تحريك يدَيه أو قدمَيه. فإن هذا الأمر أعلى وأسمى من حقيقة المعجزة ومرتبتها، بل هو من الصفات الخاصة بالله التي لا يُعطَاها بشَرٌ في حال من الأحوال. إن حقيقة المعجزة هي أن يُظهر الله تعالى - إما بإرادته الخاصة أو نتيجة دعاء الرسول والتماسه- أمرا خارقا للعادة يفوق الفهم والتصور والمأمول، وذلك لإظهار صِدق رسوله وعجز معارضيه وكونهم مغلوبين.. ولكنه يُظهره بطريقة لا تنافي صفات وحدانيته ولا تعارض قدسيته وكماله، ويكون ذلك دون واسطة أو تدخُّل غيرِه فيها.
والآن، لكل عاقل أن يدرك أنه ليس من المعجزة في شيء أن يسمح الله تعالى لشخصٍ وللأبد أو يأذن له أن يصنع من الطين طيورا ثم ينفخ فيها فتكون طيورا حقيقية من اللحم والعظام والدم وجميع الأعضاء كبقية الحيوانات. والمعلوم أنه إذا اختار الله توكيل أحد صفةَ الخلق لخلق الطيور مثلا، فله أن يختار توكيل غيره بأمور الخلق كلها ويعيِّنه في منصب الوكالة التامة في هذه الصفة. ففي هذه الحالة سيكون الاشتراك في صفات الله جائزا وإن كان بأمره وإذنه. وكذلك ستتعذر معرفة الخالق الحقيقي من غيره من الخالقين بسبب مشكلة: فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم. باختصار، إن هذه ليست معجزة، بل إشراك في الألوهية.
إن بعض العقلاء المزعومين يقدمون لتحاشي الشرك عذرا أن الطيور التي كان يخلقها المسيح ما كانت تعيش طويلا، بل كانت أعمارها قصيرة، إذ كانت تسقط بعد الطيران مسافةً قصيرة وتموت. ولكنه عذر واهٍ ولا يمكن الأخذ به إلا إذا قيل بأن الحياة الحقيقية ما كانت تدبّ فيها، بل كانت تظهر فيها حياة مجازية كاذبة يمكن ظهورها نتيجة عمل التِّرب بصورة ظليةٍ وانعكاسية فقط.
فإذا كان الأمر لا يتعدّى ذلك فقد سلّمنا من قبل أنه من الممكن عندنا أن تنشأ في النفخ نتيجة عمل التِّرب قوةٌ كالتي تنشأ من غاز يُصعِد المنطاد مثلا. لقد أودع خالق الفطرة في مخلوقاته قدرات مكنونة كثيرة، ولا شيء مستحيل إلا الاشتراك في صفات الله.
وإذا اعتنق أحد اعتقادا أن حياة حقيقية كانت تدب في تلك الطيور، فكانت تصبح حية بعد تكوين العظام واللحم والدم على وجه الحقيقة، فلا بد من التسليم أيضا في هذه الحالة أنها كانت تتحلى بجميع مستلزمات الحياة وكانت صالحة للأكل أيضا، ولا بد أن توجد على وجه الأرض طيور من نسلها إلى اليوم بالبلايين، وأنها تموت أيضا نتيجة مرض أو على يد صياد. ولا شك أن اعتقادا كهذا شرك بداهة.
هناك وسوسة أخرى تراود كثيرا من الناس أنه إذا أُحييَ ميِّتٌ أو سَرَتِ الحياةُ في جماد بدعاء نبي فأي شركٍ في ذلك؟ فليعلم هؤلاء الناس أنه لا ذكر للدعاء في هذا المقام، فإن استجابة الدعاء أو عدمها في يد الله جلّ شأنه. وما يترتب نتيجة الدعاء فهو فعل الله تعالى ولا دخل للنبي في ذلك. وسواء أمات النبي بعد الدعاء أو بقي على قيد الحياة فإن وجوده أو عدمه لا يغير في الأمر شيئا. فباختصار، ليس للنبي إلا الدعاء فقط، وإن دعاءه يستجاب أحيانا ويُردّ أحيانا أخرى، أما في الموضوع قيد البحث فالأمر ليس كذلك.
إن دراسة الأناجيل الأربعة توحي بجلاء أن كل ما قام به المسيح من الأعمال أمام قومه لم يكن نتيجة الدعاء قط، ولم يُذكَر في القرآن الكريم أن المسيح كان يدعو الله تعالى بُغية إبراء المرضى أو عند خلقه الطيور، بل كان يقوم بهذه الأعمال الاقتدارية بروحه التي بوركتْ بروح القدس. لذا فكل من قرأ الإنجيل بتدبر في حياته سيصدِّق بياني هذا بكل يقين. وإن آيات القرآن الكريم أيضا تعلن بأعلى صوتها أن المسيح كان قد أُعطِي قوة للقيام بمثل هذه الأعمال. ولقد قال تعالى بصراحة تامة إنها كانت قدرة فطرية أُودعت في طبيعة كل البشر ولا خصوصية للمسيح في ذلك.
ففي الزمن الراهن تجري تحليلات في هذا الموضوع. إن معجزات المسيح فقدت رونقها وقَدرها بسبب بِركة كانت مظهر العجائب قبل ولادة المسيح؛ حيث كان المجذومون والمفلوجون والمبروصون يُشفَون بمجرد الغوص فيها. أما الخوارق التي أظهرها الناس في الأزمنة اللاحقة فلم تكن البِركة موجودة حينها.
فباختصار، إن الاعتقاد بأن المسيح كان يخلق من الطين طيورا وينفخ فيها ويجعلها طيورا حقيقية، إنما هو اعتقاد خاطئ تمامًا وفاسد ومبني على الشرك. بل الحق أنه كان من عمل التِّرب فقط، وقد تم بتأثير الطاقة الحيوية. ومن الممكن أيضا أن المسيح كان يجلب لهذا الغرض طينا من تلك البِركة التي أُودعت تأثيرَ روحِ القدس. على أية حال، إن هذه المعجزة كانت من قبيل الألاعيب، وإلا فالطين كان يبقى طينا على أية حال، مثل عِجل السامري. فتدبّر، فإنها نكتة جليلة ما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم. منه.
[96] الشمس: 10
[97] البقرة: 287
[98] النساء: 158
[99] الفجر: 29
[100] آل عمران: 56
[101] آل عمران: 145
[102] الأنبياء: 9
[103] الأنبياء: 35- 36
[104] الحج: 6
[105] آل عمران: 56
[106] هذه الآية لم ترد في القائمة سهوا، وقد تكرر بدلا منها سهوا آية أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فحذفنا الآية المكررة ووضعنا هذه الآية التي لم ترد سهوا. كما أنّه ذُكر سهوًا أن الآية العاشرة في القائمة هي من سورة التوبة، ولكنها من سورة الأنفال. كما أن المسيح الموعود قد ذكر مع السورة رقم الجزء الواردة فيها، ولكننا وضعنا رقم الآية في السورة وحذفنا رقم الجزء. (المترجم)
[107] البقرة: 254
[108] النساء: 158
[109] آل عمران: 145
[110] الأنبياء: 35
[111] الأنبياء: 9
[112] الفجر: 28- 31
[113] الحجر: 49
[114] البقرة: 26
[115] البقرة: 83
[116] يس: 27- 28
[117] آل عمران: 170
[118] آل عمران: 171
[119] نوح: 26
[120] الشعراء: 91- 92
[121] عبس: 39- 43
[122] التحريم: 9
[123] الهمزة: 7 -8
[124] هكذا ورد في الأصل، وهو سهو، إذ إنه لا يوجد حرف "على" في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. (المترجم)
[125] البقرة: 254
[126] يبدو أن المسيح الموعود قد ذكر الحديث بالمعنى هنا، ولعل أقرب حديث لهذا المعنى هو قوله : "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"(مسند أحمد). (المترجم)
[127] النساء: 160
[128] لقد بيّنتُ من قبل المعنى الحقيقي لموت الناس بنَفَس المسيح، أي أن المراد من ذلك موتهم بالحجة والبيِّنة، وإلا فبعيدٌ من الأدب القول بأن مادةً سُمِّيَّة أو وبائية ستخرج من فم المسيح وتختلط بالهواء وتقتل الكفار الضعفاء فقط، ولن تقدر على قتل الدجال، منه.
[129] البقرة: 95
[130] ترجمة أبيات فارسية. (المترجم)
[131] النساء: 160
[132] الأنبياء منتصرون حتمًا، ويحققون كل نجاح، ولكن المسيح الموعود يشير هنا إلى ما يقوله الآخرون الذين ينسبون إلى الأنبياء الفشل. (المترجم)
[133] مريم: 58
[134] ص: 63
[135] ترجمة بيت فارسي. (المترجم)
[136] الروم: 2- 5
[137] كالنبأ عن الهجرة؛ حيث يقول الرسول : رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ (البخاري، كتاب المناقب، باب النبوة في الإسلام)، ففي هذا الحديث ذكر النبي أنه قد صدر منه خطأ في فهم النبوءة. وهناك أمثلة أخرى تطرق إليها المسيح الموعود في هذا الكتاب. (المترجم)
[138] ترجمة بيت فارسي. (المترجم)
[139] الرعد: 18
[140] الزخرف: 62
[141] الفرقان: 49-50
[142] ق: 12. إلى هنا ينتهي الجزء الأول من كتاب إزالة الأوهام، مع أن السؤال الثاني عشر لم ينته جوابه، وسبب ذلك هو ظروف الطباعة في تلك الأيام. (المترجم)
[143] يس: 13
[144] الحديد: 18
[145] آل عمران: 56
[146] مريم: 32- 33
[147] الأنبياء: 9
[148] فاطر: 11
[149] النساء: 172
[150] الواقعة: 80
[151] الضحى: 12
[152] الحج: 48
[153] آل عمران: 56
[154] الزمر: 43
[155] الدخان: 57
[156] عن رسول الله أنه قال: "إن الانبياء لا يُتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يُصلّون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور". (كنز العمال، 32230) (المترجم)
[157] الإسراء: 37
[158] الإسراء: 73
[159] لقد ورد في "آثار القيامة" قِيل لعليّ أن الناس يظنون أنك أنت دابة الأرض، فقال: ستكون في دابة الأرض بعض أوجه الشبه مع الدواب والطيور، فهل توجد فيَّ؟ وقد ورد أيضا أن دابة الأرض اسم جنس والمراد منها طائفة. منه.
[160] النمل: 83
[161] الكهف: 100
[162] الدخان: 2-13
[163] يبدو أنه سهو، ويقصد ارتفاع، والله أعلم. (المترجم)
[164] النحل: 44
[165] الزمر: 43
[166] الدخان: 57
[167] ترجمة بيتين فارسيين. (المترجم)
[168] مريم: 8
[169] هو شاه ولي الله الدهلوي رحمه الله. (المترجم)
[170] الاسم الكامل هو: "حجج الكرامة في آثار القيامة" لمؤلفه الشيخ صِدِّيق بن حسن الحسيني القِنَّوجي، البخاري (1248- 1307الهجري). (المترجم)
[171] النساء: 65
[172] المائدة: 61
[173] هو الشيخ أحمد السرهندي رحمه الله. (المترجم)
[174] مريم: 58
[175] الواقعة: 40-41
[176] الإسراء:156
[177] النجم: 5
[178] آل عمران: 56
[179] النساء: 159
[180] مريم: 58
[181] القمر: 56
[182] المائدة: 118
[183] السجدة: 12
[184] يونس: 105
[185] النساء: 16
[186] الأعراف: 38
[187] الأنعام: 62
[188] المائدة:117
[189] البقرة: 31
[190] النساء: 160
[191] المائدة: 76
[192] الأنبياء: 9
[193] الأحزاب: 63
[194] يشيرحضرته إلى حديث: "وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ". (المترجم)
[195] آل عمران:145
[196] الأنبياء: 35
[197] البقرة: 135
[198] مريم: 32
[199] مريم: 34
[200] الحج: 6
[201] البقرة: 37
[202] يس: 69
[203] الروم: 55
[204] يونس: 25
[205] المؤمنون: 16
[206] الزمر: 22
[207] الفرقان: 21
[208] النحل: 21- 22
[209] الأحزاب: 41
[210] الشعراء: 82
[211] العنكبوت: 65
[212] النحل: 44
[213] الفجر: 28-31
[214] الروم: 41
[215] الرحمن: 27 -28
[216] القمر: 55-56
[217] الأنبياء 102-103
[218] النساء: 79
[219] الحشر: 8
[220] الإسراء: 94
[221] مريم: 58
[222] الحج: 53
[223] قصة تنبؤ الأنبياء الأربعمائة موجودة أيضا في الإصحاح 22 من سفر الملوك كما كتب المسيح الموعود ، ولكن ليس في العدد 19 منه فقط. (المترجم)
[224] البقرة: 270
[225] الواقعة: 8
[226] الجاثية: 7
[227] الزمر: 43
[228] المؤمنون: 17
[229] الأنبياء: 96
[230] الحجر: 49
[231] آل عمران: 46
[232] الطلاق: 11- 12
[233] الحجر: 22
[234] الأعراف: 186
[235] الإسراء: 10
[236] الأنبياء: 107
[237] الحاقة: 49.. 52
[238] القمر: 6
[239] النحل: 90
[240] النور: 36
[241] يونس: 58
[242] الرحمن: 2- 3
[243] الشورى: 18
[244] البقرة: 186
[245] الطارق: 14
[246] البقرة: 3
[247] النحل: 65
[248] البيِّنة: 4
[249] فصلت: 43
[250] الجاثية: 21
[251] الجاثية: 7
[252] يونس: 59
[253] التغابن: 16
[254] المؤمنون: 19
[255] تعريب بيتين أرديين. (المترجم)
[256] الأنبياء: 96
[257] المزمل: 16
[258] النور: 56
[259] الأحزاب: 28
[260] الصف: 7
[261] المائدة: 61
[262] البقرة: 66
[263] يس: 82
[264] المؤمنون: 19
[265] الصف: 10
[266] الحجر: 22
[267] آل عمران: 60
[268] يبدو أن حرف النفي "لم "سقط هنا سهو، والله أعلم. (المترجم)
[269] الدخان: 11
[270] الحج: 48
[271] فصلت: 31
[272] الإسرا: 71
[273] حسب التقويم الهندي المعروف بتقويم "بكرمي". (المترجم)
[274] في الآية: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ إشارة إلى عام 1857م حين حدثت في الهند مفسدة كبيرة وتلاشت منها آثار السلطنة الإسلامية، لأنه بحسب حساب الجمل فإن مجموع حروف الآية المذكورة هو 1274.
ولو نظرنا ما يقابل العام الهجري 1274 بحسب التقويم المسيحي لوجدناه عام 1857. وإن فترة ضعف الإسلام التي أشار الله تعالى إليها في الآية؛ تبدأ من عام 1857م. فيقول تعالى بأنه حين تأتي تلك الفترة سوف يُرفع القرآن الكريم من الأرض. ففي عام 1857م كانت حالة المسلمين قد آلت إلى أنه لم يبق في تصرفات زعماء المسلمين إلا السلوك السيئ والفسق والفجور، وهذا ما ترك تأثيره السلبي الكبير على عامة الناس. وفي تلك الأيام نفسها تصدَّوا للحكومة الإنجليزية بغير حق وبطريقة خاطئة مع كونهم محظوظين في كنفها ومع كونهم رعيّتها، وذلك مع أن المواجهة بهذه الطريقة وهذا النوع من الجهاد ما كان جائزا لهم شرعا، لأنهم كانوا رعايا هذه الحكومة وكانوا يعيشون في ظلها. وإن تمرد الرعايا على الحكومة التي يعيشون تحت ظلها بالأمن والحرية، حرام قطعا ومعصية كبيرة ووقاحة مقرفة. حين نلقي نظرة على أحداث عام 1857م ونتأمل في فتاوى مشايخ العصر الراهن الذين صادقوا بوجه عام على الفتاوى القائلة بقتل الإنجليز؛ نغرق في بحر الخجل والندامة، ونستغرب ونتساءل: أي نوع من المشايخ كانوا أولئك الذين لم يعرفوا الرحمة ولا العقل ولا الأخلاق ولا الإنصاف، وما حقيقة فتاواهم؟ لقد بدؤوا بمهاجمة حكومتهم المحسنة كاللصوص والنهاب والسارقين، وأطلقوا على ذلك اسم الجهاد. قتلوا أولادا صغارا أبرياء ونساء بريئات دون هوادة، وحرموهم دون رحمة حتى من الماء. هل كان ذلك هو الإسلام الحقيقي أم سيرة اليهود؟ هل لأحد أن يخبرنا فيما إذا كان الله تعالى قد أمر بهذا النوع من الجهاد في كتابه العزيز؟ فإن قول الله العليم الحكيم في القرآن الكريم بأن كلامه سيُرفع إلى السماء في عام 1857م؛ يعني أن المسلمين لن يعملوا به. وهذا ما فعله المسلمون تماما.
إن الاتهام الموجّه إلى الله بأن هذا النوع من الجهاد والحروب قد شُنَّ بأمره، هو ذنب آخر. هل يعلّمنا الله تعالى شريعةً أن نقابل الحسنة بالسيئة؟ وأن نجازي حكومتنا المحسنة بقتل أولاد قومها الصغار دون هوادة، وأن نقتِّل أزواجهم الحبيبات إليهم تقتيلا. لا شك أننا لا نستطيع أن نغسل هذه الوصمة من جبين المسلمين، وخاصة من جبين معظم المشايخ؛ أنهم ارتكبوا في عام 1857م - متنكِّرين بعباءة الاسلام - ذنبا عظيما لا نجد نظيره في تاريخ أي قوم. وليس ذلك فحسب، بل ارتكبوا أعمالا شنيعة أخرى أيضا هي من عادات الوحوش الضارية فقط، وليست من سيرة الإنسان. وما فكّروا ما الذي يمكن أن يدور في خلدهم إذا ما عوملوا هم بالطريقة نفسها؛ بأن يقتل شخص - لهم عليه منّة- أولادهم، ويمزق نساءهم إربا. ومع ذلك يتباهى هؤلاء المشايخ بأعلى صوتهم بأنهم أتقياء كبار! لا أدري من أين تعلّموا عيشة النفاق؟ لقد أفسدَتهم كثيرا التفاسير الخاطئة لكتاب الله، وقد تركت تأثيرا سيئا جدا على قواهم القلبية والعقلية. لا شك في أنه من الضروري جدا أن يُفسَّر كتاب الله في العصر الراهن تفسيرا جديدا وصحيحا، لأن التفاسير التي تعلَّم في هذه الأيام لا تقدر على إصلاح الأخلاق، ولا تترك تأثيرا حسنا على الحالة الإيمانية؛ بل تتصدى للطِيبة الفطرية والنور الطيب.. ولكن لماذا تتصدى لهما؟ السبب في ذلك أنها لم تعد تحتوي على تعليم القرآن الكريم، وذلك بسبب إقحام الزوائد والحشو فيها.. وقد تلاشى تعليم القرآن الكريم من قلوب هؤلاء القوم وكأنه رُفع إلى السماء. أمّا الإيمان الذي علّمه القرآن الكريم، فيجهله الناس تماما، والمعرفة التي وهبها القرآن غفل الناس عنها. صحيح أنهم يقرؤون القرآن، ولكنه لا يتجاوز تراقيهم. فبهذا المعنى قيل إن القرآن سيُرفع إلى السماء في الزمن الأخير. ثم ورد في الأحاديث نفسها أن الذي سيعيد القرآن إلى الأرض سيكون رجلا فارسي الأصل، فقال : لو كان الإيمان معلقا عند الثريا لناله رجل من فارس. إن هذا الحديث يشير في الحقيقة إلى زمنٍ أشير إليه في الآية: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، منه.
[275] ورد في لسان العرب: "الدَّجَّال: الرفقة العظيمة. وسمّي الدجال بذلك لأَنه يُغَطِّي الأَرض بكثرة جموعه". وهذا المعنى يرادف: حزب. وورد في اللسان: "أَصل الدَّجْلِ: الخَلْطُ. وسمّي الدجال بذلك لأَنه يَدْجُل الحَقَّ بالباطل". وهذا يرادف: يَدْجُل الحَقَّ بالباطل.. أي يخلطه. وورد: "الدجال: الـمُموِّه الكَذَّاب. وسمي الدجال بذلك لأَنه يُغَطِّي على الناس بكفره". وهذا يرادف: وينجّس الأرض. فعبارة المسيح الموعود المذكورة تختصر المعاني المذكورة في اللسان. (المترجم)
[276] لعل حضرته يشير إلى حديث: " تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ" (مسلم). علمًا أنه ورد في لسان العرب: الدَّجَّال: الرفقة العظيمة. وسمّي الدجال بذلك لأَنه يُغَطِّي الأَرض بكثرة جموعه. (المترجم)
[277] النساء: 160
[278] آل عمران: 56
[279] المائدة: 15
[280] الفجر: 29
[281] آل عمران: 56
[282] البقرة: 73
[283] البقرة: 74
[284] إنجيل لوقا: 16 19-31. (المترجم)
[285] ترجمة بيتين فارسيين. (المترجم)
[286] طه: 56
[287] الرحمن: 27
[288] ترجمة أبيات أردية. (المترجم)
[289] الأنبياء: 96
[290] الصف: 10
[291] الأنبياء: 96
[292] آل عمران: 147
[293] الحشر: 10
[294] ترجمة بيت فارسي. (المترجم)
[295] "البان" في الأصل اسم شجرة في الهند. يلفّون في ورقها بعض البهارات مثل الهيل وغيره مع حلويات معطرة، ويضعونها في الفم، فتنظف الفم وتعطره، كما تفرّح القلب. (المترجم)
[296] الحج: 31
[297] النحل: 91
[298] آل عمران: 103
[299] هذا جزء من حديث يقول فيه الرسول : "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ"(البخاري). (المترجم)
[300] أي المركبة المعروفة المستخدمة للسفر ونقل البضائع. (المترجم)
[301] يشير المسيح الموعود هنا إلى الفقرة التالية من الحديث: "لَا، بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ" (مسلم، كتاب الفتن، باب الجساسة). قَالَ الْقَاضِي لَفْظَة "مَا هُوَ" زَائِدَة صِلَة لِلْكَلَامِ لَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ، وَالْمُرَاد إِثْبَات أَنَّهُ فِي جِهَات الْمَشْرِق. (شرح النووي على مسلم). (المترجم)
[302] سأقيمُ بدءا من يوم 4-3-1889م لغاية 25 آذار/مارس في حارة جديدة في لدهيانه، فإذا أراد أحد فليأت إلى لدهيانه بعد اليوم العشرين. وإذا كان المجيء إلى هنا يسبب أيّ إحراج، فليحضر من شاء إلى قاديانَ للبيعة حينما يشاء بعد 25 آذار/مارس بعد أن يخبرني بمجيئه. ولكن يجب أن يتذكر الجميع جيدا أن الهدفَ من وراء البيعة هو الحصول على التقوى الحقيقية، والمحاولة أن يكون المبايع مسلما صادقا. ولا يتوهمنّ أحد أنه إذا كانت التقوى- وكون المرء مسلما صادقا- مسبقًا، ضروريا، فما الحاجة للبيعة أصلا؟ بل يجب أن يتذكر أن الهدف من البيعة هو أن يتحلى بالتقوى - الذي يختارها في البداية تكلُّفا وتصنعا - بصبغة جديدة، ويتغلغل في طبيعته، فيصبح جزءا منها لا يتجزأ، ببركة اهتمام الصادقين وجذب الكاملين. وأن ينشأ في القلب نور المشكاة الذي ينشأ نتيجة العلاقة المتينة بين العبد وربه؛ التي يسميها المتصوفون بتعبير آخر: روح القدس، التي بعد نشوئها يكره المرء معصية الله بطبعه، كما هي مكروهة وسيئة في نظر الله. فلا يتسنى له الانقطاع فقط عن خلق الله، بل ينال درجة الفناء النظري؛ معتبرا كل موجودٍ - سوى الخالق والمالك الحقيقي - كالمعدوم. فإن نشوء هذا النور مشروط بالاتقاء الابتدائي الذي يأتي به الطالب الصادق معه، كما بيّن الله تعالى الغاية المتوخاة من القرآن الكريم في قوله: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ، وما قال إنه هُدًى للفاسقين أو هُدًى للكافرين.
إن التقوى الابتدائية- التي بعد الحصول عليها يطلق على المرء كلمة "المتقي"- جزء من الفطرة التي أُودعت في فطرة السعداء. وتُربِّيه الربوبيةُ الأولى وتزوِّده بالوجود، الأمر الذي يتسبب في ولادة المتقي الأولى. أما النور الباطني الذي عُبِّر عنه بروح القدس فيتولد من: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ (المؤمنون: 15) نتيجة الاتصال والعلاقة الكاملة والمتينة بين العبودية الخالصة والتامة وبين الربوبية الكاملة المستجمعة. وهذه هي الربوبية الثانية التي بسببها يولد المتقي ولادة ثانية، ويصل إلى مقام الملكوت. ثم تأتي بعدها درجة الربوبية الثالثة؛ التي تُسمّى خلقا آخر، عندها يصل المتقي مقام اللاهوت، وينال ولادة ثالثة. فتدبر. منه.
[303] آل عمران: 104
[304] كما سينتفع عامة خلق الله من تأثير هذه الجماعة الحسن، كذلك ستتسنى من وجود هذه الجماعة طاهرةِ الباطن، فوائد جمَّة لحكومة بريطانيا أيضا - وهذا الأمر يوجب على الحكومة أن تشكر الله - منها أنهم سيكونون ناصحين أمناء للحكومة، ويدعون لها بحماس صادق وإخلاص القلب، لأنه ما من ذنب وخبث وظلم ووقاحة بحسب تعليم الإسلام - الذي اتباعه هو الغاية المتوخاة بعينها - فيما يتعلق بحقوق الإنسان، أكبر من أن يفكر الإنسان بالإساءة إلى حكومة يعيش في كنفها بالأمن والعافية، ويستطيع أن يؤدي في ظل حمايتها واجباته الدينية والدنيوية بحرية. بل الحق أنه لا يشكر الله من لم يشكر حكومةً كهذه. والفائدة الثانية التي تنالها الحكومة من تقدم هذه الجماعة المباركة أنها تهدف بعملها إلى وضع حد للجرائم. فتفكّروا وتأملوا. منه.
[305] هذه المناظرة بدأت في 20-7-1891 واستمرت حتى 31-7، وقد نُشرت في كتاب مستقل، وهي أول كتاب في المجلد الرابع من الخزائن الروحانية. وهذا تعليق من المسيح الموعود عليه السلام على هذه المناظرة. (المترجم)
[306] يشير المسيح الموعود إلى قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُم.. (الأنعام:69) (المترجم)
[307] الواقعة: 80
[308] لقمان: 19
[309] أيْ: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني. (المترجم)
[310] لقد ورد في "كامل التعبير" الصفحة 26 ما معناه: إذا رأى أحد قوام رسول الله أصغر من قوامه الحقيقي، فهذا النقصان يشير إلى النقصان في دين الرائي. ويقول ابن سيرين: إذا رأى أحد نقصانا في رسول الله ، فسيعود هذا النقصان على الرائي بنفسه. (انظر: كامل التعبير الصفحة: 26) منه
[311] الحديث الذي يشير إليه المسيح الموعود هو: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. (البخاري، كتاب الرقاق). (المترجم)
[312] المائدة: 118
[313] انظروا الحاشية المتعلقة بهذه الآية في الصفحة 627.
[314] آل عمران: 145
[315] هذه الصفحات في طبعة قديمة كانت عند حضرته ، أما التوثيق الآن فيتم بذكر اسم الكتاب والباب، والأحاديث التي يشير إليها حضرته هي: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا (البخاري، كتاب التفسير، باب وإني أعيذها)، وحديث: أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ بِاسْمِ اللهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا (البخاري، النكاح، باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله).. فالحديث الأول يشير إلى أن الشيطان سيمسّ كل الناس عدا مريم وابنهما، ولكن الحديث الثاني يشير إلى أن الشيطان لن يمسّ ملايين الناس ممن يدعو آباؤهم بهذا الدعاء. (المترجم)
[316] الحجر: 43
[317] مريم: 16
[318] النساء: 60
[319] هذه الحاشية تابعة لصفحة 616 ويبدو أن المسيح الموعود قد كتبها بعد أن كانت الصفحات السابقة قد طُبعت، فأراد أن يضيف حاشية على تلك الصفحة ولم يكن ذلك ممكنا بعد طباعتها فجاءت في آخر الكتاب. (المترجم)
[320] آل عمران: 56
[321] الفجر:29
[322] النساء: 47
[323] الأنعام: 165
[324] يشير حضرته إلى حديث ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا الذي بعد أن ذكر حديث عمر "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" قال: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، وَاللهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ إِنَّ الله لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: إِنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (البخاري، كتاب الجنائز، باب يعذب الميت). (المترجم)
[325] النمل: 81
[326] الحجر: 41
[327] الحجر: 43
[328] مريم: 16
[329] الأعراف: 186
[330] الجاثية: 7
[331] الحجر: 10
[332] الذي ورد في ص464 هو هذا الحديث: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ" (البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس).والذي ورد في ص 26 هو الحديث: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ" (البخاري، كتاب الوضوء، باب التسمية).
كما أن في الصفحة 464 هذاالحديث بلفظ مقارب، وهو: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنِي فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ" (البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس)ففي الصحفة 464 حديثان يبدوان متعارضين، وأحدهما يعارض حديثا في الصفحة 26. (المترجم)
[333] انظر: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء. (المترجم)
[334] الإسراء: 89
[335] البقرة: 107
[336] من جملة الآيات التي جاء فيها أن الذين يموتون لا يعودون إلى الدنيا الآية: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (الأنبياء: 96) وقد رُوي عن ابن عباس في حديث صحيح في معنى الآية؛ هو أن الذين توافيهم المنية حقيقةً ويموتون في الحقيقة، لا يُحيَون ولا يرسَلون إلى الدنيا ثانية. ولقد نُقلت الرواية نفسها عن ابن عباس في تفسير "معالم التنـزيل" أيضا، تحت الآية المذكورة.
والآية الثانية التي يبيّن القرآن الكريم وجهته من خلالها هي: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: 100-101) أي لم يسبق من الله وعدٌ أن يُحيي ميِّتًا ويرسله إلى الدنيا ثانية.
والآية الثالثة التي تبين هذا الموضوع نفسه بوضوح هي: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ (الزمر: 43)
والآية الرابعة التي تتناول الموضوع نفسه هي: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (البقرة: 168)
والآية الخامسة التي تتناول هذا الموضوع هي: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (المؤمنون: 17)
والآية السادسة: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (الكهف: 109)
والآية السابعة: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (الحجر: 49)
والآية الثامنة: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (المائدة: 38)
والآية التاسعة: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (يس:51)
والآية العاشرة: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 83)
كذلك الآيات الأخرى التي تنتهي على "خالدون" أو "خالدين" تبين أن الإنسان لا يعود إلى الدنيا قط بعد أن يتذوّق الراحة أو يذوق الألم في عالَم المعاد. لقد أخرجتُ من قبل 16 آية قرآنية بهذا الموضوع، ولكن الحق أن القرآن الكريم زاخر بآيات مثلها. ولا يقتصر الأمر على القرآن فقط، بل هناك أحاديث كثيرة أيضا تشهد بذلك. فأقتبس منها على سبيل المثال لا الحصر حديثا من مشكاة المصابيح جاء فيه: عن جَابِرَ قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا قُلْتُ: اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا. قَالَ: أَفَلا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ! تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. رواه الترمذي.
لقد ورد هذا الحديث في سنن "الترمذي"، وبهذا المعنى هناك أيضا حديث في صحيح البخاري، وقد تركناه خوف الإطالة، يقول بأن الذي يوافيه الموت الحقيقي لا يُرسَل إلى الدنيا مرة أخرى. لا شك أن الله تعالى قادر على كل شيء، ولكن هذا الأمر ينافي وعده تعالى. فمن هنا يتبين أن جميع المواضع في القرآن الكريم التي ذُكر فيها إحياء الموتى، ليس المراد منها الموت الحقيقي. ومن الممكن والصحيح تماما أن تطرأ على الإنسان حالة تشبه الموت تماما دون أن يكون ذلك موتا حقيقيا. ولو تدبّرنا أكثر لتبيّن بجلاء أن القول عن المسيح ابن مريم بأن الله قادرٌ على أن يُحيِيه ويرسله إلى الدنيا مرة ثانية وإن كان قد مات فعلا؛ فليس هذا القول باطلا فقط لأن الأموات لا يعودون إلى الدنيا، بل إنه باطل لسبب آخر أيضا، وهو أنه ليس لأسلوب عودة المسيح ابن مريم إلى الدنيا المترسخ في الأذهان أدنى علاقة بهذا القول. والسبب في ذلك أن الفكرة المترسخة في الأذهان عن عودة المسيح هي أنه سينـزل من السماء بالجسد المادي، ولكنه ما دام قد مات، فلا يسعه بحال من الأحوال أن ينـزل من السماء بالجسد، بل يجب أن يخرج من القبر، لأن جثث الأموات توضع في الأجداث ولا تُرفع إلى السماء.
ولقد أثبتُّ من قبل أن معنى "التوفّي" الشائع والمعروف هو قبض الروح، ولا يثبت قبض الجسد من أيّة كلمة من القرآن الكريم. فلما كان فعل "التوفّي" مقتصرا على قبض الروح فلم يثبت رفع المسيح ابن مريم إلى السماء بأي كلمة من القرآن الكريم. والمعلوم أن الله تعالى لا يرفع شيئا إلا الذي يقبضه، وقد سبق الوعد في القرآن الكريم أن الأموات سيُبعثون من الأجداث يوم القيامة. ففي هذه الحالة؛ لو قام المسيح ابن مريم من القبر على فرض المحال، لبطل النـزول.
يقول البعض: أليس ممكنا أن يكون المسيح قد رُفع وهو نائم، ثم يستيقظ في السماء في الزمن الأخير وينـزل إلى الأرض؟ إن هؤلاء القوم لا يفقهون أن رفع الجسد لا يثبت من القرآن قط. إن معنى "التوفّي" هو قبض الروح فقط، سواء أكان في حالة النوم أو الموت، والمعلوم أنه لا يُرفع إلا ما يُقبَض. ولقد أثبتُّ أيضا أن تَوَفّي المسيح (أي قبض روحه) كان بصورة الموت وليس بصورة النوم. وقد ورد في صحيح البخاري - وهو أصح الكتب بعد كتاب الله - في أن قوله تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني: إني مميتك.
فلما لم يثبت من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة إلا رفع روح المسيح فقط، فإن حالة معظم المشايخ المعاصرين تبعث على الرثاء والبكاء؛ إذ يتجاوزون قول الله وقول الرسول ويفترون - من عند أنفسهم وبلا دليل - رفع المسيح إلى السماء مع الجسد. أليست شهادة القرآن الكريم والأحاديث المتفق عليها على موت المسيح ابن مريم مقنعةً؟ الأسف كل الأسف أن هؤلاء القوم لا يفكّرون أنه لو استنبطنا من الأحاديث التي تتحدث عن نزول المسيح معنًى أن المسيح ابن مريم حيٌّ وسينـزل هو بنفسه من السماء في الحقيقة، لوقع تعارض بينها وبين القرآن الكريم بالإضافة إلى أحاديث أخرى أيضا يثبت منها على وجه اليقين أن المسيح ابن مريم قد مات فعلا. ولا شك أن تلك الأحاديث جديرة بالرد لمعارضتها كلام الله . فلِمَ لا يستنبطون من النـزول معنى لا يخالف ولا يعارض كتاب الله والأحاديث الأخرى؟ لقد بيّن المسيح موقفه بوضوح تام من خلال الآية: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أنه رُفع من الدنيا إلى الأبد؛ لأن قوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ (المائدة: 118) يشهد بمنتهى الجلاء أنه مات ورحل من هذه الدنيا للأبد، لأنه لو كانت عودته إلى الدنيا مقدرة، لذكر كِلا الحدثَين حتما، ولذكر أحداث تبليغه الدعوة بعد النـزول أيضا، دون أن يقتصر على ذكر موته فقط ثم يجعل الله تعالى رقيبا إلى يوم القيامة، فتدبر.
[337] الشمس: 9
[338] الشيخ أحمد السرهندي رحمه الله. (المترجم)
[339] الأعراف: 26
[340] ملاحظة: من بين جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول الإحياء بعد الممات لا توجد آية واحدة منها تُحمل على الموت الحقيقي. وإن الإقرار بالموت الحقيقي هنا يستلزم أن تعارِضَ تلك الآياتُ ست عشرة آية قرآنية وجميع الأحاديث التي قيل فيها بأن الذي يموت لا يُرسَل إلى الدنيا ثانية، كما يستلزم فسادا آخر أيضا وهو أنه لا بد من الاعتقاد بأن الموت وعذاب القبر والرفع إلى السماء سيحدث مرتين، مع أن كل ذلك يجب أن يحدث مرة واحدة فقط. كذلك يصبح كذبا صريحا وعد الله تعالى القائل بأن الميت لن يقوم بعد الحساب في القبر إلا يوم القيامة.
وإن لم نستنبط من هذه الآيات الست عشرة الموت الحقيقي، لما حدث أي خلل، لأنه ليس مستبعَدا من قدرة الله أن يُلقي على أحد - إلى مدة معينة- حالة من الغشي الشبيهة بالموت، ثم يعيده إلى الحياة دون أن يكون ذلك موتا حقيقيا. والحق أنه ليس لكائن حيٍّ أن يموت ما لم يُـمِته الله وإن مُزِّق إربا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة: 107) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (آل عمران: 146) منه.
[341] غافر: 29
[342] الكهف: 68، 69
[343] العنكبوت: 3
[344] الإسراء: 91
[345] الأنفال: 44
[346] الإسراء: 21
[347] الحج: 53